حوار مؤسسة مؤمنون بلا حدود مع د. حسام الدين درويش
فئة : حوارات
حوار مؤسسة مؤمنون بلا حدود مع د. حسام الدين درويش
الاعتراف بالكرامة الإنسانية، بوصفها القيمة الأساسية والأولية
"ولست أبالغ إذ أقول إن قضية الاعتراف هي القضية الأرأس في عالمنا العربي، فأشكال التعصب المتنوعة النافية للآخر، والنابذة للاعتراف بهوية الآخر، فرداً كان أم جماعةً، هي أم المشكلات في عالم ما يزال يغذ السير نحو ولادة الإنسان"
نبذة موجزة عن الدكتور حسام الدين درويش؟
باحثٌ ومحاضرٌ في عددٍ من الجامعات الألمانية (كولن، لايبزيغ، إرفورت، ديسبورغ-إسِن). حاصلٌ على الدكتوراه في الفلسفة، اختصاص الهيرمينوطيقا، بدرجة مشرٍّف جدًّا مع تهنئةٍ من لجنة التحكيم (أعلى درجةٍ ممكنةٍ)، من جامعة بوردو 3 في فرنسا. تتناول كتاباته مواضيع تتعلق بالفلسفة والفكر العربي والدراسات الإسلامية والدراسات الثقافية. صدر له العديد من الكتب – خمسة كتبٍ باللغة العربية، وثلاثة كتبٍ باللغة الفرنسية – بالإضافة إلى عشرات الدراسات المحكّمة والترجمات، باللغات العربية والإنجليزية والألمانية. من كتبه (باللغة العربية): "إشكالية المنهج في هيرمينوطيقا بول ريكور وعلاقتها بالعلوم الإنسانية والاجتماعية: نحو تأسيس هيرمينوطيقا للحوار" (2016)؛ "نصوصٌ نقديةٌ في الفكر السياسي العربي والثورة السورية واللجوء" (2017)؛ "المعرفة والأيديولوجيا في الفكر السوري المعاصر" (2022)؛ و"في المفاهيم المعيارية الكثيفة: العلمانية، الإسلام (السياسي)، تجديد الخطاب الديني" (2022)؛ "في فلسفة الاعتراف وسياسات الهوية: نقد المقاربة الثقافوية للثقافة العربية الإسلامية" (2023).
ميادة مصطفى كيالي: في ظل التحديات والصراعات التي تعيشها الأمة العربية، تأتي أطروحتك حول فلسفة الاعتراف لتسلط الضوء على واقع العلاقات الاجتماعية والحاجة الملحة للتعامل معها. دكتور حسام الدين درويش، ما الاعتراف الذي ينبغي أن نسعى إليه في الوطن العربي؟ وانطلاقًا من تشديد أكسِل هونيت على دور الاعتراف في بناء مجتمع متوازن وعادل، كيف يمكن أن يسهم ذلك الاعتراف في تعزيز التواصل الاجتماعي والاستقرار السياسي والقانوني؟
حسام الدين درويش: الاعتراف الذي ينبغي أن نسعى إليه في الوطن العربي متعدد المعاني والأنواع والمستويات.
نحن بحاجةٍ ماسّةٍ إلى الاعتراف الليبرالي، بالدرجة الأولى: الاعتراف بالفرد، كل فردٍ، بوصفه فردًا، بغض النظر عن أيّ نسبٍ جماعاتيٍّ لا إراديٍّ أو انتسابٍ فرديٍّ طوعيٍّ، وبغض النظر عن مدى غناه أو فقره، ومدى تعلمه أو عدم تعلمه، ومدى معرفته أو جهله، ومدى نجاحه أو فشله، ومدى "جماله" أو "قبحه". ففي الثقافة العربية، وفي المجال السياسي والاجتماعي، على حدٍّ سواء، ما زال الخطاب أو التوجه الجماعاتي أو الجمعي هو المهيمن، مقارنةً بالخطاب أو التوجه الليبرالي. وما زالت الأولوية معطاةً للجماعة أو المجتمع أو الوطن أو الأمة أو العائلة أو القبيلة ... إلخ، على حساب الأفراد. وما زال التمايز المبدئي بين الأفراد هو السائد، مع إنكار حالة المساواة الأخلاقية المبدئية بينهم، في كل الكيانات الجمعية أو المجتمعية أو الجماعاتية المذكورة. فإذا أخذنا الأسرة أو العائلة، على سبيل المثال، نجد أنه يوجد، غالبًا، تفاوتٌ غير منصفٍ، بين الرجل والمرأة، وإنكارٌ لبعض الحقوق الأولية للطفل. فلأسبابٍ اجتماعيةٍ دينيةٍ أو تدينيةٍ، لا تتمتع المرأة، غالبًا، بمكانةٍ مساويةٍ للرجل، وقد يصل الأمر إلى حد حرمانها من الاستقلال الذاتي وحقوقها الأولية في العمل والحركة والتعلم وحرياتها في اختيار ما يناسبها بعيدًا عن وصاية الآخرين عليها ... إلخ. وكذلك الحال بالنسبة إلى الطفل الذي قد يتعرض لأنواعٍ كثيرةٍ وكبيرةٍ من الحرمان وإنكار الحقوق، وعدّه نظريًّا، والتعامل معه، عمليًّا، على أنه مجرد كائنٍ ثانويٍّ ملحق بالأسرة، ولا حاجة إلى أخذه في الحسبان عند التخطيط لأي شيءٍ، سواء أكان ذلك مكان السكن أو العلاقات الاجتماعية أو الرحلات والزيارات والاستقبالات... إلخ. ثمة شيء من الاحتقار في العلاقة المعيارية التراتبية داخل الأسرة وخارجها. والعلاقة بين الداخل والخارج المذكورين وثيقة وسببيةٌ أيضًا؛ فتعرض الإنسان، راشدًا كان أم طفلًا، للإهانة أو الاحتقار أو التهميش أو العنف في المجال العام، في المدرسة أو الجامعة، في مكان العمل أو مكان اللهو والتسلية، في الشارع أو في مؤسسات الدولة الأمنية أو حتى الخدمية، كل ذلك يترك أثره العميق في الفرد، وفي سلوكه داخل الأسرة، وفي علاقاتها مع أفرادها. وبالتأكيد، تترك العلاقات داخل الأسرة أثرها القوي والعميق في سلوك أفرادها خارجها. ولعل أكثر ما نفتقده، في هذا الخصوص، هو مفهوم الكرامة الإنسانية التي ينبغي عدم المساس بها، في كل الأحوال والظروف، وفي خصوص كل الأفراد، دون قيدٍ أو شرطٍ.
الاعتراف بالكرامة الإنسانية، بوصفها القيمة الأساسية والأولية، وليس بالشرف المرتبط بالجسد أو النسب، أمرٌ أساسيٌّ وضروريٌّ تحتاج إليه الدول والمجتمعات العربية والإسلامية احتياجًا قويًّا وملحًّا. ويتضمن ذلك الاعتراف الإقرار، المبدئي والمطلق أو غير المشروط، بأن كل فرد له قيمة أخلاقية أولية غير مشروطةٍ ومساويةٍ لقيمة أي فردٍ آخر. هذه الرؤية المساواتية مرتبطةٌ بأخلاقيات الحداثة ومميزةٌ لها. وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نفهم لماذا كان الاعتراف حاضرًا، دائمًا، وفي كل زمانٍ ومكانٍ، حضورًا نظريًّا وعمليًّا، من دون أن يتحول إلى نظريةٍ واضحة المعالم أو فلسفةٍ مكتملة الأركان. وقد شدَّد على هذا المنظور المساواتي والحداثي كل فلاسفة الاعتراف المعاصرين، وفي مقدمتهم تشارلز تايلور وأكسِل هونيت. وانطلاقًا من ذلك المنظور، رأى هونيت، بالاستناد إلى هيغل خصوصًا، أن كلّ فرد له الحق الأخلاقي المبدئي في الحب والتقدير والاحترام.
ففي الحب، بوصفه عاطفةً ومعاملةً وعلاقةً، الإنسان بحاجةٍ إليه، منذ ولادته، وربما قبل ذلك، وحتى مماته، بل إلى ما بعد ذلك أيضًا. وليس مبالغةً القول إن الحب هو أساس الكينونة، كينونة الكائنات على الأقل. فعلى سبيل المثال، لولا الحب الذي يتجسد في العناية والرعاية المتبادلة بين الوالدين وأطفالهما، لانقرضت الكائنات الحية، الإنسانية منها والحيوانية أيضًا. والإنسان بحاجةٍ إلى الحب، ليس لأغراض الرعاية المادية (فحسب)، بل لأغراضٍ معنويةٍ، (أيضًا)، لا تقل عنها أهميةً، بل تفوقها اهميةً في كثيرٍ من الأحوال. والإنسان ليس بحاجةٍ إلى أن يتلقى الحب ويكون موضوعًا له فقط، بل هو بحاجةٍ إلى أن يكون ذاتًا فاعلةً له، ومنفعلةً به، في الوقت نفسه. وانطلاقًا من ذلك، يمكن استكمال قول المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ..."، بالقول: "بل بالحب أيضًا وخصوصًا". والحب الذي يحتاجه الإنسان ليس خاصًّا بمرحلةٍ عمريةٍ، ولا رهين توجه فكريٍّ أو وضعٍ اقتصاديٍّ أو مزاجٍ نفسيٍّ أو مكانةٍ اجتماعيةٍ، بل هو محايثٌ لوجود الإنسان، كل إنسانٍ، بوصفه إنسانًا. وأتفق هنا مع بورديو في أن علاقات الحب، بوصفها تمثِّل أحد أشكال الاعتراف، يمكن أن تجسِّد، في العلاقة بين الرّجل والمرأة، الترياق أو العلاج للهيمنة الذّكوريّة القائمة غالبًا في هذه العلاقة. ففي علاقات الحب والصداقة، ثمة ما يهيمن غير الهيمنة الذكورية وعلى تلك الهيمنة الذكورية أيضًا، و"ثمَّة اعترافٌ متبادلٌ، بعيدًا عن حالة الصّراع أو النّزاع مع الآخر، وتبادل التبريرات للوجود ولمبررات الوجود، وشهاداتٌ متبادلةٌ عن الثّقة".
إذا كان الاعتراف، بوصفه حبًّا، يتعلق بالعلاقات العاطفية المرتبطة بالعائلة والأصدقاء والأشخاص المقربين عمومًا، والمجال الخاص تحديدًا، فإن التقدير والاحترام يتعلقان بالوضع والعلاقات في المجال العام، بالدرجة الأولى. ولا يمكن الركون إلى الأخلاق (المحضة) لضبط العلاقات عمومًا، وتلك الموجودة في المجال العام خصوصًا، فنحن بحاجةٍ إلى قواعد وقوانين وتشريعات ومؤسسات لتنظيم تلك العلاقات وضبطها وفقً للرؤية الأخلاقية الإنسانية المنصفة، العامة والمجتمعية، في الوقت نفسه. وفي حال توفر الضوابط المذكورة، يمكن للاعتراف، بالتأكيد، أن يسهم في تعزيز التواصل الاجتماعي والاستقرار السياسي والقانوني. ويمكن الحديث، على سبيل المثال، عن التقدير، في مجال العمل والاقتصاد، وعن الاحترام، في مجال السياسة والقانون، لإبراز مدى أهمية الاعتراف في المجال العام، عمومًا، وفي المجال الاقتصادي والسياسي، خصوصًا.
ففي التقدير، يمكن القول إنه حتى أكثر المساواتيين تطرفًا يدركون أن المساواة في التقدير بين المختلفين في القدرات والمهارات والإنتاج ليس منصفًا. فإضافةً إلى مبدأ "لكلٍّ حسب حاجته" الذي يبيِّن معقولية وضرورة وجود حدٍّ أدنى للأجور على سبيل المثال، ينبغي للاعتراف، بوصفه تقديرًا، أن يراعي التمايز بين البشر، فيأخذ في الحسبان أن يكون "لكلٍّ حسب عمله أو جدارته"، أيضًا. ففي مثل هذه السياقات، يمكن للمساواة أن تكون ظلمًا، ويمكن لعدم المساواة أن يكون عدلًا وإنصافًا. وفي العودة إلى سؤالك، يمكن القول إن الظلم لا يسهم إيجابًا، لا في التواصل الاجتماعي (وغير الاجتماعي)، ولا في الاستقرار السياسي والقانوني (أو غيرهما من أنواع الاستقرار). وبكلماتٍ أخرى، يسهم الاعتراف، بوصفه تقديرًا عادلًا منصفًا، في تعزيز التواصل الاجتماعي والاستقرار السياسي والقانوني، من خلال شعور كلّ فردٍ بأنه ينال، ليس فقط ما يحتاجه، وإنما ما يستحقه أيضًا. ويسهم ذلك التنافس المنضبط بضوابط عادلةٍ ومنصفةٍ من التقدير والاعتراف في ازدهارٍ اقتصاديٍ وسياسيٍّ واجتماعيٍّ؛ لأنه يوفِّر الأساس الموضوعي لبعث الآمال وتكوين الطموحات ودفع الأفراد إلى الإبداع وتقديم ما هو الأفضل قدر المستطاع. وكما هو واضحٌ، يرتبط الاعتراف بوصفه تقديرًا، في المجال الاقتصادي، بالاعتراف، بوصفه احترامًا، في المجال القانوني والسياسي. فالاعتراف، في المجال السياسي، لا يحصل تلقائيًّا، ووفقًا لعلاقات السوق (فقط)، بل يتطلب أساسًا وضبطًا سياسيًّا وأخلاقيًّا وقانونيًّا، يتمثل، مثلًا وخصوصًا، في المساواة المبدئية، الأخلاقية والقانونية والسياسية، بين المواطنين – كل المواطنين، فردًا فردًا – بغض النظر عن أي اختلافٍ في ما بينهم، من حيث الانتماء الديني او الطبقي او السياسي أو الطائفي أو المناطقي أو الإثني أو الجنسي إلخ.
هذه الأساس الفردي ليس فردانيًّا مضادًّا للجماعاتية، لكنه يوفر أساسًا مناسبًا يمكن للتوجهات الجمعية المدنية أو حتى للتوجهات الجماعاتية العضوية أو الأهلية أن تتأسس عليه، من دون أن يكون متأسِّسًا عليها أو مشروطًا بها. والتخاطب والتواصل والاعتراف المتبادل بين الأفراد، بوصفهم أفرادًا – وليس بوصفهم ممثلين لهذه الجماعة أو تلك أو معبرين عنها – يسهم، بالتأكيد، في تعزيز التواصل والاستقرار الاجتماعي والسياسي والقانوني.
ميادة مصطفى كيالي: في رأيك هل يعدّ الاعتراف عنصرًا أساسيًا في الوعي الذاتي؟ وهل يمكن للأشخاص من خلال الاعتراف الاجتماعي أن يبنوا علاقة إيجابية مع أنفسهم تعزز ثقتهم الذاتية وتسمح لهم بإظهار قدراتهم؟
حسام الدين درويش: الاعتراف عنصرٌ أساسيٌّ في الوعي الذاتي، بثلاثة معانٍ، أو من ثلاث زوايا متمايزة ومتداخلة ومتكاملة، في الوقت نفسه: زاوية أنطولوجية/ وجودية، وزاوية معرفية، وزاوية أخلاقية واجتماعية ونفسية.
فمن الناحية الأنطولوجية/ الوجودية لا تكون الذات (ذاتًا) إلا من خلال كونها (في علاقة) بينذاتيةٍ؛ فوجود الذات معتمدٌ على وجود الذوات الأخرى منذ الولادة، كما أن إدراك الذات لذاتها لا يتم إلا من خلال إدراكها لعلاقتها بالذوات الأخرى، وهذا هو أساس ما يسمى بأنطولوجيا الاعتراف (الهيغلية). ومن الواضح الصلة بين هذه الناحية الأنطولوجية للاعتراف والناحية المعرفية منه. ويمكن توضيح الناحية الأخيرة من خلال اللجوء إلى نيتشه ودلتاي خصوصًا وتحديدًا. فنيتشه كان من الفلاسفة الذي أشاروا إلى المفارقة الكامنة في معرفة الذات لذاتها. فعلى العكس من الرأي الشائع بأن الإنسان/ الفرد هو أعرف من الآخرين بذاته، فإن نيتشه رأى أن قرب الإنسان من نفسه كبيرٌ إلى درجة تعيق معرفته لنفسه. ويشبه ذلك إلى حدٍّ كبيرٍ حاجة العين إلى مسافة فاصلة بينها وبين موضوعٍ ما، لتكون قادرةً على رؤيته. وقد رأى دلتاي، بدوره، عدم إمكانية معرفة الذات لذاتها، ورأى ضرورة أن تمر معرفة الإنسان بذاته بمعرفته بالآخرين وبالنتاجات الموضوعية للإنسان أو لتموضع الإنسان في النصوص والنتاجات الفنية والأدبية والفكرية إلخ. وقد تبنى ريكور، لاحقًا، تلك الرؤية وذهب إلى حد الحديث عن "الذات عينها كآخر"، في كتابه المعنون بذلك التعبير. ورأى ريكور أن فهمنا للآخر وللعوالم التي تتضمنها النصوص التي عبر فيها ذلك الآخر عن نفسه هو الوسيلة الأفضل أو بالأحرى الوحيدة لفهم الإنسان لنفسه، في الحضارات/ الثقافات، الكتابية على الأقل.
وتبدو الناحية الأخلاقية، ببعديها الاجتماعي والأخلاقي، بارزةً وواضحةً في كتابات روسو وهونيت خصوصًا. فروسو أظهر الأهمية الكبيرة لرؤية الآخر في النظرة المعيارية للذات لذاتها، وبيَّن ذلك بطريقةٍ عمليةٍ وطريفةٍ في كتبه "الاعترافية": "الاعترافات" و"روسو، قاضي جان جاك. حوارات"، و"أحلام يقظة جوّالٍ مُنفردٍ/ هواجس المتنزه المنفرد بنفسه". فالاعترافات، التي تعني، في ما تعنيه، البوح والإقرار بالذنوب والاخطاء، وظَّفها روسو للحصول على اعتراف الآخرين به؛ أي على احترامهم وتقديرهم وحبّهم، وهو ما كان يتوق إليه بشدةٍ، كما ظهر في كتاباته وتنظيراته، وفي حياته وممارساته العملية. أما هونيت فقد أبرز بوضوحٍ الأبعاد الأخلاقية/ الاجتماعية النفسية للاعتراف الاجتماعي، والتأثير القوي لذلك الاعتراف في علاقة الذات مع ذاتها. فعلى سبيل المثال، أبرز هونيت، من ناحيةٍ أولى، الدور الإيجابي للعلاقات العاطفية المتجسدة في علاقات الحب والصداقة وما يشابهها أو يقاربها من علاقاتٍ في بناء ثقة الإنسان بذاته. وأبرز، من ناحيةٍ ثانيةٍ، الدور الإيجابي لتوفير الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمدنية في شعور الإنسان بالاحترام لذاته وممارسته لذلك الشعور/ الاحترام؛ وأظهر، من ناحيةٍ ثالثةٍ، الدور الإيجابي لحصول الإنسان على التقدير الاجتماعي المنصف ولاندماجه الاجتماعي في محيطه في تقدير الإنسان لذاته. في المقابل، أبرز هونيت الدور السلبي لعمليات الإنكار والازدراء والاحتقار ورفض الاعتراف، في المجالات العاطفية والجسدية والاجتماعية والسياسية والقانونية في تقويض ثقة الإنسان بذاته وصولًا إلى الإماتة النفسية، العاطفية والجسدية، والإماتة الاجتماعية، والإماتة الأخلاقية.
ويمكن اختصار العلاقة الجدلية بين الاعتراف الاجتماعي، من جهةٍ، والثقة الذاتية وازدهار الذات ونمو قدراتها وظهورها، من جهةٍ أخرى، بالمعادلة التالية: ثمة تناسب اطراديٌ بين قدرة الذات على النمو والتطور والازدهار وحصولها المنصف والمتوازن على الاعتراف الاجتماعي، بما يفضي إلى جعلها محصنةً إلى درجةٍ أو لأخرى من أن تكون معتمدةً اعتمادًا كاملًا أو مفرطًا على ذلك الاعتراف في خصوص ثقة الذات بنفسها أو تقديرها واحترامها لها.
ميادة مصطفى كيالي: ما الأهداف الرئيسة والرسائل التي تتطلع إلى توصيلها من خلال كتابك "في فلسفة الاعتراف وسياسة الهوية: نقد المقاربة الثقافوية للثقافة العربية الإسلامية"؟
حسام الدين درويش: يمكن النظر إلى الأطروحات الأساسية التي يتضمنها الكتاب على أنها الأهداف الرئيسة التي أردت تحقيقها، والرسائل الأبرز التي أردت إرسالها أو إيصالها من خلال هذا الكتاب. وسأوجز، في ما يلي، بعض تلك الأطروحات/ الرسائل.
الأطروحة/ الرسالة الأولى التي يتبناها هذا الكتاب تتمثل في القول بالارتباط الوثيق بين الاعتراف والعدالة، والحاجة الماسة، في عالمنا (العربي) المعاصر، إلى تجسيد هذا الارتباط في ممارسات وقيم وأفكار ومؤسسات وقوانين وأخلاقيات. فثمة جانبان، نظري وعمليٌّ، انشغل الكتاب بهما: جانبٌ نظريٌّ يتعلق بالترابط بين مفهومي الاعتراف والعدالة في الفلسفة الاجتماعية والسياسية المعاصرة، وجانبٌ عمليٌّ يتعلق بإظهار الافتقاد الفعلي إلى الترابط المذكور في الكثير من السياقات والمجالات المعاصرة عمومًا، والعربية منها خصوصًا. فالكتاب يحاجج بوجود إيجابياتٍ، كثيرةٍ وكبيرةٍ، في الترابط الوثيق بين نظريات العدالة والاعتراف، في الفلسفات السياسية والأخلاقية والاجتماعية المعاصرة، وبأن هذا الترابط يسهم في إغناء أو اغتناء كلا الطرفين. فمن ناحيةٍ أولى، تعد رؤية "العدالة بوصفها اعترافًا" (إحدى) أبرز الرؤى التي قدمتها نظريات العدالة، في العقود الأربعة الأخيرة، بعد رؤية "العدالة هي إنصافٌ"، التي بدأ جون رولز بطرحها منذ سبعينيات القرن الماضي. في المقابل، إن ربط فلسفة الاعتراف بنظريات العدالة ساعد على التخفيف من "نفسانية" فلسفة الاعتراف، ومن ميتافيزيقية وتجريدية بعض مضامينها، وعلى إكساب هذه المضامين بعدًا أكثر وضوحًا وتحديدًا، وأقدر على الدخول في نقاشات الفلسفات السياسية والأخلاقية والاجتماعية المعاصرة. وباختصار، سعى الكتاب إلى إظهار إسهام أطروحة "العدالة هي اعترافٌ" في إغناء وتطوير وتعميق كلٍّ من نظريات العدالة والاعتراف، في الفلسفة المعاصرة، على حدٍّ سواءٍ.
تتمثل الأطروحة الثانية، في القول بوجوب التحفظ والحذر النقدي الشديد تجاه الربط الوثيق، القائم أحيانًا فعليًّا، أو الممكن دائمًا نظريًّا، من حيث المبدأ، بين نظريتي/ مفهومي الاعتراف/ العدالة وسياسات الهوية. وقد ظهر هذا الربط بالفعل، منذ ثمانينيات القرن الماضي، لكنه تسارع في العقدين الأخيرين وبلغ درجةً، عاليةً، وغير مسبوقةٍ، في السنوات القليلة الأخيرة. فالحضور القوي لسياسات الهوية في فلسفة الاعتراف يخلق صراعاتٍ زائفةً أو سلبيةً بين هوياتٍ ثانويةٍ، ويترافق ذلك مع الإسهام في التعمية على "الصراعات الأساسية" وعلى "حقيقة" أن المسألة تتعلق، أو ينبغي أن تتعلق، بالحقوق الإنسانية عمومًا، أكثر من، تعلقها بالهويات الثانوية أو المحلية. وعلى هذا الأساس، يحاجج الكتاب بضرورة فصل فلسفة/ سياسة الاعتراف عن سياسة الهوية، فصلًا كاملًا أو شبه كاملٍ، وبضرورة ربطها بحقوق الإنسان، ومكانته القانونية والأخلاقية في المجتمع، بغض النظر، جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل، عن هويته الفعلية أو المزعومة.
وتتعلق الأطروحة/ الرسالة الثالثة بالموقف الفلسفي/ السياسي الذي يتبناه الكتاب: موقف الليبرالية المساواتية أو المساواتية الليبرالية. وانطلاقًا من هذا الموقف، يشدد الكتاب على أولوية حريات الأفراد وحقوقهم وتلازم ذلك مع مسؤولياتهم، وعلى أن ما ينبغي الاعتراف به هو، بالدرجة الأولى، حقوق الإنسان الفرد، كل فردٍ، والقواسم المشتركة القائمة و/ أو التي ينبغي إقامتها، بين أفراد الجنس البشري، وهو، من ثم، بالدرجة الثانية، وبناءً على الحقوق الأولى، حقوق الأفراد المنتمين إلى مجتمعٍ أو بلدٍ ما، بوصفهم مواطنين. وعلى أساس الاعتراف بالحقوق المذكورة، وليس بالتضاد معها، يمكن وينبغي لنظريات الاعتراف، من وجهة نظرنا، أن تنتقل إلى المستوى المجتمعي/ الجماعاتي، فتعترف، أو تقول بضرورة الاعتراف بحقوقٍ خاصةٍ لهذه الفئة أو الجماعة المضطهدة/ المهمَّشة أو تلك، في سبيل تحقيق المساواة الديمقراطية/ العادلة بين الأفراد والجماعات؛ فالكتاب يقر بإيجابية "التمييز الإيجابي"، بقدر كونه خطوةً في اتجاه تحقيق تلك المساواة الديمقراطية/ العادلة، لكنه يشدِّد على سلبية هذا التمييز، بقدر تحوله إلى عقبةٍ في وجه تحقيق هذه المساواة أو إلى مقابلٍ يتناقض أو يتنافى معها.
الأطروحة/ الرسالة الرابعة للكتاب، تشدد على أن الليبرالية المساواتية لا تقصي، بالضرورة، الرؤية الجماعاتية. فمع التسليم بأهمية المضامين التي يقدمها المنظور الجماعاتي عمومًا، وبأهمية هذا المنظور في إطار فلسفة/ سياسة الاعتراف خصوصًا؛ يرى الكتاب أن الاعتراف بالجماعات وحقوقها ومكانتها ينبغي أن يتأسس على الاعتراف بالأفراد وحقوقهم، وليس العكس، كما يحاجج معظم الجماعاتيين. فالاعتراف بالاختلاف ينبغي أن يتأسس على الاعتراف بالقواسم المشتركة القائمة بين البشر، وبحقوق كل فردٍ منهم، وفقًا لمنظومة حقوق الإنسان العالمية. وبكلماتٍ أخرى، ينبغي للاعتراف بانتماء الإنسان، إلى هذه الجماعة أو تلك، أن يتأسس على كون الإنسان، من جهةٍ أولى، فردًا، يختلف عن غيره من الأفراد، على الرغم من القواسم الإنسانية المشتركة القائمة و/ أو التي ينبغي أن تقوم، بينهم، ومن جهةٍ ثانيةٍ، على كونه شخصًا، وما يتضمنه ذلك من الحق في الاحترام، والاعتراف به، بوصفه كائنًا حرًّا وواعيًّا ومستقلًّا. فالهوية الأساسية التي ينبغي للاعتراف أن يقر بها هي الأساس الأخلاقي الإنساني المشترك، وعلى أساس هذه الأساس المشترك يمكن وينبغي الاعتراف بالهويات الأخرى التي يحيل عليها الانتماء إلى الجماعات العضوية التقليدية (الجماعات الإثنية أو الدينية أو القومية ...إلخ) والجماعات الأخرى (كالمثليين أو السود أو الإناث، أو الجماعات الأيديولوجية أو السياسية ... إلخ). وانطلاقًا من تبني الكتاب لموقف الليبرالية المساواتية، يتبنى، أيضًا، القول إن الماهية/ الهوية لاحقة على الوجود، وإن الانتماءات القائمة على الإرادة والاختيار والانتساب أكثر أهميةً وأولويةً من تلك القائمة على الوراثة والقدر والنسب، وإن كل هذه الانتماءات ينبغي أن تتأسس على الانتماء الإنساني المشترك ومنظومة القيم الإنسانية العامة التي ترى أن كرامة الإنسان الفرد، كل إنسان/ فرد، ينبغي ألا تمس، وأن حريته وحقوقه الأساسية هي الأساس الأخلاقي الذي ينبغي السعي للانطلاق منه، والتأسس عليه، وهي الهدف الفعلي/ المثالي الذي ينبغي العمل على تحقيقه، والمحافظة عليه.
وفي المحاجَّة بأولوية الإنسان الفرد/ الشخص، لا ينطلق الكتاب من موقفٍ/ منظورٍ فكريٍّ، مبدئيٍّ وعامٍّ، فحسب، بل يأخذ، في الحسبان، السياق العربي- الإسلامي المعاصر، أيضًا. فعلى العكس من السياق الغربي، حيث ترسخت قيم الليبرالية ومنظومة حقوق الإنسان الفردية في الدولة والمجتمع، ترسخًا كبيرًا عمومًا، فإن حضور هذه القيم ضعيفٌ نسبيًّا في الدول والمجتمعات العربية- الإسلامية عمومًا. وعلى هذا الأساس، يبين الكتاب أنه، في البلاد/ المجتمعات التي تتبنى في دساتيرها وتشريعاتها وقيمها القانونية/ الأخلاقية الأساسية منظومة حقوق الإنسان الليبرالية- الفردية، يمكن للمنظور الجماعاتي أن يتكامل مع المنظور الليبرالي وأن يقيم معه علاقةً جدليةً بناءةً، تسهم في حماية حقوق الأفراد وحرياتهم والقواسم الإنسانية المشتركة بينهم، مع أخذ اختلافهم وانتماءاتهم الثقافية والجماعاتية المختلفة، في الحسبان، بدرجةٍ أكبر. في المقابل، إن ضعف حضور منظومة حقوق الإنسان الليبرالية- الفردية يمكن أن يجعل حضور الاتجاه الجماعاتي خطرًا على حقوق الأفراد وحرياتهم، وعقبةً في وجه أي محاولةً لحضور هذه الحقوق و/ أو حمايتها والمحافظة عليها.
وانطلاقًا من ذلك الاهتمام الخاص بالسياق العربي/ الإسلامي تحديدًا، تمحورت الأطروحة أو الرسالة الخامسة حول ضرورة الاعتراف بالذات وبالسلبيات والمشاكل والأزمات المرتبطة بها، مع ضرورة تجنب طرفين متناقضين: الطرف الأول يتمثل في جلد الذات والإفراط في انتقادها وتعييرها والانتقاص منها واحتقارها وإنكار الحدود الدنيا من قيمها الذاتية/ الموضوعية؛ والطرف الثاني يتمثل في الإفراط في تمجيد الذات وتعظيمها والتعامي عن المشكلات الداخلية التي تعاني منها، والمرتبطة بعوامل داخلية، لا يمكن ردها إلى عوامل خارجية محضةٍ في سياق عمليات تبرئة الذات وتحميل الآخر كامل المسؤولية، وتبنٍ ضمنيٍّ و/ أو صريحٍ لأيديولوجيا المظلومية ونظرية المؤامرة الكاملة والساذجة.
وفي إطار انتقاد القطب المنتقص من الذات الثقافية العربية، تبنى الكتاب أطروحةً/ رسالةً سادسةً مفادها الحذر من تبني رؤيةٍ ثقافويةٍ تختزل الثقافة في بعدٍ واحدٍ، هو الدين غالبًا، وترى فيه أم المشاكل أو أم الحلول، وتنكر أهمية العوامل الاقتصادية والسياسية او تقلل من تأثيرها وترى فيها نتيجة أكثر من كونها سببًا. وعلى الرغم من السطحية الشديدة للرؤية الثقافوية ولهشاشتها المعرفية، فقد بيَّن الكتاب انتشارها الكبير، في المجال الأكاديمي وخارجه، لدى العرب/ المسلمين وغير العرب/ غير المسلمين، ولدى اليسار واليمين، ولدى الديمقراطيين وغير الديمقراطيين، ولدى المتدينين والعلمانيين...إلخ. وقد حاول الكتاب أن يبيِّن أن الحل و/ أو المشكلة لا يكمنان في الثقافة، سواء أكانت تلك الثقافة دينيةً/ إسلاميةً أم علمانيةً. ولهذا السبب، فإن الدراسة النقدية التي يتضمنها الكتاب للارتباط الوثيق والسلبي لنظرية الاعتراف بسياسات الهوية تتوازى وتتقاطع مع دراسةٍ نقديةٍ للمقاربة الثقافوية التي تقوم على تفسير "كل شيءٍ"، في المجتمع والدولة، بالثقافة السائدة فيهما؛ مع اختزال هذه الثقافة، في البلاد/ المجتمعات العربية- الإسلامية، إلى الدين (الإسلامي) تحديدًا. فالمقاربة الثقافوية لا تعترف بالأفراد إلا بوصفهم منتمين إلى ثقافةٍ ما، و/ أو إلى إحدى الجماعات العضوية التي تتضمنها تلك الثقافة. فاختزال المقاربة الثقافية للسياسة والاقتصاد وغيرهما في الثقافة، على الصعيد المعرفي التفسيري، يترافق مع اختزالها الفرد أو رده إلى الجماعة التي ينتمي إليها نسبًا، بغض النظر، عمومًا، عن موقف الشخص من نسبه، ومدى توافق انتسابه الإرادي مع نسبه غير الإرادي. ففي السياق العربي الإسلامي، لا تعترف المقاربة الثقافوية بالفرد، بوصفه فردًا، وإنما بوصفه منتميًّا إلى هذه الجماعة العضوية أو تلك (الجماعة الدينية أو الطائفية أو الإثنية أو القبلية ...إلخ)، ولا بوصفه شخصًا، يستحق الاحترام القانوني والأخلاقي، ولا بوصفه كائنًا مستقلًّا وواعيًا، كما لا تعترف بجدارته أو باستحقاقه للحريات والحقوق الأساسية، ولا بإمكانية أن يسعى إليها ويعمل على بناء النظام الديمقراطي. وهكذا تفسر المقاربة الثقافوية السياسة بالثقافة، وترى أن الأنظمة الاستبدادية هي نتيجة للثقافة (المتخلفة)، وأن المشكلة الأساسية قائمة في تلك الثقافة، وأن الحل يكمن، تحديدًا أو خصوصًا، في إحداث تغييرٍ جذريٍ فيها. ويعارض الكتاب هذه الرؤية الثقافية، في الوصف والتقييم، وفي التشخيص للمشاكل، وفي اقتراح الحلول والمخارج، على حدٍّ سواءٍ.
وفي المستوى المنهجي، سعى هذا الكتاب إلى إقامة جدلٍ إيجابيٍّ بين أطراف مختلفةٍ، وفي مجالاتٍ ومستوياتٍ متنوعةٍ. ونعني بالجدل الإيجابي عمليةً توليفيةً أو تركيبيةً تجمع بين طرفين متناقضين أو متضادين، أو أكثر، وتتجاوزهما أو تستوعبهما في تركيبٍ أعلى، بالمعنى الهيغلي للتجاوز.
فإضافةً إلى محاولة إقامة الجدل الإيجابي بين الليبرالية والجماعاتية، من دون إنكار سلبية ذلك الجدل، في أحيانٍ ليست قليلةٍ، تضمن الكتاب محاولةً مماثلةً لإظهار العلاقة الجدلية، الإيجابية والسلبية، بين المعرفة والأيديولوجيا. فمن حيث المبدأ، الجدل بين الليبرالية والجماعاتية جدلٌ معرفيٌّ، بقدر ما هو جدلٌ معياريٌّ؛ فالعلاقة بين الليبرالية والجماعاتية ليست مسألةً معرفيةً خالصةً، بل هي مرتبطةٌ، ارتباطًا قويًّا ووثيقًا، بالانحيازات والأحكام المعيارية والأيديولوجية. وانطلاقًا من تبني أطروحة أن "المعرفة بدون الأيديولوجيا عمياءٌ، والأيديولوجيا من دون المعرفة جوفاءٌ" – وهي الأطروحة التي نظَّرت وأسَّست لها، في كتابَي الأخيرين – قمت بإعلان انحيازاتي الأيديولوجية أو توجهاتي المعيارية المرتبطة بالمسائل المعرفية التي ناقشتها، حيثما كان ذلك مفيداً وضروريّاً، وحاولت، في الوقت ذاته، تقديم الأساس المعرفي المتين والمناسب لتلك الانحيازات والتوجيهات، وتضمينه محاجاتٍ تسندها وتسوِّغها، بالقدر الذي ارتأيت أنه كافٍ. وانطلاقاً من تسليمي بمحايثة المعياري للأيديولوجي، في مثل هذه السياقات والمواضيع والحقول المعرفية، وإدراكي لإمكانية التأثير السلبي لحضور الأيديولوجي أو المعياري في البحث أو الميدان المعرفي، حاولت، قدر المستطاع، أن يكون الجدل بين المعرفي والأيديولوجي إيجابيًّا، حيث لا يؤثر الأيديولوجيُّ، سلبًا، في موضوعية المعرفة، ولا ينكر أو يتجاهل المعرفيُّ البعدَ المعياريَّ المحايث له.
وقد ازدادت أهمية إيجابية الجدل المذكور، في نصوص الكتاب، نظرًا إلى تنوُّع هذا النصوص التي تتضمن نصوصًا أكاديميةً تناقش إشكالياتٍ نظريةً، وتتوجه إلى المختصين، بالدرجة الأولى، ونصوصًا غير أكاديميةٍ تناقش مشاكل عمليةً، وتتوجَّه إلى عموم المهتمين بهذه المسائل في المجال العربي العام. وعلى الرغم من أن المعرفة الأكاديمية تركِّز على الوصف والتحليل، مع محاولة تجنب الأبعاد المعيارية والأيديولوجية الحاضرة، بقوةٍ غالبًا، في النقاشات المهيمنة في المجال العام، فقد حاولت، في هذا الكتاب، أن أبيِّن أنَّ الجدل، الإيجابي أو السلبي، بين المعرفي والمعياري، حاضرٌ، حضورًا قويًّا، بين هاتين المعرفتين، وفي كل واحدةٍ منهما على حدةٍ، أيضًا. ويجسَّد هذا الكتاب، في هذا الخصوص، مغامرةً ليست مضمونة العواقب؛ لأنه يطمح إلى أن يكون مقروءاً ومفهوماً من قبل المختصين وغير المختصين، ومفيدًا لكلا الطرفين، في الوقت نفسه. وسمة المغامرة في هذا الطموح، تكمن في أن السعي إلى تحقيق هذا الهدف المزدوج أو هذين الهدفين، معًا، قد يفضي إلى عدم تحقيق أيٍّ منهما. في المقابل، غالبًا ما يفضي التركيز على أحد الطرفين إلى خسارة الطرف الآخر. ولتجنب هذه الخسارة، تضمنت نصوص الكتاب محاولةً للجمع الجدلي بين سمات المجالين المعرفيين والأيديولوجيين المتمايزين.
وآخر الأمثلة على الجدل الإيجابي الذي سعى الكتاب إلى تضمينه، في نصوصه، هو ذاك الذي يتعلق بالجدل بين الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية. فطبيعة الموضوع سمحت بتناوله من منظوراتٍ معرفيةٍ مختلفةٍ (من الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية) ذات أدواتٍ مناهجيةٍ مختلفةٍ (تحليل مفاهيمي، تحليل نصي، تحليل نفسي، جينالوجيا مفاهيمية أو تاريخ مفاهيمي، دراسة تاريخية، دراسة اجتماعية بنيوية، على سبيل المثال). يضاف إلى ذلك أنني أحاول، في السنوات الأخيرة، أن أجمع، في عملي البحثي والفكري، بين التوجهات الفلسفية وبعض توجهات العلوم الاجتماعية، نظراً إلى عملي في مراكز أبحاثٍ تجمع باحثاتٍ وباحثين من فروع معرفيةٍ مختلفةٍ، بما يتطلب تبني وتطوير منظوراتٍ بين-مناهجيةٍ وعبر-مناهجيةٍ، أو يشجِّع على هذا التبني وذلك التطوير. في المقابل، ينبغي التشديد على أنَّ جدل العلاقة، الفعلية العملية أو المبدئية النظرية، بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية، ليس إيجابيًّا دائمًا، فتلك العلاقة تتخذ، أحيانًا، صيغةً سلبيةً يقصي، فيها، كلُّ طرفٍ الطرف الآخر، أو لا يفسح مجالًا (كبيرًا) للتفاعل الإيجابي معه.
ميادة مصطفى كيالي: في مقدمة كتابك ذكرت "ولست أبالغ إذ أقول إن قضية الاعتراف هي القضية الأرأس في عالمنا العربي، فأشكال التعصب المتنوعة النافية للآخر، والنابذة للاعتراف بهوية الآخر، فرداً كان أم جماعةً، هي أم المشكلات في عالم ما يزال يغذ السير نحو ولادة الإنسان".. هل تعتقد أن الفلسفة الغربية والعربية قد أهملت هذه القضية لفترة طويلة؟ وهل تعد أطروحة الاعتراف وسيلة أو هدفًا لتجاوز التوترات والتحديات الحالية على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية؟
حسام الدين درويش: أشرت، آنفًا، إلى الارتباط الوثيق بين تبلور فكرة الاعتراف في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وتحولها إلى نظريةٍ وفلسفةٍ، من جهةٍ، ومرحلة الحداثة عمومًا، والرؤية المساواتية المرتبطة بها خصوصًا، من جهةٍ أخرى. فالأساس المعياري قبل الحداثي لم يتضمن الرؤية المساواتية الحديثة أو الحداثية، بل كان يتضمن، دائمًا، تفاوتًا معياريًّا أو تقييميًّا قويًّا وواضحًا، بين البشر: بين الرجل والمرأة، بين صاحب الحسب والنسب وصاحب الحسب الوضيع والنسب غير المشرِّف، بين هذا الشعب أو ذاك، بين أصحاب هذه البشرة أو تلك، بين الخاص والعام ... إلخ. ففي خصوص التفاوت الأخير، من المفيد الإشارة إلى أنه على الرغم من الاختلافات، الكثيرة والكبيرة، في العصور الوسطى الإسلامية، بين الفلاسفة والفقهاء، والتي طالت كل المسائل الأساسية تقريبًا، فقد كان ثمة توافقٌ بين الطرفين على التفاوت في المنزلة أو المكانة والحقوق بين الطرفين، وعلى ضرورة "إلجام العوام عن علم الكلام"، كما قال الغزالي في كتابه المعروف الذي يحمل ذلك العنوان، ووافقه أو اتفق معه على ذلك ابن رشد لاحقًا، عندما سعى إلى "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال". والأمر ذاته، تقريبًا، يمكن قوله في خصوص التوافق بين أفلاطون وأرسطو حول مسألة طبيعية العبودية والتفاوت بين البشر، بين اليونانيين الأحرار وغير اليونانيين/ الأسيويين العبيد أو المؤهلين ليكونوا عبيدًا. وتجدر الإشارة إلى أنني أحاجج في الكتاب بأن روسو هو الرائد المؤسس لفلسفة الاعتراف، رغم أنه كان صاحب موقفٍ تمييزيٍّ، بالمعنى السلبي للكلمة، ضد المرأة، وله آراءٌ سلبيةٌ في خصوص طبيعتها وعلاقتها بالرجل، ومكانتهما المتفاوتة، في المجتمع والدولة.
في المرحلة قبل الحداثية لم يكن هناك اعترافٌ أو إقرارٌ بمفهوم الكرامة الإنسانية التي تجعل جميع الناس مستحقين للحب والتقدير والاحترام بغض النظر عن الاختلاف والتفاوت فيما بينهم في كثيرٍ من الانتماءات والقدرات والأوضاع ... إلخ. وأرى ألا نحاكم العصور التاريخية السابقة بمعايير معاصرةٍ غريبةٍ وخارجةٍ عنها. وعلى هذا الأساس، يبدو مفهومًا ومعقولًا عدم تبلور نظريةٍ أو فلسفةٍ للاعتراف تقر بمفهوم الكرامة الإنسانية المحايثة لكل فرد، والمتساوية بين جميع الأفراد، قبل العصر الحديث. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إنه، في المرحلة قبل الحداثية، لم يكن في مقدور فكرة الاعتراف أن تكون حاضرةً، بوصفها نظريةً أو فلسفةً لا في الفلسفة الغربية ولا في الفلسفة العربية. وإذا كان هناك تأخر في الاهتمام المكثف بهذه الفكرة، وبما يرتبط بها من أفكار وقيم، في هذا السياق أو ذاك، فإن ذلك التأخر مرتبط عضويًّا، غالبًا، بمدى (التأخر) في تبني الأساس المعياري المساواتي للحداثة، وتطبيقه عمليًّا، في القانون والسياسة والتعليم والاقتصاد... إلخ. وفي كل الأحوال، أصبح الأساس المعياري المذكور حاضرًا بقوةٍ كبيرةٍ في الفلسفة الغربية والعربية على حدٍّ سواءٍ. والمشكلة ليست في حضوره أو عدم حضوره في الفلسفة أو الفكر عمومًا، وإنما في مدى مقاومة البنى السياسية والاجتماعية لذلك الحضور، ورفضها له، في كثيرٍ من السياقات.
وفي إجابةٍ مباشرةٍ وصريحةٍ عن سؤالك حول كون أطروحة الاعتراف وسيلةً أو هدفًا لتجاوز التوترات والتحديات الحالية على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، فإجابتي، باختصارٍ وثقةٍ، هي بالإيجاب. فقد وفَّرت نظريات الاعتراف الأسس المعيارية الضرورية أو المناسبة والمفيدة لتشخيص حالات الظلم، ولانتقادها، ولتوضيح ما يجب أن تكون عليه الأمور، من منظورٍ معياريٍّ مناسبٍ. ومن الميزات التي يحظى بها ذلك التناول للعدالة، من منظور فكرة/ قيمة أو فلسفة الاعتراف، عموم ذلك المنظور وشموليته؛ فهو لا يقتصر على الجانب الاقتصادي و/ أو السياسي، كما هو السائد، عمومًا، في نظريات العدالة، بل يمتد ويتوسَّع، ليتناول الجانب النفسي والعاطفي، وليشمل العلاقات الأسرية وعلاقات الصداقة والحب عمومًا. ويمكن لنظرية أو فلسفة الاعتراف أن تنطلق من صياغة النماذج الأساسية للاعتراف، كما فعل، على سبيل المثال، أكسِل هونيت في كتابه "الصراع من أجل الاعتراف: النماذج الأخلاقية للمآزم الاجتماعية"، كما يمكنها أن تنطلق من توصيف حالات الظلم المتجسدة في الواقع، والتنظير لها، كما فعل، على سبيل المثال، إيمانويل رينو في كتاب "نظرية الاعتراف وتجارب الظلم الاجتماعي". وبالتأكيد يمكن لهاتين المقاربتين أن تتكاملا – وهما متكاملتان فعلًا – رغم الاختلاف أو التناقض بينهما في نقطة الانطلاق، وبسبب ذلك الاختلاف أو التناقض، أيضًا.
ميادة مصطفى كيالي: يشير مصطلح الجندر إلى التوقعات الاجتماعية المتعلقة بأدوار الأشخاص استنادًا إلى جنسهم. هل تعتقد أن أطروحة الاعتراف تعزز هذه الأدوار التقليدية، خصوصاً إذا انطلقنا من فرضيةٍ تقول إن البشر يعيشون عيشاً يولد الاعتراف والاختلاف؟
حسام الدين درويش: كانت فلسفة الاعتراف، وما زالت، سندًا نظريًّا وفلسفيًّا قويًّا للحركة النسوية المعاصرة، بموجاتها المتلاحقة وتوجهاتها المختلفة. فمن ناحيةٍ أولى، تؤكِّد الأطروحة الأساسية لفلسفة الاعتراف والقائلة إنَّ اعتراف الآخرين بي، ونظرتهم إلي، يسهمان إسهامًا كبيرًا ومؤثِّرًا في صياغة علاقتي مع ذاتي ومع الآخرين، ما تؤكده الرؤية النسوية من خلال مفهوم الجندر/ النوع الاجتماعي المتمايز عن مفهوم الجنس. فمن كلا المنظورين، تتحدد هوية الشخص، ورؤيته لنفسه، وتفاعله معها، من خلال رؤية الآخرين له، وتفاعلهم معه، بالدرجة الأولى. ويمكن لفلسفة الاعتراف أن تكون أساسًا نظريًّا مناسبًا لتوجهين متمايزين في الحركة أو المقاربة النسوية: التوجه المساواتي، والتوجه الاختلافي. فالتوجه الأول كان سائدًا في المراحل الأولى من الحركة النسوية وموجاتها، وكان يهدف إلى نيل المرأة الحقوق ذاتها التي يملكها الرجل؛ ولهذا كان يشدد على التشابه والمساواة بين الرجل والمرأة. أما التوجه الثاني الذي أصبح حاضرًا أكثر فأكثر في الحركة والمقاربة النسوية (الغربية) المعاصرة، فيرى أن العدالة تتطلب مراعاة الاختلافات بين الرجل والمرأة، في فهمهما، والتعامل معهما. وعلى الرغم من الأساس المساواتي القوي الذي تتضمنه فلسفة الاعتراف والنماذج المعيارية الأساسية التي قدمها هونيت، على سبيل المثال، فإن الفلسفة والنماذج المذكورة تتضمن إقرارًا بوجود اختلافاتٍ وتمايزاتٍ بين البشر وتشديدًا على ضرورة أخذ ذلك في الحسبان في العلاقات الاعترافية العادلة والمنصفة. فإذا كانت فكرة المساواة تطغى على الاعتراف في المجال السياسي والقانوني، وبدرجةٍ أقل في المجال العاطفي العائلي، فإن حضورها يكون ضعيفًا في مجال العلاقات التي تتطلب تباينًا في التقدير، وفقًا لتنوع النتاجات، والاختلافات الموجودة فيما بينها، كيفًا وكمًّا.
فمن حيث المبدأ، يمكن للاعتراف أن يسهم في زيادة تنميط المرأة والرجل وتعميق هوة الاختلافات، الفعلية أو المزعومة، بينهما، لكن يمكنه، أيضًا خلق صور نمطيةٍ تشدد على التشابه بين الطرفين وعلى ثانوية الاختلافات القائمة بينهما. وتحقيق التوازن بين التوجهين المساواتي والاختلافي في فلسفة الاعتراف عمومًا، وللمقاربة أو الحركة النسوية خصوصًا، أمرٌ ضروريٌّ بالتأكيد، لكنه لما يتحقق بعد تحققًا مهيمنا ومقنعًا، على نطاقٍ واسعٍ، وما زال الجدال في خصوصه قائمًا، في الفلسفة المعاصرة، وفي المجال الثقافي والسياسي العام، عمومًا.
ميادة مصطفى كيالي: في عام 1949، قالت الفيلسوفة سيمون دي بوفوار في كتابها "الجنس الآخر" أن "لا يولد المرء امرأة، بل يصير كذلك". هذا التصريح أحدث زلزالاً فكرياً، وأعطى مفهوم الجندر منحىً جديداً خصوصاً لدى النسويات. بناءً على تعليقاتك في نهاية الكتاب حول الجدل المحيط بمفهوم الجندر، كيف تنظر إلى هذا الطرح وما هو تقييمك للجوانب الإيجابية والسلبية المرتبطة به؟
حسام الدين درويش: أتفق جدًّا مع رؤية دي بوفوار وأرى أنها محقةٌ في قولها هذا، وفقًا لفهمي له. ووفقًا لذلك الفهم، الصورة المتبناة لماهية المرأة ولما ينبغي عليها أن تكونه، من حيث الشكل والمضمون، من حيث القول والفعل، من حيث الفكر والعاطفة، من حيث العمل والهواية...إلخ هي صورةٌ مبنيةٌ اجتماعيًّا بامتيازٍ، وليست حصيلة طبيعةٍ أو قدرٍ منفصلٍ عن إرادة البشر ومعارفهم وتوجهاتهم الأيديولوجية. والتأطير التنميطي والاختزالي الأحادي للمرأة (وللرجل) أمرٌ معروفٌ، ولا يمكن إنكاره، لكن ما يشير إليه قول دي بوفوار، ويتجسد في الواقع، يذهب إلى أبعد ذلك بكثيرٍ، ويبين التأثير العميق لهذا التأطير والتنميط، بحيث يمكن القول إن (صورة) المرأة هي حصيلة الثقافة أكثر منها تعبيرًا عن طبيعةٍ موجودةٍ مسبقًا. والمفارقة الطريفة والمؤلمة أن الكثير مما يُزعم أنه طبيعيٌّ هو ثقافيٌّ أو مصطنعٌ، وفقًا لتعبير المفكر السوري ماهر مسعود، في كتابه الأخير "أفول النخبة". ونحن نتذكر أنه منذ سنواتٍ قليلةٍ فقط كان هناك من يزعم أن طبيعة المرأة (النفسية و/ أو العضوية) تجعلها غير مؤهلةٍ للقيادة عمومًا، ومن ضمن ذلك قيادة السيارة. وكانت هذه المزاعم تحاول اختلاق تبرير وضعٍ لا يُسمح فيه، فعلًا، بقيادة المرأة للسيارة. لكن "زمان أول تحوَّل"، وأصبحت المرأة تقود ليس السيارة والطائرة فقط، بل تقود معظم الرجال الذين كان يطلقون تلك المزاعم، بغض النظر عن مدى (عدم) اعتقادهم بصحتها.
ما أتحفظ عليه في بعض الأطروحات التي تدعي الاستناد إلى قول دي بوفوار المذكور، والرؤية التي تتضمنها عمومًا، هو الفصل بين الجندر والجنس، فصلًا كاملًا، حيث يكون تحديد جنس الشخص أمرًا عائدًا إلى الشخص ذاته فقط، بغض النظر عن تكوينه الفيزيولوجي والبيولوجي. هذا التحوُّل الكامل من الموضوعية المزعومة إلى الذاتوية الخالصة جسد انتقالًا من طرفٍ إلى طرفٍ نقيضٍ؛ أي من تطرفٍ إلى تطرفٍ. وأرى أن نقد المزاعم بطبيعية الكثير من التنميطات والتأطيرات التي تعكس التقييدات الاجتماعية السياقية والمصطنعة ينبغي ألا يفضي إلى نفيٍ كاملٍ أو مطلقٍ لوجود أساسٍ طبيعيٍّ للتمايز بين المرأة والرجل. فللبيولوجيا والفيزيولوجيا والكيمياء والهرمونات قولٌ مهمٌّ في هذا الخصوص. والتعامل الأمثل مع هذين القطبين المتطرفين يتم من خلال تفكيك المثنوية التي يكونان قطبيها، مع محاولة إقامة جدل إيجابي بين الطرفين، يقوم على استيعاب كل طرفٍ، وتجاوزه، وإلغاء معقولية القول بأحاديته الإقصائية غير الجدلية.
الاعتراف بالمرأة وحقوقها وحرياتها على أساس مساواتها الأخلاقية والقانونية والسياسية المبدئية والكاملة مع الرجل، وإزالة كل أنواع التمييز ضدها أمر ضروريٌّ كل الضرورة، وملحٌّ كل الإلحاح، ويمكن اعتباره المعيار الأول أو أحد أهم المعايير التي يمكن من خلالها استكشاف مدى (لا-)إنسانية أو (لا-)أخلاقية المجتمع أو الكيان السياسي المعني بذلك. وإن ربط مسألة الاعتراف بمسألة الهويات خصوصًا أو تحديدًا، أمرٌ له بعض المسوغات، لكنه يتضمن الكثير من الإشكاليات، ويثير الكثير من التحفظات المحقَّة (وغير المحقة). وفي كتاب "في فلسفة الاعتراف ..."، قلت بضرورة أن يكون موضوع الاعتراف هو الحقوق والحريات، وليس الهوية أو الهويات. وفي كل الأحوال، يمكن للتمييز الإيجابي تجاه الهويات المظلومة تاريخيًّا أن يكون مباحًا ومشروعًا وإيجابيًّا، بقدر كونه مؤقتًا وهادفًا إلى إزالة الظلم، وليس إلى منح ميزاتٍ ما، لهويةٍ ما، بناءٍ على مظلوميةٍ ما. المشكلة الثانية، لكن غير الثانوية، المرتبطة بهذه المسألة تكمن في الحد الكبير من الحريات وسيادة سياسة الحصافة أو اللباقة السياسية في هذا الصدد. وهذا يعني تقليص نطاق الحريات ليس في خصوص إبداء الآراء حول هذا الموضوع فحسب، بل في خصوص اختيار الكلمات والتعبيرات المناسبة، أيضًا. ولهذا يسود في المجال العام خطابٌ أيديولوجيٌّ من لونٍ واحدٍ على الأرجح، مما يمنع نشوء مناقشاتٍ صريحةٍ ومعمقةٍ ومفيدةٍ.
ميادة مصطفى كيالي: كلمة أخيرة
حسام الدين درويش: أشكر مؤسسة مؤمنون بلا حدود عمومًا، ومديرتها الصديقة العزيزة الدكتورة ميادة مصطفى كيالي خصوصًا، على التعامل المهني/ الاحترافي والإنساني اللطيف والإيجابي معي ومع فكرة نشر كتابي. وأعترف بامتناني الكبير لمديرة هذه المؤسسة التي غمرتني بكل أنواع الاعتراف الهونيتي: الحب والتقدير والاحترام، وصرت أشعر، بصدقٍ، أنني جزءٌ من هذه المؤسسة المهمة، ومنتمٍ إليها ومدينٌ لها. وانطلاقًا من ذلك، سأسعى إلى أن تتولى مؤسسة مؤمنون بلا حدود، قريبًا، مسألة نشر كتابي القادم الذي يتضمن حوارًا مطولًا معي عن مسيرتي الذاتية الشخصية والفكرية/ الفلسفية والعامة. وفي كل الأحوال، أدى التفاعل الجميل بيني وبين (بعض أعضاء) هذه المؤسسة إلى تكوين علاقات صداقةٍ وودٍّ آمل أنها سترافقني طوال ما تبقى من حياتي.