حوار مع الدكتور محمد حبش -الجزء 1-


فئة :  حوارات

حوار مع الدكتور محمد حبش -الجزء 1-

حوار مع الدكتور محمد حبش -الجزء 1-

*- بصفتكم باحثًا في التنوير الإسلامي وحوار الأديان، تبنيتم مشروع التجديد الديني، انطلاقا من قضايا عدة أهمها: رفض احتكار الخلاص، تجديد فقه المرأة في الإسلام، إحياء مصادر الشريعة الغائبة، ما يعني منح دور أكبر في التشريع للعقل على حساب النص، ما دور العقلانية في تجديد الوعي الديني؟

ظهر الجدل بين تيار العقل والنقل منذ فجر الإسلام، ومنذ عصر الصحابة كان هناك من يخوض في باطن القرآن تأويلاً واستشـرافاً، وكان فيهم من يقول: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني، إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم!! وقد ظهرت هذه الثنائية خلال التاريخ: العقل والنقل، الرأي والأُثر، الاتباع والابتداع، الاجتهاد والتقليد، المفوضة والمؤولة، السلفيون والتجديديون، الفقهاء والظاهرية، العقلانيون والمحافظون، وكلّها ثنائيات تصف مشهد الانقسام في الفكر الإسلامي، وهو انقسام طبيعي يمكنك تلمسه أيضاً في كل حضارة وفي كل ثقافة وفي كل دين.

وقناعتي أن دور العقل في التشـريع كبير جدّاً، لقد بسطت القول في هذه الحقيقة في كتابي النبي الديمقراطي، وبالطبع، فإنني لا أزعم أن ما تبنيته كان خيار الجميع؛ فالمجتمع الإسلامي خلال التاريخ كسائر المجتمعات فيه المتسامح وفيه المتصلب، وهذا بالضبط ما كان يجري في كل عصـر، وفي تتبعي للتيار العقلي بين الفقهاء يمكنني القول إننا نملك تراثاً غنيّاً بالحرية العقلية، كما نملك أيضاً تراثاً متصلباً يرفض إعمال العقل، وقد تم هذا التصنيف منذ فجر الإسلام كما بيناه، ولا أجد أي سبب يدعونا للتسليم أن الدين هو موقف إلغائي للعقل، بل إنني على قناعة تامة أن الدين بستان يتسع للفريقين، ولكل أدلته ومناهجه. ولكن علينا كعقلانيين أن نتوقف عن الدلع، فلا ينبغي أن ننتظر من الناس قبول تفكيرنا وتقديره واحترامه، العقلانية في زماننا تواجه تحدياً سلفياً كبيراً، ومن الطبيعي أن يواجه دعاة العقل رفضاً وتشهيراً، كما قال نيتشه لا تتوقع أن يحبك الناس؛ لأنك تخبرهم الحقيقة، الناس تميل لمن يزخرف لها أوهامها، والحقيقة الكاملة يقولها أولئك الذين يرغبون في الرحيل، وهذه هي حركة التاريخ.

كما إنني ضد المبالغة في وصف معاناة العقلانيين في الإسلام كأبي حنيفة وابن سينا وابن رشد والفارابي، فهذه المعاناة ذاقها أبناء التيار المحافظ أيضاً، وابن حنبل وابن تيمية وابن القيم هم خريجو السجون أيضاً، وشهداء التيار العقلاني ليسوا أكثر من شهداء التيار الأصولي، والسياسة هي اللاعب الأكبر في تحريك المقصلة، وكل ما في الأمر أن التدافع قائم بين العقلانيين وبين التراثيين، وجولة هنا وجولة هناك، وعلينا أن نكون في الجانب الصحيح من التاريخ.

*- رفض احتكار الخلاص

احتكار الخلاص ظاهرة ترتبط دوماً بالمتحدثين باسم الغيب، وقد ظهرت في الأديان الإبراهيمية خاصة، وهي موجودة بشكل أقل في الديانات الفيدية، فيما لا توجد هذه الظاهرة في الديانات الفولكلورية والفلسفية في الشرق الأقصى.

وقد طرح القرآن الكريم ظاهرة احتكار الخلاص بوصفها مرضاً خطيراً من الأمراض التي وقع فيها أتباع الديانات؛ وذلك في أربع آيات:

وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، بل ملة إبراهيم حنيفاً (البقر ة 82)

ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم (البقرة 88)

وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود علي شيء (البقرة 113)

وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، تلك أمانيهم (البقرة 111)

وقد ذهب القرآن في الآية الأخيرة خاصة إلى التأكيد بصورة أكثر وضوحاً، فبعد أن قال إن احتكار الخلاص هو أمانيهم، عاد فقال:

ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله وليّاً ولا نصيراً، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً (النساء 123)

ولست أدري كيف تمكن العقل الظاهري من اغتيال دلالة هذه النصوص كلها، وفرض تأويلها أو نسخها بآيات الجهاد وآيات الجزية، مع أن النصوص محتملة ومتقابلة ولا تستعصي على التأويل.

وقد ظهر احتكار الخلاص أيضاً في مرويات السنة بشكل أكثر تفصيلاً، ونسب إلى الرسول الكريم قوله: والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد يهودي أو نصراني، ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار، وفي البخاري أن الله يقول يا آدم أخرج بعث النار، فقال يا رب وما بعث النار، فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وبإمكانك أن تتصور جيلاً ينشأ على قناعة سوداء مفادها أن 999 من كل ألف إنسان يستحقون النار، ولا يجوز محبتهم ولا الرفق بهم، ويتعين بغضهم في الله وتطبيق الأحكام الشـرعية عليهم في الجهاد والجزية!!!

ولا يشفع لهذه الفكرة الخطيرة أننا نحيل إلى الغيب، فالحساب عند الله قائم على أساس صحة العقيدة، ومعنى ذلك أن الرب سينكل بالمختلف اعتقادا وسيذيقه ألوان السعير، وستفرض هذه النتيجة تلقائياً سؤالاً بدهياً: إذا كان الرب الذي هو الرحمة والمحبة لن يرحم هذا المشرك أو الملحد أو المختلف في الاعتقاد فلماذا تريدني أن أرحمهم!!

ومن جانب آخر، فإن احتكار الخلاص كان أخطر أمراض الشعوب، وقد تصدر له أبرز فلاسفة عصـر الأنوار، وفي كتاب فولتيير "رسالة في التسامح" شرح عميق لأثر ثقافة احتكار الخلاص على تمزق المجتمع الأوروبي والحروب الدينية المدمرة، ويمكن القول إنه ما من فيلسوف من فلاسفة عصر الأنوار إلا أفرد بحثاً خاصّاً في مواجهة احتكار الخلاص واحتكار الله واحتكار الدين واحتكار الحقيقة، ولولا تفكيك هذه الفكرة المدمرة لما أمكن قيام أي دولة إنسانية حقيقية.

*- هل وجدت تأثيرًا لفكرة إخاء الأديان في بناء إخاء إنساني حقيقي؟

يجب الاعتراف مسبقاً، أن إخاء الأديان ليس موجوداً في الواقع الحالي، على الأقل في الأديان الإبراهيمية؛ فهذه الأديان تعتمد على فكرة احتكار الخلاص، وهي فكرة هدامة للأخوة والمحبة والتراحم.

وخلال التاريخ، فإن الصراعات بين الأديان الثلاثة لم تتوقف واتخذت شكل الحرب العالمية في الحروب الصليبية، وكذلك في حملات الفتوح، وإلى حد ما كان الاستعمار يعتمد على التناقض الديني.

بالطبع، لن نتنكر لجهود فقهاء التسامح في الأديان كلها وكذلك الخلفاء النوادر الذي أظهروا تسامحاً غير معتاد مع الأديان الأخرى، ولكن لا يمكن لذلك كله أن يخفي حقيقة الكراهية والبغض في الله والتمييز الإنساني بين أتباع الأديان، والذي يختبئ عادة في أثواب الكهنة، ولكنه سرعان ما ينطلق لدى أول فرصة تتيحها السياسة وكانت الحروب الصليبية تنطلق من الفاتيكان، وتشارك فيها الملوك والأباطرة، ولا يمكن أن نتجاهل أيضاً أن حروب الجهاد كانت تنطلق من المساجد ويشارك فيها الخلفاء والأمراء.

إن قناعتي أن الأديان تحمل في نصوصها الأولى قيم التسامح والرحمة، وخاصة في الإسلام، وقد شرحت ذلك بالتفصيل في كتاب إخاء الأديان، وهذا ما يجب البناء عليه، وهو ما أفردت له فصلاً مطولاً زاخراً بالأدلة والأمثلة في كتابي إخاء الأديان، ويجب كذلك الاعتراف بأن نصوص القسوة والبغض في الله أيضاً لها أسانيدها وأصولها الوية في مصادر الأديان.

ومن جانب آخر، فإن رسالة إخاء الأديان تعمل في اتجاهين: دعم الإيجابي من ثقافة الإخاء بين الأديان وإحياء رموزه وأبطاله، ومواجهة السلبي في الكراهية وتعرية رموزه وأيقوناته التي لا تزال تنشـر في الأرض الكراهية.

*- من القضايا التي دعوت إليها، ضرورة النظر إلى قضية الحجاب، ليس قضية دينية، ولا قضية سياسية، بل هو مسألة شخصية بين المرأة وربّها، وليس مسألة تتولى الدولة أو المجتمع فرضها؟

الحجاب أدب إسلامي كريم، ليس ارتداؤه ركناً في الدين ولا تركه كبيرة من الكبائر، ولم يذكر أحد من الفقهاء الذين صنفوا أركان الإسلام أمر الحجاب فيها، ولم يذكر أي من الذين صنفوا الكبائر أن ترك الحجاب واحد منها.

لقد صنفت في ذلك كتابي المرأة بين الشريعة والحياة، 2001م وتحدثت فيه عن مكانة الحجاب ومنزلته كأدب كريم، وكذلك عن حق المرأة في العمل والإدارة، وكذلك حقها في القضاء وفي المناصب العليا وفي إمامة الصلاة.

أثار الكتاب صدمة في المدارس الدينية المحافظة، وعدّته خروجاً على الثوابت، وواجهت في ذلك هجوماً عنيفاً وصدرت بيانات حكومية ظالمة تليت على المنابر بأمر وزارة الأوقاف السورية قبل عشرين عاماً.

كلن ذلك خياراً قاسياً، وقد كان ذلك متوقعاً، وأنا آسف أنني نقلت الحوار إلى تجربتي الخاصة، وربما يجب التأكيد أن الناس تتسامح في قضايا خلافية كثيرة، حتى إذا اتصل الأمر بثياب النساء، فإن الحوار يتحول إلى ساحة اتهام وانتقام لا ترحم.

ولعل أوضح صور الانتقام الذكوري من فتاوى المرأة ما واجهه الفقيه الكبير الإمام الطبري، حيث تحدث بصراحة عن حق المرأة في كل منصب، ومن ذلك القضاء كله، وحقها في إمامة الصلاة إذا كانت أفقه من الرجال، وحقها في الإمامة الكبرى وحكم الدولة، وقد كانت هذه الفتاوى مادة جيدة لخصومه الحنابلة الذين ذهبوا إلى تكفيره وإعلان زندقته، على الرغم من أنه أشهر المفسـرين وأكبر المؤرخين، وتسلط عليه غلاة الحشوية من الحنابلة ورموا داره بالحجارة حتى كادت تنغمر!! وحتى تفرغت الشرطة لحماية الدار التي بقي حبيساً فيها إلى موته، وحين مات فإن الغلاة لم يأذنوا للناس بالصلاة عليه ولا دفنه في مقابر المسلمين فدفن في بيته.

وبالتأكيد، فإنني أرفض كل محاولات إجبار المرأة على لباس مختار، سواء كان ذلك بسلطان الدولة أم بسلطان الفقيه، وأعتبر ذلك حقّاً ومسؤولية للمرأة دون سواها، وأن ما ورد في القرآن الكريم من ذلك هو أمر استحباب وإرشاد واستحسان، وهو كثير في القرآن الكريم. وأمر الاستحباب كثير في القرآن الكريم، فالقرآن مثلاً يأمر بضـرب المرأة الناشز، بصيغة واضربوهن، ويأمر بالصيد بقوله فإذا حللتم فاصطادوا، ولكن لم يقل أي فقيه إن الضـرب الذي ورد بفعل الأمر هو واجب ملزم، ولم يقل أحد إن الصيد فريضة في الحج، والأمر في القرآن يدور بين الوجوب والاستحباب والإباحة على كلام فصله الأصوليون، ومن الواضح أن الأمر هنا معلل بشكل واضح: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) وهو ما يجعل الأمر أمر استحباب تقدره المرأة وحدها في ظروفها وحاجاتها.

إنه من المحزن أن قضية حجاب المرأة تم التعامل معها بمعزل عن أيّ قيمة إنسانية، وذهب الفقهاء الذين فرضوا الخمار على المرأة إلى اعتبار عورة الرجل السوأتين! وكذلك أفتوا بأن عورة الأمة السوأتان، وهي الأنثى المجردة من حريتها وقد تكون غاية في الفتنة والجمال، بل حرموا عليها الحجاب! وكذلك فقد أباحوا للمرأة أن تجلس مع أرحامها وقرابتها من الرضاع مكشوفة الصدر والظهر بادية الثدي، ومنهم من أجاز لها ذلك مع العبيد أيضاً، وهذا كله مما تستقبحه العقول السليمة حتى لو لم ينزل وحي ولا كتاب، وبات من العادي جدّاً أن تجد من يقبل ذلك كله على ما فيه من تهاون، ولكنه يصر على ارتداء المرأة الخمار.

إنه أمر محزن أن نشاهد نتيجة سياسات القمع الثيابي التي مارستها إيران وتمارسها اليوم طالبان وما عادت به من نتائج كارثية على المجتمعات المنقمعة، وأقسى منه ما تشهده اليوم المناطق التي وقعت تحت حكم التشدد الإسلامي في إدلب وشمال حلب، حيث تقام الحفلات على منصات المدارس والجامعات بأشباح سوداء لا يظهر منها ظفر ولا عين، ثم تتحدث ملثمات منهن عن تكريم المرأة وحريتها وحقوقها!!

إنني أشعر بالحرج، إننا مطالبون ببيان الرأي في ثياب المرأة، وتفصيل القول في ذلك، مع أنه من وجهة نظري لون من تدخل المرء فيما لا يعنيه؛ فليس في القرآن نص يأمر الرجال بضبط أزياء النساء، بل فيه توجيه أخلاقي للنساء لالتزام العفاف وألا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، حيث يكون العفاف الاجتماعي مسؤولية الجميع، ويقوم به الرجال والنساء على السواء.

*- كتاب "إقبال: فيلسوف التجديد الإسلامي" هو استكشاف شامل، تناولتم فيه أفكار إقبال وفلسفته من خلال ثلاثة محاور رئيسة شرحتم فيها رسالة إقبال التجديدية، المتجذرة في إيمانه بحاجة المسلمين إلى إعادة الاتصال بتراثهم الروحي وإحياء تقاليدهم الثقافية والفكرية. كيف يرى محمد إقبال دور الإسلام في العصر الحديث؟

تجربتي مع إقبال غنية وقديمة، فهي الكلمات الأولى التي جرت على ألسنتنا حين كنا أطفالاً، ووجدت نفسي راوية متخصصاً بشعر إقبال، خاصة لما كان بترجمة صديق مقعد الدراسة الشاعر زهير ظاظا، وقد توثقت صلتي بالمشروع الإقبالي حين زارنا في دمشق جاويد بن إقبال، ونشأت بيننا مودة خاصة، ثم سعدت بزيارة ضريح لإقبال في لاهور مرتين، وأقمت في مكتبة عبد الجبار شاكر الضخمة في لاهور التي خصصها بالكامل لما كتبه إقبال أو ما صدر عنه من أعمل علمية وأدبية وفكرية.

إقبال رسالة نبيلة عابرة للقارات وهو أكثر شعراء العالم الإسلامي تأثيراً في ضمير المسلم، وقد اختارت الحركات الإسلامية كافة إقبال كشاعر الإسلام الأشهر، ولا تزال قصائده خاصة تلك التي ترجمها الصاوي شعلان صارت نشيد شباب الصحوة الإسلامية وحداءهم وغناء أرواحهم.

ولكن رجال الصحوة لم يدرسوا إقبال، إنهم فقط قرؤوا أغانيه، وشغفه بالحضارة الإسلامية والوحدة الإسلامية، ولكن إقبال من وجهة نظري هو أهم أعلام التجديد الديني في القرن العشـرين، وكتابه تجديد التفكير الديني في الإسلام يعدّ خطوة ثورية متقدمة في الوعي بحاجات المسلمين ومطالب تقدمهم. وربما لو أتيح لكثير من القساة التكفيريين أن يطلعوا على ما كتبه إقبال فيه لواجهوه باتهامات الهرطقة والزندقة كما يصنعون مع كل أصحاب الأقلام الحرة والأصوات الجريئة، ولكن يبدو أن قاعدة يحق للشاعر ما لا يحق لسواه ليست شأناً لغوياً، بل هي شأن اجتماعي أيضاً، ويغفر للشاعر ما لا يغفر لسواه.

إقبال الذي كان يعيش صخب التلاطم العنيف في القارة الهندية، وطرح حلم المسلمين في القارة الهندية بوطن مستقل وحر، ولكنه لم يكن يعيش حلماً طالبانياً، ولم يكتب أبداً في استنساخ نظم الدول الإسلامية الآفلة، لقد تحدث عن دولة حديثة ملهمة، لا سلطان فيها للكهنة الذين خصهم بقصائد كثيرة تشير إلى دورهم السلبي في تعطيل كل قيام وإجهاض كل صحوة.

إقبال عبر بوضوح عن أعجابه بالحركة البابية والبهائية كحركة إصلاحية في الجسم الشيعي، وعبر عن إعجابه بكمال أتاتورك كحركة إصلاحية رائدة في الجسم السني، وكتب بإعجاب عن تجربة أتاتورك وتمنى لكل بلد في الإسلام زعيماً كأتاتورك. وفيه يقول: إن تركيا، في الحق، هي الأمة الإسلامية الوحيدة التي نفضت عن نفسها سبات العقائد الجامدة، واستيقظت من الرقاد الفكري، وهي وحدها التي نادت بحقها في الحرية العقلية، وهي وحدها التي انتقلت من العالم المثالي إلى العالم الواقعي، تلك النقلة التي تستتبع كفاحاً مريراً في ميدان العقل والأخلاق.

ترفع إقبال عن التقليد الأعمى للغرب، وكان مصـرًّا على التفوق الشـرقي الساحر للروح على المجتمعات المادية الصاخبة بالسكك الحديدية والكهرباء ودخان المصانع، ولكن ذلك لا يعني أنه كان راضياً عن همود الأمة وسباتها، ولم يكن ليسلمه إلى سبات ساذج … لقد أعلن مشواره الإصلاحي في داخل البيت الشـرقي الإسلامي، وهناك قرر إقبال أن يقول الحقيقة الكاملة، وأن يواجه بشجاعة وقوة ثقافة الإرث المعصوم الذي يوجب على السلف اتباع الخلف، ويأمر بالوقوف على ما وقف عليه الأولون، فإنهم عن علم وقفوا وأن كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف، وهناك اختار إقبال أن يقول الحقيقة كاملة بلغة النثر لا بلغة الشعر، ليكون أكثر دقة ووضوحاً.

ومن مواقفه الرائعة في كتاب التجديد الديني في الإسلام، نظمت أكثر من ثلاثمائة بيت من الشعر تحكي رسالة إقبال في الوعي بالقديم والنهضة بالجديد، وأختار منها حواريته الجميلة التي اشتكى فيها للرسول همود مكة ونهضة الإفرنج، فقال ثائراً يخاطب الرسول:

مــا النبوات التي كانت لكـمأشرقت شوقاً على أسماعكم

 

***

غيـــر أشواق وأذواق ونورفجرت أنغامها فوق السطور

فلمـاذا ختمــت أســــرارها ولمـــاذا طويــت أنــوارها

 

***

رغـم ما يشهــده العالم هـــذا ولمــــاذا ولمــــاذا ولمـــاذا؟

فكان جواب الرسول الكريم في مواجهته حيرته وثورته:

لا تلمني يــا صديقي إننيلم أشأ أرضى لكم أوهامكم

مجدكم في الأرض لا ترسمــه

فخذوا أقــــداركم وانتبهــــــوا

 

***

خدمة للعقل أنهيت النبوّةفخـذوا أقداركم عني بقوّة

جثث تسكن في جوف المقـــابر واصعدوا أنتم على تلك المنـابر

إن مصبــــــــاحي الذي أوقدته إنمــا زيتـــــــــــك من يسرجه

 

نورك البــقي على مرّ العصور ليس زيتي وأنــــــــا ابن القبور

*- وما البديل الذي قدمته فلسفته في مواجهة تحديات العالم الإسلامي؟ وما دور الفكر الفلسفي في عملية التجديد الديني؟

ولكن أعظم ما نادى به إقبال هو ثورته باتجاه الوعي بالرسالة الخاتمة، فقد قدم للعالم رسول الله بوصفه خاتم الأنبياء، وأنه الرجل الذي أخرج الناس من ضباب الخوارق إلى ضياء السنن، ورأى في قدومه نهاية عالم الغيب وبداية عالم الشهادة، ولقد قدمت في كتابي قراءة دقيقة لموقفه الفريد في اعتبار ختم النبوة في مبعث الرسول وليس في يوم رحيله، حيث أعلن إقبال أن الرسول مستمر في عقول أتباعه، ورأى أن سلوكه الديمقراطي في التشريع والإدارة كان في الواقع إعلاناً وافياً بختم النبوّة، وتأكيداً لولادة العقل الاستدلالي.

لقد أنكر بقوة فكرة الوقوف عند لحظة اليوم أكملت لكم دينكم، وطالب بوعي جديد، ورفض تحول النبوة إلى ورقة نعي للعقل، يوجب الاستسلام للتأويل النصـّي، والوقوف على ما وقف عليه السلف، وأعلن يوم ختم النبوة أعظم أيام العقل مجداً في تاريخ الإنسانية.

لقد رآه نبياً لا كالأنبياء، وإذا كانت معجزاتهم في عجائبهم، فإن إعجازه كان في إنجازه، وهو نبي العقل ورسول المنطق، وتاريخه تاريخ كفاح بشري بامتياز فيه نصر وفيه انكسار، وفيه نجاح وفيه إخفاق، وأنه بذلك يصلح قدوة للعالمين في بناء دولة حديثة لا تعتمد على خوارق السماء، بل على سنن الأرض.

وإلى جانب وعيه بالنبوة الخاتمة بوصفها إنهاء للشـرائع التي تقود الأرض بوحي السماء، وإنهاء للحضارات العاجزة المرتبكة التي تنتظر من السماء أن ترشدها في بناء حضارتها، فإنه ذهب إلى خيار استثنائي في رفض الإيمان بالقدر، وإنكار أن يكون ركناً في الدين، وأعاده إلى مكانه كفكرة فلسفية، ونص بوضوح أنه لا يؤمن بالقدر بوصفه جبراً مكتوباً على ابن آدم.

ويبدو إقبال مدهشاً في موقفه من القدر، الذي بات يُدرس على أنه سادس أركان الإسلام، ومع أن إقبال لا يناقشه لاهوتياً، لكنه لا يترك شيئاً للاهوت!! بعد أن حطم كل تلك الأيقونات التي كانت ترسف على ضمير المسلم، وتحيله إلى شيء خاوٍ تعصف به رياح الأقدار، وتتصرف به الأمم الغالبة كما تتصرف بأشيائها، ويقدم في الوعي بالقدر سلسلة مواقف جريئة لا يمكن للعقل السلفي تقبّلها بأيّ سبيل، ولكنه لا ينفكّ عن ربط رؤيته لحرية الإنسان وكرامته بنصوص الوحي المبين، وجوهر القرآن الكريم في دعوته للحرية والكرامة، ويعجب إقبال كيف غابت هذه الحقائق عن العقل المسلم.لقد مضى قرن من الزمان سكن فيه إقبال في القلوب عزيمة في الأفئدة وأغنية على الشفاه ولوحة في محادج العيون ترسم ما هو جميل ورهيب.وكأني به يدنو من الثائر الشامخ بخطاب الحرية والكرامة والتضحية، يدعوك أن تكون سيد قدرك، وأن تقرأ كتاب التاريخ كما كتبوه، وكتاب المستقبل كما تخطه بيمينك وترسمه بريشتك وتصنعه بساعديك:

ثورتي البيضاء في أرض الحجــاز       بيـــــــــــد قل لي أين منها ثورتك أنا ماضيـــــــــك الذي تذخــــــــره        بيــــــــــــــد قل لي أينه مستقبلك؟

أنـــــا كالمرآة في سيارتــــــــــــكْ        إن تراني تبصر الماضي وراءكْ

بَيــــــْــــــــــــدَ لا يكفيك ماض آفلٌ        إنمــــا دربُك أبصرْه أمامــــــَــكْ