حوار مع الأكاديمي المصري أشرف منصور: لا يمكن للإسلام السياسي تشكيل قومية دينية بسبب إقصائه للأقليات
فئة : حوارات
حوار مع الأكاديمي المصري أشرف منصور:
لا يمكن للإسلام السياسي تشكيل قومية دينية بسبب إقصائه للأقليات[1]
ذكر الأكاديمي والباحث المصري الدكتور أشرف منصور، أنه لا يعتقد أن بإمكان الإسلام السياسي تشكيل قومية دينية، لأن "الدين لا يصلح لأن يكون قومية، إذ هو يفتقد شروط القومية التي مبدؤها الجغرافيا والعرق والوعي السياسي المشترك الواضح الأهداف"، متسائلا: كيف إذن يشكل الإسلام السياسي قومية دينية، وهو يستبعد المسيحيين والطوائف المسلمة غير السنية؟
وأضاف الدكتور أشرف منصور في حواره مع مجلة "ذوات"، أن الإسلام السياسي كظاهرة، جاء كرد فعل على نوعين من الحداثة: الحداثة العربية التي فشلت في تحقيق التقدم الاقتصادي والتكنولوجي في المجتمعات العربية، والحداثة الغربية التي تواجه أزمة عالمية، تتمثل في عدم قدرتها على القيام بالوظيفة الاجتماعية في التفاف المجتمعات حول قيمها ومبادئها.
وأوضح الأكاديمي المصري، أن فكرة الأمة التي يقوم عليها الإسلام السياسي ويقيم عليها وجوده الأيديولوجي لا يمكن أن تشكل أساساً لانتماء سليم، نظراً لأنها تقصي كل من لا يعبر عن انتمائه إلى الديانة الإسلامية، معترفا أن "العروبة" مثلت عنصراً استثمرته حركات الإسلام السياسي في صراعها ضد الأيديولوجيا القومية، البعثية والناصرية.
وفيما يتعلق بفكرة الوطن، ذكر الدكتور أشرف منصور أن الحركات الإسلامية تستخدمها بشكل نفعي؛ فعلى الرغم من أن الإسلام السياسي يرفض فكرة الوطن نظراً لأنه يستبعد غير المسلمين من نطاقه، فإنه يستعملها عندما يتوجه بالخطاب إلى المجتمعات الغربية. وإذا كانت بعض آيات القرآن تتضمن الدعوة إلى استعمال العنف، فإن ذلك، حسب رأي منصور، لا يبرر لجوء الإسلام السياسي إلى ممارسة العنف نظراً لأن تلك الآيات ترتبط بأسباب نزول ذات صلة بعصر النبوة، وبالتالي يدعونا إلى قراءة القرآن قراءة تاريخية.
أما بخصوص مدلول "الغرب"، فإن الدكتور منصور اعتبره مكوناً أساسياً لأيديولوجيا الإسلام السياسي، باعتبار أن كل أيديولوجيا هوياتية تحتاج إلى عدو خارجي يقوي لحمتها الداخلية.
وأشرف حسن عبد العزيز منصور باحث وأكاديمي مصري، متعدد الاهتمامات، بدءاً بتخصصه الأكاديمي، الفلسفة المعاصرة، وانتهاء بالفكر السياسي العربي المعاصر، مروراً بالفلسفة الحديثة الغربية والفلسفة الإسلامية وعلم الاجتماع الديني وغيرها من المجالات الفكرية. ازداد سنة 1972، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة قبل أن يصبح أستاذ الفلسفة المعاصرة بكلية الآداب التابعة لجامعة الإسكندرية.
تعكس كتاباته الغزيرة تنوع مجالات اهتمامه الفكري، من قبيل "النقد المعاصر للفكر السياسي الليبرالي" 2003، و"الاتجاه النقدي في الفكر الفلسفي المعاصر" 2008، و"نظرية المعرفة بين كانط وهوسرل: دراسة في الأصول الكانطية للفينومينولوجيا" 2009، و"الرمز والوعي الجمعي: دراسات في سوسيولوجيا الأديان" 2010، و"سبينوزا ونقد العقل الخالص: دراسة لنظرية كانط في المعرفة والميتافيزيقا في ضوء فلسفة سبينوزا" 2013، و"العقل والوحي: منهج التأويل بين ابن رشد وموسى بن ميمون وسبينوزا" 2014، وغيرها من الأعمال التي تغطي نطاقاً واسعاً من الاهتمامات الفكرية.
حسن احجيج: ما هي المكانة التي تشغلها فكرة "الأمة" في النسق الهوياتي للإسلام السياسي؟
أشرف منصور: تقوم فكرة "الأمة" بالوظيفة الأيديولوجية لفكرة الأصل؛ أي الأصل المشترك الذي يُفترض أن ينتمي إليه كل المسلمين. وفكرة الأصل المشترك هذه هي عنصر سائد في كل أيديولوجيا هوياتية. وخطورة هذه الفكرة أنها إقصائية، بمعنى أنها تقصي كل من لا ينتمي إلى هذا الأصل المشترك. والمعروف أن العالم العربي مليء بالطوائف والأقليات التي لا تنتمي للإسلام، علاوة على أن فكرة الأصل تعمل على تغريب كل من لا يعتنقها ويؤمن بالحداثة ودولة المواطنة. والملفت للنظر في موضوع "الأمة" هذا، أن هذه الأمة مُتَخَيَّلة؛ فالانتماء لدين ما لا يكفي وحده ليشكل أصلاً، فكما قال ابن خلدون، الدين رابطة متخيلة؛ أي أنه ليس رابطة دم وعرق وأرض وجغرافيا، بل رابطة تقوم على مجرد فكرة. علاوة على أن تلك الأمة المقصودة حديثة الظهور، حسب أدبيات الاقتصاد السياسي نفسه. فإذا سلمنا بأن هناك شيئاً يسمى "الأمة الإسلامية"، فسنرى أن هذه الأمة حديثة الظهور للغاية، إذ لا يتجاوز عمرها الأربعة عشر قرناً، وهي فترة ليست طويلة بالمقارنة بتاريخ هذه المنطقة بالذات، صاحبة أقدم وأطول تاريخ في العالم، والذي يرجع إلى الألف الرابع قبل الميلاد. هذا إذا سلمنا بأن "الأمة الإسلامية" قد ظهرت فور ظهور الإسلام وعلى المساحة التي امتدت فيها الفتوحات الإسلامية شرقاً وغرباً، لكن هذا لم يحدث. فلم يتواز انتشار الإسلام مع الفتوحات، إذ كانت عملية تحول السكان إلى الإسلام أكثر بطئاً، وتطلبت قروناً عديدة. فمصر على سبيل المثال، لم تصبح أغلبيتها مسلمة إلا في العصر الفاطمي، أو قبله بقليل في العصر العباسي الثاني.
حسن احجيج: ظل الإسلام السياسي منذ نشأته يقيم شرعيته على الانتماء إلى "الأمة الإسلامية" في مقابل الحركات القومية التي كانت تؤسس شرعيتها على الانتماء إلى "الوطن العربي"، ألا زالت الحركات السياسية الإسلامية متشبثة بهذا التمييز بين الإسلام والعروبة؟ ألا يمكن القول بخلاف ذلك إن الإسلام السياسي أصبح يمثل قومية دينية؟
أشرف منصور: تكانت حركات الإسلام السياسي دائماً ما تضم العروبة إلى الإسلام؛ فالانتماء الإسلامي لديها يشمل العروبة، بمعنى أن العروبي الحقيقي لديها هو العربي المسلم، وكانت هذه الفكرة محاولة من التيارات الإسلامية لمنافسة تيار القومية العربية السائد منذ أوائل القرن العشرين، مع ما صاحبه من أنظمة سياسية تنشر أيديولوجية القومية العربية، مثل البعثية والناصرية. أصر الإسلام السياسي دائماً على أن العروبة الحقيقية هي الانتماء الإسلامي، وبذلك عملت على إلغاء الطوائف والأقليات غير الإسلامية، كما عملت على إلغاء تاريخ الدعوة إلى القومية العربية، والتي أسهم فيها مفكرون مسيحيون كثر: نجيب عازوري، ألبرت حوراني، قسطنطين زريق، ميشيل عفلق، وغيرهم كثير.
لكنني لا أعتقد أن الإسلام السياسي يمكنه تشكيل قومية دينية؛ فالدين لا يصلح لأن يكون قومية، إذ هو يفتقد شروط القومية التي مبدؤها الجغرافيا والعرق والوعي السياسي المشترك الواضح الأهداف. كيف إذن يشكل الإسلام السياسي قومية دينية، وهو يستبعد المسيحيين والطوائف المسلمة غير السنية. لاحظ أن ما نقصده بالإسلام السياسي هنا هو الإسلام السياسي السني، المستبعد للإسلام الشيعي، ولكل أنواع الإسلام الأخرى: الإسلام الصوفي والإسلام الشعبي والإسلام الطرائقي...إلخ.
حسن احجيج: يشير الكثير من الباحثين إلى أن الإسلام السياسي ظل منذ نشأته وطوال القرن العشرين يرفض فكرة الانتماء إلى "الوطن" تحت ذريعة أسبقية الانتماء إلى الدين الإسلامي على الانتماء إلى تراب وطني محدد، لكن خطابات قادة إسلاميين بارزين تكشف عن عودة هذه الحركات إلى التسليم بواقع هذا المعطى المرتبط بفكرة الوطن، فهل يمكن لكم أن تفسروا لنا لماذا هذه العودة؟
أشرف منصور: تمن الواضح أن الخطابات التي أشرت إليها تعود إلى فكرة الوطن تكتيكياً فقط، إنها براغماتية ودبلوماسية من جانبهم، وربما تكون تقية، لأن أيديولوجيا الإسلام السياسي قائمة أساساً على حصرية الانتماء الديني واستبعاده لأي انتماء آخر. لاحظ أن الإسلام السياسي يلجأ دائماً إلى الازدواجية في الخطاب، أي يقدم خطاباً لمتلقٍ معين، وخطابا آخر ربما يكون معاكساً له لمتلقٍ آخر. وأبرز مثال على ذلك، اختلاف خطاب الإسلام السياسي الموجه للغرب عن خطابه الموجه لأنصاره.
حسن احجيج: هل يمكن افتراض أن "العنف" يشكل أحد عناصر هوية الإسلام السياسي؟
أشرف منصور: تإنه ليس افتراضاً، إنه حقيقة قائمة، لكن ليست هذه هي المشكلة. المشكلة هي أن الإسلام السياسي يبرر العنف من النص القرآني نفسه. فهل يحتوي النص القرآني على العنف كي يتخذه الإسلام السياسي مبرراً؟ إذا كان النص القرآني عنيفاً مع الأعداء والمواجهين للدعوة وقت الرسالة، فهل هذا مبرر كافٍ لتعميم خطاب العنف؟ المطلوب منا كمثقفين إذن، هو فك الارتباط بين عنف الإسلام السياسي وتدعيمه من النصوص القرآنية، ولا يأتي ذلك إلا بتفسير تاريخي للقرآن، يضع هذه الآيات في سياقها ويفهمها حسب وقتها. وليس مثل هذا التفسير بغريب على تراثنا، فقد كان معروفاً في أدبيات أسباب النزول.
حسن احجيج: يبدو أن الجاليات المسلمة في بلدان المهجر الغربي تركز أكثر من المسلمين المقيمين في بلدانهم الأصلية على فكرة انتمائها إلى الإسلام، فهل يمكن إرجاع هذه المغالاة في التشبث بالهوية الإسلامية إلى عامل تآكل عناصر هذه الهوية بفعل التثاقف مع الغرب، أم إلى أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن المكانة التي تشغلها انشغالاتهم في السياسات العمومية التي تنهجها دول الاستقبال؟
أشرف منصور: تأرى أن التشبث بالهوية الإسلامية في الغرب له أسباب عديدة ومتشعبة للغاية، لكن أهمها هو أن الهوية القومية تضعف في الغرب، وتحل محلها الهوية الدينية تلقائياً؛ فالمغربي والجزائري والتونسي والمصري والسوري، سينظرون إلى أنفسهم على أنهم مسلمون، ولن يميزوا فيما بينهم على أساس القومية القطرية. يمكنك أن تجد أُلفة كذلك مع التركي والإيراني والباكستاني. هذه الظاهرة جديدة وربما صار عمرها الآن ثلاثة أو أربعة عقود، لأنه قبل هذه الفترة، كانت القومية العربية والانتماء للعروبة أقوى بين المهاجرين أو المقيمين. لكن يجب تَفَهُم السياق التاريخي الأوروبي والوضع الاقتصادي هناك، والذي أدى إلى حضور كبير للعرب والمسلمين في أوروبا بالذات. بعد الحرب العالمية الثانية، واجهت أوروبا نقصاً شديداً في الأيدي العاملة نتيجة الأعداد الهائلة من ضحايا الحرب، ولذلك اتجهت إلى فتح باب الهجرة. وأكثر الشعوب التي كانت على استعداد للهجرة هي الشعوب الإسلامية، وبالتالي استقبلت فرنسا أعداداً كبيرة من بلاد المغرب العربي، واستقبلت ألمانيا أعداداً كبيرة من تركيا، واستقبلت إنجلترا أعداداً كبيرة من باكستان والهند وبنجلاديش. كل هؤلاء المهاجرين من دول مسلمة كما هو واضح، لأن أوروبا محاطة بالشعوب الإسلامية من الشرق والجنوب. لقد كانت أوروبا في حاجة إلى أيد عاملة رخيصة لتعويض الفاقد في الحرب العالمية الثانية.
كان هذا يمثل موجة أولى من الهجرة المسلمة إلى أوروبا، والموجة الثانية بدأت في أواخر الخمسينيات وطوال الستينيات من القرن الماضي، وكانت لها أسباب مختلفة. في تلك الفترة، كانت الأحزاب الاشتراكية والنقابات العمالية قوية وفي تفاوض مستمر مع الدول من أجل حقوق وأجور أعلى للعمال. وقد وجد الرأس المال الأوروبي صعوبة في تشغيل عمالة أوروبية نظراً للحماية القانونية والضغوط الحزبية والنقابية هناك، فلم تجد الدول الأوروبية أفضل من العمالة المهاجرة، فهي لا تنتمي لنقابة ولا لحزب سياسي، ولا يشملها قانون العمل ولا تتمتع بحقوق مواطنة، ولذلك فرأس المال الأوروبي كان حراً مطلق اليد تماماً مع هذه العمالة المهاجرة التي كان أغلبها من الدول المسلمة، وبذلك تزايدت أعداد المسلمين المهاجرين منذ ذلك التاريخ.
وكما هو واضح، فإن مشكلة المسلمين في أوروبا هي مشكلة أوروبية خالصة. الأوروبيون يعاملونهم على أنهم مسلمون، وهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم كذلك، مجنبين انتماءاتهم القومية والقُطرية جانباً، وهم كمسلمين في مجتمع مسيحي يجدون أنفسهم تلقائياً منجذبين نحو الهوية الإسلامية، التي تجمعهم بالفعل هناك. وهم باعتبارهم مغتربين، ويشعرون باغتراب فعلي هناك، وتصبح الثقافة الغربية غير قادرة على ضم هؤلاء إلى نسقها القيمي وتحديثهم بالكامل. ولذلك، نندهش من كثير من المسلمين العائدين من أوروبا، عندما نجد أن إقامتهم هناك لم تغير من ثقافتهم التقليدية، بل زادت من إسلاميتهم.
حسن احجيج: كيف استعمل الإسلام السياسي مقولة "الغرب" في عملية بناء هويته الخاصة؟
أشرف منصور: تلقد استعملها بالفعل من أجل تحقيق هذا الهدف، وذلك بـأن ألحق بالغرب الكثير من الأوصاف السلبية، مثل أنه هو الغرب المسيحي/ الصليبي الكاره للإسلام، أو أنه المخطط لمؤامرة دولية هدفها النيل من المسلمين. كل أيديولوجيا هوياتية تنزع نحو خلق عدو لها، عدو هوياتي يقف معها على الطرف النقيض، كي تميز نفسها عنه وتجمع الأنصار بالمعاداة له. لكن موقف الإسلام السياسي من الغرب متناقض ونفعي للغاية. فهو يرفض قيم الغرب لكن يستفيد من إنجازاته العلمية والتكنولوجية. هذا الموقف يؤدي إلى هزيمته فكرياً وثقافياً في النهاية.
حسن احجيج: ما هو تأثير الحداثة والعولمة في إعادة تشكيل هوية الحركات الإسلامية؟
أشرف منصور: إنني أنظر إلى دور الحداثة في تشكيل ظاهرة الإسلام السياسي من منظور مغاير. الحداثة حداثتان: الأولى هي الحداثة الغربية، والثانية هي محاولات التحديث في العالم العربي. فإذا أردنا تناول أثر "الحداثة" في الإسلام السياسي، فيجب التمييز بين الحداثتين بدقة؛ بمعنى أن رد فعل الإسلام السياسي على مشاريع الحداثة العربية شيء، ورد فعله على الحداثة الغربية شيء آخر. من المعروف أن الإسلام السياسي كظاهرة هو رد فعل على فشل الحداثة العربية، لكن ماذا عن الحداثة الغربية، الحداثة الأساس صاحبة القيم والمبادئ الإنسانية والتنويرية؟ الحقيقة، أن هذه الحداثة الغربية تواجه أزمة عالمية، تتمثل في عدم قدرتها على القيام بالوظيفة الاجتماعية في التفاف المجتمعات حول قيمها ومبادئها. والإسلام السياسي رد فعل على فشل الحداثة العربية بالقصد الأول، وعلى فشل الحداثة الغربية بالقصد الثاني.
[1] - مجلة ذوات العدد40