حوار مع الدكتور صابر مولاي أحمد


فئة :  حوارات

حوار مع الدكتور صابر مولاي أحمد

حوار مع الدكتور صابر مولاي أحمد

*- صابر مولاي أحمد كاتب وباحث مغربي حاصل على شهادة الدكتوراه؛ مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية؛ صدر له عن دار مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع سنة 2017 كتاب: "منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم: سورة البقرة نموذجا" وكتاب " الوحي دراسة تحليلية للمفردة القرآنية " وصدر له عن دار الزمن المغربية كتاب " التداول اللغوي للمفردة بين الشعر والقرآن" وصدر له كتاب: "القرآن ومطلب القراءة الداخلية سورة التوبة نموذجا" في 2024 عن دار مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع. وصدر له عن منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) كتاب "الحوار قلق الحاضر ورهان المستقبل؛ أسئلة حول الذات والآخر" شارك في العديد من المؤتمرات الدولية التي تعنى بسؤال التجديد في الفكر الإسلامي، نشرت له مجموعة من المقالات والدراسات التي تعنى بقضايا الفكر والمعرفة في مجلات ودوريات "محكمة"

عبد السلام شرماط: سعيد بالتواصل معكم دكتور مولاي أحمد صابر، وأهنئكم على إصداركم الموسوم ب "القرآن ومطلب القراءة الداخلية سورة التوبة نموذجا"، وهو عنوان يذكر القارئ بنظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني، هل ما جاء في كتابكم هو استمرار واسترجاع لما قال به الجرجاني؟

صابر مولاي أحمد: شكرا لكم الدكتور شرما ط عبد السلام شرماط، كتابي الأخير كما تكرمت تحت عنوان "القرآن ومطلب القراءة الداخلية سورة التوبة نموذجا" صدر لي هذه السنة 2024م عن دار مؤسسة مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع، وقد قدم له المفكر اللبناني رضوان السد، وأشكره على ذلك. على أمل أن يجد فيه القارئ أفقا للتفكير والنظر وبالأخص في مجال موضوع لا يعنينا نحن المسلمين لوحدنا فقط، بل يعني العالم كله، وهو موضوع سؤال المنهج في التعامل مع القرآن الكريم.

لا شك في أن الباحث والمهتم بالدراسات القرآنية عليه بالضرورة الاستفادة مما كتبه وجادت به قريحة كبار العلماء في الثقافة الإسلامية في مختلف مجالات المعرفة، وبالأخص ما اتصل بموضوعات القرآن من جهة المنهج والمضمون، فكرة النظم وردت مع الجاحظ (-255هـ) وله مؤلف بعنوان "نظم القرآن" فإعجاز القرآن بالنسبة إليه يرتبط بنظم القرآن، ومع الأسف لم يصلنا كتابه هذا، وقد دندن آخرون حول الموضوع، ومن المعروف أن نظرية النظم قد نضجت واستوت على يد عبد القاهر الجرجاني (-471هـ)، من خلال كتابه دلائل الإعجاز، فالنظم بمعنى "تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض" وقد أكد الجرجاني ما ذهب إليه الجاحظ في موضوع إعجاز القرآن بقوله: "أعجزهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادي آيه ومقاطعها، ومجاري ألفاظها ومواقعها وفي مضرب كل مثل" وقد اتضح مع الجرجاني أن المفردات خادمة للمعاني وتابعة لها؛ فالكلمة والمفردة تأخذ معناها من خلال نظم الكلام، وإذا كان الأمر على هذه الحال، فالسياق والنظم مسؤول عن حمولة ودلالة المفردات والكلمات، وهي حمولة، تقتضي الكشف عنها من خلال معرفة وتتبع سياقاتها داخل النص.

استحضار الجرجاني وغيره في حقل الدراسات القرآنية ارتبط (بشكل عام) للعناية بالمفردة القرآنية كمفتاح لفهم موضوعات القرآن، مع العلم أن التجديد في الرؤى والمناهج يبدأ بدرجة أولى بتجديد المفاهيم، كما أن مختلف العلوم قديما وحديثا كان فيها للمصطلحات والمفاهيم حظ كبير، وهذه مسألة واضحة عند القدماء والمحدثين، وقد عبر الراغب الأصفهانى في القرن الرابع الهجري بقوله: "أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن العلوم اللفظية، ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة، فتحصيل معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه" فالتجديد اليوم في مختلف العلوم هو تجديد في المصطلحات بدرجة أولى. والحقيقة أن المفاهيم والمصطلحات خاصة في نظرتنا للوجود والحياة... لا تنفصل عن الرؤى الحضارية. ومن بين المؤلفات عند القدماء التي اعتنت بموضوع المفردة القرآنية، نذكر كتاب أبي هلال العسكري (ت. نحو 395هـ)"الوجوه والنظائر لأبي هلال العسكري" وكتب الرَّاغِب الأَصْفَهَاني (-502هـ) كتابه "المفردات في غريب القرآن".

ومن ثمة فالاتجاه الذي يعول على بسط رؤى وتصورات جديدة في فهم القرآن، يستند في جزء كبير منه على فهم مفردات القرآن من خلال ورودها من داخل حقولها الدلالية داخل القرآن، دون الاعتماد على أخذ معانيها من خارج الاستعمال القرآني لمفردات اللغة. وبالإمكان التمييز بين معنى مفردة من مفردات اللغة العربية كما هو في المعاجم، وبين استعمال القرآن لها وطبيعة الحمولة والدلالة المعرفية التي أصبحت لها من داخل النص القرآني. وهذه مسألة بديهية؛ إذ ليس من المعقول أن يستعمل القرآن مفردات اللغة العربية وفق حمولاتها الثقافية المتداولة حينها في القرن السابع الميلادي، دون أن يتفرد بطبيعة استماله لتلك المفردات، وهو الأمر الذي جعل منه خطابا ونصًّا متصلا بالثقافة ومنفصلا عنها في الوقت ذاته؛ أي متجاوزا للحظته التاريخية. فالقرآن استعمل نفس مفردات اللغة العربية والكثير منها متداول في الشعر العربي حينها وغيره، والسؤال هنا هل القرآن استعمل مختلف تلك المفردات بنفس الحمولة المتداولة، أم إنه أعطى لمختلف المفردات بداخله حمولات معرفية يتداخل فيها المعنى ويشتبك بحقول معرفية، منها ما يرتبط بعالم الشهادة، ومنها ما يرتبط بالإنسان، ومنها ما يرتبط بمختلف الكائنات في الوجود ومنها ما يرتبط بعالم الغيب، وقد تجد أن المفردة الواحدة في القرآن تحضر في مختلف هذه الحقول المعرفية وغيرها، ولكنها تبقى تدور في مدار واحد لا تخرج عنه، فلكل مفردة من داخل القرآن الكريم مدارها الذي تدور فيه وقد تتقاطع في مدارها مع مدارات أخرى لمفردات أخرى، وهذا التقاطع هو ما يجعل المعنى والدلالة تتسع بشكل غير محدود. فتتبع مفردات اللغة من داخل القرآن من خلال سياقاتها ومن خلال علاقة بعضها مع بعض، لا شك أن هذا الأمر المنهجي قد يكون مدخلا مهمًّا في تجديد فهمنا للقرآن الكريم ولمقاصده ومنظومته القيمية والأخلاقية.

ومن باب المثال فمفردة الإسلام، تدور في مدار الرفع من قيمة السلام والأمن والأمان والرحمة؛ فالرسول بعث رحمة للعالمين، وتلتقي مع مدار مفردة الملة "ملة إبراهيم"، قال تعالى: "مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ " (الحج) فإبراهيم بنى البيت بغاية إقرار قيمة الأمن والأمان بين الناس، قال تعالى:(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة) وبالتالي فمفردة الإسلام تلتقي مرة أخرى مع مدار مفردة الأمن والأمان، وتلتقي مع مفردة العلم قال تعالى: "فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)"(النمل). فغاية الإسلام، إقامة دار السلام، ففي حضنها يتحقق التعارف، والتقوى، والتعاون والعدل والبر والرحمة، فعندما نقرأ في القرآن: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ " (آل عمران/19) ونقرأ: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)"(آل عمران) لا يمكن عزلها عن قوله تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)"(البقرة). الإسلام يقترن باسم من أسماء الله الحسنىلسلام" قال تعالى: "يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)"(المائدة) قال تعالى: "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)"(يونس). يلتقي مدار مفردة الإسلام مع مفردة الإيمان، قال تعالى: "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)"(الحجرات) الإيمان لا تقوم له قائمة إلا في سياق السلام، لماذا؟ لأن دار السلام -الإسلام- تضم المؤمنين والكافرين (أي التعددية الدينية، فلا إكراه في الدين) وهي حريصة على إقامة العدل والحد من الظلم والعدوان قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)"(المائدة) وفي هذا المدار الواسع لمفردة الإسلام، يتضح بأن مدار مفردة القتال مدار يهيمن عليه مدار مفردة السلام؛ لأن القتال في القرآن قتال بهدف الدفاع.

نحن أمام موضوعات مترابطة، ويتضح بعد التحليل والربط والجمع بين مختلف القضايا الموضوعات من وراء مختلف المفردات المشتبكة المعنى فيما بينها، أن قوله تعالى: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ"(آل عمران) يأخذ مصداقيته من حرية الاعتقاد والوفاء بالعهود والحرص على حفظ الأمن والأمان بين الناس. ومن قرأ أحد كتبي خاصة "منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم" سيضح له ما أشرت إليه هنا.

عبد السلام شرماط: ما تقصد بالقراءة الداخلية للقرآن الكريم؟

صابر مولاي أحمد: توحي صيغة القراءة الداخلية على أن هناك قراءة خارجية وبرانية، وهذا صحيح. والسؤال هنا هل القراءة الداخلية تستغني عن القراءة الخارجية؟

القراءة الداخلية بمعنى فسح المجال للقرآن لفهم قضاياه ومواضيعه ومختلف القضايا التي تطرق لها، من داخله، ولا شك أن القرآن يحمل تصورا للعالم والإنسان والوجود، ومن داخل هذا التصور الكلي تنتظم الكثير من المواضيع التي تطرق لها، ولمعرفة نظرته الداخلية لموضوع من المواضيع يتطلب الأمر الوعي بنظم القرآن وتتبع مختلف سياقات الموضوع المبحوث بشأنه من داخل القرآن مع السعي نحو تركيب رؤية كلية لذلك الموضوع، بهدف الاقتراب من رؤية القرآن له، وهذا يعني أننا نتوسل بالقراءة الكلية لمختلف سور وآيات القرآن، بدل الرؤية التجزيئية التي تأخذ بجزء دون آخر، من أجل هدف أو موقف أو تصور مسبق خارج وبراني عن رؤية القرآن. فالقراءة البرانية والخارجية بقصد أو دونه تتحول معها آيات القرآن إلى دليل وحجة على هذا الرأي أو ذاك، أو لنصرة هذا المذهب على حساب مذهب آخر...، وقد تجد الآية الواحدة أحياناً يُستدلّ بها على رأيين متعارضين في الوقت ذاته، وبالتالي فالقراءة البرّانية غير واعية بالبعد المنهجي لأهمية الناظم المنهجي الذي يربط بين مجمل آيات القرآن وسوره، وهي بهذا، لا يمكن لها من حيث الفهم، أن تبلغ مقام القصدية والغائية والحكمة الكامنة بين دفتي ثنايا القرآن الكريم.

وفي الوقت ذاته ليس الهدف من القراءة الداخلية البقاء داخل نظم آيات القرآن وسوره والإعراض عن خارجه، سواء كان ذلك الخارج متّصلاً بالواقع والمحيط الاجتماعي والثقافي والحضاري الذي نزل فيه القرآن الكريم، أو السياق التاريخي الذي اجتهد فيه الأقدمون من علماء الإسلام في فهمهم للقرآن، أو الواقع والمحيط الاجتماعي والثقافي والحضاري الذي نحياه ونعيشه اليوم، أو كان ذلك الخارج متصلاً بالوجود والطبيعة وحركتها (الكون)، وما أقرته مختلف التخصصات العلمية في مختلف ميادين المعرفة.

فمعرفة المحيط التاريخي الذي نزل فيه القرآن سيمكننا أكثر من الاقتراب من معرفة رؤية القرآن في نظرته للمحيط الذي نزل فيه، وطبيعة ما كان عليه ذلك المحيط من زاوية نظرة القرآن له، ومعرفة النقلة الروحية والعقلية التي أحدثها القرآن، ومعرفة بوادر الاتجاه الذي خطه القرآن ليتجه التاريخ الإنساني نحوه؛ إذ لا شك أن نزول القرآن أحدث ولادة جديدة للإنسان وللحضارة، كما هو شأن الكتب السابقة عنه، وهي كتب اعترف القرآن بها وحاورها، وقد صدقها وهيمن عليها، والهيمنة هنا لا تعني السيطرة والنفي؛ لأن الهيمنة في القرآن تقترن برحمة الله والأمن، والائتمان، فالله مهيمن على الوجود برحمته.

أما معرفة ما قال به الأقدمون وكبار المفسرين في فهمهم للقرآن؛ فكل ذلك يشكل لنا تراثا وزادا قد نستفيد منه، إن أحسنا التعامل معه ونظرنا إليه من داخل القرآن، بدل أن نسقطه كله أو بعضه على القرآن، ونعفي أنفسنا من مهمة القراءة والفهم والتدبر للقرآن من جهة، ولما كتب حوله من جهة ثانية. أما ما توصلت له مختلف العلوم في مختلف الميادين، فلا شك أن القراءة الداخلية تستثمر كل ذلك استثمارا منهجيا يتوافق مع روح القرآن، وفي هذا السياق نستحضر قول ابن عطية بأن القرآن "لا يتفسر إلا بتصريف جميع العلوم فيه"، ولا شك أن هناك الكثير من الدراسات اليوم تتعامل مع القرآن وتنظر إليه من الخارج فقط، منها الكثير من الدراسات الغربية المهووسة بالنظرة التاريخية له ولتاريخ جمعه ولما هو مشترك فيه مع ما سبقه من الكتاب، دون أن تكلف نفسها عناء قراءته الكلية من داخله. كما نجد الكثير من الدراسات في العالم الإسلامي يحكمها نفس الهم، دون أن تتحمل هي كذلك عناء البحث فيه، وكثير من الدارسين يأتون القرآن وهم محملون بما رسخ لديهم من فهم ومعاني متداولة في المدونة التفسيرية، إما من زاوية التبجيل أو من زاوية التبخيس، فمن زاوية التبخيس تجد الباحث يتصيد الكثير من تناقضات المفسرين في نظرتهم لكثير من المواضيع التي تعنى بقضايا المجتمع... ويسقط ذلك على القرآن، ولا يفرق بين آراء المفسرين ورأي القرآن، والغريب أن من هؤلاء من ليس له أي استعداد لقراءة القرآن وتفحص معانيه، وقد صار من المعتاد في كثير مما ينشر أن تجد العنوان يتحدث عن تصور القرآن لهذا الموضوع أو ذاك ... ولكن في طيات الكتاب لا تجد تمعنا وتتبعا لآيات القرآن وسوره للموضوع المبحوث فيه، ستجد أقوال وآراء المفسرين، وهذا ليس عيبا ولكن العيب المنهجي عندما يتصور الكاتب أو الباحث أن كل ما جاء به من تصورات وأقوال لمختلف المفسرين، أن ذلك هو تصور القرآن ونظرته للموضوع، وإذا كان الأمر على هذه الحال عند الطلاب والدارسين والمؤلفين في الجامعات والمعاهد... فماذا عن عموم الناس، إنها مشكلة هجر القرآن، وهي مشكلة تتصل بوجه من وجوه الثقافة وهي الثقافة (الأبائية- نسبة إلى الأب) التي تعلي من كل ما قال به الآباء والأجداد، ولا تقبل بالنظر والتفكر والتدبر... وهي من بين الإشكالات التي عانى منها الرسول الكريم في زمنه واشتكى بقوله: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30)"(الفرقان) وأكبر مشكلة عندما يتحول الهجر إلى هجر مدرسي مؤسس على قواعد وتبريرات وخلفيات تتدرع بأنها تحافظ على روح الدين، بينما هي تمسك بقشور بعيدة جوهر الدين.

القراءة الداخلية هي دعوة للتحرر من كل أشكال إسقاط كل ما هو براني على القرآن بدعوى أن ذلك ما يقصده القرآن. إنها دعوة للتفكير في تدبر القرآن والتعالي به ومن خلاله، ونشير هنا إلى أن القراءة الداخلية لا تعني أنها تفضي إلى قراءة وفهم واحد، بل على العكس من ذلك، فهي تدور في مدار التأويل وتعدد المعنى، في سياق الحوار والتواصل بين مختلف الفاعلين والمختصين في مختلف مجالات المعرفة. ولا يمكن لأحد أن يدعي بأن ما قال به هو الحقيقة التي تنفي غيرها. القراءة الداخلية فيها انسجام مع قوله تعالى: "إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) "(ص) قد يرى البعض في هذا الكلام بأنه كلام محسوب على ما يسمونه بالقراءة الإيمانية، توهما منهم بأن هناك قراءة إيمانية وغير إيمانية، بينما القراءة في مختلف أبعادها المعرفية قراءة واحدة تتكامل فيها مختلف مجالات المعرفة.

نخلص الى القول إن القراءة الداخلية هي تقديم للفهم الداخلي، ولا تعني إلغاء كل ما هو خارج، أـما العناية بالخارج دون الوعي بالداخل، فذلك فيه تفويت فرصة فهم رسالة وغاية وهداية الكتاب، وحتى في عالم المحسوسات فالأشياء نفهمها علميا من خلال مكوناتها الداخلية، وإلا اننا سنبقى نجهل فوائدها الكثيرة، بالرغم من أننا نراها ونستعملها...

عبد السلام شرماط: هل مفهوم "القراءة الداخلية للقرآن" سبق القول به أم هو من إبداعكم؟

صابر مولاي أحمد: بصدق ووفق ما أعلم من خلال ما قرأت لم أجد قديما أو حديثا من أحد قال بـ"القراءة الداخلية للقرآن" وأنا لا أجزم هنا؛ إذ لا يمكن للفرد معرفة كل شيء، وقد خطر لي المصطلح وفق ما قرأت من كتابات تعنى بالدراسات القرآنية، وتعنى بتفسير القرآن وتعنى كذلك بسؤال المنهج في فهم القرآن، ومن يقرأ كتابي الوحي دراسة تحليلية للمفردة القرآنية، يجد في تقديم هذا الكتاب من لدن المفكر التونسي محمد محجوب، وهو مختص في الفلسفة صيغة مفادها" لم أكن أتصور أن الدكتور صابر مولاي أحمد سيمر بهذه السرعة من منطق القراءة الداخلية للقرآن الكريم، وهي القراءة التي كان قد أبدعها في كتابه (منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم: سورة البقرة أنموذجاً)، إلى منطق القراءة التاريخية والثقافية للوحي" ففي هذا اعتراف بموضوع ومنهج القراءة الداخلية فيما كتبت.

قد يتساءل البعض عن علاقة القراءة الداخلية للقرآن الكريم، بتفسير القرآن بالقرآن، أو بالتفسير الموضوعي للقرآن، أو بالفهم البنائي لموضوعات القرآن... القراءة الداخلية فيها استيعاب وتجاوز لمختلف هذه الاتجاهات، سواء على مستوى النظر أو التطبيق. بقي هنا أن أشير إلى أن القراءة الداخلية تستثمر مختلف الأبعاد البُعد التحليلي: وذلك بتتبع سياقات المفردات والمواضيع من داخل القرآن، ولا تغفل المحيط الاجتماعي والتاريخي الذي نزل فيه القرآن، أو المحيط الذي فسر فيه القرآن على طول التاريخ الإسلامي، أو الزمن الذي نحن فيه. البعد التأويلي: وذلك باستثمار المعرفة الـتأويلية قديما وحديثا، في كشف معاني القرآن وأبعاده. البعد الأخلاقي: وعيا بأهمية المعطى القيمي والأخلاقي من داخل القرآن، وكشرط من أجل ارتقاء الإنسان في الوجود. البُعد الإنساني العام: وعيا بأن القرآن خطاب كوني وعالمي موجه للناس جميعا.

عبد السلام شرماط: لماذا اشتغلت على سورة التوبة بدل غيرها من سور القرآن سورة التوبة؟

صابر مولاي أحمد: سبق لي أن اشتغلت على سور أخرى قبل سورة التوبة، من بينها سورة البقرة لتقريب منهج التصديق والهيمنة في القرآن، والاقتراب بشكل منهجي من موقف القرآن وعلاقته بما سبقه من الكتاب، وهي علاقة تصديق؛ أي اعترافه بالهدى والنور الذي تتضمنه الكتب السابقة عنه. وعلاقة هيمنة، أي استرجاع نقدي وكشف لما تم إلحاقه بتلك الكتب من آراء وتصورات ضيقة لا ترقى إلى مستوى القيم والأخلاق الكونية، بل جعلت من أمر الإله بأنه إله شعب بعينه وهو شعب بني إسرائيل، مع الاعتقاد الخاطئ بان الله يتحيز لهذا الشعب، وغير ذلك من التصورات المتمركزة حول الذات باسم الدين... ففقي القرآن نجد الله جل وعلى فوق عباده من آمن به ومن كفر به. فهناك رؤية داخلية لكثير من المواضيع يشترك فيها القرآن مع ما سبقه من الكتاب، أي إرث النبوات بما فيه قصصهم (أي سير حياة الأنبياء وذكراهم).

أما عن اشتغالي على سورة التوبة وهي سورة، اتهمها البعض بأنها سورة الحرب والعنف وما شابه ذلك، وهناك من قال إنها تتضمن آية السيف...ولا وجود لمفردة السيف في القرآن، وقد اتضح لي أن سورة التوبة هي دعوة للوفاء بالعهود وإقرار بأهمية إرساء قواعد الأمن والسلام وبين الناس وبين المجتمعات، فموضوعها المحوري يرتبط بالحث والتأكيد على الوفاء بالعهود، ومن خالف العهد ينبغي التصدي له، حتى يقف عند العهد والميثاق الذي اتفق بشأنه بينه وبين غيره؛ إذ لا ينبغي مواجهة نقض العهد، بالتحلل من كل المواثيق والعهود، والسورة تعالج موضوع اتصل بزمن النبوة في حالة نقض العهد مع الرسول، وليس من المعقول كما تصور البعض أو كما هو وارد في بعض التفاسير، أن هذه السورة جاءت تأمر الرسول بأن يضع السيف في كل من خالفه من المشركين وغيرهم. فاختيار هذه السورة كان من ورائه معطى يتصل بالواقع الإسلامي الراهن، المليء بنوع من التشدد والتطرف في فهم أمر الدين. فالقارئ للكتاب سيتضح له بشكل واضح ما أشرت إليه، من خلال تحكيم سياق الآيات في علاقتها بمختلف المواضيع التي ترتبط بها في كل القرآن الكريم، كما يتضح له أن وجهات نظر الكثير من المفسرين ووجهات نظرهم في مجملها لا تتوافق مع السياق العالم للقرآن الكريم، كما يظهر له بأن بعض أراءهم وأقوالهم فيها استجابة وتأثر بواقعهم التاريخي.

عبد السلام شرماط: ذكر عبد القاهر الجرجاني أن فهم النص القرآني لا يتأتى إلا لمن عرف الشعر بوصفه دلالة وشاهدا على إعجاز القرآن، هل ساعدك الشعر على تحقيق مبتغاك؛ أي قراءة داخلية لسورة التوبة؟ أم إن أدوات ومناهج أخرى توسلت بها في تحقيق قراءتك؟

صابر مولاي أحمد: سبق لطه حسين أن قال في كتابه "مرآة الإسلام" قوله: "نظم القرآن أي أسلوبه في أداء المعاني التي أراد لله أن تُؤدَّى إلى الناس. لم يؤدِّ إليهم هذه المعاني شعرًا ... ولم يؤدِّها إليهم نثرًا أيضًا، وإنما أدَّاها على مذهب مقصور عليه وفي أسلوب خاصٍّ به لم يُسبق إليه ولم يُلحق فيه" وهذا يعني أنه لا يصدق على الشعر ما يصدق على القرآن، وقد بينت في السؤال السالف الذكر أهمية المفردة من داخل القرآن الكريم، وبأن حمولتها محددة داخل القرآن وليس خارجه؛ بمعنى علينا أن نراعي الاستعمال القرآني لمفردات اللغة، وإذا كان بعض الفلاسفة قد بنو مؤلفاتهم على استعمالات لغوية فلسفية لمجمل ما كتبوا، وكيف لا يصدق ذلك على القرآن بدرجة أولى، استعمالات مفردات اللغة داخل الشعر استعمال ينبني على الترادف بينما القرآن لا ترادف فيه، فكل مفردة تحمل معناها من خلال مدارها الذي تدور فيه في علاقتها واشتباكها مع مفردات أخرى من نفس الحقل الدلالي.

وهناك مقولة نسبت لابن عباس مفادها "إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر؛ فإنّ الشِّعر عربي" فهذه القولة تستبطن دعوة منهجية يترتب عنها اسقاط الحمولات الثقافية للشعر العربي في القرن السابع الميلادي على القرآن، وهذا يعني السعي لفهم القرآن من خلال الشعر، أي من خلال الأنثروبولوجيا العربية في القرن السابع الميلادي، وهو أمر وارد في الثقافة الإسلامية وبالأخص في مدونات التفسير، وهو أمر تسعى القراء الداخلية لتجاوزه بهدف فتح أفاق معرفية جديدة ومتجددة. وفي هذا السياق نستحضر جزء من بعض المشاريع التي تعاملت مع القرآن بهذه الاقتراب من خلفيته في استماله للمفردات اللغة من داخله، وهي مفردات واردة ومستعملة في أشعار العرب، نركز هنا عن الاختلاف في الاستعمال للمفردة، نذكر من بين هذه المشاريع والدراسات ما كتبه الياباني توشي هيكو إزوتسو، وما كتبه الباكستاني، فضل الرحمن، وما كتبه السوداني أبو القاسم حاج حمد... وغيرهم كثير في الشرق والغرب.