حوار مع الدكتور حميد لشهب: حول كتاب "ما وراء الغرب..." لشتيفان فايدنر
فئة : حوارات
حوار مع الدكتور حميد لشهب:
حول كتاب "ما وراء الغرب..." لشتيفان فايدنر
"إلا أن هناك، حسب فهمنا المتواضع لمشروع فايدنر، خيطاً ناظماً بين أوراش الكتاب، يتمثل باختصار في عرض طريقة جديدة للتعامل مع الإرث الغربي فكرياً وسياسياً وثقافياً وأيديولوجياً إلخ. وكان هذا بالخصوص ما أقنعني بترجمة هذا الكتاب؛ لأنه إضافة نوعية لفهم علاقة الغرب بدوائر ثقافية مختلفة"
المترجم د. حميد لشهب
ولد حميد لشهب سنة 1962 بقرية مطماطة ضواحي تازة- المغرب. يقيم في النمسا منذ أكثر من خمس وعشرين (25) سنة، حصل على درجة دكتوراه في الفلسفة، علوم اللغة والتواصل وعلوم التربية، تخصص علوم التربية، من جامعة ستراسبورغ الفرنسية عام 1993، كما حصل على دبلوم الدراسات المعمقة، عام 1989 من الجامعة نفسها. حصل على عدة جوائز، وشغل مناصب عديدة في النمسا، وله إسهامات كثيرة. له أكثر من 10 مؤلف، وما يتجاوز 15 ترجمات من الألمانية للعربية.
عبد السلام شرماط: الدكتور حميد أهلا بك في هذا الحوار
حميد لشهب: تحية طيبة د. عبد السلام.
عبد السلام شرماط: صدر لك كتاب قمت بترجمته مؤخرا من اللغة الألمانية إلى اللغة العربية، ونشرته دار مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع هذا العام (2023)، ما الصعوبات التي واجهتها في هذه الترجمة؟
حميد لشهب: كل ترجمة هي في العمق تحد قائم بذاته، ومن يقول التحدي، يقول أيضا صعوبات، على المرء التغلب عليها وتجاوزها. فيما يخص هذا الكتاب، كنت أعرف مسبقا بأن المؤلف شتيفان فايدنر يقرأ ويكتب بالعربية، وكان هذا بمثابة السهم الموجه لترجمتي، لتكون في المستوى وأكثر بقليل. ومن الصعوبات المرتبطة بهذه النقطة هناك طريقة كتابة المؤلف، وهي طريقة خاصة للغاية، لربما أسميها كفاءة التحكم الكبير في اللغة الأم (الألمانية)، التي سمحت له اللعب بالكلمات والمصطلحات، وإجبارها على البوح بأسرارها، وإنتاج نص أصيل لغة ومضمونا.
التجأ السيد فايدنر أيضا إلى طريقة لم نعهدها عامة عند الكتاب الألمانيين، الذين يشتغلون على العموم بطريقة نسقية، طبقا لتصميم محكم نسبيا لمواضيع دراساتهم. يظهر المؤلف في كتابه هذا كمهندس بناء (وهذه صعوبة لا يستهان بها لأي مترجم)، اهتم بدءًا بضمان قاعدة/أساس متين لبنائه، ثم تيقن من سواريه، بعدها أطلق العنان لموهبة الإبداع في الفصول أو الأجزاء الأربعة لكتابه، والتي يمكن للقارئ قراءتها باستقلال عن بعضها، لكن الخط الناظم لها هو اقتراح طريقة جديدة للتعامل مع الإرث الغربي في تعامله مع تراث شعوب وثقافات أخرى.
عبد السلام شرماط: ما دور الترجمة في النهوض بالوعي العربي؟
حميد لشهب: الترجمة مهمة لكل الثقافات دون استثناء؛ لأنها تفتح أبوابا ونوافذ غير معهودة في ثقافة معينة، وتساهم في تلاقح وتكامل الثقافات، ومن تم البشرية جمعاء. فيما يخص وعينا العربي، ونظرا لظروفه التاريخية، وبالخصوص استدامة استعماره من طرف الثقافة الغربية لقرون طويلة، فإنه لم ينجح بعد في تحقيق نهضته المنتظرة، رغم محاولات كثيرة من طرف مفكريه. ولعل سبب هذا هو أنه: إما أن هذا الوعي يتشبث بعُمَى بماضيه السحيق، وإما يرمي بهذا الأخير جانباً ويلهث وراء الغرب، متوهما إحداث النهضة الغائبة. وفي كلتا الحالتين، لا يكون الطريق صحيحا، وحتى محاولة التوفيق والتوليف بين الموقفين لن تؤدي إلى أي نتيجة. المطلوب في نظري، وهذه أطروحتي الرئيسة، هي التعرف على الاثنين، فهمهما، هضمهما، ثم تجاوزهما لشيء جديد، للوصول إلى مستوى الإبداع وليس اجترار ما نستهلكه. ودون مغالاة، يقترح فايدنر مسربا للوصول إلى مثل هذا الإبداع؛ لأنه هضم إرثه الثقافي، واطلع على ثقافات أخرى كثيرة.
عبد السلام شرماط: كتاب "ما وراء الغرب من أجل تفكير كوني جديد" هو كتاب يناقش المركزية الغربية، وإعادة النظر في العلاقة بين الغرب وحضارات أخرى، هل غايتك من ترجمة هذا الكتاب هي دعوة القارئ العربي إلى إعادة النظر في تعامله مع الغرب (لا نشيطنه ولا ننخرط في ثقافته بعماء)؟ وبالتالي ما حدود الوطني والكوني في هذا الكتاب؟
حميد لشهب: لهذا السؤال علاقة وطيدة بالجواب الأخير. الجميل في الكتاب هو أن الكاتب تحرر إلى حدود بعيدة من إرثه الغربي، بعدما وعى أنه لا يصلح لكل الفضاءات الثقافية في العالم، بل هو إرث له ظروف نشأته وميولات هيمنة. وما حفزني لترجمة هذا الكتاب، هو أنه يدخل بالكامل في تقليد غربي، بقي باهثا، لأسباب لا حصر لها، نجده حاليا مثلا عند شومسكي وهانس كوكلر وإيريك فروم وأتباعه، وآخرون - لكن أقلية-، انتبهت إلى نتائج الغطرسة الغربية، ووعت أنها نابعة أيضا من تنظيرات فكرية وفلسفية معينة، حتى عند من يُعتبرون كبار الفلاسفة والمفكرين من قبيل غوتي، وماركس، وهيجل، وكانط نفسه، لذكر الجناح الجرماني فقط. هذا التخلص من المركزية، هذه الطريقة النقدية الواعية، قد تساهم في مساعدتنا على التخلص من شائبتين في فكرنا "المجروح": الاعتزاز بماضينا الثقافي والحضاري، وهو اعتزاز يعتبر أيضا نوعا من المركزية، واعتبار هذا الماضي المرجع الوحيد لنا. والارتماء في أحضان الثقافة الغربية، دون وعي نتائج هذا الإرتماء الأعمى، الذي ينتهي في غالب الأحيان بالتغريب والإستلاب، وهذا يحجب فهم الأمور كما ينبغي أن تفهم. من هذا المنطلق، بالفعل، فإن هذا الكتاب هو دعوة للوقوف بين الاثنين، وفهمهما معا، والاستفادة منهما؛ وهذا عمل شاق للغاية، لكنه ضروري.
كإجابة على الشطر الثاني من السؤال، أقول إن فايدنر اهتم بالكوني في هذا الكتاب، بعدما استوعب ثقافته الوطنية والغربية عموما. ودون هذا الاستيعاب، لا يمكن لاقتراح ما هو كوني أن ينجح؛ بمعنى أن الكوني يمشي يدا في يد مع القومي، وكأن لسان حال شتيفان يقول: لابد أن تندمج الثقافة الغربية في الثقافة العالمية، وليس العكس. وهكذا فهمت الشطر الأول من الكتاب: "ما وراء الغرب"، الذي لا يعني تجاوز الغرب جملة وتفصيلا، بقدر ما يعني فتح آفاق واسعة لهذا الغرب ليدخل في حوار مسؤول وبناء مع الحضارات والثقافات الأخرى، بُغية بناء سلم عالمي دائم، على أسس التضامن والتآزر بين الأمم، وليس بإشعال الفتن والحروب، باستعمال القوة العسكرية، والإبقاء على زوبعة الحروب مشتغلة.
عبد السلام شرماط: يقول فايدنر: "أصبح التنوير محرّكاً أساسياً لتحريك الأرجوحة في تجاه التطوير: من جهة بذل كل جهده لكي يشعر الإنسان أنه في وطنه على الأرض، وحرره من الخرافات وفتح الطبيعة له. ومن جهة أخرى، فقد أبعده عن الطبيعة، وربما أيضاً عن نفسه"، في نظرك كيف أصبح يعيش الإنسان في ظل هذا التحول؟
حميد لشهب: فَتَحَ االتنوير، الذي أعتبره لحظة خاصة في تاريخ الغرب، له خصوصياته البيئية والثقافية والاجتماعية والسياسة، آفاق شاسعة للعقل البشري وحرره من إكراهات، كانت تعوق تطوره. اشتغل على موضعة الإنسان في الكون، إلى درجة أنه اعتبره مركز هذا الأخير، وسَخَّر له الأدوات والسبل ليبسط نفوذه، ليس فقط على الطبيعة، بل وأيضا على شعوب أخرى، فيما يسمى حركات الاستعمار وتقسيم الدول الضعيفة بين الدول القوية. وتشخيص الأستاذ فايدنر نابع بالخصوص من معطيات واقعية؛ لأن عملية استغلال الطبيعة لصالح الإنسان، أو لنقل بصريح العبارة لصالح معامل التصنيع والإنتاج الاستهلاكي، أدت إلى نوع من تغريب الإنسان، الذي لم يعد يعرف من الطبيعة إلا ما تقدمه له الإحصائيات المتعلقة بما تجود عليه من خيرات لتغذيته وتشغيل عجلة التصنيع. وهنا يلمس المرء الانزلاق الذي حدث للإنسان: أصبحت الطبيعة المصدر الرئيس للتصنيع، وأصبح الهدف الأسمى لهذا الأخير هو إنتاج كل ما يمكن إنتاجه بكميات اختفى فيها منطق العرض والطلب، بل حتى ما إذا كان المنتوج موجه لتغطية حاجيات البشر الأساسية أو الثانوية. فالتصنيع أدى إلى تسريع عجلة الاستهلاك، الذي أصبح حاليا نمط حياة في حد ذاته، أغرق السوق العالمية بمنتوجات يتساءل المرء في الكثير من الأحيان ما الفائدة منها. وبهذا ركز الإنسان على اللهث وراء الاقتناء والاستهلاك بكل الوسائل، وأدى هذا إلى ابتعاده عن أخيه الإنسان (هشاشة العلاقات الاجتماعية) وعن الطبيعة (غض النظر عن المشاكل البيئية)، وانتهى المطاف بقلب معادلة مقولة ديكارت: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، لتصبح: "أنا أستهلك إذن أنا موجود". ساهم الاستهلاك بالكاد في تشييء الإنسان، واعتباره بضاعة/شيئا يمكن بيعه وشراؤه والتصرف فيه كما يريد التصنيع والمؤسسات المالية، بإغراقه في نمط استهلاك أعمى. أصبح الإنسان في معظم الدول الغربية عبداً لعمله وللأبناك: لـ "يَنْعَمَ" بالاستهلاك عليه أن يشتغل، لكن ماهيته لا تكفيه، عليه أن يقترض ليشتري بيتا أو شقة للسكن، وسيارة، ويتمتع بعطلة الشتاء (التزحلق على الجليد) وعطلة الصيف (الشاطئ)، بل أصبح يقترض لشراء أتفه الأشياء، لاقتناء منتوجات لا يحتاجها. ويقود هذا إلى الاكتئاب، سواء اكتسب المرء ما يريده أم لا، ومن المعروف أن الاكتئاب هو اضطراب نفسي، ارتفع معدل المصابين به إلى مستويات خيالية، ومن تم يمكن الحديث عن استلاب الإنسان الذي أصبح غريبا عن ذاته.
عبد السلام شرماط: مما جاء في قولك: "وضع فايدنر الأصبع على العديد من تمظهرات الغطرسة الغربية تجاه الآخرين، وبالخصوص على الصعيد الفكري، الذي يُعدّ بحق أساس بناء الغرب لهيمنته وإقصائه للآخرين"، هل هذا يعني أنك توافق فايدنر في طروحات؟
حميد لشهب: لا أوافقه فقط، بل أعي جيدا، بحكم غطسي المبكر في الفكر الغربي، وتعاملي معه بمنظور ابستيمولوجي نقدي حذر، لا أقبل المعروض علي، إلا بعد فحصه والتيقن من حسن نية منطلقاته وأسسه. وقد خصصت شخصيا لهذا الأمر ثلاثة كتب، بل تتبعت في واحد منها فكرة الأبرتهايد، وكيف بُنيَت فكريا، وساهم فيها العديد ممن نعتبرهم "فطاحلة" المفكرين الغربيين مباشرة. فالميول الإقصائية العنصرية في الفكر الغربي حاضرة بقوة، نلمسها في الفكر الحداثي مع كانط وأتباعه، بمن فيهم هيجل وآخرون، كما نجدها في التنوير الغربي برمته وفي المدارس الفلسفية الغربية الكبرى بدرجات متفاوتة. وقد ذكر فايدنر العديد من هؤلاء المفكرين والفلاسفة، بل حلل بعض ما جاءوا به في هذا الإطار. فالفكر الغربي المتحرر، الإنساني، الديمقراطي، المسالم إلخ، يحمل في ثناياه أيضا -للأسف- هذا الجانب المظلم والإقصائي. وقد تحدث الباحث فايدنر على رأس اليانوس هذا بما فيه الكفاية في كتابه.
عبد السلام شرماط: قدم فوكوياما تصوره للعالم في قوله: "ستظهر الإنسانية على شكل موكب طويل من العربات المنتشرة على طول الطريق"، كيف تعامل فايدنر مع هذا التصور؟ وما رأيك فيه؟
حميد لشهب: من بين المواضيع الحساسة التي تطرق لها فايدنر هو موضوع "صراع الحضارات"، وهو تصور نابع من "نشوة" انتصار ما يسمى بالديمقراطية الليبرالية. والنتيجة المهمة، في نظرنا، التي يقدمها فايدنر في هذا الموضوع، هو تأكيده على أن هذا النموذج، ينخر نفسه بنفسه من الداخل، وبالخصوص بـ "استحواذ" اليمين المتطرف عليه واستغلاله لتحقيق أهدافه السياسية والأيديولوجية، المتمثلة أساسا في اختيارات إقصائية لكل ما يعتبر غير غربي (تقوية المركزية الغربية) وتقوية النزعة الاستعمارية والرغبة في طحن الآخرين.
هناك مسرب من الأهمية بمكان عرى عنه فايدنر، وهو المسرب الذي قاد فوكوياما لأطروحته السالفة الذكر، معتمدا أساسا على ألكسندر كوجيفAlexandre Kojève (1902-1968)، وبالخصوص على تأويله لهيجل، وهو تأويل أثر في أسماء فلسفية وفكرية غربية وازنة: سارتر، ليفيناس، دريدا، فوكو، لاكان، ريموند آرون، أرندت، جادامير، كارل لويث، ليو شتراوس، كارل شميت وغيرهم. باختصار شديد، قدمت نظرية فوكوياما قناعة كون المجتمع العادل، غير مرغوب فيها في النظام الديمقراطي الليبرالي، لأن هدف هذه النظرية هو تركيز السلطة في يد نخبة بيضاء.
أعتقد أن طريقة تعرض فايدنر لفوكوياما، بربطه بترسانة من الأفكار التي أسس عليها فكرة "صدام" أو "صراع" الحضارات، وفكرة "نهاية التاريخ"؛ هي طريقة أصيلة في جوهرها، تفتح المجال لفهم عميق لمنطلقات فوكوياما، في إطار مناخ فكري لا يؤمن إلا بنفسه ولا يعترف إلا بذاته. وكالبصلة، قَشَّر فايدنر فكر فوكوياما في هذا الإطار، وعرَّى على البعد الأيديولوجي له بالكثير من الدقة والعمق.
عبد السلام شرماط: ورد في الكتاب المترجم: "إن تمثل العالم المسمى بـ"الغرب"، لا يستمد قوته في الإقناع بالبيانات الواقعية حول العالم الخارجي، حول "حقائق السياسة العالمية"، ولكن من حقيقة أنه هو نفسه ينتج الواقع الذي يؤكده"، على ضوء هذا الكلام، كيف تقيّم إيديولوجية الغرب؟ وهل يحق للإنسان استثمار حس نقدي تجاهها؟
حميد لشهب: إلى حد الساعة، فإن الغرب هو المهيمن اقتصاديا وعسكريا وسياسيا؛ يعني أنه يتربع على سلطة تسيير العالم كما يحلو له منذ ما يناهز 10 قرون، إذ افترضنا سقوط الأندلس كنقطة بداية. لم تكن هناك قوى أخرى تنافسه، بقدر ما احتدم التنافس بين ملكياته وإقطاعياته، ونشبت حروب كثيرة في أوروبا، غيرت خارطتها، كما غيرت خارطة الكثيرة من البلدان التي غزتها واستولت عليها، لكن بعد الحرب العالمية الثانية، استطاع الغرب الوصول إلى حد أدنى من الاتفاق، الذي سمح له ببسط نفوذه على العالم، برئاسة الولايات المتحدة. طورت الدول الغربية أيديولوجية هيمنتها بفوهات المدفعية (حلف الناتو)، وليس بالإقناع؛ وعززتها بفرض ما يسمى عبثا مؤسسات عالمية كمنظمة الأمم المتحدة، التي ترى بشهادة الكثير من المنظرين الغربيين أنفسهم أداة طيعة في يد الغرب، والبنك الدولي، والمحكمة الدولية بلاهاي وغيرها كثير. كما غذَّت هذه الإيديولوجية سيطرتها بخرافات دفاعها على تحقيق الديمقراطية في دول خارج حدودها، وتطبيق مبدأ العدل لحل النزاعات بين الدول إلخ. ونرى حاليا الطريق المسدود الذي قادت هذه الأيديولوجية الغرب له، ومدى الكراهية والرفض المُعلن عنهما من طرف شعوب المعمورة لهذه الأيديولوجية. وقد ساهمت أحداث عالمية بعينها في هذا، لكنها كانت أيضا نتيجة تفطن الكثير من المفكرين الغربيين الشرفاء إلى خطر هذه الأيديولوجية، على الشعوب الغربية نفسها، وفي هذا الإطار يدخل كتاب السيد فايدنر "ما وراء الغرب". فالنقد واجب على كل مفكر حر، يؤمن بمبادئ يستفيد منها الجنس البشري ليعيش جنبا إلى جنب، في سلام واحترام وتكامل. وعندما يأتي هذا النقد من داخل الغرب نفسه، فإنه يتمتع بقيمة إضافية، تتمثل في فتح عيون الشعوب الغربية على سياسات حكوماتها، التي تقودها إلى الهاوية، وتساهم في "كراهية" الشعوب الأخرى لها. وقد نضج هذا الوعي النقدي عند الكثير من المفكرين الغربيين في بداية هذه الألفية، وهو مناقض تماما لمواقف مفكري الحداثة والتنوير الغربيين، كما أشرنا.
عبد السلام شرماط: هل النقد قادر على جسرنة الحوار والتواصل بين الغرب والثقافات الأخرى؟ وهل الديمقراطية قادرة، في ظل التحولات التي يشهدها العالم، على ضمان كرامة الإنسان وحريته؟
حميد لشهب: النقد، إن كان مبنيا على النية الحسنة، يعني تقويم الإعوجاج الذي حصل في علاقة الطرفين، وهو اعوجاج يساهمان فيه معا، كل بطريقته وبنسبة معينة؛ هو حجر الأساس لبناء جسور الحوار بين الثقافات. والنقد هو طريقة تواصل، له مبادئه ومبرراته وأهدافه، وهو تواصل، إن كان متوازنا ومرغوبا فيه من الطرفين، قد يقود إلى تأسيس أرضية مشتركة، لبداية حوار، يراعي مصالح الجميع، وليس فقط مصلحة جهة معينة، كما هو معمول به حاليا. أنا آسف جدا، إن قلت إن الديمقراطية، كما هي ممارسة حاليا من طرف الغرب، تأتي بنتائج عكسية في الدول التي "يُصدرها" لها الغرب؛ لأن نية الغرب غير شريفة بإيهامه برغبته في دمقرطة الدول الضعيفة. وقد أصبح هذا جليا في الآونة الأخيرة في بعض الدول الإفريقية، التي تحاول الاستقلال الفعلي من الدول الإمبريالية، كفرنسا مثلا. فالديمقراطية المفروضة على شعوب أخرى، استغلت لاستغلال هذه الشعوب، بفرض حكام عليهم، أسسوا ديكتاتوريات حقيقة في بلدانهم، باسم الديمقراطية. من هذا المنطلق، فإن الديمقراطية أساءت في الواقع الملموس بكرامة وحرية الشعوب خارج الغرب، في إفريقيا وآسيا وجنوب أمريكا.
عبد السلام شرماط: من خلال كتاب "ما وراء الغرب..." كيف تنظر إلى شتيفان فايدنر، هل هو أكاديمي، مستشرق أم مترجم معجب بالثقافات غير الغربية؟
حميد لشهب: السيد شتيفان فايدنر هو ظاهرة فكرية ألمانية بامتياز، يجسد المفكر الجرماني المثالي، الذي يعيش طبقا لقناعاته الفكرية، وتوجهاته الإنسانية الخيرة. قد أضعه في خانة مفكرين مثل شوبنهاور وإريك فروم؛ لأنه لا يجتر ما تعلمه في الكتب وعلى مدرجات الجامعات، بل يعبر عن آرائه بجرأة وشجاعة فكرية كبيرين، وباحترام تام لأدبيات الإقناع. هو أكاديمي من طينة أخرى، لا يعتمد في تأسيس نصوصه وبراهينه فقط على أمهات الكتب، الراقدة في مكتبات الجامعات والمدن الكبرى الألمانية، بل ينغمس فيزيقيا أيضا في ثقافات شعوب أخرى، بحضوره الجسدي في بلدان مختلفة: الدول العربية، الهند، تركيا إلخ. في مشاريع عمل فكرية بمساهمة أبناء هذه البلدان.
لا أعتبر السيد فايدنر مستشرقا بالمعايير الكلاسيكية للمصطلح، بل هو مهندس جسور التواصل بين ثقافات شعوب كثيرة، بهدف وضع لبنات حوار بناء ومسؤول بين هذه الثقافات. من خلال اطلاعي على كتب أخرى له، قد أجزم أن للثقافة العربية أهمية خاصة عنده، ليس من باب الافتتان السلبي بها، الذي يُعمي البصر والبصيرة (كما يحدث في القصص الغرامية)، بل من باب حب استطلاع فكري، ورغبة في إطلاع أبناء وبنات جلدته على جزء من الثقافة العربية، وتشهد على هذا ترجماته من العربية إلى لغته الأم، الألمانية.
عبد السلام شرماط: كلمة أخيرة.
حميد لشهب: أعترف أنني أجلت ترجمة نصوص أخرى لظاهرة جرمانية فكرية وفلسفية أخرى، كنت بصدد اختيار نصوص لها؛ عندما لاحت في الأفق ترجمة "ما وراء الغرب". عندما اتصل بي ذاك الوجه الوديع، لمسؤول في مؤسسة مؤمنون بلا حدود، وسمعت اسم "فايدنر"، وجدت نفسي في مدينتي فاس، الذي خصص لها فايدنر كتابا، كنت قد حصلت عليه كهدية من طرف جهة معينة، في مدينة فاس نفسها. عندما اطلعت على الكتاب، شعرت بنوع من المسؤولية لقبول ترجمته، وتجنيد كل طاقاتي اللغوية والفكرية، لتكون الترجمة في مستوى الشخصية والمؤسسة؛ لأنه يدور في فلك اهتماماتي الترجمية، ذلك أنني أختار بعناية فائقة ما أترجمه، ويصب في وادي التعرف الموضوعي على الغرب، دون رفضه المبدئي أو التهريج المجاني لفكره وثقافته، الذي يقودنا إلى الاستلاب.
بحكم أن الكثير من الترجمات في الميدان الفكري والفلسفي بالخصوص، تحظى بتشجيع بعض الدول الخليجية، -أتورع عن ذكر أسماء-، ولأنني أعرف أن المؤسسة الناشرة تشارك في معارض الكتب لأغلبية دول الخليج، فإنني أعتبر هذه الترجمة مساهمة متواضعة لتعزيز مبدأ التعرف على الآخر، الغربي؛ ليس للاستهلاك الفكري السلبي، بل بتربية مبدأ حب الاستطلاع عند المثقف العربي، وبالخصوص الجيل الشاب منه، لنكمل معرفتنا بالآخر، حتى يستنى لنا بناء وعي متكامل بضرورة التكامل وليس التناحر.