حوار مع الكاتب والمفكر الأستاذ ماجد الغرباوي

فئة :  حوارات

حوار مع الكاتب والمفكر الأستاذ ماجد الغرباوي

حوار مع الكاتب والمفكر الأستاذ ماجد الغرباوي

النص وسؤال المعنى

ماجد الغرباوي

مفكر عربي تنويري معروف بإسهاماته النقدية الإبداعية في مجال الفكر العربي في مختلف تجلياته الفلسفية والدينية. ويعد الغرباوي من أصحاب المشاريع الفكرية النهضوية في العالم العربي والإسلامي. وقد شيد مؤسسة المثقف العربي في سيدني بأستراليا، وهو يرأس حاليا هيئة تحرير صحيفة المثقف الشهيرة. يتضمن مشروع الغرباوي قضايا حساسة جدًّا في الفكر العربي، ويتمحور هذا المشروع في العمل على تحرير العقل من بنيته الأسطورية وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة. ويركز على أهمية التنوير الديني وتحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ويؤكد الغرباوي على أهمية قراءة متجددة للنص الديني تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأيّ نهوض حضاري، ساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب. ويتناول ماجد الغرباوي ضمن مشروعه على موضوعات: فكر النهضة، نقد الفكر الديني، التسامح، العنف، الحركات الإسلامية، المرأة، التنوير، والنهضة الحضارية في المجتمعات العربية والإسلامية.

صابر مولاي أحمد: الأستاذ ماجد الغرباوي القارئ لمختلف كتاباتكم ومؤلفاتكم، والتي يهتم جزء منها بسؤال التجديد والتغيير الثقافي في العالم العربي والإسلامي، يتضح لديه نوع من التمييز المنهجي الواضح بين النص أي القرآن، وما تشكل حوله من مفاهيم وتصورات. وهذا يعني أننا أمام نص مؤسس ومركزي (القرآن)، ونصوص كثيرة أخرى تشكلت حوله. وهناك نصوص أخرى كثيرة كذلك تشكلت حول ما تشكل حول النص وهكذا، نشأت مساحة واسعة من النصوص المتفرع بعضها عن بعض، عبر الزمن حجبت النص المؤسس (القرآن) وجعلت النظر إليه وقراءته مباشرة مسألة صعبة.

في نظرك ما هي الخطوات المنهجية للتحرر من سلطة مختلف التصورات والأفهام التي نسجت حول النص (القرآن)؟

ماجد الغرباوي: بدءاً أشكر الأستاذ الدكتور أحمد صابر على إتاحة هذه الفرصة الطيبة، للحوار حول مجموعة قضايا راهنة. إن حجب النصوص الثانية والثالثة للنص الأول تسبب في انشطار الوعي الديني، والتباس الإلهي بالبشري، فثمة اليوم وعي ديني قرآني، يستمد مفاهيمه وتصوراته من الكتاب الكريم مباشرة، وفقا لمنطق الكتاب: (هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ)، (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) وقد يستضيء بالسُنّة أحياناً، بيد أنه وعي نخبوي مهمّش، مُتهم بوضع العقل مقابل النص أو فوق النص. وآخر، وعي ديني تراثي (روايات وأقوال السلف) يضع الرواية في عَرض الآية، كلاهما وحي، وعلى مستوى واحد من الحجية، وقد تتقدم الرواية على الآية في نظر الأصوليين تخصيصاً أو تقييداً، رغم أن وظيفة السُنّة قرآنياً هي البيان والشرح والتفصيل دون التشريع: (وأنزلنا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، فتحوّلت السُنّة من نص شارح للقرآن إلى نص مشرّع! فحجبت بهذا الإجراء النص التأسيسي، وتولت نيابة عنه رسم حدود العقيدة وتشريع الأحكام. حداً اشترطت نصاً روائياً لتفسير المدونة الأولى. هكذا فرضوا ولاية السُنَّة ورأي السلف على القرآن. ومبرر ذلك، كما يقولون: إنَّها أي السُنّة وحيٌ، كالكتاب الكريم، فتكون مخصّصِة ومقيّدة لأحكامه، والنبي الكريم هو أعلم بمفاد الكتاب، فُتقدم الرواية على الآية. والأدهى أنَّ السُنّة لم تقف عند حدود قول الرسول وفعله وتقريره، بل تعدته إلى أقوال الصحابة والأئمة، لتفادي نقص التشريع. بهذا الشكل تفاقم دور الرواية على حساب الآية، على جميع الأصعدة. والكلام عن جذر المشكلة وكيف حجبت النصوص الثانية النص التأسيسي، وسرت قدسية الأولى إلى الثانية. حدّاً بات الفرد لا يميّز بين الشريعة الإسلامية التي تقتصر على ما ورد في الكتاب الكريم من آيات الأحكام وما له جذر قرآني من السُنّة النبوية، بياناً أو تفصيلاً، وبين مطلق الروايات. فغدت الرواية مرجعية أولى للفقيه. مرجعية مطلقة لفهم الآيات من جهة، وتشريع الأحكام في منطقة الفراغ التشريعي من جهة ثانية، رغم أن بيان وتفصيل السُنّة كان في أفق الواقع وضروراته، فهي مشروطة به.

ثم ظهرت اتجاهات سلفية تذم التفسير بالرأي والعقل، وتحرّم الرجوع للكتاب بمعزل عن الصحابة أو الأئمة، فانقلب الكتاب من بيان للناس كافة إلى بيان للصحابة خاصة، وبات فهم الصحابي هو الفهم الرسمي للقرآن، يقاس عليه أي رأي جديد، حتى تحول قول الصحابي إلى سلطة معرفية، فكانت نتيجته إسلام في مقابل إسلام. إسلام القرآن في مقابل إسلام الحديث. وبالتالي، فنحن أمام قضية معقدة جدّاً، التبس فيها البشري بالإلهي، فالخطوات المنهجية الأولى للتحرر من سلطة مختلف التصورات والأفهام التي نسجت من حول النص (القرآن) تبدأ بكشف بشرية النصوص الثانوية وتميّزها عن النص المؤسس. فثمة فارق نوعي وجوهري، يفرض شروطه على فهم نصوصه.

وتعني بشرية النصوص الثانوية نسبيتها وتاريخيتها. نصوص تعكس وجهة نظر تتأثر بالواقع وثقافته وتتضح هذه الحقيقية كلما ابتعدنا عن تاريخ النزول، حيث يتجلى البعد البشري الاجتهادي. وكان أبو حنيفة قد انتبه مبكرًا لخطورة الارتقاء بآراء الصحابة إلى مستوى القداسة بالمعنى الدوغمائي، حيث رُوي عنه أنه قال: (آخذ بكتاب الله تعالى، فإن لم أجد فبسنة رسول الله ﷺ، فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ﷺ أخذت بقول الصحابة، آخذ بقول من شئت منهم وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب - وعدَّد رجالاً- فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا).. فإذا كان لبعض الصحابة خصوصيتهم، فإن حجية مطلق الصحابة ومن تلاهم مسألة فيها نظر، (فأجتهد كما اجتهدوا).

نشير هنا إلى الخطوات المنهجية بهذا السياق، لتفتيت قدسية النصوص الثانوية بوصفها نصوصاً بشرية، لا تُخصِص ولا تُقيّد آيات الكتاب، فربما ثمة ملاكات وراء الإطلاق لا يدركها الفقيه:

أولاً: شرعنة النقد وإثبات عدم تعارضه مع مفهوم القداسة

نؤكد بدءاً أنَّ تعالي التشريع فوق النقد، يقف عند حدود فعلية أحكام الشريعة المنصوص عليها قرآنيّاً، دون الرواية والفقه، فإنه رأي اجتهادي، قد يُصيب وقد يُخطئ، وقد يعجز عن إدراك مقاصد الجعل بخاصة ومقاصد التشريع بعامة، وقد يفضي رأيه الفقهي إلى التعارض بينه وبين الأخلاق. فهو رأي بشري، يخضع للنقد والمراجعة والتقويم، بدءا بفهم الدين ودور الإنسان في الحياة، حتى منهج استنباط الحكم الشرعي، مرورا بمقدماته الكلامية والأصولية، قبلياته، قوة تأثير العامل الذاتي، الإسقاطات الأيديولوجية والطائفية. لا فرق بين الصحابة وغيرهم من الفقهاء. فليس ثمة ما يرقى بالرأي الفقهي إلى مستوى القداسة والتعالي فوق النقد والمراجعة.

ثانياً: تقديم فهم جديد لمفهوم القداسة ينأى به عن الدوغمائية والجمود

القداسة بشكل عام سلطة مهيمنة، تفرض محدداتها على منهج الفهم وطرائق التفكير. تستمد شرعيتها من بنية اللاشعور، بعد أن ترسو ضمن مقولات البنية المعرفية. فيتعذر زحزحتها إلا بوعي مغاير لمفهومها، كما أنها سلطة معرفية موجّهة، تحد من حرية الباحث الديني. تسلبه خيار القراءة المفتوحة للنص، ويخضع لا شعوريا لسلطته وقدسيته، بوصفه مطلقا، بل تارة رهاب القداسة يحول دون التعرف على تاريخ النص وفلسفته وشروط فعليته، مخافة المساس بقدسيته، فتغدو القداسة حجاباً يحول دون رؤية المتواري والمضمر في متاهات النص، حينما ينحاز للتبرير دون النقد والتفكيك. ويعود ثراء النص إلى ثراء دلالته، وإمكانيات تأويله، فيما يضمره ويستبعده، من خلال تقنيات اللغة وقدرتها على توظيف المجاز والتورية. كما تلعب قداسته دورًا كبيرًا في توجيه فهم النص، بحكم سلطتها وهيمنتها، حدّاً يستبعد المتلقي كل ما يتقاطع معها، ويتغافل عن دلالات كثيرة يمكن استدعاؤها لولا قداسة النص. ولعل في النصوص الغرائبية مثالاً واضحاً للفرق بين القراءتين، حيث يبالغ الباحث الديني في قداسة النص ومصدره، هروبا من جحيم أسئلة العقل واستفهاماته. وقد عمدت إلى طرح مفهوم جديد لمعنى القداسة في كتابَي: "المقدس ورهان الأخلاق"، وكتاب "مقتضيات الحكمة في التشريع" مفاده: (إن مفهوم قداسة النص تعني خصوبته وثرائه وعمقه وإمكانية كبيرة للتأويل للبحث في أعماقه، والكشف عن مضمراته، وما يريد قوله أو يستبعده، مادام النص وليس الوحي منتجا ثقافيا، موجها لنا ولعقولنا لمعرفة دلالاته والالتزام بتعاليمه. وأما التعبّد المحض فيلغي إرادة الفرد، ويتنافى مع الاختيار الذي هو شرط مسؤولية المكلف عن أعماله. أما معنى القداسة في الرأي المتداول فتعني دوغمائية مطلقة، وجمود على حرفية النص. فالفارق في فهم معنى القداسة هو ذات الفارق بين الفقه التقليدي السائد ومنهج مقتضيات الحكمة). فعندما نرفض الفهم السائد لمفهوم القداسة نطرح بديلا معرفيا جديدا. فمهما كانت قدسية الصحابي يمكن نقد نصه باعتباره نصاً بشرياً، لا ميز له، سوى أسبقيته، يمكن من خلاله اكتشاف تاريخ النص وملابساته.

ثالثاً: التمييز بين النص وفهم النص

إذا كان النص نصّاً إلهياً مقدساً، فإن فهم النص فهم بشري، يتأثر بقبليات وثقافة وأيديولجية المتلقي، وتؤثر فيه البيئة الثقافية ومختلف الظروف الاجتماعية والسياسية، فلا قداسة لأي فهم مادام فهماً بشرياً، يختلف من شخص إلى آخر، ومن بيئة إلى غيرها. تؤثر فيه العوامل الذاتية. بهذا، تتضح صفة النصوص الثانوية؛ لأنها ليست مستثناة من النقد، بما فيها السنّة بوصفها بياناً وشرحاً وتوضيحاً في أفق الواقع وضروراته. ونقدها يعني تحري أسباب وظروف صدورها، للتأكد من فعليتها. وهذا ينطبق على آيات الأحكام أيضاً، لتوقف فعلية الحكم الشرعي على فعلية موضوعه المتوقف بدوره على فعلية جميع قيوده وشروطه المأخوذة في فعليته. فربما حكم شرعي كان فعلياً في عصر النص، ولم يعد كذلك الآن مع وجود واقع مختلف، وحاجات مغايرة. فتنتفي فعليته بانتفاء فعلية موضوعه.

رابعاً: كسر رتابة التقليد

التهيب من النص بفعل قداسته بالمعنى التقليدي، هو أحد تداعيات مخيال العقل التراثي الذي إدمان التراث والروايات في فهم القرآن. فينبغي تدبّر آيات الكتاب مباشرة مادام بعضه يفسر بعضه، والكف عن رتابة تقليد التراث. فيكون للعقل حضور مميز، من خلاله تكتشف حجم التزوير في تفسير الكتاب، خاصة تأويلات الاتجاهات الكلامية. فكم يحتجون بهذه الآية أو تلك لهذا الطرف أو ذاك، لكنك لا تجد أي دلالة صريحة على المطلوب، لولا الروايات التي تقدم تفسيرات منحازة تخدم الاتجاهات الكلامية في صراعها المرير على احتكار الحقيقة، ومرونة النص القرآني الذي يسمح بتأويله.

بهذه الخطوات الرئيسة، يمكن تحييد النصوص الثانوية وسلبها قدسيتها وسلطتها، وبذلك نمهّد لعودة النص التأسيسي. فالخطوة الأساس بهذا الاتجاه: تحرير النص من قيود التجربة التاريخية. فجميع التراكمات التي وضعت حاجزا بين نصوص الكتاب والمتلقي هي اسقاطات للواقع ولحاجات أيديولوجية واتجاهات كلامية، يمكن التحرر منها من خلال النقد والمراجعة بتجرد وموضوعية لمن يمتلك أدوات النقد والبحث الموضوعي.

صابر مولاي أحمد: نحن هنا أمام اتجاهين؛ اتجاه يقول بالقطيعة مع كل ما تشكل حول النص والتعويل على جلب تأويلات جديدة في فهمنا للنص المؤسس (القرآن). واتجاه آخر يرى استثمار جل ما نسج حول النص من أفهام وتوظيفها في جلب وبسط تأويلات جديدة. مع العلم أن الاتجاهين يتفقان في مطلب التأويل (فهم الفهم) في تقديرك أي الاتجاهين أقرب إلى الصواب؟

ماجد الغرباوي: ليس المطلوب مقاطعة التراث مطلقاً، بقدر فهمه وفقاً لسياقه التاريخي، والتحرر من سلطته وهيمنته المعرفية، فلا قدسية للتراث مطلقا. ولا داعي للقطيعة مع كل ما تشكل حول النص ما لم تكن هناك مبررات كافية لذلك. فثمة قيم تعزز المشاعر الإنسانية، وتكسبها مَنَعَةً وقوة. وثمة تجارب تُغني تجاربنا، ومنجز بشري يستحق الاشادة والاهتمام، قد سجل حضوره وساهم في تطور الحضارة الإنسانية في إحدى مراحلها. المطلوب إحداث قطيعة أبستيمولوجية مع البنية الخرافية أو القروسطية للتراث، في ظل تطور معرفي أقصى المعرفة الماضية، وأبطل بريقها السحري. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى الروايات التاريخية والدينية، فهناك نصوص تقاوم تحديات الحاضر، وتفرض حضورها، بما تكتنزه من قيم إنسانية وروحية يمكن استثمارها لتعزيز القيم الأخلاقية والروحية. وإنما الكلام عن روايات وأحكام فقهية فرضتها شروط مغايرة، غدت مع مرور الأيام مرجعيات تشريعية يرتكز لها الفقيه رغم نسبيتها وعدم إطلاقها، بفعل القداسة وتقديم النص على العقل، كروايات الصحابة عند السُنة والأئمة عند الشيعة، أو كما اشترط الشافعي: "القياس على مثال"، مهما كانت قيمته المعرفية، حتى لو كان أثراً فيقّدم على العقل. الشافعي الذي أسس لسلطة النصوص، ومأسَسَة الدين، وأغرق حياتنا بالفقه، وفق قاعدة لا أصل لها تقول: (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم)، وأضفى مشروعية النصوص الثانوية (التفسيرية والفقهية). كان وراء تراجع العقل النقدي، أمام العقل التراثي، الذي اقتصرت مهمته على التلقي، والتبرير والتفسير. وبالتالي فهناك ما يدعو لتفادي تداعيات النص، كمرجعية مطلقة، بعيداً عن النقد والمراجعة. وبعيداً عن معطيات العلوم الإنسانية الحديثة، التي ساعدت على فهمٍ جديد للنص ودلالاته. ومكّنت الناقد من اكتشاف مضمراته، وما يريد قوله وما يستبعده ويهمّشه. ليس الدليل والبرهان رهان النص على صدقيته كما لدى لاتجاه العقلاني، بل قدسيته، وعقول تم ترويضها لتقبلها بالمعنى الدوغمائي لمفهوم القداسة. لذا، ليس ثمة ما يبرر قدسية التراث، وتعاليه فوق النقد والمراجعة، مادامت جميع نصوصه، بما فيها النصوص الدينية، تاريخية. كانت ناظرة للواقع، تعالج قضايا كانت مرتهنة لظرفها، وقد مرَّت عليها قرون. نصوص بشرية وعقول مفكّرة مثلنا، لها غاياتها ومقاصدها. تتأثر بقبلياتها وثقافتها وأيديولوجيتها، فهي غريبة عن واقعنا وإشكالياتنا ومعاناتنا وتحدياتنا. ينبغي الاستفادة من التجربة التاريخية وتوظيف قيمها الإنسانية، والبحث عن مرجعيات تنجح في تسويات الواقع وحاجاته. لكن لا إطلاق لها خارج ظرفها الزمكاني. إن أسطرة النصوص والرموز التاريخية والدينية لا يغير من الحقيقة شيئاً. كل ما صدر بعد وفاة الرسول نصوص ثانوية بشرية تشتغل على المدونة الأولى فهماً وتفسيراً، ومن الخطأ الاستسلام لها بدعوى القداسة عندما تحجب النص الأول وتحل محله. وهذا ما يفعله العقل التراثي، فإنه يتخذ من النصوص الثانوية / الروايات مرجعية أولى في فهم النص الأول / القرآن. وكانوا يدينون أي مقاربة للنص القرآني بعيداً عن الروايات. وهذا النوع من التفسير يتمسك به السلفيون، ويسمى: التفسير بالأثر، حيث يغادر العقل، ويحرّم الاجتهاد في التفسير بلا دليل روائي. لا فرق في ذلك بين مذهب وآخر. نحن نعاني قداسة الرموز التاريخية وسلطتهم المفروضة على فهم النصوص. يضعون حلولاً لواقعنا، وهم في قبورهم. يتعذر النهوض مع وجود عقول مرتهنة للماضي بكل حمولته، ويرفضون الاجتهاد مقابل النص مطلقاً، بدعوة قدسيته وعجز العقل عن إدراك ملاكاته. الأمر برمته مرتبط بالحداثة ومناهج التفكير من أجل نهضة تمهّد لمجتمعات آمنة مستقرة، تتبنى القيم الأخلاقية، وتسعى لضمان حياة حرة كريمة للإنسان. أو بعبارة أخرى: "هدف التنوير استعادة مركزية الإنسان وتحقيق التوازن الروحي والمادي"، مما يستدعي تجديد مناهج التفكير، بعيداً عن البنية الأسطورية أو القروسطية. لا قدسية ولا سلطة مطلقة للتراث، ويجب وضع مسافة كافية لنقده ومراجعته باستمرار، ليأخذ العقل دوره في فهم النص التأسيس، تفسيراً أو تأويلاً أو كليهما.

صابر مولاي أحمد: القارئ لمؤلفاتكم يفهم منها التمييز ما بين الدين والتدين، الدين بكونه مطلقا ومتعاليا، والتدين بكونه متصلا بالثقافة والزمن وتجربة الإنسان الفرد منه والجماعة. هل هذا يعني أن القرآن يمثِّل الدين في مجمله؟ أم إن هناك مساحات من داخل القرآن متصلة بالمحيط التاريخي الذي نزل فيه (التدين/ الثقافة)؟

ماجد الغرباوي: السؤال عن مفهوم تعالي الدين، ودور الواقع فيه، سؤال مهم لتحديد معنى الإطلاق والتعالي من أجل تقديم فهم جديد للدين يأخذ بنظر الاعتبار دور الإنسان في الحياة ومسؤولياته تجاه نفسه والآخر والعالم. هل القرآن نصوص وتشريعات (أوامر ونواهٍ) متعالية، لا علاقة لها بالواقع أم لا؟ هل تشريع أحكام الجهاد مثلاً مطلقة أزماناً وأحوالاً بغض النظر عن التحديات التي فرضت على المسلمين واقع الحرب والقتال، وستبقى هكذا مطلقة. أم إن فعليتها مرتهنة لفعلية موضوعها؟ ومثال آخر تجربة الأنبياء والرسل عبر التاريخ هل هي تجربة الدين في تعاليه أم هي تجربة بشرية تاريخية تمثّلت القيم الدينية والإنسانية، فتكون أحكامها وتشريعاتها مرتبطة بتلك المراحل بالذات؟

القارئ للكتاب الكريم بتدبّرٍ يُدرك مدى اتصاله بمحيطه التاريخي وبيئته الثقافية. القرآن كان ناظرا لواقع يروم معالجته، فيتناوله إجمالا أو تفصيلا ضمن إطاره التاريخي ومؤثراته الموضوعية، فترتهن فعلية الحكم الشرعي لفعلية موضوعه. أو بشكل مكثف: (النص القرآني مرآة، يعكس ثقافة المجتمع، ومعالم بيئته، لا مجرد نسيج لغوي له دلالاته وسلطته. نص تتردد في أرجائه أصداء الوعي الجمعي، وما يعانيه المجتمع من أزمات نفسية وأخلاقية واقتصادية). وهذا لا يسلبه صفة الوحي أو التعالي بمعنى الثراء. بل هي أحكام تشريعية موضوعية تأخذ بنظر الاعتبار المتغيرات الزمانية والمكانية. فإذا كان ثمة إطلاق للشريعة، فيقتصر على مبادئها وقيمها، دون نصوصها، التي شُرعت أساساً وفقاً لتلك المبادئ، في إطار واقع تاريخي متغير؛ فهي تواكب الواقع من خلال مبادئها وقيمها.

القرآن وحي، له لغته ورمزيته ومرونته وبلاغته وسعة آفاقه، يدور حول وجود الخالق ووحدانيته ونفي الشرك عنه: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (الزخرف: 84). استعرض في تضاعيفه قضايا غيبية، هي امتداد لموضوع عقيدة التوحيد، لكنها قضايا تجريدية لا حقيقة لها خارج النص والفضاء المعرفي للمتلقي فتكون نسبية لنسبية قبلياته وثقافته، تختلف من فرد إلى آخر. لعدم قدرة الإنسان على إدراك القضايا المجردة والغيبية، فيتمثّلها ضمن صور الواقع أو المتخيل الذي يستمد وجوده من الواقع أيضاً، وهذا ارتباط غير مباشر بالواقع. هذا على مستوى العقيدة. وفي الآن ذاته الدين مشروع يقوم على مركزية الإنسان (الإنسان الخليفة). يأخذ بنظر الاعتبار مصالحه ودوره المحوري في الحياة الدنيا. فالقرآن يمثل الدين في مجمله بهذا المعنى، وما عداه تفصيلات متصلة بالثقافة والزمن وتجربة الانسان الفرد منه والجماعة. مرجعيتها قيم الدين ومبادئه والاستفادة من تجاره.

وعلى صعيد التشريع تجد الشريعة تواكب تطلعات الإنسان في أفق الواقع وضروراته: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا). وتشرّع في ضوء الواقع ومتطلباته، فالموقف من أهل الكتاب، كان محكوماً بالواقع. والآيات التي كانت بصدد تحديد الموقف من الآخر، كآيات الجهاد والقتال، قد أُخذ موضوعها على نحو القضية الخارجية بتعبير الأصوليين، ناظرة إلى واقع محدد أو مجموعة أفراد مشخّصين. وهذا النوع من الأحكام لا إطلاق له، بل ترتهن فعلية أحكام الجهاد مثلاً على فعلية موضوعها المتوقف بدوره على جميع قيوده وقرائنه. فلا تعود الأحكام فعلية ما لم تستوفِ جميع شروط فعليتا، وهذا يبدو مستحيلاً مع تقادم الأيام. فالذين كانوا يتشبثون بالقوة، ويعلنونها حربا شعواء، يتربصون بالدعوة وقائدها في وقت كانت الدعوة الإسلامية فتية، هذه الأسباب قد تلاشت اليوم. ونحن الآن نعيش واقعاً مغايرا، فموضوع الأحكام قد تغيّر، حتى مع وجود من يتربص بالدين، فثمة أساليب رادعة حديثاً تغني عن الحروب والقتال. ويجب العودة إلى أسلوب الحوار والإقناع بالكلمة الطيبة وبالدليل والبرهان: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، (النحل: 125). وهكذا باقي الأحكام، لكن للأسف يتشبث الفقهاء بإطلاقاتها أزماناً وأحوالاً. وأمامنا ما فعلته (داعش) بأهل الكتاب، وهي تنفّذ أحكاماً لا إطلاق لها، وهناك من أمضى تصرفاتهم من الفقهاء للأسف الشديد، فأساؤوا للدين من حيث يعلمون أو لا يعلمون!

ثمة قضية مهمة جدّاً، أنَّ الأحكام القرآنية التشريعية تتقاسمها ثلاثة مصادر: أولاً: العقل: كالأحكام الأخلاقية التي هي أحكام إرشادية لحكم العقل. حتى في تفصيلاتها. ثانياً: الحكمة: وهي غير الوحي وغير الشريعة. كمجموعة أحكام مهمة جدا، صرّح الكتاب (الوصايا العشرة) أنها من الحكمة وليست من الشريعة. (سورة الإسراء: 23-38). ثالثا: الشريعة: وهي ما تبقى من أحكام، أغلبها إجابات على أسئلة مطروحة. أو تصحيح لأحكام سابقة، فهو يلاحظ الواقع ومقتضياته، وفقاً لمبادئ التشريع. وأدل دليل على دور الواقع في التشريع الآية الكريمة: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا). حينما يتغيّر الحكم تبعاً لتغير الواقع، الذي هو في تطور مستمر، نموذجها الآية: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) [الأنعام:146]. وبالتالي تعدد مصادر التشريع قرآنيا يسمح بمواكبة الواقع من خلال قيم الدين ومبادئ التشريع.

فالأحكام تستجيب للواقع وتتغير بتغيره؛ فلا ثبات ولا إطلاق لأي حكم مادام هناك احتمال عدم فعلية موضوعه في آفق الواقع وضروراته. وهنا يأتي دور العقل في تحري فعلية أحكام الشريعة، بل يمكن الاستغناء عن جملة أحكام دون أن يضر ذلك بمصداقية الشريعة، فلو قدر للرسالة الإسلامية مواصلة طريقها دون تحديات، لَما صدرت أحكام الجهاد! وهذا مجرد مثال. كل هذا يؤكد أن هناك مساحات من داخل القرآن متصلة بالمحيط التاريخي الذي نزل فيه. فالقرآن يمثِّل الدين في مجمله كونه وحياً، وهذا لا يمنع اتصاله بالواقع.

صابر مولاي أحمد: تبعا للسؤال السابق كيف تنظر لمساحة التشريع في القرآن؟ هل هي تطبيقات تاريخية متصلة بالمحيط التاريخي للقرآن الكريم، أم هي فوق التاريخ؟ نأخذ مثلا على ذلك فقه المرأة ولكم كتاب بعنوان المرأة والقرآن.

ماجد الغرباوي: لا ريب أن الأحكام الشرعية ناظرة للواقع ومرتهنة له في فعليتها، إثباتاً ونفياً. فهي ليست مطلقة، ولا فوق التاريخ، كما أتضح في جواب السؤال المتقدم. وفي هذا السياق يقع فقه المرأة، بشكل أدق: طرحتُ في كتاب مقتضيات الحكمة في التشريع الصادر هذا العام 2024م فرضية مفادها: (ليست الأحكام في الشرائع السماوية معطى نهائياً، بل إن تشريعها يجري وفقاً لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته). مع الأخذ بنظر الاعتبار عدم وجود بُعدٍ غيبي أو ميتافيزيقي في الأحكام سوى مبادئ التشريع، وهي: ("العدل وعدم الظلم". "السعة والرحمة". "المساواة")، يأخذ فيها العقل دوره، "معيارا للتمييز بين الصواب والخطأ، والحسن والقبح". وتكون خصوص القيم الأخلاقية الأصيلة أساساً لتحديد مستوى الإلزام في الحكم. وذكرت ما يكفي من الأدلة العقلية والقرآنية لإثبات صحة هذه الفرضية، وبالتالي، فالواقع المتحرك مأخوذ في الحكم الشرعي دائما. ومرتهن له في فعليته. وقد نبهتُ بعد استعراض الأدلة والبراهين في ذات الكتاب، أنَّ مهمة الدين إرشادية، وأنَّ أحكام الشريعة كانت مجرد أمثلة للتشريع (لا أنها قوالب سرمدية)، ليستقل العقل فيما بعد بتشريع ما يراه مناسبا، وفقاً لشروط التشريع بما يحقق مبادئه. الدين ينأى بالإنسان عن العبودية، ويحملّه مسؤولية عمله، مادام عاقلاً، يعي دوره. الدين لا يريد للعقل أنْ يكون كسولاً. هذا تصور عبودي استبدادي موروث. يطالب الدين بتقديم تفسيرٍ لكل شيء، وبيان كل صغيرة وكبيرة، ويقتصر دوره على الطاعة والاتباع، لذا اعتمد هذا الاتجاه الأحاديث الضعيف لتكريس سكونية العقل وكسله. وعليه، يجب العدول المرجعي من الفقه إلى الأخلاق... من التعبـّد إلى التعقّـل. والانتقال من ضيق الفقه وسجون النص إلى رحاب القيم الأخلاقية. وفق مقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع. ويعني العدول المرجعي من الفقه إلى الأخلاق: الانتقال من النقل إلى العقل في فهم الدين والتشريع... من التعبّد إلى الاجتهاد... من الجمود على ظاهر النص إلى التأمّل والتأويل... من التلقي إلى النظر... من التقليد إلى التعقّل... من الانقياد إلى الحرية... من أولوية التشريع إلى أولوية الإنسان... من الانغلاق على الماضي إلى التفكير بالحاضر والتخطيط للمستقبل...من الإملاء الفقهي إلى الامتثال الأخلاقي...من الأيديولوجيا إلى المبدئية والالتزام الأخلاقي. وبشكل أدق ستكون مهمة التشريع في منطقة الفراغ التشريع، و(هو كل حكم لم يرد فيه نص قرآني)، من اختصاص العقل، شريطة موافقة أحكامه لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته؛ أي ينبغي الانتقال في عملية ملء الفراغ التشريعي من النص إلى مبادئ وقيم النص. يؤكده أنَّ انقطاع الوحي إيذان بالعودة إلى العقل لملء الفراغ التشريعي وإدارة شؤون الحياة، ولو كانت هناك حاجة أبدية إلى الوحي لاستمرت بعثة الأنبياء. فيجب الانتقال من مرجعية النص إلى مرجعية مبادئ وقيم النص. فثمة مسائل مستحدثة أفرزها الواقع ليس لها مرجعية تشريعية. ينبغي الإجابة عنها وفق مقتضيات الحكمة، وهو منهج عقلي – أخلاقي، كالاستنساخ وحمل الأنابيب وزراعة الأعضاء والذكاء الاصطناعي وغير ذلك كثير.

في ضوء ما تقدم، يمكننا فهم جميع الأحكام الشرعية المنصوص عليها قرآنيا المرتبطة بالمرأة. فهي أحكام تاريخية، كان للواقع دور في تشريعها. لا إطلاق لها إلا ما دل الدليل اللفظي. فثمة أحكام سبقت الإسلام قامت الشريعة بإمضاء بعضها، وتقويم الآخر، مع رفض كل حكم يتعارض مع القيم الدينية والإنسانية. فكانت الأحكام ناظرة للمرأة ضمن واقع محدد في شروطه الثقافية والاجتماعية.

الكتاب الكريم لم يتعامل مع المرأة جسدا مجردا من شرطه الثقافي، فتكون أحكامها مطلقة أزماناً وأحوالاً كما يفهم ذلك الفقه التقليدي، بل تعامل معها إنساناً كاملاً: (عقل وثقافة ووعي) ضمن واقع اجتماعي وسياسي محدد. فموضوع الحكم كان يأخذ بنظر الاعتبار جميع الحيثيات (المرأة بما هي إنسان عاقل ضمن شروط ثقافية واجتماعية محددة)، فيرتهن الحكم لفعليتها وعدم فعليتها. يؤكد هذا (أي معاملة المرأة ضمن شروطها الثقافية والاجتماعية ومستوى وعيها وتفكيرها) اختلاف الأحكام بين المرأة الحُرة والأَمَة في جملة موارد، فلو كانت الشريعة ناظرة للمرأة بما هي جسد أنثوي، مهما اختلفت الظروف التاريخية وشروطها الثقافية، فلماذا اختلف الحكم الشرعي بين المرأة الحرّة والأَمَة المملوكة في بعض المسائل القضائية كحكم الحدود والتعزيرات؟ إذن، فثمة أبعاد ثقافية كرّست تفاوت الحكم. وهكذا الفرق بين المرأة المُسلمة والكافرة. الحكم الشرعي لم ينظر للمرأة بما هي جسد أنثوي، بل بما هي إنسان في إطار واقع ثقافي. والمرأة اليوم إنسان مختلف في ثقافتها ووعيها وقدراتها ووضعها الاجتماعي والسياسي والعلمي. فهي امرأة أخرى تختلف عن امرأة القرون الهجرية الأولى، فتختلف أحكامها تبعا لاختلاف الموضوع. لا ريب أن لائحة تشريعات المرأة في زمن الرسالة يُعد طفرة حضارية من حيث الحقوق والواجبات، بينما ذات الأحكام اليوم تُعد نكسة مقارنة بلوائح حقوق الإنسان! لا أتحدث عن الخطاب التراثي والخطاب الفقهي الذي يُعد فجيعة إنسانية، لا همَّ له سوى تأكيد دونية المرأة ونقصان عقلها. وحاجتها التكوينية لقيمومة الذكر عليها.

لا يخفي أنَّ بعض تشريعات الكتاب، خصوصاً أحكام المرأة، جاءت في سياق الأعرف والتقاليد آنذاك، فعندما يشرّع للعلاقة بين الرجل والمرأة يستخدم ذات المفاهيم الاختزالية المتداولة آنذاك. فيعبّر عن العلاقة الشرعية بينهما بـ"النكاح" بدلاً من "الزواج"، الثاني مفهوم إنساني يوحي بالتفاهم والتشارك في الحياة الدنيا، بينما الأول ذكوري اختزالي يختزل المرأة إلى إناء لإفراغ شهوة الذكر: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)(النساء: 3). فهي مسلوبة الرأي والإرادة، سكتت الآية عن بيان مشاعرها. وواصلت تفصيل امتيازات ذكوريته وشرهه الجنسي. لذا يعرف الفقهاء عقد النكاح بصيغ تكرس ذات المعنى: (عقدٌ متعلقٌ بشكل مباشر بحرمة الفرج واستحلالها)، كما في بعض التعريفات الفقهية. فالعقد يشرعن امتلاك الرجل لفرج المرأة، فهي ليست سوى ذلك العضو الذي يتم التعاقد عليه، أو (عقد يفيد شرعاً استمتاع كلّ من الزّوجين بالآخر على الوجه المشروع)، وهذا ربما أفضل تعريف من سابقه، لكن لا يخرج عن حدود الجنس. وواجب المرأة شرعا كما ينص الفقهاء تمكين الزوج من نفسها متى شاء وإلا فيصدق عليها مفهوم النشوز الذي يبيح للرجل ضربها، لعدم تمكينها منها لأي سبب كان، سواء كان تمردا أو حالة نفسية أو مرضية وغير ذلك. وهذه الصيغ يرفضها الذوق العام والذوق الأخلاقي وترفضها المرأة لذا تدارك الفقهاء الموقف فعددوا صيغ العقد ليشمل مفهوم الزواج فتقول هي أو وكيلها: "زوجتك نفسي"، "أنكحتك نفسي"، وبعض يضيف: "متعتك نفسي". فالخاطب القرآني التشريعي بصيغة النكاح كان منسجماً مع السياقات المتدوالة آنذاك، مما يؤكد أن النص القرآني وليس الوحي منجز ثقافي. وهذا شاهد على دور الوقع في التشريع. الوضع اليوم يختلف تماما، يجب حذف كلمة نكاح الاختزالية مادام متضمنا في مفهوم الزواج، والاكتفاء بمفهوم الزواج. وهذا مجرد مثال. وبالتالي، الواقع هو الذي تولى صياغة العلاقة بين الرجل والمرأة، فاختزلها بفرجها، ووضعها تحت ولاية وقيمومة الرجل، ليس لها حق الرفض والتمرد، فتمردها تمرد على الله. هكذا جرت الأمور، فكانت أحكام النشوز قاسية، منحازة لذكورية الرجل دونها.

صابر مولاي أحمد: يبدو من خلال كتابكم، النص وسؤال الحقيقة، أن النص تم توظيفه، في صراع حول الحقيقة بين مختلف الاتجاهات الأيدلوجية قديما وحديثا، وبين اتجاهات شرعية السلطة، وبين الاتجاهات المعارضة للسلطة، وبين أطراف اتصفت بالغلوِّ والتشدُّد. ألا تتفق معي بكون المشكلة هنا تعود في أصلها المنهجي لفهم مغلق واحد للحقيقة. وكل يتلبَّس بلبوسها ويوظف النص لدعم ما تلبس به، وقد أظهرت مختلف العلوم الإنسانية اليوم بأن الحقيقة غير مطلقة وغير مكتملة وهي نسبية، وكما هو معروف بأن الله واحد لكن الطريق إليه متعدِّد. السؤال هنا كيف نتجاوز سؤال النص والحقيقة إلى سؤال النص والمعنى والدلالة؟ مع العلم أن مطلب المعنى يقبل بتعدد الفهم والمعنى والقراءة.

ماجد الغرباوي: كان النص ملاذ الجميع لشرعنة سلوكهم ومواقفهم الأيديولوجية، مهما كان مستوى ضعفه، بل تم توظيف روايات موضوعة لا فقط ضعيفة سنداً! لتوقف فعل الأدلجة وتوظيفه لاحتكار الحقيقة عليه. فأحيانا تجد ذات النص يستدل به كلا الاتجاهين لإثبات صحة معتقده. النص وليس العقل، يمثل تمام الحقيقة، يقتصر الموقف تجاهه على التسليم دون النقد والمراجعة. ومازال النص يمارس دوره كسلطة معرفية عليا. وبالتالي لا وجود للحقيقة خارجه، بيد أن العلوم الإنسانية المختلفة أكدت نسبية الحقيقة ونسبية الطرق إليها؛ أي لا توجد حقيقة، بل هي مخلوق آني. لا حقيقة له خارج النص والفضاء المعرفي للمتلقي. وثمة اتجاه يرى وحدة الحقيقة وتعدد الطرق إليها، على أساس نسبية المعرفة الدينية. ويستدل هؤلاء بالقرآن بما يشعر بنسبية الحقيقة، مهما كان قدرها، وعدم احتكار النجاة في الآخرة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، بل إن قوله: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، (سورة الرحمن: 29)، يقوض مفهوم الثبات.

وكان أحد مشاغلي في كتاب التسامح ومنابع اللا تسامح نقد دعوى احتكار الحقيقة، واحتكار طرق الوصول لها، التي هي أساس التباغض والاقتتال الطائفي. إنَّ للحقيقة وجودا نسبيا لدى جميع الافراد، ولا مبرر حينئذٍ لدعوى احتكارها والتفرد بها. التسامح الحقيقي ينفي احتكار الحقيقة والاستئثار بالنجاة لطرف دون آخر. على الضد من المذاهب والفِرق الكلامية التي تحتكر الحقيقة، وتحكم بردة الآخر وكفره وحرمانه من النجاة. فقبول الآخر، وفقا لهذا الرأي حينئذٍ، ليس منَّة، وإنَّما واجب تفرضه الحرية الشخصية، وهو حق يرتكز أساسا إلى القول بنسبية الحقيقة، التي ترى أنَّ للحقيقة وجودا نسبيا لدى جميع الأفراد، ولا مبرر حينئذٍ لدعوى احتكارها والتفرد بها، ولا مبرر، أيضا، لاعتبار قبول الآخر والتعايش معه منَّة وتكرّما؛ أي اعتبار قبوله قيمة أخلاقية، بعد تبدد مفهوم الحقيقة المطلقة وتلاشي دعاوى احتكارها والاستئثار بها. وإنَّما سيكون قبول الآخر على أساس اشتراكه في وجود الحقيقة. فتبقى محتملة في جميع الأطراف، مهما بلغت نسبة الاحتمال. وبالتالي فمن الواجب قبولك للآخر والتعايش معه وفق هذا المبدأ؛ إذْ مقتضى كون الحقيقية نسبية تفرض على كل فرد وجوب الاعتراف بحق الآخر في اختيار عقيدته وحريته في التعبير والدفاع عنها؛ أي ما يقع ضمن دائرة حريته الشخصية.

عودة للسؤال: نعم، يمكن تجاوز سؤال النص والحقيقة إلى سؤال النص والمعنى والدلالة، بعد نقد مرجعيات التفكير الديني أولاً، وهذه كانت مشاغل كتاب (النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني)، الذي صدرت طبعته الثانية هذا العام. فنزع قداسة النص وتقديم فهم جديد لمفهومها خطوة أولى على طريق تجاوز سؤال النص والحقيقة. فسؤال النص والحقيقة يمهد لسؤال المعنى. بمعنى أدق بعد نقد مرجعيات التفكير الديني، يطرح سؤال المعنى والدلالة نفسه تلقائيا، ويغدو التعدد مقبولا مرحّباً به. ومن ثم، يصدق الانتقال من سؤال النص والحقيقة إلى سؤال النص والمعنى والدلالة؟ لكن مادام الراسخ في العقل التراثي أنَّ النص يمثل تمام الحقيقة، (وحدة الحقيقة ووحدة الطرق إليها)، يتعذر الانتقال إلى سؤال المعنى.

صابر مولاي أحمد: يكتنز القرآن منظومة من القيم العلياً، على رأسها قيمة الرحمة والعدل والحرية... في نظرك، ما هو الأفق الأخلاقي معرفياً في نظرة القرآن إلى الإنسان والعالم، الذي بإمكاننا أن نعول عليه في قراءتنا للقرآن، قراءة يحضر فيها ما هو كوني وإنساني، بهدف تقويم رؤيتنا لذواتنا في الماضي والحاضر وتقويم رؤيتنا إلى الآخر المختلف علينا؟

ماجد الغرباوي: إن الأفق الأخلاقي معرفيّاً في نظرة القرآن إلى الإنسان والعالم هو أفق إنساني، يكرّس الإنسان قيمة عليا. لا يسمح بهدر كرامته وسلبه حريته أو اضطهاده وحرمانه من حقوقه المشروعة، تحت أي دافع كان. وهو أفق رحب متعالٍ، قادر على تقويم رؤيتنا لذواتنا في الماضي والحاضر وتقويم رؤيتنا إلى الآخر المختلف. فعلى صعيد الذات يؤكد الأفق الأخلاقي على استقلالية وجود الإنسان، وكرامته وحريته التي تُعد مقوماً أساسا لإنسانيته، يرتهن لها تحققه خارجاً، وهي حقوق يجب احترامها والذب عنها. لذا ينبغي عليه، كما له حقوق يرفض انتهاكها، احترام الآخر لا من باب المنّة والتكرّم بل حقا وجودياً مدام شريكا بالحقيقة، مهما كانت نسبتها. فالآخر بالتالي، إنسان له كافة حقوق الإنسان بلا استثناء، ما لم يهتك حرمة تلك القيم الإنسانية. وهناك مصفوفة آيات تؤكد هذا المعنى، ويكفي أنَّ نظام القيم الأخلاقية الأصيلة من مدركات العقل العملي، فتكون مشتركاً إنسانياً يمكن الاحتكام له. وعندما تكون القيم الأخلاقية الأصيلة هي الحاكمة يتحقق التوازن الأخلاقي ويسمو الفرد في نظرته لنفسه والآخر إلى مستوى إنساني رفيع. تجدر الإشارة أن قيم العقل العملي هي خصوص القيم الأصيلة دون المكتسبة، ما فتئت الثانية توافقات، يجري تقيمها وفقا لضوابطها. يقتصر دور العقل العملي على استحسان ما ينسجم مع القيم الأصيلة وإنكار قيم الظلم والعدوان. وباستثناء القيم الأصيلة فإن جميع القيم الأخلاقية مكتسبة، نسبية، تاريخية، وتوافقات اجتماعية، تختلف مكانا وزمانا، تكتسب شرعيتها من توافق الناس عليها، تحت أي دافع كان. ظهرت مع بوادر أول تجمع بشري لتنظيم شؤون العائلة أولاً ثم تدرجت، حيث اقتضت ضرورات الانتماء البشري، وتحقيق مصالحهم المشتركة اللجوء لقيم أخلاقية تنظّم علاقاتهم وتحمي مصالحهم، لتفادي تداعيات الصراع تحت ضغط التحديات الخارجية، ثم أخذت تتنوع وتتعدد مع تطور المجتمعات، واتسعت بظهور الأساطير ومن ثم الأديان، التي أفرزت طبقة رجال الدين. كما أنَّ مجتمعات العبيد فرضت هي الأخرى قيمها، لتستبد طبقة الأسياد بقيم النبالة والاحترام، وتكرّس قيم العبودية لضمان عبودية طبقة العبيد. (انظر كتابي: المقدس ورهان الأخلاق). في ضوء ما تقدم تقع كرامة الإنسان في أعلى سلّم القيم، فللإنسان بما هو إنسان كرامة، لا يحق لأحد سلبها إيها أو الحط من قيمتها، فضلا عن التجاوز عليها: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، (الإسراء: 70). الإنسان هو رهان الله مع ملائكته حينما قال: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، (البقرة: 30). فينبغي لنا تكريس القيم الإنسانية والمُثل العليا، والترفع عن منطق الكراهية والحقد والتنابذ لمجرد اختلاف الرأي. هذا أولاً، وثانياً على صعيد الكوني فإن الكتاب الكريم يؤكد: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، (الجاثية: 13). فالكون بكل ما فيه مسخّر للإنسان، وهذا بدوره يؤكد سمو مكانته. ومن يراجع منظومة القيم الأخلاقية في الكتاب يتأكد له أنها قيم تكرّس إنسانية الإنسان، فعندما يتحدث عن الكرامة يجعلها لكل إنسان، وعندما تستعرض آيات العطاء تكرس الإنسان قيمة عليا، دون أي شرط مسبق كالإيمان مثلا: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ..)، (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (الإنسان: 8). مطلق الفقراء والمساكين. وغيرهما من الآيات. بيد أنَّ الفقهاء والعقل التراثي اشترط الإيمان في العطاء، وليس كل مؤمن بل خصوص المؤمن من فرقته الناجية. فهي فتوى إقصائية لا تنتمي لإسلام القرآن، فيجب قراءة القرآن بمعزل عن إملاءات الفقهاء والمفسرين. وبهذا نفهم عدم شرعية كل قيم أخلاقية تتعارض مع القيم الإنسانية، ونفهم في ذات السياق أن ما جاء في الكتاب خاصة الموقف من الآخر، كان استثناءات مؤقتة أملتها ظروف المعركة، وأيضا لم تتركها مطلقة، بل وضعت الآيات حدودا. نعود لنؤكد أن الأفق الإنساني في قراءة القرآن، يحقق مرامي الدين وأهداف الرسالة السماوية التي هي أهداف إنسانية. وليس غرضي الدفاع من منطلقات أيديولوجية أو إيمانية، بل أفهم الكتاب ضمن سياقه التاريخي، واعتبر القيم الإنسانية والمُثل العليا في الكتاب من الآيات المحكمات التي تُرد لها الآيات المتشابهات. إنَّ قراءة القرآن بأفق إنساني تمنح المتلقي شعورا بالطمأنينة والسلام الداخلي، ونقاء القلب في تعامله مع الآخر، بل حتى علاقة الإنسان بخالقه تأتي في سياق كرامة الإنسان ودوره في الحياة الدنيا. نخلص إلى أنَّ الأفق القرآني أفق إنساني، يمنح الإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن تشظيات الهوية، يمحنه قيمة عليا، وفقها ننظر للذات والآخر والعالم.

صابر مولاي أحمد: كيف ينظر ماجد الغرباوي إلى طبيعة مستقبل العالم، وما سيكون عليه، ونحن مقبلين على ثورة علمية تتعلق بالذكاء الاصطناعي، وقد تجرأ البعض بحديثه عن الإنسان الآلي، هل يمكن للتقنية وذكاؤها أن يحل محل الإنسان مستقبلا في اتخاذ مختلف القرارات المصيرية التي تتعلق بالإنسان؟

ماجد الغرباوي: إذا كان عصر الإنترنيت قد أحداث منعطفاً تاريخياً، فإن عصر الذكاء الاصطناعي أحدث انعطافة أدهى، حيث زحفت الآلة لتحل محل الإنسان، تصادر أعماله وتقوم مقامه في مجالات واسعة، وبات الحديث عن الإنسان الآلي مألوفاً، ونحن نشاهد الروبوتات تقوم بجميع الأعمال المناطة بها. وقرأت مؤخرا (أن الذكاء الاصطناعي متعدد التخصصات ليس أكثر ذكاءً من البشر في مجال واحد فحسب، ولكنه سيتقن ويجيد في الوقت نفسه الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وعلوم المواد والرياضيات والطب وعلم الفلك وشكسبير وتاريخ الفن ومجموعة من المجالات الأخرى أفضل من أي إنسان على الإطلاق، وسيستطيع رؤية الأنماط التي تتقاطع مع كل هذه المجالات بطرق لم يجد الإنسان إليها سبيلاً - ولهذا، فإنه يستطيع طرح أسئلة، وتقديم إجابات لم يستطع أي إنسان تقديمها. ويمكن القول إننا أصبحنا كجنس بشري نمتلك قوى شبه خارقة بطريقتين: ذلك أننا أول جيل يصنع بشكل مقصود حاسوباً يتمتع بذكاء يفوق الذكاء الذي حبانا به الله. كما أننا أول جيل يغيّر المناخ بيديه عن غير قصد). ولكن المشكلة هي أننا أصبحنا نمتلك قوى شبه خارقة دون أي اتفاق بيننا حول منظومة قيم مشتركة يفترض أن توجّه استخدام قوانا المكتشَفة حديثاً، أو يبقى الخطر محتملاً، لعدم قدرة الإنسان على التنبؤ بكل شيء. وقد يتسبب إجراء خاطئ في دمار الإنسان. المطلوب تفادي أية أزمة أخلاقية يخرج بسببها الإنسان الآلي عن السيطرة، والاتفاق حول أخلاقيات التقنيات الحديثة، لضبط أدائه.

وهل يمكن للتقنية وذكاؤها أن يحل محل الإنسان مستقبلا في اتخاذ مختلف القرارات المصيرية التي تتعلق بالإنسان كما جاء في السؤال؟ الذكاء الاصطناعي مستقبل البشرية كما تقدم، يتمتع بسلطة، يهيمن من خلالها على إدارة الحياة، باستثناء برمجته التي ترتهن للإنسان وإرادته ومشاعره، تلك المشاعر الإنسانية الفطرية التي هي أساس ديمومة الحياة في بعدها الاجتماعي، فقد يتخذ الفرد أو المؤسسة أو الحكومة قرارا استجابة لمشاعر إنسانية، لا يعي قدرها الذكاء الاصطناعي. الإنسان يدرك أبعادا أخلاقية وروحية لا يتسنى للإنسان الآلي إدراكها. لكن علينا تثقيف شعوبنا على أدوات وآليات الذكاء الاصطناعي، من أجل مستقبل أفضل لصالح الإنسان. والمهمة الثانية مهمة أخلاقية تحول دون استخدام التطور الحديث لقتل الشعوب ومستقبلها أو حرمان الإنسان من الحياة. والأهم مهمة تفادي التداعيات الاجتماعية السلبية لاستخدام الأنترنيت بشكل عام والذكاء الاصطناعي بشكل خاص. فثمة قيم أخلاقية جديدة باعدت بين الفرد وقيمه المجتمعية، كتفكك العلاقات الأسرية والاجتماعية، وبات الفرد يتخلى عن واجباته الاجتماعية ليكتفي بوسائل الاتصال الحديث للتعبير عن مشاعره في المناسبات كالتهاني والمواساة، بل حتى المعاملات بات ينجزها أونلاين دون الحاجة إلى مراجعة الدوائر المختصة. كل هذا وغيره، يؤكد حاجتنا لنظام قيم يواكب التطور الحديث ويحافظ على القيم الأخلاقية والإنسانية، وبالتالي فالذكاء الاصطناعي تحد جديد، يتطلب سياسة وثقافة لتدارك تداعياته.

الكلمة الأخيرة لكم

ماجد الغرباوي: يبقى الأمل منعقدا على الوعي لإحداث نهضة حقيقية على صعيدي العلم والأخلاق، نتجاوز بها حالة التخلف، وأول خطوة على الطريق تقديم العقل على النقل من أجل فهم جديد للدين يقوم على مركزية الإنسان ومصالحه. فهم متصالح مع العصر، يواكب تطوراته وضروراته، وهذا يؤكد مسؤوليتنا تجاه الجيل الجديد الذي فتح عينيه على وعي مختلف، وعي تلعب فيه وسائل الاتصال الحديثة دورا في تكوينه. شكرا لكم مجددا.