حوار مع الباحث المصري علي مبروك: السيادة والحاكمية في السياقين الغربي والإسلامي
فئة : حوارات
يوسف هريمة: طُرِحَ مفهوم السّيادة في الغرب الأوروبي في القرن السادس عشر من طرف مجموعة من المفكرين كجون بودان وطوماس هوبز في زمن تمكّنت فيه الملكيات المطلقة من بسط هيمنتها على أوروبا خاصة فرنسا وإسبانيا وإنجلترا. حبذا لو يضعنا الأستاذ مبروك داخل هذا السياق التاريخي، حتى نقرأ مسارات تشكّل هذا المفهوم قراءة معرفية.
علي مبروك: انتهى السلام الذي كان قائماً طوال العصور الوسطى الأوروبية على وحدة المعتقد الديني بين رعايا الدولة الواحدة، وبدأ يتشكَّل عالمٌ جديد عرفت الانقسامات الدينية طريقها إليه؛ بحيث تحطمت الوحدة الدينية التي كانت أساس التشكيل السياسي القائم آنذاك. وقد ظهرت هذه الانقسامات الدينية استجابة لتطورات بطيئة (في ميادين الاقتصاد والاجتماع والسياسة والدين والفكر) شهدتها بعض البلدان الأوروبية، وانتهت إلى تحلل النظام الإقطاعي الذي كانت له السيادة على مدى العصور الوسطى. ومن المعلوم أنّ النظام الإقطاعي كان بمثابة الأساس الاجتماعي/الاقتصادي الذي يقوم عليه بنيان الكنيسة الواحدة. وهكذا فإنه يمكن توقُّع أن يكون تحلل الإقطاع مؤدياً إلى تضعضع وحدة الكنيسة؛ بما أدى إلى بزوغ الانقسامات الدينية التي كانت سبباً في اندلاع الفتن والحروب الدينية بين رعايا الممالك الأوروبية، على نحو ما جرى في فرنسا على مدى النصف الثاني من القرن السادس عشر الذي ظهر فيه جان بودان. وإذ ترافق كلّ ذلك مع بدء ظهور الكيانات القومية التي ورثت إمبراطوريات العصور الوسطى الآفلة، فإنّ ذلك يكشف عن كون مفهوم "السيادة" - عند بودان - قد تبلور، بما يحمل من دلالة سياسية محضة، في إطار ما يبدو وكأنه الخروج من عالم العصور الوسطى بكل تمركزاته الدينية واللاهوتية.
فقد ظهرت نظرية "السيادة" لإحلال مبدأ الوحدة السياسية محل الوحدة الدينية. وإذا كانت السلطة الدينية قد انقسمت على النحو الذي ترتب عليه اندلاع الحروب الأهلية، فإنه لم يكن من سبيل لمواجهة هذه الحروب الدموية إلا بفرض مبدأ الوحدة السياسية على الفرقاء المتصارعين، وذلك عبر إخضاع كل رعايا المملكة (بصرف النظر عن تباين معتقداتهم الدينية) لسلطة الملك باعتباره صاحب السيادة المطلقة التي لا تقبل الانقسام، ولا تتسامح مع عدم الخضوع.
وبالرغم من أنّ نظرية السيادة كانت تؤسِّس، هكذا، لسلطة مطلقة لا تقبل التحدي للملك أو العاهل، فإنه لا جدال في أنها قد لعبت دوراً بالغ الجوهرية في الاتجاه إلى "علمنة" السياسة من خلال خلق مجالٍ راحت تقطع فيه مع الدين على نحوٍ كامل. وفضلاً عن ذلك، فإنها قد فتحت الآفاق أمام مبدأ التعدد وقبول الاختلافات الدينية والتسامح معها؛ وبحيث لم تعد الهويّة الدينية للفرد هي المُحدد لحضوره في المجال العام.
يوسف هريمة: بالانتقال إلى السّاحة الفكرية الإسلامية نجد أنّ هناك من الباحثين من يربط مفهوم السيادة بظهور مفهوم موازٍ له وهو مفهوم الحاكمية وسيادة الشرع. كيف تشكل هذا المصطلح في التاريخ المعاصر؟ وهل له امتدادات تاريخية، خاصة وأنّ هناك من يرجعه إلى ظهور مذهب الخوارج في التاريخ الإسلامي؟
علي مبروك: ليس بالإمكان الذهاب بمفهوم "الحاكمية" - بالصورة التي وصل عليها إلى العصر الحديث - إلى الخوارج. فإنهم قد استخدموا مفهوم "الحكم" بمعنى القضاء بين طرفين متنازعين؛ وهو المعنى الذي عرفوه في زمانهم بحسب ما ينطق به الاستخدام القرآني له. ولعل ذلك ما يؤكد أنّ المفهوم قد انبثق فعلاً في إطار التنازع بين طائفتين من المسلمين رأى الخوارج أنه لا مخرج من الاقتتال الدامي بينهما إلا بأن يكون تنازعهما موضوعاً لحكمٍ وقضاء. إنّ ذلك يعني أنهم لم يرفعوا المفهوم ليحاربوا به حكومة يعترضون عليها بأنها لا تحكم بما أنزل الله على نحو ما يفعل الحاملون لمفهوم الحاكمية في اللحظة الراهنة، بل رفعوه إعلاءً لمبدأ التحاكم بين المتنازعين حقناً لدمائهم.
ولهذا فإنه إذا كان لا بدّ من سلفٍ يوجد عندهم مفهوم "الحاكمية" ما يؤسّسه، فإنّ هذا السلف لن يكون الخوارج، بل إنه سوف يكون ابن تيمية؛ وبالذات في نظريته عن التوحيد. والمُلاحظ أنّ هذه النظرية هي الأساس الغائر الذي يتكئ عليه كلّ الذين يرفعون راية الحاكمية. فقد دشّن ابن تيمية ذلك التمييز بين ضربين من التوحيد: أحدهما هو "توحيد الربوبية" الذي يعني الإقرار بأنّ الله هو الخالق والمُدبر والمُحيي والمُميت وغيرها، والآخر هو "توحيد الألوهية" الذي يعني وجوب إفراد الله وحده بالعبادة من دون شريك؛ وبما يترتب على ذلك من وجوب أن تكون الحاكمية لله، لأنّ جعلها لغيره سيكون نوعاً من الشرك به. ولقد كان هذا التصور للتوحيد هو ما تبناه، وعلى نحوٍ كامل، الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب الذين رفعوا جميعاً راية "الحاكمية". يقول المودودي في كتاب "المصطلحات الأربعة" الذي خصصه لهذا التمييز بين نوعي التوحيد: "ألم تر أنه بينما جاء في القرآن أنّ الله تعالى لا شريك له في الخلق وتقدير الأشياء وتدبير نظام العالم (وهو توحيد الربوبية)، جاء معه أنّ الله له الحكم وله المُلك، وليس له شريك فيهما، ممّا يدلّ دلالة واضحة على أنّ الألوهية تشتمل على معاني الحكم والمُلك أيضاً، وأنه مما يستلزمه توحيد الإله (الألوهية) ألا يُشرك بالله تعالى في هذه المعاني كذلك". وهكذا فإنّ "الذي يدَّعي أنه مالك المُلك والمسيطر القاهر والحاكم المطلق بالمعاني السياسية، فإنّ دعواه إذن كدعوى الألوهية". وغنيٌّ عن البيان أنّ سيد قطب قد فعل الشيء نفسه، وأسند "الحاكمية" إلى ما قال إنه "توحيد الألوهية".
وهنا يلزم التنويه بأنّ نظرية ابن تيمية في توحيد الألوهية التي انبنى عليها مفهوم "الحاكمية" إنما تجد ما يؤسس لها، وعلى نحوٍ كامل، في المفهوم الأشعري عن الإنسان باعتباره - حسب نظرية الكسب الأشعرية - مجرد فاعلٍ بالمجاز وليس بالحقيقة. ولعل ذلك ما يكشف عنه أنّ مفهوم الحاكمية يتفرَّع، عند سيد قطب، عن أحد أكثر المفاهيم المركزية في خطابه؛ وهو مفهوم العبودية المطلقة لله وحده. وهو يرى أنّ هذه العبودية تتمثل في أن يكون الإنسان مجرد "مُتلقٍ" في كلّ أحوال وجوده؛ وبما يؤول إليه ذلك من أنّه ليس أهلاً لأن يفكر أو يفعل بذاته. فإنّه يحضر في العالم منفعلاً وليس فاعلاً، ومتلقياً وليس مفكراً. وإذ يبدو هكذا أنّ البشر يحضرون في خطاب الحاكمية، لا بما هم "ذوات" فاعلة ومؤثرة، بل بوصفهم "أدوات" ينحصر دورها في تحقيق خطة جاهزة ومُعدَّة سلفاً (سواء من الله أو غيره)، فإنه ليس من شكٍ أبداً في أنّ هذا النوع من الحضور هو جوهر ما تنتهي إليه نظرية الكسب الأشعري.
ويعني ذلك، بطبيعة الحال، أنّ مفهوم الحاكمية هو بمثابة المآل النهائي الذي تؤول إليه نظرية الكسب الأشعري؛ وبما يترتب على ذلك من أن محاصرة مفهوم "الحاكمية" لن تكون ممكنةٌ حقاً ما لم يتمّ تفكيك نظرية الكسب الأشعري، وبيان ما ينتهي إليه هذا الكسب - عبر نسبة كل ما يصدر عن الإنسان إلى الله بوصفه هو الفاعل له على الحقيقة - من تهديدٍ للذات الإلهية نفسها عبر تحويلها إلى قناعٍ يتخفى خلفه الطغاة والمحتكرون والقتلة بادعاء أنّ كل ما يصدر عنهم من أفعال الطغيان والاحتكار والقتل والنهب هو من الله في الحقيقة، بينما هم مجرد أدواته في إتيان هذه الأفعال البغيضة. ويترتب على ذلك ما لا بدّ من لفت الأنظار إليه من أنّ "الأشاعرة" وليس "الخوارج" هم السلف الحقيقي الذي يمكن الرجوع بمفهوم الحاكمية إليه؛ وبمعنى أنّ ما يؤسس لهذا المفهوم يقوم كاملاً عندهم. وربما كان في ذلك تفسير لحقيقة أنّ فيالق الجهاديين المعاصرين لا تخرج فقط من البلدان التي تسود فيها الحنبلية، بل إنّ قسماً كبيراً منهم، وكذلك قادتهم وفقهاؤهم، ينتسبون إلى بلدانٍ تغلب فيها الأشعرية. وهنا فإنّ الأمر لا يتعلق بالتحول من مذهبٍ إلى آخر، بقدر ما يشير إلى أنّ المذهب الأشعري يبلغ مآلاته القصوى مع هؤلاء الخارجين من عباءته. ولعل ذلك يوجّه إلى ضرورة إعادة النظر في الأشعرية على نحوٍ يمكن معه تجاوز المفارقة التي تجعل الكثيرين يقيمون دفاعهم في مواجهة المقاتلين تحت راية الحاكمية على استدعاء ما يقولون إنّه الاعتدال الأشعري.
وإذ يبدو - والحال كذلك - أنّ الحاكمية - وبالتالي السياسة - تصبح ديناً يكون مطلوباً من الناس أن يتعبَّدوا به الله، فإنّ ذلك يُجلي الفارق الهائل بينها وبين مفهوم "السيادة" الذي طوَّره بودان. حيث يبقى أنه بينما كانت "علمنة السياسة" وفتح الباب أمامها للتحرر من سطوة الدين، هما المآل الذي انتهى إليه مفهوم "السيادة" في سياق الخروج الأوروبي من العصور الوسطى، فإنّ "تديين السياسة" أو حتى تأليهها قد كان - في المقابل - هو المآل الذي انتهى إليه مفهوم الحاكمية في سياق الإسلام المعاصر.
بل إنّ الأمر سيصل، مع جماعات الإسلام السياسي، إلى حد اعتبار السياسة جزءاً من صميم العقيدة؛ حيث "أوجب الله على المسلمين - بحسب قول أحد القادة التاريخيين لجماعة الإخوان المسلمين - أن ينصّبوا عليهم حكومة تقيم فيهم أمر الله وترعاه، ويتعبَّد أفرادها بإقامة الحكم طبقاً لما أنزل الله كما يتعبَّدون بالصوم والصلاة".
يوسف هريمة: أشار عبد الوهاب المؤدب إلى أنّ المودودي هو أول من أرسى قواعد مفهوم الحاكمية وثبته في الحقل السياسي الإسلامي المعاصر، قبل أن ينقله عنه آخرون ليصير مبدأ أصيلاً في العمل السياسي الحركي، خاصة من يسمون بـ"الجهاديين". بنظركم أين مكمن خطورة مفهوم الحاكمية؟ وكيف امتد تأثيره إلى الشرق إذا كانت بداياته آسيوية "باكستان"؟
علي مبروك: لعله بدا أنّ المودودي لم يكن هو الذي أرسى قواعد مفهوم الحاكمية، بل إنها تقوم بعيداً في كلا التراثين الأشعري والحنبلي. ولربما كان المودودي هو الذي أشاع المفهوم، واستخدمه صراحة في الحقل السياسي الإسلامي المعاصر. لكنه يبقى أنه لم يفعل إلا أن وصل بالمقدمات الأولى الراقدة في نصوص الأشاعرة والحنابلة إلى نهاياتها القصوى. وإذا كان المفهوم قد ارتحل إلى العالم العربي لاحقاً، فإنه يمكن للمودودي أن يحتج بأنه لم يفعل في الحقيقة إلا أن ردَّ إلى العرب بضاعتهم بعد أن تخمَّرت في البيئة الهندية في أواسط القرن العشرين. فقد كان المسلمون الهنود يعملون آنذاك من أجل الانفصال عن المحيط الهندوسي الهائل، والاستقلال بدينهم في دولة لا مجال لتمييزها إلا بهويتها النقية. وهكذا فإنّ المفهوم قد تبلور في إطار هوياتي يسوده السعي إلى الخروج من هويّة إلى أخرى. وإذ كانت الهويّة التي ينسلخ المسلمون الهنود منها هي ذات طابع قومي، فإنه لم يكن أمام الهويّة البديلة إلا أن تكون ذات طابعٍ ديني محض. ويعني ذلك أنّ مفهوم الحاكمية قد تبلور في إطار تحول الدين إلى هويّة؛ وهي تجربة فريدة عاشها المسلمون الهنود ولم يكن لها ما يماثلها في العالم العربي الذي ارتحل إليه المفهوم. وبالطبع فإنه حين تقرر جماعة ما أن يكون الدين هو بمثابة الهويّة التي تميز بها نفسها، فإنّ انشغال هذه الجماعة سوف ينصرف إلى استبعاد كلّ ما يهدد النقاء الخالص لهذه الهويّة؛ وبما يفسر أنّ "الإقصائية" سوف تكون هي محور تفكيرها كله.
وإذا كان مفهوم الحاكمية قد تبلور - والحال كذلك - ضمن سياق هوياتي إقصائي ومنغلق كما تبين عنه تجربة المودودي، فإنّ ذلك هو ما يؤسس لخطورته الهائلة التي تتبدى في حقيقة أنه لا يقدر أن يشتغل إلا على نحوٍ دمويٍ وقتالي. ويرتبط ذلك بأنّ المسكونين بهاجس الهويّة النقية لا يتوقفون عن رؤية الآخر - الذي هو كل من لا يشاركهم هويتهم - كتهديدٍ لا بدّ من القضاء عليه والتخلص منه. ومن هنا ما سيتبناه كل أصحاب هذا الهاجس الهوياتي المغلق من منطق المفاصلة والاستعلاء الذي سيتطور عند سيد قطب بالذات؛ وإلى الحد الذي سيكون معه العالم بأسره هو العدو الذي لا بدّ من إخضاعه ومحاربته من أجل أن ترتقي جماعته المسلمة إلى حيث ينعقد لها لواء الأستاذية عليه. وغنيٌّ عن البيان أنّ هذه هي الإيديولوجيا التي تصطف فيالق الجهاديين تحت بيارقها، وهم ينشرون الخراب والفوضى في سائر البقاع.
يوسف هريمة: يرى المودودي في كتابه "تجديد الدين وإحياؤه" أنّ التجديد الديني هو "تطهير الإسلام من أدناس الجاهليّة، وجلاء ديباجته حتّى يشرق كالشّمس ليس دونها غمام". كيف استطاعت نظرية تجهيل المجتمعات التي تبناها المودودي أن تولد عنفاً تجاه كلّ المكتسبات الإنسانية حتى سمّى بعضهم كتاباته بجاهلية القرن العشرين.
علي مبروك: يلزم التنويه بأنّ مفهوم "الجاهلية" يندرج مع مفهوم "الحاكمية" في إطار النظرية ذاتها التي تميّز في التوحيد بين "توحيد الربوبية" و"توحيد الألوهية"؛ بمعنى أنّه إذا كانت "الحاكمية" هي بمثابة النتيجة القصوى التي ينتهي إليها "توحيد الألوهية"، فإنّ "الجاهلية" تنشأ عن وقوف المرء عند الإقرار بتوحيد الربوبية وحده. فإنّ ثمة الإلحاح عند كل أصحاب هذه النظرية في التوحيد على أنّ الكفار من أهل الجاهلية لم يكونوا، على زمن النبي، منكرين للتوحيد بالكليّة، بل إنهم كانوا يقرّون بنوعٍ واحدٍ منه فقط هو "توحيد الربوبية". ولكنّ هذا الإقرار لم يكن كافياً وحده لإدخالهم في الإسلام، ولهذا فإنّ النبي قد قاتلهم واستحل دماءهم وأموالهم. ويعني ذلك بالطبع أنهم لا يعتبرون "توحيد الربوبية" كافياً لإخراج القائل به من درك "الجاهلية"، وقطعوا بأنّ "توحيد الألوهية"، وبكل ما يترتب عليه من النتائج والمآلات، هو المُحدد الأوحد للدخول في الإسلام.
ولقد كان ذلك هو الأساس الذي بنى عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالذات اعتبار عامة المسلمين في عصره كفاراً ومشركين مرتدين كأهل الجاهلية الأولى. ومن المعلوم أنه قد رتّب على ذلك جملة أحكام تتعلق بوجوب قتالهم واستحلال دمائهم وأموالهم؛ حيث إنّ الله قد شرع الجهاد من أجل هذه المسألة بالذات (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله). فإذا هي الجاهلية والكفر، فإنه لا شيء يقوم في مواجهتها إلا القتال والحرب، ولا سبيل أبداً إلى الحوار والتعايش المشترك مع المختلف حيث لا يحضر الفرد في هذه السردية إلا بهويته الدينية وحدها. فإمّا أن يكون المرء مسلماً فيكون دمه حراماً، أو يكون كافراً من أهل الجاهلية ولا بدّ من دحره والقضاء عليه. وهنا يلزم التنويه بأنّ وصف المسلم لا ينطبق - عند هؤلاء - إلا على أولئك الذين يدخلون في دائرة من سيجري الاصطلاح على أنها "الجماعة المسلمة" التي يقرّ أفرادها بتوحيد الألوهية بكل ما يترتب عليه من مفاهيم الحاكمية والعبودية والجاهلية وغيرها من المفاهيم ذات الطبيعة التأسيسية في خطاب الجماعات الجهادية. وإذ يحيل اختصاص أفراد "الجماعة المسلمة" وحدها بالإسلام إلى إخراج "المسلمين" من غير أعضاء هذه الجماعة من الملة، فإنّ ذلك هو ما سيؤسس لما درجت عليه هذه الجماعات من اعتبار المجتمع "جاهلياً" يجب - على قول قطب - أن "نستعلي عليه... فليست مهمتنا أن نصطلح مع هذا المجتمع الجاهلي، ولا أن ندين بالولاء له، فهو بهذه الصفة، صفة الجاهلية، غير قابلٍ لأن نصطلح معه"، بل أن نحاربه.
وإذن فإنّ الحكم على المجتمعات بالجاهلية والكفر يرجع إلى تاريخٍ سابقٍ على القرن العشرين، ولم يكن المودودي هنا أيضاً إلا مجرد مُستأنفٍ لهذا التاريخ الضارب من تشريع استحلال الدماء والأموال.
يوسف هريمة: يعتمد مفهوم الحاكمية على مفهوم آخر وهو الخلافة. فالخليفة ليس سوى نائبٍ عن الله أو رسوله كما تثبته مدونات الفقه السياسي الإسلامي في هذه الأرض، يقيم شرعه، ويطبّق حدوده، وينشر دينه بين النّاس، بما تقتضيه هذه الخلافة من مواصفات النِّيابة عن الله في الأرض. وهي الفكرة نفسها التي أشار إليها مارسيل غوشيه في حديثه عن السّلطة في أوروبا في القرون الماضية حيث كانت منزَّلة من عند الآخر، كانت تهبط من فوق، وتفرض نفسها من فوق إرادة البشر. كيف تنظرون إلى هذا المفهوم، ونحن على أبواب أحداث تعيد صياغة سؤال دولة الخلافة من جديد؟
علي مبروك: فيما يخصّ الخلافة، فإنه يلزم التمييز بين الخلافة كمؤسسة تاريخية ذات وجودٍ متعيِّن (بدأ بالراشدين بعد وفاة النبي الكريم وانتهى بالعثمانيين في نهايات الربع الأول من القرن العشرين)، وبينها في تصور جماعات الإسلام السياسي كشرطٍ ضروري لازم لإقامة العقيدة، بل وحتى طقوس العبادة. فإنّ الكثير من الواجبات الشرعية يتوقف على إقامة الخلافة؛ وإلى حد ما ذهب إليه "شكري مصطفى" مؤسس جماعة "التكفير والهجرة" التي نشطت في مصر في سبعينيات القرن الماضي، الذي قال بتعطيل صلاة الجمعة طالما أنّ جماعته المسلمة لم تحقق "التمكين" السياسي الذي لا معنى له إلا إقامة الخلافة. وانطلاقاً من قاعدة أنّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ أيضاً، فإنّ قيام الخلافة كان لا بدّ أن يصبح واجباً دينياً باعتبار أنّ إقامة الدين (عقيدة وشريعة وعبادة) لا يمكن أن يتحقق من دون قيامها. وهكذا فإنّ الخلافة قد تحولت في تصور دعاة الحاكمية إلى أصلٍ من أصول الدين؛ وبما يؤدي - وللغرابة - إلى وضعهم تحت المظلة نفسها التي يقف تحتها الشيعة القائلين إنّ الإمامة من أصول الدين. وتتأتى الغرابة هنا من أنّ كلّ دعاة الحاكمية هم من ذوي الميول السلفية التي تدخل بهم في دائرة التقاتل مع الشيعة؛ وهو التقاتل الذي يكاد يعصف بالعالم العربي في هذه الآونة. وبالطبع فإنّ ذلك يعني أنّ الخلافة عند دعاة الحاكمية لا علاقة لها بتلك المؤسسة التاريخية التي عرفها المسلمون لقرون عديدة.
وللغرابة فإنه يبدو أنّ مفهوم دعاة الحاكمية عن الخلافة لم يكن ليتبلور إلا كنتاجٍ لعصر الحداثة. فإنّ سؤال الدولة والخلافة لم يكن ليفرض نفسه بهذه الحدة إلا عندما بدا أنّ هناك عالماً جديداً قد بدأ في التخلُّق في العالم الإسلامي مع لقائه بالحداثة الأوروبية، وأنّ المسلمين في حاجة إلى قواعد جديدة لضبط مجالات الاجتماع والسياسة تتجاوب مع ما يشهده واقعهم من تحولات لم تعد القواعد الموروثة قادرة على استيعابها. وفي مواجهة هذه الموجة فإنه قد جرى تديين قواعد الاجتماع والسياسة واعتبارها من صميم الإسلام؛ ومع التجاهل الكامل لحقيقة أنّ معظم هذه القواعد، إن لم تكن كلها، هي ذات أصلٍ تاريخي، لا ديني. وبالطبع فإنه كان لا بدّ أن يستتبع ذلك وجوب النظر إلى الدولة لا كأداة للتدبير السياسي للمجتمع، بل بوصفها ضرورة لازمة لتفعيل قواعد الضبط المُعتبرة من الدين. ومن هنا تحديداً ابتداء النظر إلى المسألة السياسية، في الإسلام السني، باعتبارها الشرط اللازم لإقامة الدين.
ولعل ذلك يحيل إلى وجوب إعادة المراجعة المتأنية، وبعيداً عن الأحكام المُعممة الشائعة، للكيفيات التي جرت من خلالها عمليات التفاعل بين الإسلام والحداثة ابتداءً من القرن التاسع عشر. حيث يبدو أنّه لا سبيل لفهم المسار الذي مضت فيه عمليات تسييس الإسلام (التي بدأت مع الأفغاني وتواصلت مع رشيد رضا وانتهت إلى حسن البنا) بعيداً عن تلك التفاعلات. حيث يبدو - وللغرابة - أنّ الحداثة هي التي جعلت من الخلافة ديناً وعقيدة بعد أن كانت تاريخاً وسياسة.