حوار مع القاص والرّوائي المغربي محمد مباركي : "السخرية الصادمة في أعمالي وسيلة لتعرية التناقضات المجتمعية"
فئة : حوارات
حوار مع القاص والرّوائي المغربي محمد مباركي[1]:
"السخرية الصادمة في أعمالي وسيلة لتعرية التناقضات المجتمعية"
حاوره: محمد أعزيز
ذكر القاص والروائي المغربي محمد مباركي، أنه مدين للقصة في كتابة الرواية، وأنه يجد لذّة خاصّة في الكتابة في هذين الجنسين السّرديين، رغم خصوصية كلّ منهما، ولكلّ منهما غوايته بالنسبة إليه؛ فالقصّة لديه هي تلك اللّقطة التي تلتقطها عيناه فتستهويه، وهي تلك الكلمة التي تسمعها أذناه، فيتردّد صداها في قلبه فتأخذه، فينكب على كتابتها فورا. أمّا الرّواية، فهي ذلك الفضاء الواسع الذي يسمح له بالجولان فيه كيف يحلو له ويطيب.
ويضيف محمد مباركي في حواره مع مجلة "ذوات"، أن القصّة أعزّ لديه لسبب بسيط، أنه يقوم في الكثير من الأحيان بـاستثمارها في أعماله الرّوائيّة، معتبرا أن القصص التي يكتبها هي خزّان روائيّ بامتياز، حتّى إنه يجد نفسه أحيانا مرغما على تغيير بعض مناحي مخطوط روايته وفق القصّة المستثمرة.
ويكشف مباركي عن ولعه بالفعل الحكائي عامة بنوعيه القصير والممتد، مع تأكيده أن الزمن زمن رواية، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن انغماسه في مجتمعه بالموازاة مع القراءة، يشكلان الدافع الأساس لفعل الكتابة لديه.
وعن ارتباط ما هو تراجيدي مأساوي بإنتاجه الرّوائي، يقول الكاتب محمد مباركي، إن سببه هو الأسئلة الكثيرة والعميقة التي يطرحها على نفسه، ويطرحها على الآخرين وعلى التّاريخ بصيغة "لماذا وقع ذلك؟"، فكانت كل الإجابات التي يتلقاها عن أسئلته تلك تذهب أدراج الرّياح من دون تدوين، حتّى وجد أنّ أفضل توثيق هو الرّواية والقصّة أيضا.
ويبرز الكاتب في حواره بعض السمات العامة لإبداعاته التي تجمع بين السخرية الصادمة، باعتبارها وسيلة لتعرية التناقضات المجتمعية، وبين التراجيديا التي ترثي حال الإنسان وتعرّي شقاءه، ويقف عند مرجعياته الحكائية مبرزًا تأثره بمدرسة الحوليات التاريخية، مما يجعل نصوصه الروائية تنحو نحو إرجاع الصوت للمقموعين والمهمشين ومساءلة المسكوت عنه والمغيب في التاريخ.
كما يشيد بالتراكم الذي تحقق للرواية المغربية، داعيا إلى تجاوز الأحكام المسبقة بخصوص إنتاجات الكتّاب، منوّها بما ينتجه بعض المبدعين الشباب.
ومحمد مباركي قاص وروائي مغربي، من مواليد 6 مايو (أيار) 1959 بمدينة سيدي بلعباس بالجزائر، عاد رفقة أسرته الصغيرة إلى وطنه المغرب في خريف عام 1968. ترعرع في مدينة وجدة، ودرس بها حتى حصل على شهادة البكالوريا في عام 1980. التحق بالمركز التربوي الجهوي بوجدة، وتخرج منه عام 1982، ثم التحق بالمدرسة العليا للأساتذة بفاس عام 1990، وتخرج منها سنة 1992 تخصص اجتماعيات.
لإنتاجه الحكائي سماته الخاصة، فقصصه منغمسة في أقاصي الذات الإنسانية بما هي تشكيل مجتمعي متولدة عن إخفاقات المجتمع وتناقضاته. أما رواياته، فهي سفر مسكون بقلق الإنسان عبر التاريخ، من ثمة غدت أعماله الإبداعية مساءلة حقيقية للذات الإنسانية في تاريخها، راهنها ومستقبلها، ولقد أغنى المبدع المكتبة العربية بمدونة سردية مهمة، فله في القص الوجيز: "وطن الخبز الأسود" 2010، و"الرّقم المعلوم" 2012، و"ونطق الحذاء" 2015، و"غيبوبة على منظر ساقط" 2015، و"قال رفيقي في الجنون" 2018. وفي الرواية، صدر له: "جدار" 2011، و"رائحة التّراب المبلّل" 2014، وثلاثية: "مُهجة" 2016 و"شروق شمسين" 2017 و"هذا الرّطيب" 2018.
محمد أعزيز: يتوزع مشروعك الإبداعي بين القصة والرّواية، حدّثنا عن سر هذا التوفيق المُنتِج بالغوص في عالم السرد بنفسَين مُختلفين؟
استهواني السّرد بكلّ أنواعه منذ أن تعلّمت فكّ الحروف، ومع هذا الاستهواء وجدت نفسي منذ صغري، أدمن على قراءة كلّ الأجناس الأدبيّة السّردية من القصّة إلى الحكاية والمقامة والسيرة والخطابة... ومع القصّة القصيرة كان البدء مذ كنت تلميذًا بالثّانوي، حيث كتبت أوّل قصّة وقرأتها على زملائي في القسم. كان ذلك سنة 1978 على ما أظنّ، وأوّل قصّة نشرت لي كانت على صفحات جريدة "البلاغ المغربي" سنة 1984 (عدد 668) بعنوان "كلمة الرّفض".
وجدت نفسي مع القصّة أجري المسافات القصيرة مروّضا تنفّسي على خوض غمار المسافات الطّويلة، فكانت الرّواية. أنا مدين بذلك للقصّة في كتابة الرّواية، لأن أوّل رواية كتبتها سنة 2011 "جدار" كانت في أصلها قصّة. ولا أبالغ إذا قلت لك، إنّ القصّة بالنسبة إلي هي أمّ الرّواية في مساري الإبداعي. والدّاعي إلى هذا القول هو أنّي بدأت بالقصّة ولا أقول أنهيت بالرّواية، فما زلت أكتب القصّة والرّواية لحد هذه السّاعة؛ ففي خضمّ كتابتي لرواياتي، أتوقّف لحظات كي أكتب قصّة حين يحين إلهام كتابتها، كي لا أترك فكرتها تنفلت منّي، فكم من أشياء تنفلت منّا حين نغفل عنها لحظة فقط.
أجد لذّة خاصّة في الكتابة في هذين الجنسين السّرديين، رغم خصوصية كلّ منهما، ولكلّ منهما غوايته بالنسبة إلي؛ فالقصّة هي تلك اللّقطة التي تلتقطها عيناي فتستهويني، هي تلك الكلمة التي تسمعها أذناي، فيتردّد صداها في قلبي فتأخذه. أنكبّ على كتابتها فورا؛ لأنّها لا تقبل التّأجيل. أمّا الرّواية، فهي ذلك الفضاء الواسع الذي يسمح لي بالجولان فيه كيف يحلو لي ويطيب. والزّمن زمن الرّواية.
وبقدر ما الكتابة الرّوائية عزيزة على قلبي، فالقصّة أعزّ لسبب بسيط، كوني أقوم في الكثير من الأحيان بـ "استثمارها" في أعمالي الرّوائيّة "استثمارًا" يكون مع تلك التّحوّلات والانعطافات الأساسيّة التي تعرفها قصّة الرّواية التي أكون بصدد كتابتها حين أجد في قصصي المكتوبة سلفا والمخزّنة في ذاكرتي ما يخدم لي روح قصّة روايتي في فصل أو فصلين أو عدّة فصول، فأوفّر على نفسي الكثير من الجهد الذي أكون قد بذلته مسبقًا، إذن فالقصص التي أكتبها هي خزّان روائيّ بامتياز، حتّى إنّي أجد نفسي أحيانا مرغما على تغيير بعض مناحي مخطوط روايتي وفق القصّة المستثمرة التي أكون قد شغفتُ بها حبّا.
محمد أعزيز: يمكننا الاستنتاج إذن أن القاسم المشترك في هذا التفاعل الخلاق بين الجنسين ضمن مشروعك السردي، يتجلى في الإنصات إلى ذبذبات المجتمع، حبذا لو بسطت لنا منظورك لعلاقة المبدع بمجتمعه، ولا سيما أنه صار (المبدع) متهما بالتعالي عن الواقع الذي ينتمي إليه، أليس كذلك؟
أولا، تهمة تعالي المبدع عن واقعه والمجتمع الذي ينتمي إليه هي تهمة لا يمكن نكرانها، والمبدع الذي يثق في نفسه ويثق فيما يبدع لا يمكن أن يتكبّر بأيّ حال من الأحوال؛ فكيف يمكن أن يتفاعل مبدع متكبّر في المجتمع الذي ينتمي إليه؟ ويمارس عليه التّعالي ولا ينزل إليه؟ مع العلم أنّه يأخذ منه أكثر ممّا يعطيه. واستغرابي يكون أكبر، حين يتكبّر مبدع عمّن يماثله في الإبداع أو يكون، ربّما، أفضل منه.
كم يعجبني السوسيولوجيون في دراساتهم للظّواهر الاجتماعية حين يدرسونها من الدّاخل، وهذا أحد الصّحفيين الجزائريين قام بتقمّص صفة متسوّل وجاب بلاده طولا وعرضا في شهر رمضان، كي يصل إلى المبالغ المالية التي يتحصّلها المتسوّلون في الشّهر الفضيل. وقد توصّل في تجربته إلى نتائج لا يمكن أن يصل إليها بملء الاستمارات وتفريغها. هذه تجربة صحفي نزل إلى المجتمع السّفلي الذي لا يمكن الكتابة عنه إلّا بالعيش في حناياه.
أنا قضيت أكثر من عقد بإحدى المقاهي الشّعبية بسوق، حيث إنّي عاشرت كلّ مكوّنات المجتمع. والجميع يعرف السّوق وما يجمعه من أطياف. خزّنت في ذاكرتي "ذهنياتهم"، ومدرسة "الحوليات التّاريخية" في اشتغالها على التّاريخ اشتغلت على "تاريخ الذّهنيات". تتبّعت ذهنيات تلك الأطياف من موقعي كدارس للتّاريخ قبل أن أكون مبدعًا، حتّى إنّي لمّا بدأت الكتابة كنت أستحضر عن وعي تلك الذّهنيات وأجسّدها في شخوص أعمالي السّرديّة. وما زلت لحدّ هذه السّاعة ألازم من أعتبرهم مكتبات تمشي على قدمين؛ أجد فيهم الحكمة التي لا يمكن أن أجدها في الكتب.
هناك عاملان يتحكّمان فيّ أثناء الكتابة، هما مخزون ذاكرتي وقراءاتي الموازية للكتابة، فلا يمكنني الكتابة دون قراءة. وأقصد هنا بالقراءة، ذلك المفهوم الواسع للقراءة. أنا لم أعش بالبادية باستثناء زياراتي المتكرّرة لعمّي بـ "تزاياست" بضواحي مدينة "أبركان" وأنا صغير وكتبت عن البادية، أضف إلى ذلك أنّي عشت بحيّ شعبيّ فقير بـ "وجدة" عرف نزوحا قرويّا كبيرا، حيث جاء القرويون بموروثهم الثّقافي، فَرَيَّفُوا تلك الأحياء التي سكنوها، إن لم نقل ريّفوا حتّى المدن. وبحكم معاشرتي لهم بالحيّ والمدرسة والإعدادية والثّانويّة، أخذت منهم ما كنت على استعداد قبلي لأخذه من ثقافتهم التي لم يتخلّوا عنها ببساطة.
أنا أسجّل أغلب ما أسمعه من هؤلاء وما أشاهده لحدّ الآن. كنت بعيادة الطّبيب، فخضت في الحديث مع أحد المرضى، وكان قادما من "النّجود العليا"، حيث النّشاط الرّعوي هو السّائد. قال لي إنّ الرّاعي هناك يعرف نعاجه مهما بلغ عددها، حتّى إنّه يعرف من تصيح حين وقت النّتاج، ومن تصيح حين وقت الضِّراب. استغربت من قوله، وقمتُ مباشرة بتسجيل ما قال كي أستثمره ككلام من "مصدر موثوق!".
محمد أعزيز: هذا الاختيار الواعي معرفيا في تخييل الهامشيين، يأخذ ملمحين من حيث التناول في مشروعك السردي الأول: تراجيدي مأساوي مرتبط بالإنتاج الروائي، والثاني ساخر صادم يغلب على الإبداع القصصي. كيف تفسر ذلك؟
إنّه سؤال وجيه، لم يسألني أحد سؤالا مثله، في الحقيقة كنتُ أنتظر أن أُسأل مثل هذا السّؤال. أقول إنّ ارتباط ما هو تراجيدي مأساوي بإنتاجي الرّوائي مردّه إلى الأسئلة الكثيرة والعميقة التي أطرحها على نفسي وأطرحها على الآخرين، وأطرحها على التّاريخ بصيغة "لماذا وقع ذلك؟". كنت أجيب عن تلك الأسئلة، لكنّ إجاباتي تذهب أدراج الرّياح ما دمت لم أوثّقها، حتّى وجدت أنّ أفضل توثيق هو الرّواية والقصّة أيضا. ولا بدّ أن أسوق مثالا على ذلك، ففي ثلاثيتي التي تناولت فيها العبودية بكلّ أشكالها من قبلنا نحن المسلمين، وغيرنا من الملل الأخرى، طرحت سؤالا محوريًّا أرّقني طويلا "لماذا استعبد الإنسان أخاه الإنسان المجبول على الحريّة؟". لا أدّعي أنّني أعطيت هذا السّؤال كلّ الإجابات التي يستحقّها، إنّما حاولت إعطاء إجابات مختلفة على لسان شخوص ثلاثيتي الّذين بدورهم كانوا يطرحون أسئلة تناسلت مع منعطفات كلّ جزء من أجزائها الثّلاثة حول موضوع استرقاقهم. وقبلها في روايتي الأولى "جدار" اشتغلت على سؤال الفرقة والتّشرذم والصّراع والتّناحر في العائلة الشّموليّة، ليصل إلى الأسرة النوويّة، وإلى الدّول التي ترتبط بشتّى أواصر القرابة والجوار. وقد اشتغلت في روايتي "رائحة التراب المبلّل" على مأساة اجتماعية بطلتها امرأة أحبّت ابن كبير قبيلة أطلسيّة، وأنجبت منه طفلا سفاحًا، فكان ضياع المرأة وابنها ضياعا يتشيّأ فيه الإنسان. وحتّى حين اعترف والد الطّفل بأبوّته للطّفل، كان قد فات الأوان.
اشتغالي على كلّ هذا في رواياتي المنشورة، وتلك التي تنتظر النّشر، إنّما كان نتيجة المآسي التي يذهب ضحيّتها الصّغار دون الكبار، وما دامت الرّواية هي ذلك الفضاء الواسع، جعلت ما هو تراجيدي مأساوي يرتبط بها وهذا عن قصد. يقول ميلان كونديرا في كتابه "فنّ الرّواية"، إنّ "لحظة الضّحك هي اللّحظة التي يغيب فيها التّفكير"[2]. وقد تفضّلتَ بالقول في الشّطر الثّاني من سؤالك، إنّ ما هو ساخر صادم يغلب على إبداعي القصصي. بالفعل، إنّ السّخرية تغلب على أعمالي القصصيّة، وهذا ما ذهبت إليه الكاتبة السورية غالية قباني في قصتي "قال رفيقي في الجنون" الفائزة في المسابقة التي تنظّمها مجلة "العربي" قالت: "القصة مكتوبة بأسلوبين؛ أسلوب جدي في الجزء الأول، عندما يتحدث السارد عن جنونه، بعقل، بينما اتسم الجزء الثاني بروح تهكمية ساخرة". وإنّي أرجع أمر السّخرية إلى سببين اثنين؛ السّبب الأوّل، إذا أردت انتقاد أيّا كان من الأفضل أن تسلّط عليه سلاح السّخرية. وإنّي أسأل نفسي كثيرا أمام أيّ منظر مشين "كيف لي توظيف السّخرية بتلك الفنّية التي لا يجب أن يلمس فيها القارئ تلك المجّانية المبتذلة؟". أمّا السّبب الثّاني، فهو ملاءمة السّخرية مع طبيعة القصّة القصيرة، ما دامت هذه تتلقّف ما هو غير طبيعي في تداخل السّلوكيات الاجتماعية المتناقضة، فمن المؤكّد أنّ المبدع سيصادف ما يبعث على السّخرية المؤلمة، فينسج خيوطها بفنيّة تليق بالقصّة كجنس أدبي له خصوصيته.
السّخرية النّاجحة في القصّة أو أيّ عمل إبداعي هي تلك السّخرية التي تجعل القارئ الذي مسّه شيء منها في ذاته، عليه أن يستحيي من نفسه قبل أن يستحيي من الآخر، وعليه أن يضع حدًّا بينه وبين ذلك السّلوك الذي يعرّضه للسّخريّة.
إنّ السّخرية من الأساليب المهمّة التي يستعملها المبدعون في انتقاد الواقع المجتمعي المختل، ولكنّها ليست من السّهولة بمكان كما يقول البعض. إنّها من أصعب الأساليب، ومن الأمثلة، وهذا على سبيل الحصر، أنّ الثّري في قصّتي "زفاف الكلب المدلّل" يعانق كلبه والكلبة التي من فصيلته وقد اشتراها له بأموال طائلة، حتّى "تنجب" لكلبه جراءً أصيلة في وقت اختلطت فيه أنساب الكلاب. يقيم الثّري حفلا باذخا تحضره الفرنسية ممثّلة الإغراء ومحبّة الكلاب. وهذا "الكانيش" في قصة "كلبنة" يصرخ في وجه صاحبته التي كانت تقول لأصحابها إنّه ابنها، فيقول إنّه يريد أن يبقى في "كلبنته"، ولا يريد أنسنة صاحبته له.
ومن السّخريات التي علقت بذهني سخرية كاتب من أمريكا اللّاتينية من رئيس ديكتاتوري يصوّر خادمة، وهي تنظّف سرير "سيادة الرّئيس" تصعد إلى أنفها رائحة كريهة، وهي تنفض فراشه، فتجري إلى المرحاض كي تتقيّأ. وهذا الرّئيس نفسه يختبئ كجرذ حين يسقط أحد العازفين آلته الموسيقية في جوقة تأدية التّحيّة له. إنّها سخرية لاذعة في تصوير الرّعب الدّائم الذي يعيشه الجبابرة من الدّاخل.
محمد أعزيز: تركيزك على تخييل التحولات المجتمعية بما هي انتقال مرتبط بالمصائر المفجعة للإنسان، اتسم بالانتقال أيضا، فكانت البداية محلية مع "جدار"، مرورا بالبعد الوطني في "رائحة التراب المبلل"، وصولا إلى الكوني في "الثلاثية"؛
فما سرّ فكرة الانتقال الناظمة لفعلك الكتابي، علما أن العديد من شخوص رواياتك مشدودة إلى الترحال أيضا؟
1- سرّ فكرة الانتقال الناظمة لفعل الكتابة: جاء هذا الانتقال كنتيجة طبيعيّة لفعل الكتابة بالنّسبة إلي، حيث إنّي بدأت بما هو محليّ مع روايتي "جدار" التي نالت حقّها من الدّراسات من قبل أقلام لها وزنها في النّقد المغربي، والتي فاجأتني في الحقيقة بما أعلنت عنه من ميلاد روائيّ بـ "وجدة" جاء قادمًا من التّاريخ والجغرافيا. لا أقول إنّها شجّعتني كثيرا بما قالت، بل إنّها دفعت بي إلى التّفكير فيما هو أرقى، حتّى إنّي شعرت في لحظة بأنّي لست في ملك نفسي، وإنّي في ملك جهور قرّائي الّذين قرأوا "جدار" وأصبحوا ينتظرون منّي أعمالا أخرى، وقالوا لي ذلك صراحة.
وأتوقّف هنا لأقول لولا تشجيع القرّاء والنّقاد، لما كتبت ما كتبت بعد "جدار". و"جدار" كانت هي البداية الجميلة التي جعلتني أضع قدمي في طريق الإبداع. ما زلت لحد الآن، أعود إليها لأتمتّع بتلك البداية التي كانت الخطوة الأولى في مسار سوف لن ينتهي إلّا بموتي.
كان كلّ ما قلت المحفّز الأكبر على أمرين اثنين؛ الأمر الأوّل هو القراءة الدّائمة والمتنوّعة. وأقصد بالمتنوّعة هنا بـ "جارات" الرّواية من مختلف الأجناس السّردية ومختلف العلوم الإنسانيّة. وقد ركّزت على قراءة الأعمال الرّوائيّة الكبيرة، أو ما يسمّى بالرّوايات المؤسّسة لكبار الرّوائيين العالميين. وإنّي أسعد كلّما قال لي صديقي: "عليك بقراءة رواية كذا، فإنّي قد قرأتها، فهي رائعة"، والأمر الثّاني هو الكتابة التي وجدت فيها نفسي، خاصّة وأنّ ما بقي لي من العمر لا يكفي لتحقيق جميع مشاريعي السّرديّة. وإنّي أسعد أيضا حين أسمع من صديق يقول لي: "لماذا لا تكتب على هامش حياة شخصية تاريخية وأنت أستاذ التّاريخ ترى فيه ما لا يراه غيرك؟".
2- شخوص روايتي المشدودة إلى التّرحال: ملاحظتك حول التّرحال مهمّة جدّا، وإنّي قد تعمّدته في رواياتي؛ لأنّ التّرحال هو تغيير الأمكنة والوجوه، هو العيش في زمن يتغيّر باستمرار، هو اكتشاف طبائع النّاس والتّفاعل معها، هو الحركة الدّائمة، هو الاستفادة والإفادة. وأجمل التّرحالات هي تلك التّرحالات التي تنعطف بالرّواية إلى مفاجآت صادمة للقارئ الذي لا يكون ينتظرها، فتجعله يتذكّر بداية الرّواية في نهايتها.
متى شددت شخوص رواياتي إلى التّرحال، أشدّ في حقيقة الأمر التّرحال معهم، فأسرح رفقتهم في أجزاء الأرض ومواطئ الأقدام مجدّدا معهم حياتي التي اتّسمت بالجمود، في جزء منها فرضتها التزامات قاهرة. كان التّرحال متنفّسا، فجعلته أسًّا من أساسات كتاباتي. وقد تجلّى واضحا في روايتي "رائحة التّراب المبلّل"، حين رحلت ببعض شخوصها شرقا وغربا من هذا الوطن العزيز. وكان ذلك أكثر بكثير في ثلاثيتي التي لعبتُ فيها على جغرافية حوض بحر "الرّوم" وامتداداته من اليابسة والماء، فكان ترحالي بشخوصي عبر التّاريخ الذي ليس هو التّاريخ الذي كان، إنّما هو التّاريخ الذي أردت له أن يكون.
محمد أعزيز: هذا الاهتمام بالتاريخ وفق منظوره الجديد، إلى أيّ حد تراه مسعفا في بث رؤاك الفكرية؟ وكيف يتأتى لك شحنه بإشكالات الراهن وأزماته؟
استهواني التّاريخ بحولياته مذ كنت تلميذا، حتّى وجدت نفسي أتخصّص فيه إلى جانب الجغرافيا. واستهواني أكثر بمنظوره الجديد حسب مدرسة "الحوليات" التي بحثت في جميع المواضيع دون استثناء، عاملة على الوصول إلى أدقّ تفاصيل حياة الإنسان، باعتمادها الوثيقة التي وسّعت مفهومها في تفسّر الظّاهرة التّاريخية. مستفيدة ممّا توصّلت إليه "جارات التّاريخ" من العلوم الإنسانية الأخرى. وهكذا ومن هذا المنطلق، حاولتُ الكتابة، فكلّما كتبتُ عن ظاهرة إنسانية تمتدّ جذورها في التّاريخ إلّا ووجدت فيه ما يشفي غليل الكتابة السّرديّة. ولم ألزم نفسي الكتابة وفق ما وقع - كما قلت لك سابقا - إنّما كيف كان يجب أن يقع؛ بمعنى آخر أنّي أستلهم من التّاريخ حكايته في عموميتها لأنزلها في متن إبداعي بوقائع من صنع يدي إلى درجة توهم القارئ وكأنّها وقعت بالفعل؛ وذلك بمحاولتي استعمال لغة ذلك العصر وأسماء الشّخوص والأماكن...
من السّهل الكتابة عن الجبابرة الذين بصموا التّاريخ بقساوتهم، لكن من "الصّعب الممكن" تخيّل الجانب آخر من حياتهم، حاولوا إخفاءه عن الآخرين، بل إنّهم يذهبون إلى تصفية من يكتشفه فيهم ويفشيه. وأسوق مثالا على ذلك، الحال الذي يكونون عليه حين يتحوّلون إلى أرانب أمام زوجاتهم أو خليلاتهم. هنا يكمن الإبداع بإطلاق العنان للخيال المبدع الذي يعكس مواقف المبدع من تلك الشّخصيات بتسليط سلاح السّخرية عليهم نكاية بهم وتقزيمهم إلى درجة العدم؛ لأنّ ذلك ما يستحقّون. أمّا الكتابة عن حال قسوتهم، فهذا من البساطة بمكان، حيث إنّنا نجدها متوفّرة في كتب التّاريخ.
أكون في عجالة من أمري حين أتعامل مع الحادثة التّاريخية، يكون اهتمامي بها قدر ما "أستثمره" فيما أكون بصدد إبداعه، حتّى لا أجد نفسي مقيّدًا بالزّمن الذي يمكن أن يهوي بالقصّة أو الرّواية من سمو الإبداع إلى انحطاط التّقريرية التي تُفقد الكتابة الإبداعية سحرها.
أشعر بأنّني ما زلت مقصّرا فيما كتبته عن مجموعة من الظّواهر التي كوت مجتمعاتنا، وما زالت تكويها مخلّفة عليها من المَيَاسِمِ ما لا يمكن للزّمن محوه، منها ظاهرة العبودية كما تناولتها كتب التّاريخ، والتي هي كما قلت وصمة عار في جبين الإنسانية؛ لأنّ السّؤال ما يزال مطروحًا لحدّ السّاعة حول الظّاهرة بشكلها القديم في بعض الدّول كـ "موريتانيا" و"الهند" و"الباكستان" و"هايتي" وغيرها. وما زالت مستمرّة في صور شتّى في جميع دول العالم المتقدّم والمتخلّف على السّواء. أليست عبودية الوقت عبوديّة؟ أليس الحرمان من الحقوق عبوديّة؟ أليس نظام السّخرة عبودية؟ أليس الاتّجار في البشر عبودية؟ أليس تشغيل الأطفال عبودية؟
محمد أعزيز: أعمالك الروائية تنم عن سلاسة مغرية في رسم المآلات وتطوير الحبكة عبر التوليد الحكائي المستند إلى جمالية التفاصيل، وهذا يتجلّى بوضوح في الثلاثية، فكيف تؤسس لفعلك الكتابي هذا؟ أتضع تصورا قبليا لهذه المآلات أم تستسلم لشهوة الحكي بالانقياد لغواية اللحظة الإبداعية؟
حاولت في إحدى المرّات وضع تصوّر قبليّ لعمل روائي، لكنّني فشلت في أجرأة ذلك التّصوّر كما وضعته، حيث إنّ ما أسميتَه بـ "التّوليد الحكائي" جعلني أشرّق وأغرّب في الرّواية، وأنعطف بها منعطفات ما كنت قد فكّرتُ فيها كثيرًا. لا أبالغ إذا قلتُ لك إنّها "نزلت" من حيث لم أكن أحتسبها. وقد ضحكتُ كثيرا من نفسي حين أنهيت الرّواية وعدت إلى ذلك التّصوّر. وجدت أنّ الفرق شاسع بين ما تصوّرته وما كتبته، لذلك عزفت - لحدّ كتابة هذه السّطور - عن وضع أيّ تصوّر قبلي لأيّ عمل سردي؛ لأنّ من الأساسات التي أعتمدها في الكتابة هو الحريّة التي لا يجب أن تتقيّد بتصوّر قبلي. وهذا ليس معناه عدم التّفكير القبلي في العمل الذي أكون بصدد كتابته، لكن يبقى استسلامي لشهوة الحكي - كما قلتَ - هي أساس ما كتبتُ، فغواية اللّحظة الإبداعية وهيامي بما أكتب هما اللّذان يقوداني إلى نهاية كلّ عمل. ومردّ ذلك إلى ميزة أساسية أحرص على استمراريتها، وقد تميّز بها الكثير من الرّوائيين ألا وهي "الكتابة المتواصلة" (L’écriture continue)، فلا أفكّر في كتابة رواية حتّى تصبح بداياتها شغلي الشّاغل. وما أن أبدأ في كتابتها، حتّى تصبح كلّ شيء في حياتي، فلا أتركها حتّى أنهيها. أفكّر في أحداثها في نومي ويقظتي خلال مدّة كتابتها، بل إنّ شخوصها يلازمون تفكيري كأنّهم كائنات حيّة غير حبرية. وأفتح هنا قوسين، لأقول إنّ أغرب ما أصادفه في كتاباتي الرّوائيّة خاصّة، أنّ بعض الشّخصيات التي لا أكون قد فكّرتُ فيها إطلاقا، وإذا بها تخرج لي وتفرض نفسها عليّ، فتأخذ حيّزا لا يستهان به من فصول الرّواية. وأغلب هذه الشّخصيات التي بهذا الشّكل، إمّا أصادفها في الطّريق، أو تكون مدسوسة في ذاكرتي، أو أقرأ عنها بشكل عابر في جريدة أو مجلّة أو رواية.
من هنا تبدأ لذّة البحث والقراءة الموازيان لفعل الكتابة ومحاولة بلوغ ما لم يبلغه الآخر تفاديا للتّكرار، أو بالأحرى اكتشاف جزء من الوجود الذي بقي مجهولا على حدّ قول ميلان كونديرا في كتابه "فنّ الرّواية"[3]. وهنا يأتي دور الخيال الذي ينفجر في دواخلي انفجار الأحلام[4]. يمسّ شغاف قلبي بمتعة لا نظير لها وما أروعه حين يتحوّل إلى مَرَاعف أقلامي ومقاطرها ويرقص رقصة "أحيدوس" على قراطيسي.
محمد أعزيز: كيف يبدو لك واقع الرواية المغربية، وماذا تستشرف بخصوص آفاقها؟
من خلال تتبّعي البسيط للرّواية المغربية المكتوبة باللّغة العربية، ألاحظ تراكما غير مسبوق في الإصدارات الرّوائية المغربية عامّة. وهذا مؤشّر يدعو إلى التّفاؤل بغض النّظر عن النّوع، فمن الطّبيعي أن تكون في هذا الكمّ تفاوتات على المستوى النّوعي، وإنّ القرّاء والنّقاد هم الذين يحدّدون الغثّ من السّمين في الكتابات الروائية. وحتّى هذا التّحديد يبقى نسبيًّا؛ لأنّ ما يبدو لأحدهم جيّدًا يبدو للآخر غير ذلك. أنا أتحفّظ على الأفكار المسبقة التي نكوّنها عن إنتاجات روائيّ ما ونسحبها على جميع إنتاجاته، فيمكن أن يبدأ المبدع كبيرا، وينتهي صغيرا ويمكن أن يبدأ صغيرًا وينتهي كبيرا.
أسجّل هنا ملاحظتين اثنتين؛ تتعلّق الأولى بسفر المبدعين من أجناس أخرى كالقصّة القصيرة والشّعر وغيرها إلى الرّواية، وهذا يدلّ على أنّ الزّمن هو زمن الرّواية بامتياز. وهذا ليس معناه الانتقاص من أهمية الأجناس الأدبية الأخرى أبدًا، إنّما هذا واقع تعيشه الحركة الأدبية ببلادنا. وتتعلّق الثّانية بإنتاجات الشّباب الذين يخوضون غمار الكتابة الرّوائيّة بمواضيع يعيشونها أو يتمثّلونها، فتكون كتاباتهم أكثر دقّة وتوازنا.
[1]- مجلة ذوات العدد62
[2] ميلان كونديرا في كتابه "فنّ الرّواية" الصفحة 371
[3] "الرّواية التي لا تكشف جزءًا من الوجود بقي مجهولا هي رواية لا أخلاقية"، "ميلان كونديرا" "فنّ الرّواية": ص 14
[4] "الرّواية هي المكان الذي فيه يُمْكَنُ للخيال أن يتفجّرَ مثلما يتفجر في الحلم"، "ميلان كونديرا" "فنّ الرّواية": ص 24