حوار مع إبراهيم بورشاشن: حدود الفلسفة والشعر
فئة : حوارات
حوار مع إبراهيم بورشاشن:
حدود الفلسفة والشعر
نور الدين علوش: مرحبًا بكم، سؤال بدهيّ يطرح في البداية يقول: من هو الدكتور إبراهيم بورشاشن؟
د. إبراهيم بورشاشن: من الصعب على الإنسان أن يتحدث عن نفسه، خاصة أن معرفة الذات من أصعب الأمور؛ فكل ما اقترب منك بقوة يصعب عليك إدراكه، وكذا الأمر مع الذات، لكن مع خوضي غمار التجربة الشعرية يمكن أن تجد في بعض ثنايا قصائدي بعضًا مما يشير إشارات تعرفك بهذا المسمى "إبراهيم". وسأعمد لديواني المنشور "الطين المسجور"، ثم لديواني المعد للطبع "إبحار في عيون الحوريات" لأقدم لك بعضًا من ملامح هذا الذي تسأل عنه:
ففي قصيدتيْ "مناجاة قلم" و"غواية الحرف" يظهر هذا "الإبراهيم" مهووسًا بالحرف والقلم، وكذا في صرختي في قصيدة "ذروني"، أما في قصيدتي "قناديل الإله" فيظهر لك هذا الشخص فرِقًا من مجتمع يقتل المواهب، وفي قصيدتيْ "النحلة المغاضبة" و"جرم" يظهر لك هذا الرجل حريصًا على إثبات حسن نيته لمجتمع تذعره الشكوك، وفي قصيدتي "النيرونية" تجد هذا الإبراهيم" يفكك جسم الاستبداد بمستوياته السياسية والثقافية والاجتماعية، وفي "ألم الصمت" تجده يلوذ بالصمت لضعف العبارة من هول المعاناة، كما تجد في قصيدتيْ "سقراط" وحرف سقراط" إعجابي الكبير بهذا الفيلسوف الذي رفعه محمد حميد الله إلى درجة النبي، أما في "أرنب السباق" فيظهر لك هذا الشخص، الذي تريد منه أن يعرفك بنفسه، في وضع لا يسمح بالمنافسة النزيهة، أما في قصيدة "الغريب" فتجدني أقول:
في جبة شيخ
تهدهني القوافي
تحت الرواق القديم
والغرابة حجاب.
واعتقد أن هذه الكلمات تعبر عني أصدق تعبير.
لم أرد أن أجول بك في باكورتي الشعرية "الطين المسجور" لكن أرى أن كثيرًا من قصائدها، وهذه عينة منها، تعبر عن شخصية رجل مهووس بالقلم والحرف كابد غربة في المدينة، ويحاول اليوم أن يمد يدًا للعمل البناء. أما ديواني الآخر فقد فتحني على عالم المرأة، وهو عالم لم أكن أقترب منه إلا لمامًا لظروف تربيتي ومشاغلي الأكاديمية، ولعل ضارة نافعة، إن الفترة التي عشت فيها فراغًا أكاديميًا، كانت فرصة اقتربت فيها من هذا العالم، وكان من نتيجة هذا الاقتراب قصائد اعتبرها مرآة مجلوة تعكس بعضًا من سمات هذا الشخص الذي اكتشفته. وليس هناك عالم يدرك فيه المرء نفسه أفضل من عالم الأنثى، ومن ذا الذي لم ترتعش أطرافه أمام امرأة جميلة؟
وخلاصة تجربتي في هذه العالم أني اكتشف نفسي أميل إلى الحب على شرط ابن حزم، الفقيه الظاهري، وفي بعض قصائدي يظهر لفظ "الظاهري" نفسه كناية عن فلسفة خاصة في الحب، وقصائدي "عشق النساء" "والقنبلة الجميلة" و"سارقة الحب" و"عشق الروح" و"آجيا" و"سحر امرأة"، و"كن غريبي" و"إليك ملهمتي" و"جسر الوصول و"من غيابات الجب" و"ناثرة الضياء" و"رماح العشق" وقصيدتي "في عصمة الجبل" وغيرها من هذه القصائد أظهرت لي شخصًا يرى في الأنثى بعضًا من هذا الوجود، بل روحًا تحرك الوجود، وعشق المرأة عشق للحياة بل عشقها انتصار على كبد الحياة، وإن كنت أرى أن من العشق درجات ومنه دركات، فهل يحق لي القول أني كنت دائمًا في درجاته العلا وأنه يكفيني منه هذه القصائد الجميلة التي جعلتني ألج هذا العالم ولوج الفيلسوف الباحث عن المعنى في الحركات والسكنات، وفي القرب والبعد، في الخصام و"الوصال"، وفي الاستيهامات والواقعيات...؟ لقد وجدت هذا "الإبراهيم" يتردد بين العقليات والخياليات والفقهيات، وحاول أن يجد نفسه في هذه العوالم الثلاثة تعبيرًا عن شخصية ثقافية تنتمي إلى عالم عربي إسلامي فريد. أرجو أن يكون هذا التعريف صادقًا لأنه أتى من حَرِّ المعاناة وليس من برودة العبارات.
نور الدين علوش: بما أنكم تشتغلون في البحث الفلسفي والإبداع الشعري، فكيف توفقون بينهما؟
د. إبراهيم بورشاشن: قررت، منذ أن قرأت كتاب "الجمهورية" لأفلاطون في سنة الباكالوريا، أن أدخل قسم الفلسفة، وقد كنت قبل ذلك قارئًا نهمًا للرواية والشعر، وقد كنت أتوقع أن أكون قاصًا، خاصة أن أول قصة كتبتها كاملة كانت في الخامسة ثانوي، ما يسمى اليوم بالجذع المشترك، قرأتها في القسم ولقيت استحسان أستاذة اللغة العربية وكان عن حدث وقع لي في الطفولة، لكن غدا المسار مختلفًا.
وعندما التحقت بالكلية، بظهر المهراز في أواسط السبعينيات، انصرفت عن الأدب وتفرغت للدراسات الفلسفية، لكن لم أتذوق الفلسفة في حقيقتها إلا عندما جلست للدرس على الأستاذ جمال الدين العلوي، عندها ربطت حياتي بالدراسات الفلسفية في الأندلس، فاشتغلت في قسم الإجازة عن ابن طفيل، وقد كان يريد مني الأستاذ جمال الدين العلوي أن اشتغل على بداية المجتهد لابن رشد، وأتممت عملي عن ابن طفيل في دبلوم الدراسات العليا الذي أنفقت في إعداده عشر سنوات، وقد كنت أريد أن اشتغل في الدبلوم على بداية المجتهد، لكن نظر الأستاذ جمال الدين صرفني عن ذلك، ثم اشتغلت في الدكتوراه على علاقة الفقه بالفلسفة عند ابن رشد، وقد كان القصد من هذا العمل الفلسفي هو متابعة البحث العلمي في الفلسفة من خلال الالتحاق بالجامعة والخروج من إكراهات التعليم الثانوي، لكن قدر لأبواب الجامعات أن تغلق في وجوهنا من خلال دورية تمنع الحاملين لدكتوراه الدولة من اجتياز المباراة، فكان لهذا الأمر وقعًا سيئًا على نفسي، وكان من أسباب انصرافي إلى كتابة الشعر، وكان لعاطفة الحب دور الموجة العاتية التي قذفت بي في أعماق اللجة الشعرية، وكان لبعض المواقع الإلكترونية دور هام في صقل تجربتي الشعرية الأمر الذي مكن بعض قصائدي من الفوز بالمرتبة الأولى في بعض المسابقات، ولما تعددت إسهاماتي في كثير من المواقع الإلكترونية وتجمع لدي متن شعري غير قليل أقدمت على نشر باكورة أعمالي الشعرية في ديوان "الطين المسجور"، وشرعت في نشر ديواني الثاني "إبحار في عيون الحوريات".
إن من يقرأ شعري يرى هذه الصلة القوية بين الفلسفة والشعر، حتى إن أحد الشعراء المصريين رأى في شعري ضربًا من "الفلسفة الشعرية"، فالفكرة عندي تسبق الاستعارة، لكن فضلاً عن حضور المعجم الفلسفي في شعري هناك أيضًا حضور قوي للمعجم القرآني.
وإذا كان البعض يشكو من الغموض الذي يكتنف شعري، فلعل مرد ذلك يرجع إلى ضيق العبارة وكثافة التجربة الشعرية، وصعوبة البوح أحيانًا مما يجعل المقام الغالب هو الرمز، وربما لا يفهم المعنى إلا بعد استكراه شديد. لكن ما يهمني في فترة الكتابة الشعرية أن أكون صادقًا في التعبير عما يعتلج في نفسي، وإن كان كثيرًا ما تضيق القيود إلا قيود العبارات والإشارات والرموز.
لقد علمتني التجربة الشعرية أن الحياة أوسع من فضاء الفكر المقيد بالمنطق، فهناك عوالم أخرى من التخييل تتعايش فيها المفارقات وتتساكن فيها الأضداد ولعلها عوالم تعبر عن ماهية الإنسان وطبيعته الخلاقة، فبالشعر نعانق الوجود في حميميته الأولى، وهو ما يحيله الارتباط بالعقل والعقل وحده، ومن هنا لذة المغامرة الشعرية، وإن كانت الحرية التي تشترطها هذه المغامرة محفوفة بالمحاذير.
نور الدين علوش: هل تتفقون مع هيدغر في أهمية الشعر للفلسفة؟
د. إبراهيم بورشاشن: أعجبتني فكرة "نسيان الوجود" عند كونديرا ووجدت فيها دلالة كبرى لقيمة اللغة الشعرية. فكرة النسيان هذه يمكن أن ترجع بنا إلى فلسفة قديمة مشهورة تعتبر أن النفس كانت تعلم كل شيء في عالم المثل قبل أن تحل بالجسد، فلما قرنت بالجسد أو حلت به واشتغلت بتلبية مطالبه نسيت كل ما عرفت وأصبحت في حاجة لكي تعود إلى طبيعتها، وأن تتخفف من أثقال الجسد، وتوسل سقراط بمنهج توليدي ليعيد العلم المنسي، لكن ألا تساعدنا اللغة الشعرية أيضًا على التحرر من هذا النسيان الذي يسكننا ويفقدنا معانقة الوجود معانقة حميمية؟ إن الشعر من حيث هو رؤية وانكشاف يذكرنا بحقيقتنا الأولى؛ إذ بالشعر تتعرى أمامنا الكائنات ونتعرى أمامها، وبالتالي نعود إلى طبيعتنا الأولى طبيعة البراءة المحرجة، والطفولة القلقة، والاستعارات الملتهبة.
وتأتي من هنا أهمية هيدجر في ربطه الشعر بالفلسفة، فالفلسفة تعبر عن حقيقة الوجود بالفكر، لكن الحقيقة كما تقال فكرًا فإنها تقال شعرًا كذلك، فالشعر انكشاف وانفتاح على الوجود وأفق للتفكير.
إن كلاً من الشاعر والفيلسوف يصغيان إلى نداء حقيقة الوجود ويعبران عنها تعبيرًا مختلفًا، لكن الشاعر عند هيدجر عندما يعبر عن الحقيقة فإنه يعبر عنها في بعدها الجوهري تعبيرًا يتجاوز البناء الشعري والتفعيلة والقافية.
وجدير بالذكر أن لابن رشد نظرات نقدية عميقة للشعر تجعله معبرًا عن الحقيقة التي تعبر عنها الفلسفة، لكن إذا كانت الفلسفة تتوسل إلى ذلك بالبراهين، فإن الشعر يفعل ذلك عن طريق التخييل. ولم يفت نقادنا العرب القدماء، خصوصًا المتفلسفة منهم، التنبيه إلى عدم ضرورة التقفية في تشكيل طبيعة القول الشعري.
نور الدين علوش: كثرت الدراسات والأبحاث حول ابن رشد خاصة في المغرب العربي، فما هي الأسباب والدواعي؟
د. إبراهيم بورشاشن: جميل أن نجد دراسات جادة تخرج هنا وهناك تطلعنا على جوانب خفية من هذا الفيلسوف الذي لمّا يتعرف عليه أهله بعد. وقد يعتبر البعض أن ابن رشد قتل بحثًا ودرسًا والأمر ليس كذلك، خاصة بعد أن انتقلنا من النظر الإيديولوجي في الفلسفة الإسلامية إلى النظر الفيلولوجي والنظر الدلالي، وهما النظران الكفيلان معًا بأن يقربانا من الإشكالات الحقيقية للفلسفة الرشدية بخاصة والفلسفة الإسلامية بعامة، ومادام هذا الانتقال هو انتقال حديث جدًا فإننا ما زلنا في بداية الطريق. إن التعرف على مجمل المتن الرشدي ومجمل القضايا والإشكالات التي عالجها ابن رشد يحتاج عينًا فاحصة وعقلاً متابعًا وقارئًا جيدًا للمتن الرشدي، وإنني أعتقد أن القارئ الجيد للمتن الرشدي في عالمنا العربي قليل، وما زلنا نحتاج ثورة فلسفية تقربنا فعلاً من ابن رشد الذي ما يزال بعض من متنه مجهولاً أو حبيس اللغة اللاتينية والعبرية، وما تزال كثير من الإشكالات التي أهمّته لما يرفع الحجاب عنها بعد.
نور الدين علوش: هل الرشدية قادرة وحدها على حل مشاكلنا الحضارية والثقافية والسياسية؟ وأين أطروحات الفارابي السياسية والدينية التي لقيت اهتمامًا كبيرًا في السنوات الأخيرة؟
د. إبراهيم بورشاشن: ليست هناك فلسفة قادرة على حل إشكالاتنا المعاصرة، لا الفلسفة الرشدية ولا الفارابية ولا السينوية ولا الباجية ولا غيرها من الفلسفات، إننا ندرس الفلاسفة المسلمين لنستدعيهم فقط للتفكير معنا في قضايا العصر ونفكر معهم أيضًا في هذه القضايا، إننا نتعلم منهم اللغة الفلسفية والعبارة الفلسفية وندخل معهم عوالم قضايا فلسفية ما تزال تحظى براهنية قوية مثل قضايا "المدينة" و"العدل" و"الدين" و"الاجتهاد" و"الحق" "الاتصال" وإشكالية "الوحدة والواحد"، وإشكالية العقل وعلاقته بالدين، وغيرها من القضايا والإشكالات التي يمكن أن نفكر فيها معهم، ونستدعيهم ليفكروا فيها معنا، وإلا فإننا مدعوون للبحث عن إشكالاتنا الخاصة التي يمور بها عصرنا، ومن هنا أهمية الصلة بـ"الفلسفة الحديثة" و"المعاصرة" والتفاعل معها وأهمية الصلة بـ "العلوم الإنسانية"، فلا مندوحة لنا من هذا الرباط الفلسفي والعلمي بالعصر، حتى يصبح لاستدعائنا لفلاسفتنا المسلمين معنىً ودلالة، وإلا فإن الاجترار لا ينتج فلسفة، بل إنه يسيء إلى فلاسفتنا أكثر.
وأنبه، هنا على سبيل المثال، إلى رسالة حي بن يقظان لابن طفيل، والتي أنفقت في دراستها عشر سنوات، ما الذي جعل هذا النص يترجم إلى لغات كثيرة حتى كاد يصبح نصًا عالميًا منذ أن ترجم إلى العبرية وترجمه بوكوك في القرن السابع عشر؟ وما الذي جعل فيلسوفًا مثل اسبينوزا ولايبنتز يشيدان بهذا النص؟ وما الذي جعل ليون غوتييه يهتم به ويفرده بدراسة وتحقيق فريدين؟ إن هذا النص، رغم أنه كتب في القرن العاشر للميلاد، القرن السادس الهجري، ما يزال يثير الاهتمام بإشكالاته الكثيرة التي يثيرها، وخاصة إشكالية العقل في إدراكه للحقيقة في استقلال عن الشرع، ورغم النفحة الاعتزالية لهذه المسألة، فإن القاضي عياض في كتاب الشفاء، وهو الكتاب الذي حظي بالقبول في العالم الإسلامي وبخاصة عند المغاربة، لا يمانع في ذلك. إشكالية قديمة لا تزال لها انعكاسات في الوقت الحاضر، فكيف نعالجها؟ هل نصبح طوفيين أم نؤسس لمفهوم للمقاصد يكون فيه للعقل أوفر نصيب؟
وإني أغتنمها مناسبة للإشارة إلى ما للنظر المقاصدي من دور مهم يتزايد يومًا بعد يوم، خاصة مع انتشار فكر ظاهري وقاف عند النصوص ولا يستطيع النفاذ إلى عللها وحكمها، مما ولّد رؤية إسلامية ضيقة تحتاج إلى عناية خاصة، وقد أثارت ندوة دولية كبرى نظمت أخيرًا في فاس إشكالات المقاصد بين التهيب والتسيب، وأعتقد أن للأمر وجوهًا ستتكشف مع مقبل الأيام، ولا بد من الاستعداد العلمي الأكاديمي لها. أما الفلسفة الإسلامية فإني أعتقد أنها ضرورية لنا اليوم ولها راهنيتها: أولاً في تأهيلنا عربيا لفعل التفلسف، وثانيًا في إشعارنا بالثقة في ممارسة الفلسفة، لأن أسلافنا كان لهم الشفوف فيها، وثالثًا، لأن الإشكالات الفلسفية تتميز بضرب من الاستمرارية ويكون التقدم فيها بطيئًا، وبالتالي لا نجد الغرابة ونحن ندرس الفلسفة الإسلامية خاصة في عالمنا الإسلامي الذي يبدو أنه ما زال يعايش ماضيه بضرب من التماهي في عالم أصبح فيه الغرب يسكننا ونسكنه، وهاهنا مفارقة كبرى تسم بعمق شخصية الفرد العربي المسلم اليوم.
نور الدين علوش: تركزت الأبحاث الرشدية حول الأطروحات الفلسفية لابن رشد، وتناست اجتهاداته الفقهية، فما موقع ابن رشد الفقيه في الدراسات الفلسفية؟
د. إبراهيم بورشاشن: أعتقد أن علاقة الدارسين بابن رشد الفقيه سكنتها نظرة خاطئة اعتبرت الجانب الفقهي في شخصية الفيلسوف جانبًا غير حقيقي أو جوهري في شخصية ابن رشد، وهذا ما تردد عند الذين أنكروا على ابن رشد الفيلسوف إنشاء كتاب، مثل "بداية المجتهد"، بل إن بعضهم ذهب إلى أن ابن رشد سطا على كتاب لفقيه خرساني ونسبه إليه، وهو ما تفنده كثير من المعطيات لا داعي للعروج عليها لضعف هذا الرأي وشذوذه. وذهب بعضهم إلى أن ابن رشد يلعب في الفقه، فقط، دور الوجاهة الاجتماعية، فليس الفقه بأصيل في فكره، وإنما هو أمر زائد، حتى إن هذا القائل اتهم ابن رشد بأنه يعيش ضربًا من الانفصام بين شخصيته فيلسوفًا وشخصيته فقيهًا، أما الأستاذ طه عبد الرحمن، فاعتبر أن شخصية ابن رشد الفقهية وشخصيته الفلسفية شخصيتان لا تلتقيان أبدًا.
أعتقد أن هذا التصور لشخصية ابن رشد الفقيه شكل في نظري عائقًا في تقدم الأبحاث الفقهية حول ابن رشد الفقيه منذ أن كتب برنشفيك دراسته الرائدة حول ابن رشد الفقيه، وهي الدراسة التي شكلت مستندًا للدارسين في الشخصية الفقهية لابن رشد. وقد كان الأستاذ جمال الدين العلوي، رحمه الله، من أبرز من نبه إلى علاقة الفقه بالفلسفة عند ابن رشد، وقد كانت نظراته الثاقبة في كتابه "المتن الرشدي" مهمازًا لي على خوض مغامرة هذه التجربة العلمية في البحث في علاقة الفقه بالفلسفة عند ابن رشد وكان للأستاذ سعيد بنسعيد العلوي فضل التشجيع على المضي فيه والمساعدة على إخراج هذه الأطروحة وإذاعتها في الناس.
نور الدين علوش: كيف تقارب علاقة الفقه بالفلسفة؟
د. إبراهيم بورشاشن: وجدت الفلسفة عندما نشأت في بلاد اليونان ضربًا من الفراغ الفكري، فليس هناك إلا الإلياذة والأوديسة لهوميروس وأنساب الإلهة لهوزيود وبقايا ديانة أورفية، لم يكن هناك عقل سببي منطقي قبل طاليس في هذا الصقع من العالم، ولذا عندما طرح الفلاسفة السؤال لم يجدوا الجواب، فنهضوا للبحث عن الجواب بأسلوب يرضي عقلاً علميًا فلسفيًا، فكان الخطاب الفلسفي الذي عرف قمة ازدهاره مع أفلاطون وأرسطو، وأبدع في تفريع الإشكالات واقتراح الأطروحات والحجاج عنها بالأدلة العقلية، فخلف تراثًا فلسفيًا أدهش البشرية حتى عدوه معجزة تند عن التعليل. ويبدو لي أن الأمر في نشأة الفلسفة الحديثة كان قريبًا من ذلك إذ إن الشك في اللاهوت القديم واعتبار العقل المرجع الوحيد جعل الأسئلة المطروحة بفضل تقدم العلم والتغيرات الطارئة على المجتمع الأوروبي تبقى معلقة، إلا إذا نهض الفلاسفة لصياغتها إشكاليًا والإجابة عنها منطقيًا، فكان أن ظهرت ثروة فلسفية كبرى في فرنسا وألمانيا وأنجلترا غيرت رؤية الفرد للكون والحياة والإنسان، وكانت من أسباب نهضة وتقدم الغرب الحديث.
أما في العالم الإسلامي فكان الأمر مختلفًا فيه، إذ إن الفلسفة ما ولجته حتى وجدت عالمًا ثقافيًا صارمًا يجيب عن كل الأسئلة المطروحة، والقوم راضون عن هذه الإجابات وينافحون عنها سواء على مستوى العقائد أم على مستوى التشريع، كان عالم المسلمين عالمًا فقهيًا، أكاد أقول منغلقًا، ومن هنا وجدت الفلسفة منافسًا قويًا يحتكر القضايا التي تبحث فيها، بل يقدم إجابات جعلت هؤلاء الفلسفة أنفسهم يعجبون بها ويحاولون أن يقربوا تفكيرهم النظري والعملي إلى عالم الفقهاء، فكانت فلسفة الكندي تعبيرًا عن انتمائه في الفقه الأكبر للاعتزال، وكانت فلسفة الفارابي تعبيرًا عن فلسفة تريد أن تجعل النبي فيلسوفًا والفيلسوف نبيًا، واستقى ابن سينا في إلهياته كثيرًا من معطيات المتكلمين، وكان شيخهم الأكبر ابن رشد أفضل تعبير عن هذا الإخاء الكبير بين الفقه والفلسفة في شخص شارحٍ أكبر قاضٍ للجماعة في قرطبة، ويبدو لي أن ابن طفيل كان قريبًا من ذلك وإن لم تسمح له ظروف خاصة من التجويد والبروز في الفنين معًا.
لم يستطع الفلاسفة المسلمون أن يتخلوا عن عالم الفقهاء بل إن الفقهاء أنفسهم، وقد أصبحت الفلسفية فاشية في المجتمع وتدخل في التكوين الثقافي للمسلم ابتداءً من القرن الرابع، لم يعد بإمكانهم التخلص من تأثير الفلسفة في صياغة مباحثهم، وإن ناهضوها العداء ظاهريًا. فلا يمكن فصل عالم الغزالي الفقهي عن عالم الفلاسفة وكذا لا يمكن فصل عالم ابن رشد الفقهي، بل إن الشاطبي نفسه وقع تحت تأثيرهم وإن كان لم يجعل للفلسفة نصيبًا معتبرًا في موافقاته، وللطاهر بن عاشور كلمات في كتابه عن المقاصد تدل أن الرجل كان واقعًا تحت تأثير الفلسفة، وهو يؤلف هذا الكتاب العظيم.
ويحفظ لنا التاريخ ضربًا من عداء دفين كان يكنّه بعض الفقهاء للفلسفة، وقد بادلهم الفلاسفة هذا الشعور، وقد أبرزت بعضًا من ذلك في كتابي الموسوم "مع ابن طفيل في تجربته الفلسفية"، ولكن بدا لي أن هذا العداء كان من طرف فقهاء الفروع، لأن القوم مشغولون بالدفاع أكثر مما هم مشغولون بالفهم، أما فقهاء الكليات والقواعد فكان حذرهم أخف وتبرمهم مبررًا، وإن لم يكن مقنعًا، كما هو شأن الشاطبي في الموافقات.
إن علاقة الفقه بالفلسفة علاقة بين عالمين يبحثان في العلمين النظري والعملي، وأعتقد أنه مع الثورة العلمية المعاصرة اليوم، وكذا الثورة في المنهجيات، لا يمكن للفقه أن يعيش معزولاً وإلا أدركه الوهن.
نور الدين علوش: نظرًا لأهمية ابن الرشد الفقيه والفيلسوف كيف نعمل على تحيين أفكاره وأطروحاته؟
د. إبراهيم بورشاشن: لا يتعلق الأمر بتحيين أفكار ابن رشد وأطروحاته، بل باكتشاف جوانب مختلفة من شخصيته الغنية التي يمكن أن تلهم في معالجة بعض القضايا المعاصرة. وأعتقد أن أهم ما يمكن أن يفيدنا فيه ابن رشد في هذا المجال هو أن الفيلسوف يجب أن يظل على صلة وثيقة بمجتمعه، إلى درجة أنه يمكن فيها القول: "إن الفيلسوف المسلم هو فقيه ضرورة"، فرغم أن ابن رشد أنفق جل حياته في "العبادة الخاصة" عبادة الفكر والاعتبار فإنه ما أهمل قط العبادة المشتركة، عبادة الجوارح. فلا ينبغي للفيلسوف وهو يفكر بقضايا مجتمعه أن يكون بعيدًا عن قضايا "السنن" التي تلحم مجتمعه وتصوغ العلاقات بين الناس، ولعل ابن رشد اهتم لهذا السبب بكتابيْ "القوانين" و"الجمهورية" لأفلاطون، كما يبدو لنا ذلك في كتابيْ "الخطابة" و"جوامع سياسة أفلاطون"، ولم يهتم بكتاب "السياسة" لأرسطو، رغم أنه ادّعى أنه لم يعثر عليه، لكن الحقيقة أن إشكالية ابن رشد الفقهية لم يكن ليجيب عنها سوى أفلاطون السياسي، لا أرسطو السياسي، وإن إهمال الفلاسفة العرب، فترة من الزمن، قضايا "السنن" بالمعنى الفقهي الذي عالجه ابن رشد قد فوّت عليهم الإنصات إلى هموم أمتهم، وجعلهم بعيدين عن إشكاليات حقيقية ليست وهمية، تمس علاقة الفيلسوف بالمدينة الإسلامية التي يعيش فيها، ومن هنا اقترب ابن رشد إلينا في عالمنا اليوم الذي يهتم بقضايا العقل العملي أكثر من اهتمامه بقضايا العقل النظري.
إن لابن رشد نظرات عميقة حول منزلة الفلسفة في المجتمع الإسلامي، وله نظرات نفاذة في التجديد الفقهي، وأقوال عميقة في القول الكلامي وخطره على المدينة. وله آراء في التربية الفكرية والجمالية تتميز بجرأة استثنائية، وله موقف حكيم ومتزن من التصوف في المجتمع الإسلامي، وأكبر مواقف ابن رشد جرأة موقفه من العقل. تعد الحياة الفلسفية أوسع عند ابن رشد، وما يؤكد ذلك ما يراه فيلسوفنا من أن أفضل أصناف الناس عنده هم الفلاسفة، وأفضل أنواع المدن هي المدن التي تدبرها الحكمة. فضلاً عن أن الفلسفة توجد في المدينة من جهة الأفضل، وما كان من جهة الأفضل فهو أفضل مما هو من جهة الضرورة. إن الفلسفة بوصفها حكمةً إنسانيةً لا تدانيها منزلة صناعة أخرى عند ابن رشد.
إن المشروع العلمي عند ابن رشد هو مباحث في العقل، سواء اتخذ مجاله الفلسفة أو السمع، وسواء أكان فقهًا أصغر أم أكبر، فوحدة الاشتغال الرشدي يتأسس على فهم خاص للعقل يعرضه في كتبه التي أنشأها ابتداءً. فالعقل هو إدراك الموجودات بأسبابها، وهذا العقل حاضر في قلب الفلسفة، ولكنه حاضر أيضًا، وبقوة، في قلب معارف أخرى كالفقه والكلام، والتصوف عنده شرط الممارسة العقلية الصحيحة.
إن أهم موقف يعكس التقدم النظري عند ابن رشد، في نظري، هو الموقف الذي يرى أن المعرفة البيانية الإسلامية لا يحتاج في معرفتها سوى لقدر قليل من المعارف كافيةٍ في الحياة السعيدة لـ"المسلم بالحقيقة"، وهو ما لا يسع المسلم جهله من المعرفة الفقهية وأدواتها الضرورية، وهو ما قدمه في كتبه البيانية التي لا تتجاوز ثلاثة إلى أربعة كتب. أما المعرفة الفلسفية، فهي المعرفة الحقيق بأن يشغل الإنسان بها عمره، ومن هنا فالفلسفة أفضل والفيلسوف أكمل، وهو الموقف الذي لم يفهمه عصر ابن رشد، ولعلّنا أن نكون نحن اليوم أقرب إلى فهمه والتفاعل الإيجابي معه.
نور الدين علوش: اسمح لي سيدي أن انتقل بكم إلى المجال السياسي, فما دور المثقف بعد الربيع العربي؟
د. إبراهيم بورشاشن: أعتقد أن الغائب الأكبر في حياتنا الثقافية هو المثقف، يقول البعض إنه غائب ويقول آخرون إنه مغيّب، وأعتقد من خلال تجربتي أن فضاءنا يضيق ذرعًا بالمثقف ويسعى بكل الطرق إلى تهميشه، المثقف شخص قلق، لكنه القلق المبدع، المثقف شخص حساس، لكنها الحساسية التي تدرك ما لا يدركه الآخرون، المثقف شخص صادق، لكنه الصدق الذي يشبه النذير. لا بد من سعة أفق في التعامل مع المثقف، لكن التكنقراطي بدوافعه إلى التنميط يضيق ذرعًا به، فيحرك القبيلة ضده ويضيق عليه. وأشير في بعض قصائدي إلى التكنقواطي تارة بلفظ "الخوارزمي"، رمزًا لعقليته الحسابية الباردة، كما في قولي في قصيدتي "في ظل متاهة":
متى يصفو الفؤاد للقرب
ويعلم الخوارزمي أن النسق قاتل الطيور البريئة؟
فالتكنوقراطي يعلم أن التنميط والقولبة يقتلان المبدع، لذا يسعى إلى ذلك سعيًا حثيثًا. وأحيانًا أسميه؛ أي التكنقراطي، "السفسطائي"، وقد أفردت قصيدة له بعنوان "السفسطائي الأخير" نشرتها في بعض المواقع وسأنشرها في الطبعة الثانية من ديواني "الطين المسجور" إن شاء الله، وتسميتي له بهذا الاسم لقدرته الفائقة على الإقناع والتمويه وتضليل الناس بالبيان المزيف، مما يجعل المثقف والمفكر أمامه عييًا لا يكاد يبين. تولد الدول في صدور الشعراء، وتنشأ وتموت على أيدي أهل الساسة، كما يقول شاعرنا الفيلسوف محمد إقبال. لكن، رغم كل ذلك، فإنه إذا استمد المثقف مقاومته من قلمه وعدالة قضيته ومن المتعاطفين معه فإنه سيحافظ على ذاتيته ويبلغ صوته لـ"أولي البقية" في هذا المجتمع الولود.
وأعتقد هنا أن إشكالية المثقف اليوم هي الإشكالية التي تحدث عنها بطريقة فلسفية مبدعة أبو بكر بن الصائغ في كتابه "تدبير المتوحد" وصياغتها: كيف يدبر المتوحد نفسه في بيئة جاهلة ليصل إلى أفضل وجوداته؟ سؤال فلسفي راهني أجاب عنه ابن باجة إجابة خاصة مستلهمًا ثقافته الفلسفية الأفلاطونية والأرسطية، ويمكن أن نعيد طرحه بأسلوبنا وعبارتنا، وأن نجيب عنه إجابة أخرى مستلهمين ثقافتنا الفلسفية والعلمية المعاصرة.
إن مجتمعنا بحاجة ماسة للمثقف، بل يجب على المجتمع أن "يدلل" هذا الصنف من البشر، لأنه دليله الصادق إلى معرفة عمق التغيرات اللاشعورية التي تقع في أعماق المجتمع، فهو خير لاقط لها ومعبر عنها. فالمثقف هو الرائد الذي لا يخذل أمته. وأعتقد أنه بعد هذه الهزة القوية التي عرفها مجتمعنا، سيتم النظر إلى دور المثقف بطريقة مختلفة، فلا يمكن نشر ثقافة الاختلاف وثقافة العقل وثقافة الخيال وثقافة التواصل إلا بالتعويل على المثقف في جديته الأكاديمية، وفي تلقائيته وحريته الفنية، وفي عفويته الجميلة والصادقة التي تبدع عوالم مختلفة وأشكالاً متنوعة من التفاعل مع الوجود.
وتأتي من هنا ضرورة تشجيع التواصل بين المثقفين وفتح باب الحوار بينهم في كل القضايا التي تهم المجتمع والفكر من خلال فضاء محايد، المعول فيه على الحجة والدليل واحترام ثقافة الاختلاف. إن فضاءات مثل هذه قد تكون أشبه بمرايا تعكس واقع المجتمع الحقيقي، ولعلها أن تجنبنا الأوهام التي أغرقتنا فيها الجهالة بذواتنا منذ قرون، ولمّا نخرج منها بعد، وكادت أن تدمرنا تدميرًا، وتلقننا درسًا قاسيًا في التخريب.
نور الدين علوش: وهل ثقافتنا قادرة على تجذير قيم الاختلاف والديمقراطية؟
د. إبراهيم بورشاشن: ومربط الفرس في حياتنا الثقافية والسياسية المعاصرة هي قيم الاختلاف والديموقراطية، فيشير مفهوم الاختلاف في دلالته العامة إلى التنوع، سواء أكان تنوعًا في الطبيعة أم في الإنسان، وذلك ما تعطيه دلالة الآية الكريمة: "ومن آيته اختلاف ألسنتكم وألوانكم". لكننا نجد هذا المفهوم يشير أيضًا إلى معنى التنازع، كما في قوله تعالى: "وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم"، وفي الكتاب العزيز من هذه الآيات آيات.
ومن هنا انبثقت المفارقة، في هذا المفهوم، بين دلالة إيجابية ترى في الاختلاف ظاهرة طبيعية سليمة، وبين دلالة أخرى تراه ظاهرة سلبية تكاد تهدد الاجتماع الإنساني، وتستبطن هذه الدلالة الثانية مفهومًا آخر هو مفهوم "الخلاف"، وهو كثيرًا ما يعرض معرض الذم إلى درجة أن ذهب ابن رشد في "بداية المجتهد" إلى أن الشرع إنما بعث لرفع الخلاف.
لكن كيف يرفع الشرع أمرًا احتفى به المسلمون، حتى إننا نجد أن كتاب الأم للشافعي هو مدونة في علم الخلاف؟ بل لقد ذهب الأمر بالفقهاء أن أنشأوا علمًا سمّوه "علم الخلاف"؟" إننا إذن أمام مفهوم إشكالي، هذا الإشكال يجب أن يصاغ بشكل حقيقي، وإلا فكيف نفهم فيلسوفًا ارتاض في جنان الفلسفة اليونانية يصرح في بداية المجتهد أن الشرع ما بعث إلا لرفع الخلاف؟ وكيف نفهم أن ابن رشد نفسه لا يسمح في المدينة الإسلامية بمن يشككون بمبادئ الملة ويدعو إلى معاملتهم معاملة قاسية؟ وهل للمجتمع الإسلامي خصوصية ثقافية تجعله يضيق ذرعًا بالخلاف أم أنه يؤسس لنفسه قواعد مشتركة لا يجوز الخلاف حولها من أجل نظام المدينة وسيرها، مثل كل المجتمعات التي لها مبادئ "تقدسها" ولا تسمح لأحد بالاقتراب منها مراعاة لسلامة؟ لكن أليس ابن رشد هو نفسه من أسس للاختلاف الفقهي وسمح به؟ بل إنه أحيانًا يخرج عن المذهب الفقهي الذي اختاره مجتمعه ويقول في بعض الآراء بغير ما عليه قومه؟ أليس في ذلك رمزًا لأهمية الاختلاف؟ بل إن ما يضاعف المفارقة أن بعض المجتمعات الحديثة أصبحت تضيق ذرعًا بالاختلاف، حيث نجد كثيرًا من الظواهر تكاد تعلن وفاة فلسفة الاختلاف في قعر أوروبا التي تعد مهد فلسفة الأنوار.
أعتقد أن مفهوم الاختلاف مفهوم ملتبس في ثقافتنا، على الأقل، وتسكنه مفارقات كثيرة، وأنه يجب علينا من خلال هذه المفارقات أن ننشئ مفهومًا للاختلاف يراعي الواقع المتجدد ومقاصد الشريعة، لأنني أعتقد أن كل اجتهاد فكري لا يراعي البنية الثقافية العميقة لمجتمعنا الإسلامي لن يكون مآله إلا الفشل العريض. فضلاً عن ذلك، فقد أبانت الأحداث الأخيرة التي كادت تزلزل العالم العربي، إن لم تزلزل فعلاً بعض دوله، مدى ترسخ بنية الاستبداد في جسمنا السياسي والاجتماعي بله الثقافي، وكشف بالملموس مدى صورية ما يسمى بالحياة الديمقراطية التي "تنعم" بها شعوب العالم العربي، كما كشفت عن ضعف التجربة الديمقراطية في البلدان التي أتيحت لها فرصة تجريبها لضعف التراكم الفعلي مما يبرز حداثة الفعل الديمقراطي في مجتمعاتنا، وأن استنباته استنباتًا حقيقيًا يحتاج أرضية فلسفية تؤسس لثقافة الاختلاف والحرية والعدالة والإنصاف، وإني أعتقد أن هذا التأسيس يجب أن يأخذ بالاعتبار طبيعة المناخ السوسيوثقافي لمجتمعاتنا العربية الإسلامية، وإلا فإن استعارة الفلسفات والنماذج الجاهزة قد أبانت فشلها خاصة مع القسر والإكراهات التي مارستهما الدولة الحديثة في العالم العربي حين فرضت نماذج "حداثية" جاهزة، وهي سياسة أدت إلى كوارث نعيش الآن بعض تداعياتها المفجعة، ولا يعلم إلا الله كيف ستكون عواقبها على مستقبلنا الذي يُرسم اليوم تحت ظلال من غيوم تجعل رؤيتنا له رؤية أعشى.
نور الدين علوش: ما دور الفلسفة في مواكبة التحولات التي تعرفها المجتمعات العربية؟
د. إبراهيم بورشاشن: لا بد من القول أولاً، إن مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة بحاجة إلى قول فلسفي أصيل وجدي، لكن هذا القول يحتاج مكانًا محايدًا حتى ينمو ويزدهر في جو من الحرية يسمح للفكر أن يعبر عن جرأته في التحليل والتقويم والاقتراح، ولعل الجامعة أن تكون هذا المكان، لكن مع عجز الجامعات في العالم العربي عن القيام بدورها الحقيقي أصبح من الضروري خلق فضاءات أخرى تسمح للعقول بالتلاقح والتنازع وممارسة الاختلاف والتدريب عليه.
ونحن أمة في حاجة إلى الفلسفة، ولعل من أهم أدوار الفلسفة كما بين ذلك دولوز نحت المفاهيم وصناعتها. والفلسفة كذلك تعلمنا احترام فعل البحث عن الحقيقة وتحمل المسؤولية، وإننا لن نستطيع تأسيس مستقبلنا دون رؤيا واضحة وتعاقد حقيقي. ومن الواجب اليوم أن ترافق حركية المجتمعات العربية حركية بناء المفاهيم وإلا فلن تزداد رؤيتنا إلا غبشًا، ومع الغبش يكثر التخبط.
إن التغيير الحقيقي هو تغيير نظرتنا إلى العالم من خلال إصلاح ديني وفلسفي عميق، وهذا التغيير يدخل في إطار تغيير العقليات، وهو تغيير بطيء جدًا، كما يقرر الأنثربولوجيون، لكنه تغيير آت لا محالة، فإما أن يوكل توجيهه إلى أولي النهى وإما أن يتولاه العوام، ولا خيار وراء ذلك.
إن إعادة الاعتبار للفكر الفلسفي وإدماج التعبير الفني في الحياة الاجتماعية وتجديد الدين وفق مقتضى العصر، ناهيك عن توفير مستلزمات الحياة الكريمة على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي...إلخ، كل ذلك ضروري في نظري للاستجابة لطموح الشعوب في تغيير حقيقي وفعال.