حصيد فيصل: أن نتأول؛ يعني أن نمارس حقنا في الكينونة وصناعة المعنى المستقبلي


فئة :  حوارات

حصيد فيصل:  أن نتأول؛ يعني أن نمارس حقنا في الكينونة وصناعة المعنى المستقبلي

 فرش معرفي:

لا يبدو أن زمن التأويل قد ولّى؛ بل إن الآكد في الأمر أن ما هو قادم تاريخيًّا، هو رغبة الذوات الحرة في تشكيل رؤية منغرسة في تربة التأويل، حيث يتعدد المعنى، ويتجدد، ويبقى دومًا في حالة فوران، ويسعى جاهدًا إلى الحفاظ على شبابه. والتأويل هو بمعنى أدق؛ الدرب الآمن أو، بتعبير آخر؛ السبيل المتبقي لهذه الكائنات، لكي تنجز شيئًا جديرًا بالاحترام والبقاء، من هذا المنظور يتنزل هذا الحوار الذي أجريناه مع الباحث البروفيسور "فيصل حصيد" حيث انخرط في قضايا التأويل مبكرًا؛ لأنه كان جادًّا في الاشتباك معه؛ إذ حرص على الاطلاع على النصوص التراثية، بأخاديدها المتنوعة، وفي ذات الوقت، وجه بوصلته الفكرية جهة النصوص الحداثية، سواء في صورتها العربية، أو في موطنها الغربي، وقد قاده التأويل إلى ميادين أخرى، ما زالت مكثفة من جهة المعنى، مثل: التصوف، علم الكلام ...وغيرها، وعلى هذا الأساس، التقينا بالبروفيسور "فيصل حصيد" ليحدثنا عن هذه الإشكاليات التي ما زالت مفتوحة على ممكنات المعنى المستقبلي.

مرحبًا بك على منبر مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"

ربوح البشير: بدايةً، من هو البروفيسور فيصل حصيد؟.

د. فيصل حصيد: فيصل حصيد باحث وأكاديمي من مواليد 1976 بن ذياب، ولاية سطيف بالجزائر، حاصل على بكالوريس في علوم الطبيعة الحياة، وليسانس في اللغة والدراسات القرآنية من جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة (1998)، وماجستير في الأدب الحديث من جامعة الإخوة منتوري بقسنطينة (2002)، ثم دكتوراه من جامعة محمد بن خدة بالجزائر العاصمة (2009) بأطروحة عن "التأويل في الفكر النقدي العربي؛ بحث في النشأة والمرجع"، أشتغل أستاذًا بجامعة خنشلة منذ 2002 إلى يومنا هذا، وأشغل اليوم منصب عميد كلية الآداب واللغات، وأدير مخبر الأبحاث الموسوم بـ: "مخبر التأويل والدراسات الثقافية المقارنة"، كما أرأس مشروع تخصص تحليل الخطاب في قسم الماستر، شعبة الدراسات النقدية، وأرأس، كذلك، مشروع الدكتوراه حول "السرد العربي"، لي العديد من الأبحاث والدراسات في المجلات، والدوريات الوطنية والدولية، ولي كتب مؤلفة بالاشتراك مع آخرين منها: النص والظلال، الصوفية والإبداع الفني، وكتاب العلمانية والسجالات الكبرى في الفكر العربي.

الأستاذ. ربوح البشير: يبدو أن التأويل المضاعف في أفق المعاصرة، أوقع الثقافة الإسلامية في أزمة، فهل يمكننا أن نتحدث عن نظرية تأويلية بديلة للانغلاق والتهويم الذي جرى في التأويل الغربي؟.

د. فيصل حصيد: عذرًا سيدي، لكن يبدو لي أن التأويل بريء من أزمة الثقافة الإسلامية المعاصرة؛ لأن أزمة هذه الثقافة وقصورها، وهو قصور معاصر أساسًا، تكمن قبل التأويل في هشاشة الفعل الثقافي نفسه على المستوى البنائي، وفي تمأسسه على ردود الأفعال، والمحاكاة الرديئة، لا على التراكمية على المستوى الهووي، وفي ضعف القوة الدافعة على مستوى الميكانيزمات. بعد كل هذا يمكننا الحديث عن أزمة تأويلية، قد يكون التأويل المضاعف أحد أوجهها، والتأويل الصِّفْري وجهها الأبرز؛ لأن التأويل، في أسوأ صوره، لا يمكنه إلا أن يجعل الثقافة تتلبس بحالة من القلق والجدل يبعث على النفير نحو البحث، والتحليل، والتسويغ، والتأسيس، والتفاعل مع الموضوعات الوجودية، والإشكالات الكونية، ولعل الذاكرة الأدبية لن تنسى تلك القشة التي ألقاها "طه حسين" في تنور الثقافة النقدية، المستلقي خارج زمنية وجوده، لمّا نفى عن الشعر الجاهلي أصالته، وسواء أصاب تفكير "طه حسين" أو أخطأ؛ فإن الأكيد أن التنور قد فار بأبحاث معمقة ومحترمة جدًّا، ترد عليه أو تنقضه، أو تدعمه، من زكي مبارك، إلى محمد الخضر حسين، إلى العقاد، إلى زكي نجيب محمود والقائمة طويلة بلغت 51 كتابًا في سنة واحدة.

ربوح البشير: عفوًا، لكن ماذا تقصد بالتأويل الصِّفْري؟.

د. فيصل حصيد: التأويل في المستوى الصفر؛ أي الاقتصار على الشرح، والتزام الظاهر مع رداءة الفهم، واختزال السياق.

ربوح البشير: ما معنى أن نتأول؟ هل يقتصر الأمر على حركة تجاه النص، أم حركة تجاه التاريخ والعالم؟.

د. فيصل حصيد: أن نتأول؛ يعني أن نمارس حقنا في الكينونة والوجود، أن يكون لنا تحققنا الخاص من خلال اللغة، وبوساطة الفكر، في العالم والثقافة والاجتماع، باختصار؛ التأويل ينفي عن أفراد الجماعة التأويلية صفة القطيع، ويصبغ عليهم صفة المجتمع، يرتقي بهم من حالة الهيولى والوجود بالقوة، إلى حالة الوجود بالفعل، أما اتجاه الحركة التأويلية؛ فهي من النص وإليه، ضمن حركة الفعل في دائرة التاريخ؛ أي أنها حركة أشبه بالجيبية في الفيزياء، متوترة ومضطربة؛ لأن الحركة الثابتة المستقيمة هي أشبه الحالات بالسكون، أما العالم، صديقي العزيز، فهو أيضًا "مفهوم تأويلي" لن أغامر بجعله حاضنًا للتأويل؛ لأنه في النهاية أحد مخرجاته، وكما يقول كيلر: "أن تؤول نصّاح؛ أي أن تموضعه داخل الثقافة السائدة".

ربوح البشير: هل يمكن أن نضيف جديدًا للحركة التأويلية، كأن نراجع جذورها وبنياتها، انطلاقًا من التأويلية الإسلامية؟.

د. فيصل حصيد: علينا أولًا؛ أن نتموضع ضمن سياق تأويلي معين، كي نحدد موقعنا من العملية التأويلية برمتها؛ لأن التأويلية الإسلامية لا تقل في أهمتها وانتظام بنياتها، وطرائق تعاملها مع النصوص، وتحليلها للمضمرات، عن التأويلية الغربية في شيء، والفارق الوحيد بينهما؛ هو أن التأويلية الغربية المعاصرة امتدت في الزمن، وهي في استجابة مستمرة لشواغل مجتمعها. أما التأويلية الإسلامية، فقد توقفت منذ زمن عن الاستجابة لإشكالات ثقافتها، إلا ما كان من محاولات تأصيلية، أو استئصالية، أو إعادة قراءة لهذا الموروث كانت في معظمها انتقائية، اختارت الرقص على المقاطع المشوهة من تاريخنا، وفي أحسن أحوالها قراءة تمجيدية ساهمت في تحنيط هذا الموروث، فأصبح يصلح مادة أثرية موقعها المتاحف لا العقول، قد تكون الصورة التي أقدمها عبثية، وهي كذلك في نظر الكثيرين، لكنها ضرورة ملحة للوقوف على حقيقة المنجز التأويلي العربي الإسلامي، ومعرفة كيفيات النهوض به، أما ما قد تضيفه التأويلية الإسلامية للتأويلية الغربية فهو محل خلاف؛ لأن هناك من يعتبر التأويلية الغربية "تأويلية كونية" يجب أن تتكيف معها كل التأويليات الأخرى. وهناك من يرى أن التأويلية منجز يحوي المشترك الإنساني في كلياته، والخصوصية الثقافية في تفاصيله. لكن التأويلية في النهاية هي؛ موقف من الوجود والموجود والمغيّب، لا يجوز فيها الترقيع أو التلفيق، لكنها لا تخلو من تقاطعات؛ لأنها في الغاية تسعى للاستجابة لموضوعها الرئيس وهو الإنسان.

ربوح البشير: لماذا رجع الدكتور "فيصل حصيد" في نقده لتلقي المناهج الغربية إلى نموذج كمال أبي ديب، هل تريد بذلك أن تنقل العربي في شكله المتغربن، وتبين من ثمة عجز التغربن، أم ما هي مقاصدك دكتور؟.

د. فيصل حصيد: دراستي لتلقي البنيوية وإشكالات تأصيلها، من خلال دراسة أعمال "أبو ديب كحالة" يعود لسببين رئيسين: أولهما؛ أن المسألة البنيوية قد أخذت نصيبها الوافر في النقد العربي، ترجمة ومصطلحًا، وتطبيقًا، وبالتالي، يستطيع من يريد دراستها أن يقف لها على معالم حقيقية في النقد العربي، لا ابتسار فيها ولا انتقائية. وثانيهما؛ أن كمال أبا ديب طبّق البنيوية على النص الجاهلي، وهو نص مكثف هوويًّا، لا يطرح أي إشكال على أصالته إجناسيًّا، ولا على مستوى دلالة أنساقه ثقافيًّا، عكس الرواية اليوم، مثلًا، أو القصيدة الحرة؛ فهي أجناس تتقاطع في نشوئيتها، وغائيتها، مع الأجناس الأدبية الغربية بشكل كبير جدًّا.

أما مقاصدي من هذا العمل؛ فقد سعيت من خلاله إلى بيان المحمول الأيديولوجي في المنهج النقدي، وكيفية تعامله مع الخصوصية الإبداعية، والمضمرات النسقية الثقافية، لكنني لم أسع أبدًا لبيان عجز التغربن، كما قلت؛ لأنني أؤمن بأن الأدب بوصفه ظاهرة جمالية، وقيم فنية إنسانية، هو مشترك إنساني عام؛ ف ـ"رسالة الغفران" لا تبتعد كثيرًا عن الكوميديا الإلهية، و"ألف ليلة وليلة" شغلت العربي وأبهرت الغربي، و"البؤساء" آلمت الغربي وأبكت العربي، لكن هذا لا يلغي أن للأدب هويته الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية، فغمزات كامي في "الغريب والطاعون" لم تهدأ حمم حقدها بعد، وباقة الورد التي حملها موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، وصلت بأشواكها للمتلقي الغربي، وعليه تغدوا المناهج المستعارة قاصرة في مقاربة النصي، ولا يمكنها أن ترتقي للكونية أبدًا؛ فمنصوص العقول الغربي استجاب لمعقول نصوصه، وإذا أردنا أن نتعسف في تكليفه بمهمة قراءة نصوصنا سنظلم النص والمنهج معًا.

ربوح البشير: ماذا يمكن للنظرية النقدية الإسلامية، إن جاز التعبير، أن تضيف للعالم التأويلي الآن؟.

د. فيصل حصيد: يمكنها على أن تضيف ثلاث قيم أساسية:

- أولها؛ نفي صفة المطلق عن الفعل التأويلي، وفق منطق كل يؤخذ من كلامه ويرد.

- ثانيها؛ أنسنة الفعل التأويلي، وفق قاعدة أن الكتابة قرار والمعنى خيار، في ضوء الآية: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾

- ثالثها؛ استيعاب الآخر والتواصل معه، لبناء عالم أرحب وأهدأ، لا إقصائه ونفيه لأطراف الذاكرة الثقافية، والتعامل مع مسألة الكرامة والتقوى على أنها مسألة مآلية، وفق منطق: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.

ربوح البشر: هل يمكنها أن تكون منطلقات النظرية النقدية (دينية بحتة)، أم أن الأمر عليه أن يخضع لقطع جذري أو جزئي مع الدين، بحكم أن النقد بخلاف الدين الذي ينبني على اليقينيات؟.

د. فيصل حصيد: الجواب في نظري بسيط؛ علينا أن نفرق بين كون الدين هوية، وهذا لا يمكن تجاوزه بحال من الأحوال، وبين كونه ممارسة، وهذا يخضع للفهوم، علينا أن نقاطع التافه والرديء منها، ونتعامل مع العميق المستنير، كما يجب أن نفرق تفرقة حاسمة بين الدين والتدين؛ فالأول منظومة، والثاني رؤية، المنظومة يمتاح منها، والرؤية لا يمكن تعميمها، وقد قال فقهاؤنا قديمًا: (تقوي الحاكم لنفسه).

ربوح البشير: في إطار النقد الثقافي، هل يمكن أن يقرأ لنا الدكتور شعار "الإسلام هو الحل" بأي وظيفة وبأي معنى؟.

د. فيصل حصيد: هذا السؤال من مفخخات الباحث الدكتور (اليامين بن تومي)، الحقيقة أنني أشمئز من هذا الشعار؛ لأنه يحمل مدلولًا لم يجرؤ على قوله حتى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن قولنا الإسلام هو الحل، يجعلنا نتساءل: وفق أي فهم؟ ووفق أي سياق؟ هي ثقافة الجاهز دائمًا لا كدّ فيها ولا نصب. أرى أن الأصلح أن يقال: الحل هو الإسلام؛ لأن هذا التعبير يحمل دلالة العمل، والجد، والكد، حتى نكون مسلمين؛ ولأن مفهوم المسلم، هو المتقدم والمتحضر الذي شغل دنياه كما ينبغي له، أما العبارة الأولى: الإسلام هو الحل، فهي عبارة توحي باستجلاب الجاهز، والنموذج، والمثال، وإسقاطه كما هو على واقع غير واقع التأسيس للظاهرة الأولى.

ربوح البشير: تحدثت في إحدى مقالاتك عن التأويل عند المتصوفة، وفرّقت بين المتصوفة والباطنية، بين المنظومة والشطح، وقلت أن التأويل، عندهم، له منطق آخر؟ كيف ذلك؟.

د. فيصل حصيد: إن الحديث عن التصوف والصوفية في التراث العربي، مشوب بكثير من الخطورة، سواء على مستوى التصنيف المعرفي، أو على مستوى التوصيف العلمي، أما على مستوى التصنيف المعرفي؛ فالمزالق تكمن في تصنيف الظاهرة الصوفية ضمن أطر مختلفة، وإن كانت متداخلة؛ فمرّة؛ يصنف ضمن إطار الاتجاه العرفاني، ومعروف أن العرفان لا يختص به العرب والمسلمون فقط؛ بل هو ظاهرة فيمن كان قبلهم من الشعوب والملل، ومرة يصنف ضمن إطار الاتجاه الباطني، ومعروف أيضًا أن التصوف، وإن اهتم بالباطن، إلا أنه لم يغال فيه كما فعل الباطنية الحقيقيون من الإسماعيلية حتى اقتربوا مما يسمى عند الغربيين بـ "الغنوصية".

ويبقى بين التصوف والباطنية، وليس الباطن، خيط رفيع يميزهما عن بعضهما، وهو "قراءة النص"؛ فالقراءة الصوفية انطلاق من النص إلى النّاص، والنص عندهم أمارة وإشارة، وصاحب النص غاية ونهاية. أما القراءة الباطنية؛ فتنطلق من الغاية إلى العبارة، فإما احتملها النص تنزيلًا وإلا فتأويلًا، ولا مجال لصاحب النص في المقاصد، ولا حظ له في الدلالة، وهي قراءة لا يمكن مقارنتها ولا مقاربتها، إلا بالهرمينوطيقا، كما ظهرت عند الغرب، والقراءة الباطنية باطن ينسخ باطنًا، وإمام تألّه ينسخ نصًّا تأنسن، وهذا يخالف، بشكل واضح، ما ذهب إليه المتصوفة.

وقد أسس المتصوفة منظومة معرفية قائمة بذاتها تخص طرائقهم في الفهم، ومرتكزاتهم في القراءة والاستدلال، سنتحدث عنها في باب المرجعيات، وأمّا ما يهمنا الآن؛ هو أن الصوفية لم يقتنعوا بالقوانين التي حددها اللغويون والبلاغيون لإنتاج الدلالة، وشاركهم فيها المناطقة وعلماء الكلام؛ وإنما تعدوا هذه القوانين، حيث إنهم حمّلوها بإحالات حتى تمددت وانفجرت، واهتدوا إلى ما يسمى بــ "دلالة الإشارة" التي تعتمد على قوة القلب وصفائه، وجودة الإلهام وارتقائه، فاختلفت من شخص لآخر؛ بل عند الشخص نفسه باختلاف التجربة الروحية.

وأصبحت ملاحقة الدلالة الهاربة في ثوب الإشارة إلى الأزلي، الشغل الشاغل عند المتصوفة حتى صاروا يعبرون عن ذلك شعرًا ونثرًا، بعبارات أربكت المتلقي في الثقافة الرسمية، وأدخلت هذا النوع من الإبداع في سلة المشبوه، فاحتاج إلى آلية تخرجه إلى معاني الثقافة المتداولة ليفهم، بدل تلك التي أخرجته منها ورمته في سراديب الكفر والإلحاد والعبثية، وكانت هذه الآلية هي التأويل مرة أخرى، حيث أفلحت أحيانًا، كما عند؛ القشيري، والغزالي، وأبي يزيد البسطامي، والجنيد من قبل، وفشلت أخرى، كما دفع الشعراء المحدثون الثمن لخروجهم على قوانين الشعر، دفع المتصوفة الثمن لخروجهم على قوانين العبارة، فجز رأس الحلاج، وقتل الكلاباذي، وأوذي ابن عربي.

ولعل أهم مستوى بلغه التصوف، وفجّر به قوانين المعنى هو "مستوى الشطح" وهو مصطلح؛ يعني عند المنتصرين للإبداع الصوفي؛ التفرد، والتجديد، والفلتان، ويعني عند خصومهم؛ الهذيان، والعبث، وقد قسم الغزالي الشطح إلى صنفين: أحدهما ادّعى ما لا يعقل فجهل، والآخر عبر عما لا يدرك فزلّ.

ربوح البشر: هل كل موضوع قابل للتأويل؟.

د. فيصل حصيد: الحاجة للتأويل، وقابلية أي موضوع للتأويل، مسألة نسبية تختلف من مؤوّل لآخر، ومن نظام إلى نظام، ومن ثقافة لأخرى، فلا مسلمات في التأويل، كما يقال: "إذا كان الصبح يملأ الأفق فإن النائم لا يراه"، وما يجعل من موضوع ما غير قابل للتأويل؛ هو أحكامنا المسبقة حوله، وتصوراتنا ومعتقداتنا تجاهه، وهذا لا يلغي أن هناك أصلا وأوّلا يبني عليه غيره، يكون من المواضعة، حيث لا يتطرق إليه التأويل في ذاته؛ بل يبني عليه ويتأوله في غاياته.

ربوح البشير: لماذا رفضت بعض المدارس الفكرية في التراث العربي التأويل؟.

د. فيصل حصيد: هو رفض اصطلاحي أكثر من إجرائي أو وظيفي؛ فقد شغل التأويل مفهومًا، ومصطلحًا، وممارسةً، الفكر النقدي التراثي إلى درجة بلغت حدّ الصراع، ما يدلّل على الوعي الفاعل بهذا الموضوع في المدونة الفكرية التراثية عند القائلين به، والمنكرين له، فإيغال المتأوّلين ردّ عليه المنكرون بتأويل أعمق مما أنكروا، في بعض الأحيان (ابن حزم وابن تيمية)، ولم يكن مجال التأويل عندهم، أو على الأقل عند بعضهم، محدّدًا؛ لأن الوجود القائم على اللغة في تصورهم لا يفهم إلا في ضوئها، واللغة نسبية احتمالية، وكذلك معطيات الوجود لا يستوعبها إلا التأويل، والخلاف الذي دار حوله كان في حقيقته خلافًا حول مناهج التأويل، وطرائقه، وحدوده، ولم يكن أبدًا خلافًا حول المبدأ، إذا ما استثنينا آراء الظاهرية النظرية حول المسألة، والتي تعتبر في النهاية تأويلًا كليًّا لــ "للمنصوص العقلي" الذي انعكس على المعقول النصي.

ربوح البشر: تقول في أحد بحوثك أن التأويل، نشأ على ضفاف النص الديني، فلماذا لم يحظ هذا النص في التأويل المعاصر بما يستحق، وتوجهت معظم الجهود لتأويل النصوص الأخرى؛ الأدبية والفكرية والثقافية؟.

د. فيصل حصيد: إذا كان التأويل قد نشأ على ضفاف النص الديني؛ فإن النص الأدبي الذي تقهقرت مكانته بفعل المعجزة البيانية حتى أصبح النص الديني (القرآن والحديث) مثاله الأعلى، أصبح مسرحًا خصبًا للممارسة التأويلية لعاملين هما؛ الأول: أنه لا يخضع للقداسة التي يحظى بها النص الديني، ما جعل الخوض فيه غير محكوم بضوابط المنع والإباحة. والثاني: ما حدث فيه من تطورات كسرت منطق المحاكاة السائد، وأحلت الغموض محل البيان، ما تطلب بذل الجهد لتأويله ضمن النظام الفني السائد.

ربوح البشير: تقحم كثيرًا العلوم المحايثة في التقنين لنظرية التأويل عربيًّا، وعلى رأسها علم الأصول، لماذا؟.

د. فيصل حصيد: أما علم الأصول؛ فهو الذي تجلت فيه الممارسة التأويلية في أوضح صورها؛ لأنه العلم الذي جعل فهم النص أرفع أهدافه، والبعض يسميه علم التخاطب؛ لأنه اهتم بصيغ الخطاب ومسمياتها، وبحث دلالة الألفاظ في مختلف أوضاعها من الوضوح إلى الغموض، ومن الظهور إلى الإضمار، ومن الاشتغال إلى الخلو، حتى بدا وكأنه لم يترك للدلالة مسلكًا إلا سلكه إليها، وليس هذا مكمن الجدة في علم الأصول؛ بل الجدة تكمن فيما أنتجه من مناهج ومصطلحات للتعامل مع العلامة، الأمر الذي جعله مرجعية هامة للتأويل، لا يفوقها في أهميتها إلا المرجعية اللغوية، خاصة بما اشتمل عليه من نزعة علمية أثرت في صِدقية الممارسة التأويلية.

ربوح البشير: وماذا عن المتكلمين وعلم الكلام؟.

د. فيصل حصيد: وللمتكلمين مرجعيتهم التي أثرت التأويل النقدي بالمهارات التحليلية، والقدرات البحثية، فقد ملأوا الدنيا، وشغلوا الناس، وأوقدوا نارًا للجدل لم تخب جذوتها إلى اليوم، احتنكتها الشبهات وراودتها الأراجيف، إلا أنها بقيت من ألمع صور العقل المعرفي في الإسلام، وقد كان لموقفهم من اللغة ووظيفتها، ومن الحقيقة وحدودها، والباطن وأهميته، كبير الأثر على التأويل النقدي، ولنتصور للحظة أن الزمن قد استدار، وغيّر المتكلمون مواقفهم، وقالوا: بأن اللغة وقفية ولا شيء غير ذلك، وأن الكلام حقيقة ولا وجود للمجاز، وأنكروا دلالة الباطن على الأشياء، كيف كان حال النقد إثرها؟ لا بدّ أن الصورة خانقة توحي أن العالم قد انتهى أو أوشك، وأن العقل صار على مثال واحد يكرر ذاته، ويتآكل اللحظة بعد الأخرى، وقد قيل: (من لا يتطور ينقرض).

والقصور الذي نعانيه اليوم على جميع المستويات عامة، والفكرية خاصة؛ هو قصور معاصر، سببه تحجيم الآلة التأويلية الذي مكن الآخرين من استلابنا، ثم الانبهار بمنظومات التأويل الغيرية، التي ما فتئ الكثير يبشّر بها، وليس للنقد من سبيل للخلاص من هزاله المعاصر، إلا إتقان التعامل مع التراث قراءةً، واستلهامًا، وتأصيلًا، وتجاوز ذهنية الانبهار والاستهلاك إلى المساهمة في صياغة الخطاب النقدي الإنساني؛ فالتأويل هو المعرفة الوحيدة التي لا يمكن أن تُستورد أو تُقتبس أو تحاكى؛ لأنها تمثل وجود الذات في واقعها، والأمة التي لا تُؤوِّل يؤولها غيرها ويوجدون بديلها.

ربوح البشير: أخيرًا، هل للتأويل نهايةٌ وحَـدٌّ؟.

د. فيصل حصيد: لقد علَّمنا البحث في التأويل؛ أن الإنسان متى توقف عن التأويل، توقف عن الوجود، والحياة متى قرّرت أن تُنهي التأويل، انتهت، وفُتح الباب بعدها للتأويل الذي يجلو الحقائق كما هي: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَل﴾ [الأعراف/53]، هذا هو التأويل لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد، فكان الاستمرار والخلود أسمى فضائله، والتعدد واستيعاب المختلف أرحب معانيه.

شكرًا لكم على هذا الحوار الرائع والمنفتح على ممكنات التأويل، وآفاق الفكر في الزمن المعاصر، زمن التأويل المعجون بأمل الذوات الحرة في صناعة عالم المعنى والقوة.