حوار مع الدكتور محمد المصباحي: في قضايا الفلسفة الإسلامية وأسئلتها الراهنة
فئة : حوارات
أ. عبد النبي الحري: الأستاذ المصباحي، أسستم بمعية نخبة من الباحثين »الجمعية المغربية للبحث في الفلسفة الإسلامية«، ونريد أن نسألكم عن دلالة هذا التأسيس في هذا التوقيت بالذات: ما علاقته بمجريات الربيع العربي، وما ترتب عنها من أسئلة شائكة تستدعي مواكبة الباحثين في الفلسفة الإسلامية لها؟ وهل تعتقدون، أن ما نتوفر عليه اليوم من طاقات وموارد بشرية في مجال البحث في الفلسفة الإسلامية مؤهلة للمساهمة بفعالية في التنوير الفكري، في مجتمعات ما بعد الربيع العربي؟ وهل هذه الفلسفة مؤهلة فعلا، أكثر من غيرها من الدراسات التراثية، للدفع بالفكر الإسلامي نحو الكونية والإنسانية؟
أ. المصباحي: بعد التطورات التراجيدية للربيع العربي في بعض البلدان العربية، من المستحسن استعمال التقابل بين "الربيع العربي" و"ما بعد الربيع العربي"؛ فقد نجح الربيع العربي في تحطيم هياكل الاستبداد المقنّع لبعض الأنظمة العربية، إلا أنه لم يستطع لحد الآن أن يقوم ببناء هياكل بديلة للأنظمة المنهارة، قائمة على مبادئ التوافق والحوار، ضمن رؤية العدالة الانتقالية. بهذا، يكون "الربيع العربي" وكأنه قد أخلف موعده مع التاريخ، بل أكثر من ذلك، تحوّل الربيع السياسي من مقام "الفَرَجِ بعد الغُمّة"، إلى مقام "الغُمّة في الغُمّة."
أعود إلى سؤالك، لأقول بأنه لم تكن هناك علاقة سببية مباشرة بين تأسيس الجمعية والربيع العربي؛ فمشروع "جمعية البحث في الفلسفة الإسلامية" هو فضاء علمي، الغاية منه أن يكون مجالا لحوار بين الباحثين، لتكريس تقاليد البحث العلمي. بالتأكيد، لكل نشاط بشري ربيعه. وأملنا أن يحصل "ربيع فلسفي"، يغير من ملامح وجودنا العابسة، ويبدل من طابع فكرنا المتقاعس، ويبعث في وجداننا قدرا من الحيوية والفتوة، تمكننا من أن نفرح بالحياة والوجود. نحن نأمل أن يكون هذا التأسيس إسهاما في ربيع جديد للفلسفة الإسلامية، يمكن أن يكون له دور في علاج أعراض "ما بعد الربيع العربي"، ولو بطريق غير مباشر. بيد أننا لا نريد أن نكون منافسين لما يحيل عليه تعبير "ما بعد الربيع العربي"؛ أي "الربيع الإسلامي"، أو أن نكون ناطقين باسمه؛ فهذا مجال السياسة بمعناها العريض.
أما نحن فغايتنا علمية، وهي الوقوف على حقيقة الفلسفة العربية الإسلامية في علاقتها بالعلوم العقلية (الرياضيات، الطبيعيات، المنطقيات، الإلهيات...)، وفي ارتباطها بالعلوم الإسلامية (علم الكلام، علم أصول الفقه، علم الفقه، علم التصوف...)، والعمل على تطويرها على ضوء تطورات الفلسفتين الحديثة والمعاصرة.
لم تكن نقطة انطلاقنا بالضبط، من شعورنا بأن من يتكلم باسم الإسلام أو من يُسخّر الإسلام في السياسة لنيل مآربه السلطوية، لا يعرف الإسلام؛ وإنما كانت نقطة انطلاقنا السعي إلى جذوة البحث في مجالات الدراسات الفلسفية، المنسوبة للحضارة الإسلامية، متقدة ومتجددة، بفضل فتح أوراش جديدة للبحث فيها. ومن هذه الزاوية يمكن أن نلتقي مع الباحثين في الفلسفة الإسلامية، في الغرب والشرق والعالمين العربي والإسلامي، أكثر من التقائنا مع دعاة السياسة الدينية أو دعاة السياسة الخالصة في هذا البلد أو ذاك.
صحيح، قد تكون أعمالنا مفيدة للإجابة على الأسئلة الشائكة والعويصة، التي ترتبت عن "الربيع العربي"، من قبيل: هل الإسلام قابل للديمقراطية؟ وهل التقاليد الثقافية لهذا البلد أو ذاك، مضادة فعلا لحرية التفكير والسلوك والانتماء السياسي أو الإيديولوجي؟ أو من قبيل السؤال الأساسي: هل ما زال الإسلام نفسه قادرا على صناعة التاريخ من جديد؛ أي قادرا على التحدي بتجديد أدواته ورهاناته، كي يلائم الزمن المعاصر، أم أنه أمام استحواذ الحداثة على فعل التاريخ، لم يبق له سوى اللجوء إلى العنف الأعمى لإثبات وجوده؟ وفي هذه الحالة، هل الإسلام قادر على إجراء حوار جدي ومنفتح مع الحداثة، أم أنه عاجز أصلا عن الحوار الثقافي والحضاري؟ لكن الأسئلة المباشرة التي نواجهها كجمعية ليست من هذا القبيل، وإنما هي أسئلة علمية تؤسس للإجابة على الأسئلة السابقة.
أما عن سؤال أهلية الفلسفة وقدرتها، أكثر من غيرها، على رفع القول في التراث إلى مستوى الكونية والإنسانية، فلا أعتقد ذلك، إذ كل مبحث له دوره أو زاويته في إظهار الإسهام الكبير والاستثنائي، في مجال العقلانية والإنسية والقدرة على التجاوب مع الزمن الذي نحن فيه. ولذلك، دعونا في ديباجة التأسيس إلى التعاون مع كل المباحث القريبة والبعيدة، اعتقادا منا بأن الفلسفة موجودة في كل شيء: في الآداب والفنون والعلوم والصناعات. غير أن هذا لا ينفي أن الطابع الكلي والعقلاني والبنيوي للقول الفلسفي، يجعله ذا صيت كوني وهالة شمولية.
أ. عبد النبي الحري: تعرضت "الفلسفة الإسلامية" لهجمات متنوعة من داخل الدائرة الفلسفية ومن خارجها. فقد اعتبر العديد أن الفلسفة "الحقة" هي فلسفة الإغريق، وورثتهم من اللاتين والجرمان والغرب عامة؛ أما فلاسفة الإسلام، فلم يخلّفوا لنا سوى نصوصٍ شارحة. ومن جهة أخرى، اعتقد آخرون أن الفلسفة الإسلامية دخيلة على الثقافة الإسلامية، وغريبة على بيئتها وهويتها الحضارية المستقلة؛ وبناء على ذلك، فإن هذين الموقفين يلتقيان، رغم تناقضهما في المنطلقات والغايات، عند نقطة واحدة هي إقصاء الفلسفة الإسلامية ونبذها وراء الظهر. من موقعكم كباحث في الفلسفة الإسلامية، كيف تردون على هذه الادعاءات والمواقف؟
أ. المصباحي: بالفعل، تعرضت الفلسفة الإسلامية، وما زالت تتعرض، لهجمات شنيعة من الداخل والخارج. فقد تمت قرصنة الفلسفة اليونانية من لدن بعض التيارات الهوياتية الغربية؛ فادعت بأنها فلسفة غربية محضة، وأنها هي ما يميز الغرب عن الشرق. والحال أن الفلسفة اليونانية، جغرافيا وتاريخيا وثقافيا وفكريا، منتمية بالأصالة إلى ما أصبح يُعرف اليوم في الجغرافية السياسية "بالشرق الأوسط". الفلسفة اليونانية منّا وإلينا؛ فهي ليست غريبة عنا. أما أن نشرحها، فالجميع إلى اليوم لا يعمل سوى على شرح الفلسفة اليونانية؛ فلا يمكن أن نفكر اليوم، بدون الإحالة على اليونان بهذا القدر أو ذاك، وسواء اعترفنا بذلك أو لم نعترف. طبعا، لا ننكر أن أفق الفلسفة اليونانية مختلف عن أفق الإيمان الإسلامي؛ فالمرجعيات مختلفة (الوحي والعقل)، والشرائع مختلفة (الشريعة الإلهية والشريعة البشرية)، والموضوعات مختلفة (الوجود الطبيعي والعقلي/الوجود الغيبي)، لكن الغاية واحدة؛ وهي خدمة السعادة البشرية في نهاية الأمر، عن طريق إقرار العدالة والمساواة بين الناس، هنا والآن، قبل الغد وما بعد الغد. بل أكثر من ذلك، بوسعنا أن نقول بأنه كلما أمعنت الفلسفة اليونانية في غرابتها عن فضاء الثقافة الإسلامية، كلما مضت هذه الأخيرة في مغامرتها للانفتاح عليها، لأن الثقافة الحقَّة هي التي تستطيع أن تغذي نفسها بالجديد، وخصوصا الغريب باستمرار، وإلا ماتت. أما الذين يقولون بأن الفلسفة العربية الإسلامية نفسها غريبة عن الثقافة الإسلامية، وأنها من أجل ذلك لم تستطع أن تبدع شيئا، فإنهم بقولهم هذا، إنما ينشرون إرهابا فكريا يمهد للإرهاب المادي.
كانت الفلسفة العربية الإسلامية كلًّا متكاملا، يشمل العلوم الرياضية والطبيعية والآلية والفلسفية؛ وبالقدر الذي كان يسمح به الزمان، طور المسلمون هذا المركب المدهش من العلوم والفلسفات العقلية، إلى درجة لا يمكن تصور تقدم هذه المباحث في زمان العصر الحديث بدونها. وليفهم هؤلاء أن ما يميز هذه المباحث، أنه متى تم الشروع فيها تصبح عالمية؛ فهذه المباحث الفلسفية والعلمية، لا شرقية ولا غربية، لأنها من إنتاج عقل بشري محايد، ولا من إنتاج خطاب إيديولوجي متعصب لهذا الطرف أو ذاك، لهذه الملة أو تلك. والذين اشتغلوا بهذه المباحث من أهلنا، لم يشتغلوا بها من أجلنا فقط، بل من أجل الإنسانية جمعاء. فالتراث الفلسفي والعلمي الإسلامي هو تراث عالمي، وبهذه العالمية نحن في قلب العالم، ولهذا لا يتوقف خصوم عالمية التراث الإسلامي، من أهلنا ومن المضادين لنا، لإبعادنا عن بؤرة العالم. وحتى على مستوى اللغة: هل تستطيع اليوم أن تتصور اللغة العربية في منأى عن القواميس العلمية والفلسفية اليونانية؛ أي العالمية؟ هل يمكن تصور العلوم الإسلامية بدون حضور المفاهيم الفلسفية الراقية، التي كانت نتيجة احتكاك الإسلام بالآخر؟ هل يمكن تصور مفاهيم، مثل الوجود والآنية والهوية والعينية، والوحدة والعقل، والمكان والزمان، والقياس والبرهان، والتمثيل والسعادة، والفضيلة والحق، والخير والشر، بدون هذا التلاقح بين الثقافات؟ الذين في قلوبهم مرض الغرور هم الذي ينكرون على الفلسفة الإسلامية بعلومها المختلفة خاصية الإبداع.
أ. عبد النبي الحري: ارتبط اسمكم في الغالب الأعم بالبحث في الفلسفة الرشدية خاصة، وهي الفلسفة التي صدرت بصددها مواقف مختلفة ومتناقضة؛ فعلى سبيل المثال، نجد في المغرب موقفين متناقضين؛ أحدهما يعتقد أن الرشدية سلاح فعال، يمكن أن ينفعنا في معركتنا لفتح كل أبواب الاجتهاد اليوم، بينما ذهب البعض الآخر إلى أن الرشدية "ماتت وشبعت موتا" ولن تفيدنا في شيء. ألا ترون أن كلا الموقفين، على تناقضهما، يضيع علينا فرصة رسم صورة موضوعية لابن رشد والرشدية؟
أ. المصباحي: بالفعل، هناك من يقول بأن ابن رشد يمثل الصيغة المثالية لإعادة الحياة إلى تاريخنا المحتضر في أزمنتنا الحديثة، وهناك من يعتبر أن من لا حياة فيه غير قادر على إحياء غيره. وفي الحقيقة الموقفان معاً يستعملان ابن رشد، باعتباره استعارة للعقل وما يتصل به من علم وحكمة ونقد وتحرر. الموقف العقلاني الأول يرى، وهو محق في ذلك، أن لا سبيل لنا للتخلي عن تقاعسنا الحضاري، ودخول معترك الحداثة من غير التسلح بالعقل؛ والموقف الثاني اللاعقلاني يرى، وهو مخطئ في ذلك، أن التخلي عن العقل هو سبيل نجاتنا، وربما هو سبيل انخراطنا في تحدي الحضارة. أعتقد أنه لا سبيل للتوفيق بين الموقفين؛ فالانغلاق في القفص الذهبي للرشدية قد لا ينفعنا في الانفتاح على العقلانية العلمية والعملية الحديثة، وزرعها في كياننا كثيرا، والتسلح بمعول الهدم لتقويض قلعة الرشدية لن يفيدنا في نشر إيمان مشرق وواع بذاته، إيمان يغير من سمعتنا الكالحة في تقاليد الإرهاب.
ابن رشد، مهما حاولوا الهروب منه أو النيل من وقاره العلمي وشموخه التاريخي، فسيبقى منّا وإلينا، سيبقى أساسا من أسس الفكر البشري الراقي. لو درسنا علميا كيفية تعامله مع العلوم الطبيعية والطبية والفقهية والأصولية والفلسفية، فإننا سنؤسس لموقف عقلاني قوي يكون ضمانة لنا للقفز نحو المستقبل. لو سألنا أنفسنا: لماذا لم تترسخ فينا أخلاق العقل بالرغم من وجود مئات الجامعات والمعاهد العليا؟ فما زال بعض الأطباء عندنا ينتحلون مهنة الداعية السطحي أو المشعوذ المنحط، حينما يريد أن يفسر مرضا ما أو نجاحا في شفائه. في حين نجد ابن رشد عندما يكون أمام معضلة طبية أو فلكية أو طبيعية أو فقهية أو منطقية، يكون طبيبا وفلكيا وعالما طبيعيا ومنطقيا، ولا يعمل على خلط العلم بما بعد الطبيعة.
لو استفدنا من ابن رشد، فقط هذا الموقف العلمي النزيه، موقف عدم الخلط بين أجناس القول والممارسة، لحولنا جامعاتنا إلى أوراش للإبداع، وأفهمنا العلماء والأطباء والمهندسين أن ليس من مهامهم أن ينتحلوا صفة الفقهاء والمتكلمين والمتصوفة؛ فهذه المهن لها أهلها والمتخصصون فيها.
إن البرزخ الذي يفصل ما قبل الحداثة عن ما بعدها، هو الموقف الرشدي، الذي هو الموقف العلمي بامتياز. في عالمنا العربي اليوم، أصبح كلُّ شيء كلَّ شيء، أصبح الجميع فقهاء وأطباء وعلماء تنجيم... إنها فوضى هدامة تنم عن انهيار فكري وأخلاقي حقيقي. إن نموذج ابن رشد غني بالعبر، فهو كتب في كل شيء، ولكنه احترم خصوصيات أي شيء؛ كتب عن رفاق الطريق وعن أعدائه. عندما كان يرى حقّا لدى الخصوم أمثال الغزالي وابن سينا، لم يكن يجد حرجا في الاعتراف به وشرحه، وحينما يرى باطلا عند أرسطو أو جالينوس أو بطليموس كان لا يخشى من انتقادهم. هذه الحرية العلمية الجميلة بالضبط هي التي تؤهلنا للمشاركة في عالم الحداثة.
أ. عبد النبي الحري: الأستاذ المصباحي، ما دمنا بصدد ابن رشد، هناك من يعتبره أحد المؤسسين لفكرة المجتمع المدني الحديثة، أو على الأقل شكل قنطرة أساسية لتطورها الأولي، لكن يبقى السؤال هو: كيف يسهم التركيب بين العقل والشريعة في تشكيل مجتمع قوي ومتماسك، وممتنع على أشكال التسلط الديني والسياسي؟ ما حاجة العقل للشريعة؟ وما حاجة الشريعة للعقل؟ كيف يسهم هذا الجدل في صناعة المدنية؟ وما دور الإنسان العادي في تسيير شؤونه الخاصة؟ لماذا لم يرتح ابن رشد للعامة في تقرير مصائرهم، ودافع عن حكم الفلاسفة كما صاغته النظرية الأفلاطونية ؟
أ. المصباحي : نقطة الضعف في الفكر السابق على الحداثة، هي قلة الاهتمام بقضايا "العقل العملي"؛ فقبل "الأنا أفكر" لم يكن من الممكن تصور وجود "الأنا أفعل" بالمعنى الميتافيزيقي والسياسي. ولولا الحروب الدينية الطاحنة التي استنزفت الذات الأوربية زهاء ثلاثة قرون؛ هذه الحروب التي أفرزت فصل العقل البشري عن العقل الشرعي، لتلافي مخاطر الخلط بين الدولة والدين، أقول لولا هذه الحروب لما تمكن الاهتمام بمجالات العقل العملي من الظهور بشكل قوي في الأزمنة الحديثة.
وحتى لا نقع في الخلط بين الأزمنة، ما كان لزمن ابن رشد أن يحتل المجتمع المدني بؤرة تفكيره. فبطل قصة حي بن يقظان لابن طفيل، عندما لاحظ فساد الجزيرة المقابلة لجزيرته، وعزم على إنقاذها بالذهاب إليها شخصيا، لم يحمل معه مشروعا "لعقد اجتماعي"، وإنما حمل معه مشروعا "لعقد معرفي لاهوتي"، ولعل هذا هو سبب فشله الذريع. لذلك لا ننتظر من ابن رشد أن ينتصر للعقل فقط، في مجال تدبير الدولة والمجتمع، بل إنه انتصر صراحة للشريعة في تدبير الدولة، لأن الشريعة في نظره، هي القادرة على جمع الخاصة والعامة، وتعبئتهما من أجل إنجاز الهدف المشترك من الدولة، الذي هو السعادة والخير للجميع. لكن هذا لم يمنعه من الحرص على انفتاح الشريعة على العقل، إذ لا غنى لها عنه؛ فهناك العديد من القضايا الشرعية التي لا يمكن فهمها، وإيجاد الحلول المناسبة لها، إلا بالاستناد إلى العلوم العقلية (علم الفلك، علم الطب، علم المساحة الخ). كما أن هناك العديد من القضايا الجديدة، التي لم تلتفت إليها الشريعة ولا خطرت على بالها، تقتضي اللجوء إلى آلة العقل. وفي زماننا هذا، الذي تشعبت فيه المسائل والعلوم إلى حد يثير الدهشة، لا يمكن للشريعة أن يكون لها معنى بالنسبة للإنسان، ما لم تأخذ بالحسبان التطور المذهل الذي يلحق بالعلوم والمباحث العلمية والعملية والتقنية يوميا، وفي كل لحظة.
ونعود إلى إشارتك لمسألة احتقار الجمهور والعامة. لا نستغرب موقف القدماء من اليونان والمسلمين من الجمهور أو العامة؛ فقبل زمن "العقد الاجتماعي" لم يكن يُنظَر إلى منتجي الخيرات المادية نظرة تقدير. صحيح، لم ينكر ابن رشد على طبقات العامة حذقهم العملي وقدرتهم العارمة على تغيير الموازين في مجال الثقافة العامة، ولكنه كان يخصهم فقط بملكتي الخيال والعقل العملي (الذي لا ينفصل عن الخيال). فالجمهور، هم أهل حنكة وفطنة عملية، وليسوا أهل نظر وتبصر للعواقب البعيدة المدى؛ وهم بسبب ذلك يتميزون بسرعة الانفعال والتأثر بمن يملك فن الخطابة، لتعبئتهم ضد أهل الحق والعلم. والتاريخ يروي لنا وقائع فظيعة من تدمير العوام للمكتبات، وملاحقتهم للعلماء، وتصفيتهم جراء تحريض علماء الرسوم لهم؛ فالجمهور عندما ينقلب إلى غوغاء لا تستطيع أي قوة إيقافهم.
باختصار، الشريعة والعقل العملي كانا متساويين بين الخاصة والعامة. أما العقل النظري، فلم يكن متساويا بين الناس. ولعل أحداث "الربيع العربي" الأخيرة تشهد لصحة هذا التشخيص إلى حد كبير.