حمّادي الرديسي: تطبيق الشريعة بين (الاستثناء الإسلاميّ) و(ميثاق نجد)
فئة : حوارات
تطبيق الشريعة بين (الاستثناء الإسلاميّ) و(ميثاق نجد)([1])
حوار مع الأستاذ حمّادي الرديسي
حاوره: أنس الطريقي بالتنسيق مع أسماء نويرة
تقديم:
الأستاذ حمّادي الرديسي (تونس)، أستاذ العلوم السياسيّة في الجامعة التونسيّة، واحد من أبرز المفكّرين المعاصرين في إشكاليّة الحداثة في العالم العربيّ الإسلاميّ المعاصر، وما تثيره من قضايا في لقائها بالإسلام. وعلى الرغم من عمق التحاليل التي قدّمها في هذا الموضوع، وأهميّة الأدوات التي اقترحها لتفسير معيقات التقدّم في المجال العربيّ الإسلاميّ، فإنّ أفكاره تبقى قليلة الانتشار لدى القارئ العربي.
وهذا مقابل الحظوة الكبيرة، التي تلقاها في الأوساط الأكاديميّة، ولا سيما الغربيّة منها. ناهيك عن أنه قد تولّى التدريس في كبرى الجامعات الغربيّة، في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وإيطاليا، وألمانيا.
وفضلاً عن عضويّته في مراكز البحث العلمي العديدة ذات الصيت العالميّ، كالمركز العربيّ للبحوث والدراسات في جنيف، ورئاسته الشرفية للمرصد التونسيّ للانتقال الديمقراطيّ، فإنّ النشاط العلميّ البارز لهذا المفكّر في القضايا الحضاريّة للعالم العربيّ الإسلاميّ، ولا سيما المتّصلة منها بإشكاليّة الدين والسياسة، وانخراطه النضاليّ فيها، يمكن التعرّف إليه في مؤلّفاته المنشورة باللّغة الفرنسيّة خاصّة، وأبرزها:
-LES POLITIQUES EN ISLAM, Le prophète, Le roi, et Le savant, Paris, L'Harmattan, 1998.
- L'exception islamique, Paris, Seuil, 2004.
- LE PACTE DE NADJD, Comment l'islam sectaire est devenu l'islam, Paris, Seuil, 2007.
- La Tragédie de l'islam moderne, Paris, Seuil, 2011.
وباللغة العربية:
- حمادي الرديسي وأسماء نويرة، الرَد على الوهابية في القرن التاسع عشر: المغرب العربي نموذجاً، الجزء الأول، دار الطليعة، بيروت، 2008م؛ ردود المشرق، دار الطليعة، بيروت، الجزء الثاني، 2010م.
- حماديي الرديسي، ورقة الوراق، منشورات الديوان، تونس، 2014م.
وباللغة الإنجليزية، بالاشتراك مع يان أريك لينا:
-Religion and politics, Islam and Muslim civilization, London, Ashgate, 2008.
إنّ اختصاص الأستاذ حمّادي الرديسي في العلوم السياسيّة، الذي يسنده اطّلاعٌ واسع على التاريخ الإسلاميّ، وتشبّعٌ بمختلف مناهج البحث في الإنسانيّات، وتصدّيه المعروف لدعوة تطبيق الشريعة في الفكر الإسلاميّ الحديث والمعاصر، كلّ ذلك يجعل محاورته ذات أهميّة بالغةلهذا المشروع البحثيّ.
الأسئلة:
أنس الطريقي: تعدّ الدعوة إلى تطبيق الشريعة من أبرز الظواهر السياسيّة والاجتماعيّة، التي تمخّضت عنها ثورات الربيع العربيّ، أو أعادت لها بريقاً كنّا نتوقّعه خفت نهائيّاً بعد ثمانينيات القرن العشرين. بِمَ تفسّرون عودة هذه الدعوة، على الرغم من أنّه وقع التصدّي لها سياسيّاً من قبل الدولة، وعلميّاً من قبل العديد من الكتابات التي أبرزت هشاشة مستنداتها معرفيّاً؟ أَهي مجرّد أداة من أدوات التعبئة في صراع تخوضه القوى المحافظة من أجل السلطة أم أنّها تعبير عن حاجة أصيلة لدى المجتمعات العربيّة الإسلاميّة، لم تتمكّن مشاريع الدولنة المعاصرة من إسكاتها؟
حمّادي الرديسي: ترجع دعوة تطبيق الشريعة إلى الستينيات، ويمكن إرجاع أوّل إرهاصاتها الأولى إلى ثلاثينيات القرن الماضي، مع مقولات حسن البنا، وأبي الأعلى المودودي؛ أي بعد تشكّل الدولة الحديثة في البلدان الإسلاميّة. وهي ردة فعل رجعيّة تناهض الدولة الوطنية، وتشكّك في إسلامية الحكام، وترفض القانون الوضعي والنمط العصري للحياة.
لم يوجد مفهوم «الشريعة» في العصر الوسيط. ولا يوجد حتى كتاب واحد حول الشريعة، باستثناء كتاب الأجوري (الشريعة)، وهو يخصّ أصول الفقه، الذي يناقش المصادر الأربعة للتشريع (القرآن، السنة، الإجماع، القياس)، لا ما نعنيه اليوم بالشريعة. ما يعرفه القدماء هو الفقه؛ أي مجموعة الترتيبات والحلول العملية المستنبطة من أصول الفقه اجترها الفقهاء في عناوين تكرارية (فروض العين والكفاية، البيوع، النكاح، الحدود)، ومتفرقات عدة حسب الفقهاء. ما حدث، منذ القرن التاسع عشر، هو كسر وحدة هذه المنظومة عبر عمل مزدوج: تدوين هذه المواد في قوانين وضعية بدأ بالمجلة التركية (1874م)، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، وقعت علمنة محتوى هذه المواد. ولكن دون قطع نهائي مع منظومة الفقه. وتواصلت الحركة المزدوجة مع دولة الاستقلال. وعلى الرغم من أنّ الدولة الوطنية لم تقطع جذرياً مع منظومة الفقه، إلا أنّ تحديث الإسلام لم ينجح. وربّما كان يحتاج إلى أكثر وقت. وربّما غابت الشجاعة لدى النخب الوطنية العربية لكي تقوم بعملية قيصرية على غرار أتاتورك. أفليس من المصادفات أنّ النموذج الإسلامي الوحيد، الذي تتوازن فيه قوى المحافظة، وقوى العلمانية، يبقى تركيا، وذلك لتأصّل النموذج العلماني. على كلّ، إنّ ذلك التحديث لم يَرُق لنخب السبعينيات العربية، التي نشأت في ظلّ الدولة الوطنية، ودرست في معاهدها، والمنحدرة من أصول شبه ريفية والطبقات المتوسطة الدنيا. ورأت «الحلّ» في الرجوع الوهمي إلى الإسلام الأول (إسلام السلف). هو وهمٌ؛ لأنّه مفهوم تشكّل في ثنايا كتب الحديث المتأخرة، وما بعد أحمد بن حنبل (توفي في القرن التاسع الميلادي).
كاد نجم هذا الإسلام السياسي يأفل لولا ما يسمّى الثورات العربية؛ فقد أعطته شرعية جديدة، شرعية النضال ضد التسلط، والمعاندات، والألم، وزادت الوعود الزائفة في لمعان بريقه. نعم استغل الإسلام السياسي تدين المجتمع، لكن سرعان ما انكشف القناع. ذلك أنّ الإسلام السياسي وجد نفسه في الورطة نفسها؛ أي دين دولة، دولة غير قادرة على تلبية المطالب الاجتماعية. وأصبح الإسلام جزءاً من المشكل لا الحل. في الحقيقة، لو تمعنّا كثيراً لرأينا خطّين يخترقان الإسلام الحديث منذ عصر النهضة: خطّ وطني حداثي وعلماني ديمقراطي، وخط جماعتي محافظ إسلاموي وتسلّطي. ولا أحد، الى الآن، نجح في التوليف.
أنس الطريقي: هل يمكن القول إنّ هذه الدعوة ناتجة عن معارضة للدولة بمنطق الدولة نفسها، فالشريعة، في هذا التصوّر السياسيّ، تصبح المكوّن القانوني الضروريّ لكلّ بناء دولتي، ما دامت سيادة لله أو «الحاكميّة» هي المعارض لمفهوم السيادة البوداني (نسبة إلى بودان)، الذي يمثّل أساس نظريّة الدولة في الفكر الغربيّ. يمكن، في هذا السياق، الاستدلال على هذه المعارضة بكتابات واحد من القادة الإيديولوجيّين المؤسّسين لهذه الدعوة، نقصد أبا الأعلى المودودي، ولاسيما في كتابه (تدوين الدستور الإسلاميّ)؟
حمّادي الرديسي: إنّ مفهوم الدولة الوطنية مفهوم عصري. عاشت أوربا، في العصر الوسيط، تحت إمارات مشتتة بعضٌ منها تحت راية البابا، وبعض آخر مستقل، وأحياناً في خلاف معها. وكان الأمر كذلك إلى حدود القرن السادس عشر. وكان بودان من الأوائل، الذين نظروا، آنذاك، لمفهوم السيادة الترابية لدولة في اتجاه العلمنة، والتميز عن السلطة الدينية، وهي تعتمد على أربعة مبادئ: السيادة هي قوة القيادة، قوة مطلقة، قوة غير مجزأة، قوة دائمة. ونجد إثراءها إلى حدود عند روسو في مفهوم الإرادة العامة (أصلية، غير مجزأة، ودائمة). عاش العالم الإسلامي تصوراً مماثلاً الى حدود القرن التاسع عشر. كانت الفكرة أنّ المسلمين متوحّدون تحت خلافة، وإن كان الواقع المعاش مغايراً منذ القرن العاشر (الثالث هجري)، سواء أكان ذلك في المغرب مع الأغالبة منذ القرن التاسع الميلادي أم في خلافة قرطبة (منذ القرن الثامن للميلاد). ساد تصور أنّ الخلافة تقبل إمارات «الاستكفاء» (المفوّضة من طرف الخليفة)، وتتعامل مع إمارات «الاستيلاء»؛ أي أمراء الحرب، الذين يستقلون بمفردهم عن الخلافة (شريطة أن تقع خطبة الجمعة باسم الخليفة أو ألا تتنكر له). هذا ما قاله الماوردي (القرن الحادي عشر للميلاد) في (الأحكام السلطانية)، الذي لم ينطق ببنت شفة عن خلافة قرطبة، إلا عرضاً عبر القول إنّ خلافة الأول بالأول هي الحلّ في صورة تنافس بين الدعيّين. لذلك لم يعرف العرب مفهوم المواطن إلا أنّه يتعرف بمسقط رأسه مادام الجميع يعيشون في «دار الإسلام» دون حدود. مفهوم الدولة نفسه في الإسلام هش. هي، قرآنياً، تداول الأيام، وعادةً انقلاب الزمان، والعقبة في المال، وتنطبق الكلمة على أُسَرٍ كدولة بني العباس، أو أفراد، كدولة فلان. هنالك، بطبيعة الحال مؤسسات، كالدواوين، والوزارات، والمحاكم، ولكنها لا تشكّل بيروقراطية دولة محايدة وغير مشخصنة. فرض القرن التاسع عشر مفهوم الدولة - وطن عبر التنظيمات التركية منذ خط شريف كلخانه (1839م)، وخط همايوني (1858م)، والتونسية (عهد الأمان 1857م)، والإيرانية (إعلان الحقوق 1906م). وأيضاً، عبر المفكرين، الذين نظروا لفكرة الاستقلال في سورية ولبنان، وقد أحصاهم جورج أنطونيوس في (يقظة العرب)، وفي مصر الطهطاوي، وزكي مبارك، وفي تونس خير الدين، وابن ضياف. وأخيراً تحت تأثير الاستعمار الذي دفع كلّ قطر عربي للبحث عن تأصيل هويته.
هنالك فكرة ثانية مهمّة، إلى جانب تكون مفهوم الدولة - وطن، وهي علاقة الشريعة بالدولة في التصوّر السني على الأقل. فالشريعة مستقلة نسبياً عن الدولة. فالدولة ليست مدنية، وليست دينية؛ بل لها اليد العليا في المسائل الدينية، التي تبقى مجال اختصاص الفقهاء. ويتحكّم هؤلاء في أجهزة العدالة، والتعليم، والشعائر. وهذا ما وقعت علمنته كما قلنا سابقاً. وما قامت به الدولة الوطنية هو لا فصل ولا وصل؛ بل مزج وتخليط. ومن هنا، نفهم ردّة فعل المودودي في (تدوين الدستور الإسلامي)، وتقي الدين النبهاني في (الدولة الإسلامية) المشفوع بدستور يقنن الخلافة «على منهاج النبوة». والأصل فيها كلّها رفض الحداثة بكلّ روافدها (الدولة الوطنية، وعلمنة التشريع، والديمقراطية)، وما نجده في هذه الكتب هو «شورى مدمقرطة» أي استشارة الناس في كلّ شيء ما عدا الشريعة. وما الشريعة؟ هي نمط الحياة. هكذا يستشار الناس «ديمقراطيّاً» في لا شيء.
أنس الطريقي: هذه الدعوة تصدّى لها، منذ التسعينيات، عدد مهم من المفكّرين في العالم العربي، يمكن أن نذكر منهم الصادق بلعيد، ومحمّد الشرفي، وعبد المجيد الشرفي، ومحمّد شريف فرجاني، وعبد الإله بلقزيز، وجمال باروت، وكمال عبد اللّطيف، وشتّى دعاة الفكر العلماني في العالم العربيّ والإسلاميّ. وقد توسّلوا، في الغالب، الطريقة الحجاجيّة، التي ركّزت، خاصّةً، على نفي هذا البعد القانوني المتصوّر للأحكام والحدود في القرآن. يبدو أنّكم اتبعتم طريقاً أخرى في مواجهتها، شرحتموه في كتاباتكم، لا سيما (le pacte de najd...) (ميثاق نجد...)، و(l'exception islamique) (الاستثناء الإسلامي). لو شرحتم لنا هذه الطريقة، وفسّرتم لنا قصدكم بمفهوم الاستثناء الإسلاميّ، في إطار هذا الردّ.
حمّادي الرديسي: اسمحوا لي، الآن، أن أتحدّث عن نفسي، بما أنّكم طلبتم ذلك. أنا قرأت جلّ من ذكرتم؛ لأنني قدّمت دكتوراه دولة في العلوم السياسية تحمل عنوان (الحداثة في الفكر العربي الإسلامي) تحت إشراف مزدوج للفيلسوف الفرنسي لوقا فيري والمرحوم محمد أركون. وهذا يعني أني مسحت كلّ ما صدر منذ القرن التاسع عشر إلى (1992م)، من الفكر الإصلاحي إلى فكر الإبستمولوجيا، من النهضة إلى من تأثر بميشيل فوكو، مثل أركون، والجابري.
إنّ لمعظم من ذكرتموهم استراتيجيات معرفيّة تقوم كلّها على تبرئة الإسلام من تورّط الإسلاميين في تفاسير مدانة؛ أوّلها تفسيرية تتمثّل في أنّ الآيات، التي يحتج الإسلاميون بها لتكفير المسلمين، نزلت في الكفار، أو في اليهود. وأنّ الأحكام قليلة العدد في القرآن، والحدود نفسها محدودة بأسباب نزولها، وبتعطيلها، عملاً بالقاعدة «الضرورات تبيح المحظورات». وأن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين هدفه الدفاع عن «بيضة الإسلام» لا «فريضة غائبة»، كما قال عبد السلام فرج مدبّر قتل السادات. هنالك استراتيجيّة ثانية تميّز بين الشرائع والمعاملات، وثالثة «سهمية» تميّز بين نيّة المشرع، والغاية من التشريع، ورابعة بين الرسالة والتاريخ، وخامسة فوكويّة (نسبة إلى ميشيل فوكو) تبحث عن العقل الفقهي، الذي يشهد به الغائب على الشاهد، وسادسة تفكيكية (نسبة إلى جاك دريدا) تفكك بنية اللّامفكّر فيه في الثقافة الإسلامية.
أنا طرحت سؤالاً آخر: ما الذي يجعل من الإسلام (كثقافة دينية وتاريخ بشري) استثناء؟ والمفهوم مزدوج: هو إيجابي عندما نتحدث عن الغرب، الذي هو خروج عن القاعدة، التي طغت في القرون الوسطى، أو عندما يتحدّث الأمريكان عن أنفسهم، باعتبارهم أكثر الشعوب تديناً، وتفاؤلاً، وفردية، وليبرالية. أو لما نذكر استثناء اليابان؛ أي قدرته على التحكّم في التقنية وأخلاقيّة العمل، التي تضاهي البروتستانتية كما نظّر لها ماكس فيبر. والاستثناء الإسلامي سلبيّ عندما نتحدث، في كلّ مرة، عن حضارات فوّتت على نفسها فرصة التألق. وقمت ببحث متعدد الأوجه والاختصاصات الغرض منه لا تأكيد الاستثناء السلبي، ولا تبرئة الإسلام من أيّ شائبة تشوبه؛ بل ما يجعل من حالة ما إشكالاً تاريخيّاً (التاريخ كمعضلة).
قلت: هنالك استثناء ثقافي يتمثل في إرادة التمازج بين الأضداد. وله أدوات عدة (الخلط والتخليط، والتوفيق والتلفيق، والتثاقف والازدواجية، والحياة بين نمطين...) وهو، إجمالاً، نابع من عقل ذي مدخلين، مدخل مفتوح، ومدخل مغلق، وكلّ له حساباته، يصفي وينتقي، ويقبل ببعضٍ من الوافد ويرفض بعضاً من الرافد. لا أحد يقبل بالكلّ، لا كلّ الرافد، ولا كلّ الوافد. كلّنا شبه تقليديّين، وكلّنا أشباح حداثيين. لا أحد يغامر بالكلّ. ويرجع هذا العقل الى العصر الوسيط، عندما حاول العرب المزج بين الثقافات الوافدة (اليونانية والفارسية أساساً) والمصدر العربي. كان ذلك استثناء إيجابيّاً ولّد ثقافة تكلّست في التوفيق.
لن أستطيع مواصلة تقديم كلّ الكتاب، إلّا أنّ هنالك استثناءً إيديولوجياً يتمثل في التواصل غير المفهوم وغير المعقول للأصولية الدينية، في حين أنّ الغرب تجاوز هذه اللحظة التاريخية، التي عرفها في شكل البروتستانتيّة، أو حدّ من مفعولها في ظلّ الديمقراطية المستقرة. وهنالك استثناء حربي يجعل من الإسلام أكثر الديانات المتورّطة في العنف من الإنكشارية إلى الجهادية. ولا يوجد نصّ بريء مسطّح في السماء؛ بل هو قراءات والجهادية إحداها. وهناك استثناء اقتصاديّ يجعل من الدولة العربية على الأقل دولة ريعية، أو تعتمد التجارة، ولا تصنع شيئاً (خلافاً للاستثناء الآسيوي). وهنالك استثناء دينيّ باعتبار أنّ المسلمين يَعدُّون الإسلام ديناً «على حدة»، لا هو امتداد، ولا هو خروج عن الديانات السماوية، حيث يُقرأ القرآن «على حدة»، بينما يجمع الكتاب المقدس العهدين القديم والجديد. ويجهل معظم المسلمين الأديان الأخرى في مصادرها، ولا يعلمون منها إلا ما قاله القرآن فيها. وأخيراً، وليس بآخر، هنالك استثناء سياسي يتمثل في التسلّط. كنت قد كتبت ذلك، في (1992م)، والحال أنّ تركيا كانت، آنذاك، شبه ديمقراطية انتخابية تحت رقابة الجيش. أمّا الآن، فهنالك بعض الدول الإسلامية اعتمدت الانتخابات مثل إندونيسيا، وماليزيا، إلا أنّ الحريّة الدينية غير متوافرة، وقمع الحريات الفردية متواصل ومدانٌ من طرف الجمعيات الدولية. أمّا العرب، فبعد موجة «الريبع» لم يبقَ في الحساب إلا تونس. ونحن نحتاج إلى بعض الوقت لكي نتأكّد من أنها خرجت من الاستثناء.
ما قمت به في (ميثاق نجد) هو عمل آخر؛ هو تحقيق أنتربولوجي، تاريخي، وفكري (عقائدي)، حول أصول الحركة الوهابية منذ القرن الثامن عشر، أو كيف أصبحت فرقة اتّهمت بالخروج عن الإسلام على النمط القديم، وهي تمثل الإسلام السني في آخر المطاف. هنالك من يعيد المسألة إلى تأثير النفط، وهذا غلط. لقد طبَع الإسلام السني مع الوهابية، في بداية القرن العشرين؛ لأنها التقت معه في نقد الثالوث الغاشم (الاستبداد، الفقهاء الجامدون، والإسلام الطرقي). في هذا التصور، يلتقي العلماني، والإصلاحي، والليبرالي. فحتى طه حسين، قال أشياء إيجابية حول الحركة الوهابية في الثلاثينيات. وبهيمنة الوهابية على الإسلام السني، يفتح مجدداً مسلسل الخروج على السلطان الجائر، بما فيه خروج السعوديين أنفسهم ضد السدنة (فرقة مارقة سابقاً). وهذه هي الدائرية المقيتة للإسلام (وجزء من استثنائه).
أنس الطريقي: في خصوص هذا المفهوم الأخير «الاستثناء الإسلاميّ»، كيف تردّون على وقائع كثيرة، أو ظواهر تشكّك في صلابته، من قبيل أنّ هذه العودة إلى الدين، والفرقيّة المتمحورة حوله، هي عودة عالميّة. ومشاريع تأسيس الشرعيّة السياسيّة على المعطى الدينيّ نجدها في دول غربيّة تعرف بعلمانيّتها، من ذلك، مثلاً، العلاقة المعروفة بين جورج ولكر بوش والحركة الخلقويّة (le créationnisme)؟
حمّادي الرديسي: إنّ قضية هل الدين «رجع» أو لم «يذهب» أبداً تبقى مطروحة. يقول الفيلسوف الفياض نيشت إنّ «رجوع الشيء نفسه» هو، دائماً، بفعل التاريخ والتأويل، رجوع مغاير.
ما نراه، اليوم، في الغرب هو تنسيب العلمانية، لا التنكّر لها. هنالك كتاب مهم للفيلسوف الكندي شارل تيلور، تُرجم مؤخراً (2011م) إلى الفرنسية (منشورات سواي)، عنوانه (الزمن العلماني) (l'âge séculier)، وهو عبارة عن إلياذة العلمانية في ما يقارب ألف صفحة يمسح كلّ المجالات (من الفنّ الى المجتمع مروراً بالفكر). وقد شاركتُ في مؤلفٍ جماعيّ بمقالة في الحوار معه من منظور الثقافة الإسلامية. هو يقول إنّ الزمن العلماني يتخصص بثلاث خصائص: التمييز بين الدين والدولة، أو بين المجال العمومي والمجال الديني الخاص (1)، انسحاب الدين وأفول نجمه، وهي حركة بدأت بالخروج من الدين عبر الدين (البروتستانت)، ونهاية سحر العالم عبر الدين (2)، وجعل الإيمان «إمكانية متاحة» من جملة إمكانات أخرى. وهو أمر كان مستحيلاً في الزمن الديني السابق (3). هذه هي «شروط الايمان»؛ أي أن تجعل منه ممكناً من الممكنات. ما أبعدنا من هذا، وما يحدث، الآن، من التعامل مع التدين والفرق الدينية في الغرب، لا يمس جوهر العلمانية. لا ننسى أن الديمقراطية، اليوم، ليست، كما يتصوّر العامة، سلطة الشعب؛ بل هي «تعدد السلطات» (polyarchie) من «ميديا»، ومؤسسات غير منتخبة، وقوى ضغط بما فيها اللوبي الديني. فأحزاب الديمقراطية المسيحية لها مسحة دينية ولكنّها مدنيّة، والمحافظون الجدد يعولون على اليسوعيين والخلوقيين، ولكن لا قوة تتحكّم في الكلّ ولا حركة تحتكر المجال العمومي، ولا حزب يملأ الفراغ. وهذه هي الديمقراطيّة المنشودة لا ديمقراطيّة العدد والعدة.
أنس الطريقي: هل ترون أنّ أدوات الجدال القديمة لهذه الدعوة، التي استعاد بعضها مؤخّراً عبد المجيد الشرفي، في كتابه (مرجعيّات الإسلام السياسيّ) (2013م)، مازالت صالحة، ولاسيما أنّنا نعيش واقعاً جديداً يعرف تهاوي نظريّة الحتميّة العلمانيّة، وفيضاناً هوويّاً يسبّبه انفتاح الديمقراطيّة على محدّدات جديدة تفرض احترام الخصوصيّات الجماعاتيّة (communautaires)، كما يجري الأمر في كندا مثلاً، ويُعبّر عنه فكريّاً بنظريّة الدولة متعدّدة الثقافات، ولا سيّما مع ويل كيمليكا (و1962)؟
حمّادي الرديسي: أنا قدّمت كتاب الشرفي بمعيّة الأستاذة السليني. هو كتاب مهمّ في مرجعيات الفقه الإسلامي، ولكن ليس من المؤكَّد أنّ الحركات الإسلامية ترجع إلى هذه المفاهيم. هي تقوم بخلطة جديدة معاصرة جزء منها قديم، وجزء مستحدث. أمّا في خصوص الموقف من الإسلاميين، فينبغي التمييز بين المستوى الفكري والسياسي. نحن نتصارع معهم، ونناظرهم في العقائد والفكر، ولكن نعترف بوجودهم، شريطة أن يلتزم الجميع، هم وغيرهم، بعدم اللجوء إلى العنف لحلّ الخلافات السياسية، وبحياد المجال العمومي، وعدم التكفير، ومدنيّة الدولة، وقبول قواعد اللعبة الديمقراطية. العلمانية تفرّقنا، والديمقراطية تجمعنا، والحقوق لنا وإليهم. وهذا هو بالضبط ما يحدث مع ما أسميته احترام الخصوصيّات الجماعاتيّة (communautaires). فكتاب ويل كيمليكا (المواطنة المتعددة الثقافات) (مترجم إلى الفرنسية في دار لاديكوفارت) يطرح إشكال الحقوق الخاصة للجماعات (الدينية، والعرقية، والإثنية، والثقافية) في ديمقراطية لا تعترف، مبدئياً، إلا بأفراد غير منخرطين (disembedded) في جماعة أصلية. ولا يوجد حلّ سحري؛ بل حلول تختلف. فالجماعات الأصيلة (native)، كالسود، أو الهنود الحمر، لهم حقوق جماعية بالكاد. أمّا الوافدون، فعليهم بقبول الحقوق الفردية فحسب؛ لأنّهم على علم مسبقاً بقوانين البلد. ولو طبقنا القاعدة على الجماعات الاسلامية، فهي كلّها أصيلة، ولكنّها غير قادرة على التعايش في ظلّ الدولة الحديثة العربية الإسلامية تحت قوانين علمانية، ولا يمكن الرجوع إلى نظام الملة التركي، الذي عدّه مفكّر مهمّ آخر هو مايكل فالزار في (كتاب في التسامح) (Traité sur la tolérance, Editions Gallimard, 1998) أحد الأنماط الخمسة للتسامح.
أنس الطريقي: إن طرحنا عليكم السؤال التالي، الذي طرحه عياض بن عاشور في أحد أعماله، والذي نترجمه، تقريباً، بقولنا: هل يمكن أن نكون مسلمين ونعترف بالصناعة الإنسانيّة للحقّ؟
? peut on être musulman et croire à la direction humaine du droit
يجيب دعاة تطبيق الشريعة بأنّ هذا غير ممكن، فما إجابتكم؟
حمّادي الرديسي: أوّلاً، الفقه والشريعة منظومات أسسها اختصاصيّو المعرفة الفقهية؛ أي بشر، وما نزل من السماء محلّ اكتساب، وتفسير، وخلافات فقهية على مدى العصور. فالإسلام ليس ثيوقراطياً (أي يمنح السلطة الدينية لممثلين فوّضهم الله). اليهودية وحدها ثيوقراطية، باعتراف المؤرخ اليهودي فلافيس روزاف في القرن الأول من الميلاد في ردّه على النحوي أبيون (Flavius Josèphe, Contra-Aoprion). فالإسلام، إذاً، يدير القانون (الفقه) عبر موظفين هم الفقهاء، وهم يخطئون ويصيبون. فالسؤال المشروع: هل يقبل المسلم بعلمنة القانون، وبإدارة المقدّس من طرف موظفي المدنس (شأن رجال القانون غير المتدينين)؟ هم قبلوا بذلك منذ القرن التاسع عشر. ولقد أسلفنا الكلام في الموضوع. والقول بالعكس هو قول هووي لا تاريخي، ولا سوسيولوجي.
ثانياً، ما يقوله دعاة الشريعة من أنّ ذلك غير ممكن هو وهم. لماذا؟ لأنّ الشريعة غير الممكنة إزاحتها هي من غير الممكن، أيضاً، تطبيقها. وهذه هي مفارقة الشريعة. فالكلّ ينادي بها، وقليل من يجاسر بتطبيقها. ومن يقوم بذلك تقوم الدنيا وتقعد عليه، والأمثلة كثيرة (السودان، وإيران، وطالبان، وداعش). وعندما صعد الإخوان في مصر، والنهضة في تونس إلى الحكم لوّحوا بها، ولم يقطعوا الأيادي. فالشريعة، في جزء منها (الحدود أساساً)، غير مقبولة اليوم من طرف الإنسانية. ثالثاً، بقيت الفرائض العينية - إن عدّت من الشريعة (وهي جوهر كتب الفقه) - أعمال جوارح فردية ومؤسسات يديرها موظفو الدولة.
أنس الطريقي: في ظلّ ضعف الدولة في العالم العربيّ، وعدم اكتمال عمليّة البناء الدولتيّ؛ بل في ظلّ التشكيك المتزايد في نموذج الدولة القوميّة، وقدرته على إدارة السياسي في عصر العولمة، ماذا تتوقّعون لهذه الدعوة إلى تطبيق الشريعة في المستقبل، أَهي فكرة مصيرها الزوال تدريجيّاً، أم أنّها ستبقى مشروعاً قائماً يمكن أن يهدّد كيان الدولة، ويتسبّب في إنتاج بدائل له في العالم الإسلاميّ؟
حمّادي الرديسي: الخطر يكمن في تهاوي الدولة الوطنيّة وسقوطها. وهذا متأتٍّ، في جزء منه، من العولمة، بما فيها عولمة الإسلاموية عبر شبكات الدعاية والانتداب. وفي جزء آخر، من فشل الدولة الوطنية. ولكن مَن هو مرشّح لوراثة الدولة الهاوية ليس بأفضل منها. هو طرف وحشيّ خرج من رحم الجهادية، ومن ثَمّ من الإنسانية. هو ذاهب الى أقصى أنواع القسوة والتفنّن في صناعة الموت. لم يعرف العرب، سابقاً، الكليانية (النازية والشيوعية)، ولم تعرف الفتن الكبرى في الإسلام، ولا ثورات «الغلو»، مثل هذا الصنيع. نحن ندخل في عصر الهمج؛ عصر يسيء للإسلام والحضارة. وعلينا الاستعداد للمقاومة. الديمقراطيّة أو الهمجيّة؛ هذا هو الخيار الجديد، بعدما كان الخيار سابقاً كيف الخروج من التسلّط؟
1 نشر في إطار مشروع بحثي تحت عنوان "مفهوم تطبيق الشريعة في فكر دعاة الإسلام السياسي مقاربة نقديّة"، تقديم أنس الطريقي، مؤسسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.