حوار مع المفكِّر اللبناني علي حرب
فئة : حوارات
حوار مع المفكِّر اللبناني علي حرب:
تأويليَّات النص وتداوليَّات الواقع
علي حرب في مرآة العصر
تقديم وحوار: محمد شوقي الزين
"إنَّ العالم اليوم غارق في أزماته التي ألخِّصها بثلاث كلمات:
1. التخبُّط: ومعناه أنَّ الفاعل لا يمتلك رؤية متماسكة للأمور، ولذا نجده يتردَّد بين النقيض والنقيض في مواقفه وسياساته.
2. التورُّط: ومفاده أنَّ الفاعل لا ينتج إلا مأزقه؛ لأنَّه يحسب المشكلة حلاً وبالعكس، كما هي الحال اليوم في العالم العربي.
3. التواطؤ: ومفاده أنَّ الفاعل لا يصنع إلا النماذج التي يدَّعي محاربتها، ولذا هو لا يخدم سوى أعدائه."
أنعته بالمعلوم/المجهول. إنَّه «أكسيمور» (oxymoron) كما كان يُقال قديماً. فيلسوف عربي معاصر، معلوم بوفرة تأليفاته ودقة تشخيصاته وسداد تحليلاته وأفكاره، لكنَّه مجهول بنُدرة الكتابة حوله. ربَّما تكفي دراساته لأن تُبرز أفكارها بذاتها دون وسائط في الشرح والتعليق؛ لأنَّها دراسات تتَّسم بالقوَّة في الكلمة، وبالسداد في الفكرة، وبالوضوح في الأسلوب. عندما ننتف الشعر أحياناً في قراءة فلاسفة عرب آخرين، لا نعرف في كتاباتهم أين المبتدأ وأين الخبر، أين المدخل وأين المخرج، أين الفكرة وأين النبرة، وإن كان من الصعب مسايرة الواقع المعقَّد بكلمات بسيطة. غير أنَّ وضوح الأفكار لدى علي حرب ومرونتها وسيولتها وعنفوانها، أحياناً، تتطلب قراءات، ليست شروحاً أو تعليقات، وإنَّما تبيان الرهانات واقتصاديات الحقيقة في مساحته التعبيريَّة: ما لم يقله في ثنايا التعبير نفسه، ما لم يفكر فيه في مساحة التفكير ذاته، ما انفلت منه أو خرج عن حسبانه ودرايته، بمعنى مساحة الظل أو الفراغ، فجوات العقل أو الذاكرة.
عندما أرسى شلايرماخر المبدأ الهرمينوطيقي القائل: «أن نفهم نص المؤلف مثلما فهمه صاحبه أو أن نفهمه أفضل»، فإنَّه كان يضع إجراءات التكهُّن (divination) التي انتقدها غادامر. لكن لو فكَّرنا مليَّاً، فإنَّنا نجد هذه الإجراءات تدخل في إطار استنطاق المسكوت عنه؛ أي إنَّ القارئ يكتشف في نص الكاتب أشياء أو حقائق لم تخطُر في بال الكاتب نفسه؛ لأنَّ تدوين النص لا يخضع دائماً للاعتبارات الواعية؛ بل ينخرط في لعبة الظلّ والنور، أو لعبة العقل والخيال، كما سمَّاها كانط، ولأنَّ ثمَّة معرفة مكنونة، سمَّاها نيكولا الكوزي في فجر النهضة الأوروبيَّة «اللادراية العالمة» (docta ignorantia)، أن نُدرك أشياء عن غير دراية في شكل حدوس أو لطائف أو هفوات لا يحتويها العقل دائماً، وضلع التحليل النفسي في متابعة دقائقها ورقائقها المتسللة في التعبير أو السلوك. ما الأمور التي لم يقلها علي حرب، ويمكن أن تنبثق من المقول نفسه في طيات العشرات من المؤلفات؟ يعود هذا الأمر إلى القارئ، إلى عناية الكشف في خطاب علي حرب عن الأمر الذي انحجب ويتطلب مجموعة من القراءات العالمة ومن المفاتيح النبيهة، التي من شأنها أن تفتح أقوال هذه المؤلفات الزاخرة والمتبحّرة.
عندما يتأسَّف علي حرب في جوابه عن السؤال الأوَّل بضياع محاولة حول ابن عربي، نُدرك كيف أنَّ الموضوع (دراسة حول ابن عربي) أصبح الدافع أو المجال؛ لأنَّ معظم كتابات علي حرب لها بالسلوك الفكري لدى ابن عربي رابطة وثيقة، تتمظهر في مجموع المفاهيم التي اشتغل عليها بتثوير دلالاتها ورهاناتها مثل النص والحقيقة والتراث والإنسان. من مؤلف إلى آخر، لم ينفك ابن عربي يعود في شكل «أطياف» تبثّ وجهها الفكري ووهجها المفهومي. كان ابن عربي المفقود موضوعاً ومبحثاً، لكنَّه كان الموجود طيفاً وحافزاً في كتابات علي حرب وفي أساليبه وألاعيبه التقنيَّة والرمزيَّة. هذه ربما إحدى مناطق المسكوت عنه في خطاب علي حرب، لكنَّه الناطق بوجهه الفكري ووهجه النظري، وهو دَيْن الفيلسوف اللبناني للمتصوف الأندلسي في رؤيته الواسعة والمتبحرة، وأسلوبه الزاخر بالإشارات والألغاز والألغام.
النقطة الثانية، التي يتأسَّف علي حرب لعدم القيام بها، هي تدوين معجم خاص بأهمّ المصطلحات التي وظَّفها، وتلك التي نحتها؛ غير أنَّ الحرب حالت دون القيام بهذه المهمَّة. كان يريد أن يقتفي فكرة ريتشارد رورتي (Richard Rorty)، ومفادها أنَّ الأسلوب الفكري للفيلسوف هو أساساً معاجم ومفاهيم يُحسن اللعب بها في حلبات العراك الفلسفي، أو في معارك النضال اليومي والمصيري. المصطلحات هي مفاتيح الفلسفة المراد تشييدها، وليس عبثاً أن ينعتها فتجنشتاين (Wittgenstein) بأنَّها «عُلبة الأدوات» التي تؤدي وظائف خاصَّة. لكلّ مصطلح سياق، ولكلّ مفهوم إطار. عُلبة الأدوات، التي استعان بها علي حرب في بناء صرحه الفلسفي، دون أن يكون نسقاً ثابتاً في شكل حصن جبَّار، هي المفاهيم التي تُشكّل نسيج تأمُّلاته من مؤلَّف إلى آخر. يُعطينا علي حرب الانطباع بأنَّه يُكرّر المباحث من كتاب إلى آخر، لكنَّ هذا التكرار هو بالأحرى ما أسمّيه «الإقحام»، بأن يُدرج المفهوم نفسه في معقوليَّة جديدة، تربط بين خيوط النسيج التي هي الأفكار: فكرة معرفيَّة وفكرة أخلاقيَّة وفكرة سياسيَّة. هذا الإقحام عبارة عن سلسلة وليس تكراراً، والسلسلة بالتعريف تُجانب فيها الأفكار بالمقولات نفسها، ليتمَّ مجاوزتها تدريجياً نحو ألوان جديدة وتعبيرات مغايرة.
النقطة الثالثة، التي يأمل علي حرب تحقيقها، هي إنجاز رواية فلسفيَّة جديدة، تقول عُمق تفكيره الفلسفي. لا عجب في ذلك، ما دام التفكير الفلسفي أصبح أكثر انفتاحاً على التعبير الأدبي، بعد الفاصل الحاد والراديكالي في التاريخ الفكري بين «الفكرة» الفلسفيَّة و«الصورة» الأدبيَّة. عندما فصل أفلاطون في (الأيدوس) (eidos) بين الفكرة والصورة، بالإعلاء من شأن الفكرة الناصعة المتصلة بالمثال، والحط من شأن الصورة (سلاح الشاعر والفنان والسفسطائي) المرتبطة بالمظهر والخداع، فإنَّه كان يؤسّس لجدار منيع بين التأمُّل المجرَّد والتعبير المجازي. مع العصر الجديد والصعود المدوّي لفلسفات ما بعد الحداثة، انهار الجدار العازل بين الفكرة (الفلسفة) والصورة (الفن والأدب)، مع أنَّ التوأمتين لم تنفكا عن التعاوُن بينهما عبر التاريخ، تارة تستعين الفكرة بالصورة لتجسيد المجرَّد، وتارة تستعين الصورة بالفكرة لتجريد المتجسّد. ألم يستعمل أفلاطون نفسه الصورة (أمثولة الكهف) في الصعود نحو عالم الأفكار الناصعة؟ يُدرك علي حرب جيّداً أنَّ الفكرة لا تصل إلى مستوى العقول ما لم تتكئ على الصورة، وأجمل الفلسفات تلك التي كُتبت في شكل روايات، من (عزاء الفلسفة) لبوئثيوس (Boèce) إلى (عالم صوفي) لجوستين غاردر (Jostein Gaarder) مروراً بـ(حي بن يقظان) لابن طفيل.
الفلسفة صورة وفكرة، ويُقدّم لنا علي حرب أروع مثال في الجمع بين الأسلوب السلس والفكرة الخارقة في معظم تأليفاته. تدوين رواية فلسفيَّة سيكون -لا شك- قيمة مضافة إلى فلسفته النقديَّة.
محمد شوقي الزين: الأستاذ علي حرب، كيف تقيّم اليوم عملك الفكري خلال أربعة عقود من الزمن؟ وإذا عُدتَ إلى الوراء، فهل ثمَّة شيء كنتَ تريد تطويره وتدعيمه ولم يسعفك الحظ أو الوقت؟
علي حرب: بالنسبة إلى تقييم عملي، هذا أمر يُترك عادة للقرَّاء والنقَّاد. ومع ذلك - إذا جاز لي أن أتصرَّف كشاهد- لا أدَّعي إذ أقول إنَّ أعمالي، منذ صدور كتابي الأول (التأويل والحقيقة) (1985)، قد جرى استقبالها بوصفها تستخدم طريقة مختلفة في التفكير، أو تقدّم رؤية مغايرة للأشياء والأحداث والأفكار. ومن سعادة الكاتب والمؤلف أن تلقى أعماله التقدير، وأن تترك أثرها الإيجابي في الوسط الثقافي أو الأكاديمي. ففي ذلك ما يشهد على نجاحه وجدارته، وبكونه أنجز شيئاً أو قدَّم إضافة في مجال اختصاصه، في حقل النظر أو منهج العمل أو لغة الفهم.
كنت أريد تأليف كتاب عن ابن عربي. وقد وضعتُ مخططاً لذلك، وكان عبارة عن اثني عشر فصلاً، بعنوان: (هكذا أقرأ ابن عربي). كان هذا قبل نحو العقدين، ثمّ تركت المخطط، وعدت إليه بعد شهور، ولكنّي لم أجده. ولم يكن بوسعي معاودة المحاولة؛ لأنَّ لكلّ عمل إلهاماته ومناخاته، ولو كان مجرَّد خطة لدراسة. وهكذا ضاعت فرصة ثمينة.
ثمَّ ضاعت فرصة أخرى. كان ذلك قُبيل حرب تموز (2006). يومها كنت قد عزمتُ على تأليف كتاب يكون عبارة عن معجم أشرح فيه، بشكل نسقي، المفاهيم التي بلورتها أو طوَّرتها، كالخطاب والنقد، والتفكيك، والممتنع عن التفكير، والتداول، والإنسان الأدنى...، ولكنَّ الحرب استولت عليَّ بأجوائها وجرَّتني إلى أحداثها العاصفة وأسئلتها الملحَّة. فانصرفتُ عمَّا كنتُ باشرت تنفيذه ولم أعد إليه لاستكماله.
أشعر الآن بالمرارة؛ لأنَّ ما كتبته عن الإرهاب الذي ضرب فرنسا وأوروبا يقدّم قراءة للظاهرة الإرهابيَّة تختلف عمَّا قُدِّم من مقاربات وتحليلات من جانب الفلاسفة الفرنسيين، فضلاً عن المثقفين العرب. ولكن ما كتبته لم أتمكن حتى الآن من ترجمته ونشره في الصحف الفرنسيَّة، لكي يطَّلع عليه الرأي العام الفرنسي[1].
وأخيراً، أنا أمنّي النفس بكتابة رواية فلسفيَّة تكون بمثابة جزء ثانٍ لكتاب (خطاب الهويَّة/ سيرة فكريَّة)، أتطرَّق فيها الى ما أجهله من أمر نفسي ووقائع حياتي. لعلي بذلك أنتهي نهاية سقراطيَّة من حيث لا أحتسب. فسقراط الذي كان أوَّل من ابتكر منهجاً لتوليد الحقيقة، انتهى به الأمر إلى الإقرار بالجهل. وأنا أشعر في كثير من المواقف بأنَّ نفسي تخذلني، فتتمرَّد عليَّ وتقودني إلى ما لا أريده أو إلى ما أخشى منه. هناك منطقة غامضة، معتمة، عصيَّة على الفهم، آتية من النشأة الأولى ومن أقاصي الذاكرة، بقدر ما هي حصيلة ما واجهته من إخفاقات أو صدمات. هذه المنطقة هي ما أريد إخضاعه لعمل الكتابة ببُعديها السردي والمفهومي؛ بل التنويري والتحريري. ولست أدري إذا كان لا يزال هناك متَّسع من الوقت أو العمر لإنجاز ذلك.
محمد شوقي الزين: لقد كانت البدايات تأويليَّة حول الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، وانعرجت أعمالك نحو الاهتمامات الدوليَّة بالتركيز على قضايا العصر، موقفنا من هذا العصر، وموقعنا في العالم. من التأويليَّات إلى التداوليَّات، كيف كان الانتقال والإسهام؟
علي حرب: التأويل هو أحد المستويات الثلاثة لاستراتيجيتي في قراءة النصوص؛ هناك الشرح الذي يهتمّ بما أراد المؤلف قوله أو طرحه، بقدر ما يتوقّف عند المنطوق والمعلن. ومأزقه أنَّ الشارح يحلُّ محلَّ المؤلف فيما هو يدَّعي الوقوف على مقاصده. ومثاله كتاب الغزالي (المنقذ من الضلال) الذي يحلُّ محلَّ الأصل؛ أي محلَّ النص القرآني، بقدر ما يقدّم نفسه بوصفه المفتاح للوصول إلى الله.
وهناك التأويل، وهو يتعامل مع النص حقلاً دلالياً مفتوحاً على تعدُّد المعنى الذي لا سبيل إلى حصره واستقصائه. ومأزقه أنَّ المؤول يدور في عالم المعنى مستبعداً المبنى وما يتركهُ من الأثر في إنتاج المعنى. ومثاله في هذه الحكاية: كنت قد كتبت مقالة عن كتاب (أوروبا والإسلام) لمؤلفه المؤرخ التونسي هشام جعيط. وكان ذلك في مطلع الثمانينيات من القرن الفائت. يومها بعث إليَّ برسالة يقول فيها إنَّني عبَّرتُ عن مراده «أحسن» ممَّا فعل هو نفسه[2]. وأنا لا أوافقه في رأيه؛ لأنَّ معنى قوله أنَّ نصّي بات أولى من نصه. ما أراه هو أنَّ جعيط استحسن تأويلي لنصّه. بطبيعة الحال، إنَّ عيني التفكيكيَّة هي التي أتاحت لي قول ذلك.
والتفكيك، مستوى ثالثاً، يتجاوز المؤلف ومقاصده، كما يتجاوز المعنى واحتمالاته، لكي يهتمَّ بما يتناساه القول أو يسكت عنه، وتلك هي إشكاليَّة الخطاب في ما ينطق به أو يطرحه ويدافع عنه. إنَّه ينسى نفسه؛ أي كونه واقعة لها دورها في إنتاج المعنى وإقرار الحقيقة. ومثاله قول الحسن البصري: «بقيت يوماً وليلة أنا ورابعة العدويَّة نتحدث حديث الروح، حتى نسيت أنّي رجل وأنَّها امرأة». ولكنَّ وجود النص، وبصرف النظر عن منطوقه، هو دليل على أنَّه لم ينسَ أنَّه رجل.
مثال آخر حيّ يقدّمه الذين يتحدَّثون عن علم الاستغراب، ردَّاً على علم الاستشراق، فيما خطاباتهم هي، من حيث مفرداتها ومناهجها، ثمرة للفكر الغربي الحديث. وهكذا، بحسب المنظور التفكيكي، يتعدَّى النص صاحبه، ولا يُختزل إلى أطروحاته ومضامينه المعرفيَّة.
هذه الانشغالات شكَّلت طوراً من أطوار تفكيري انصبَّ فيه الاهتمام على قراءة النصوص، بدءاً من كتاب (التأويل والحقيقة)، وصولاً إلى كتاب (الماهيَّة والعلاقة)، وكان الأولى أن يعنون: «المرآة والقراءة». ولا أنسى الكتاب العمدة، أعني كتاب (النص والحقيقة) بأجزائه الثلاثة: (نقد النص)، (نقد الحقيقة)، (نقد الذات المفكّرة). وقد ترك هذا الكتاب أصداءه في العالم العربي وفي خارجه.
ثم تلا ذلك طور انصبَّ فيه الاهتمام على قراءة الواقع، على وقع الأحداث العاصفة والتحوُّلات الكبيرة التي أخذت تُشكّل العالم من جديد، مع الدخول في ثورة الاتصالات والمعلومات، أو مع صعود الإرهاب وعولمته كما تجسَّد ذلك في تفجيرات أيلول (2001) في نيويورك.
وهكذا، أعملت استراتيجيتي في قراءة ما يحدث. وقد أدرجت ذلك كله تحت خانة «العقل التداولي» أو المجتمع التداولي. ولا يخفى أنَّني أفدت من نظريَّة هابرماس حول الفعل التواصلي، ولكنَّ هناك عناصر أخرى أسهمت في صياغتي لأطروحتي التداوليَّة. فقد أفدت على مستوى أوَّل من المقاربة التداوليَّة فرعاً معرفياً جديداً يتعامل مع اللغة بنيةً للتواصل أو بيئةً للتفاعل بين المتكلمين، بوصفهم فاعلين لغويين يتداولون الأدوار، على سبيل الفهم والتأويل للعلامات التي هي رسائل حمَّالة أوجه، بقدر ما هي متعدّدة المعاني والأبعاد. واستثمرت من جهة ثانية، مفهوم «الفاعل» الذي أسفر عنه تطوُّر العلوم الاجتماعيَّة، حيث الفرد لم يعد مجرَّد مؤمن أو مواطن، بل فاعل يسهم في بناء مجتمعه. ما خلق الإمكان لكسر ثنائيَّة النخبة والجمهور وفتح مفهوم المجتمع على الأفق التداولي، حيث يفهم بوصفه شبكة تأثيراته المتبادلة وسيرورة تحوُّلاته المتواصلة. ولا أنسى إفادتي من مخزون اللغة العربيَّة، حيث مصطلح التداول يشكّل حقلاً واسعاً للتبادل والتبدُّل أو للانتقال والمداورة[3]. ولذا استُخدم في عدَّة مجالات، كاللغة والعملة والسلطة والزمن...
هذا ما حاولت تبيانه في كتاب (العالم ومأزقه)، حيث تمَّ شرح مفهوم المجتمع التداولي، بفتحه على مفردات الوسط والتعدُّد والتنوُّع والهجنة، كما تمَّ شرح فكرة التداول باجتراح سياسة مختلفة، في التعاطي مع الأفكار والمفاهيم، مؤداها أنَّ الفكرة الحيَّة والخصبة ليست مرآة للواقع، ولا هي نظريَّة تصح بذاتها، أو قوالب لا تحتاج إلا إلى التطبيق، وإنَّما هي إمكان للحياة بقدر ما هي قدرتها على الخرق والتجاوز للشروط والحدود، حيث تفتح المجال لإنتاج أشكال مختلفة للفهم والتشخيص أو صيغ جديدة للتعايش والتواصل. ولذا، الفكرة الخارقة هي قابليتها للصرف والتحويل، حيث إنَّ من يتداولها يتغيَّر بها بقدر ما ينتج نسخته الخاصة منها.
وإذا كنا مع نقد النص، ننتقل ممَّا هو مجرَّد ومثالي ومفارق إلى ما هو محايث وملموس وملازم، فإنَّنا مع مفهوم التداول ننتقل من الصعيد النظري إلى الصعيد العملي والخلقي. ولا يجدي نظر من دون عمل، كما لا عمل يثمر لا يسوغه نظر. والمسوغ بالنسبة إلى مفهوم التداول هو كونه يفتح الإمكان لتجاوز منطق الصراع والصدام أو العداء. وقد أعطت أوروبا شاهداً على ذلك، ببنائها مساحة تداوليَّة جسَّدها الاتحاد الأوروبي بأسواقه وعملته وبرلمانه، بعد حربين عالميتين طاحنتين ومدمّرتين. ومن المفارقات أنَّ العرب أقاموا في هذا العصر حكومات ديكتاتوريَّة، فيما الدولة باللغة العربيَّة آتية من التداول، ولذا قيل السُّلطة هي يوم لك ويوم لغيرك.
محمد شوقي الزين: بدخول «نقد العقل» في التقاليد الأكاديميَّة والفكريَّة العربيَّة، والبحث له عن مضاف «عربي» أو «إسلامي» أو «غربي»، كان توجُّهك بالأحرى نحو «نقد النص» المنعطف على «نقد الحقيقة». هل ترى أنَّ الواقع ينبغي أن يُقرأ بوصفه نصَّاً. وكأنَّه لا شيء خارج النص، كما يُقال في الدراسات التفكيكيَّة؟
علي حرب: لست مع عبادة المفهوم، ولكن صادف أنَّني اشتغلت بهذا الفرع المعرفي، الذي تحوَّلت معه التشكيلات الخطابيَّة إلى حقل خصب للدرس والتنقيب، بعد ما جذبتني كتابات أعلامه، من الذين أنتجوا معارف جديدة حول النصوص تغيَّرت معها مفردات علاقتنا بوجودنا: بالفكر والحقيقة، أو بالمعنى والنص، أو بالمعرفة والسلطة...
ويبدو أنَّني استثمرتُ هذه العُدَّة الفكريَّة على نحو إيجابي وبنَّاء، بتجديد أسئلتها وتطوير مفاهيمها وتوسيع حقولها. بدليل أنَّ كثيرين من الكتَّاب والقرَّاء العرب، الذين اطلعوا على كتاباتي النقديَّة والفلسفيَّة، اعترفوا بأنَّ هذه الكتابات فتحت أمامهم إمكانات جديدة للتفكير، فغيَّرت مسارهم الفكري، أو دفعتهم إلى التفكير بطريقة مختلفة، أو جعلتهم يعيدون النظر في مسبقاتهم العقائديَّة أو يحطمون أصنامهم الفكرية...، هذه عبارات سمعتها حرفيَّاً من قرَّاء اطَّلعوا على مؤلفاتي في أكثر من بلد عربي.
إذن، ليست المسألة هي تـأليه النص. نحن إزاء استراتيجيَّة فكريَّة تمَّ معها اقتحام مناطق جديدة لعمل الفكر، كانت مستبعدة من مقولات العقل المحض والذات المتعالية والحقيقة المطلقة، فيما هي تشكّل ما يجعل الكلام على العقل والفكر أمراً ممكناً؛ أي الخطاب برموزه وعلاماته، ببنيته ومرتكزاته، بإجراءاته وآلياته، بطيَّاته وطبقاته، بسلطته وألاعيبه.
وفي ما يخصُّ نقد الحقيقة. أتوقف عند ردَّة الفعل الغاضبة للكثيرين من الذين صدمتهم أعمالي، بقدر ما تحكَّمت في نظرتهم إلى الحقيقة مفاهيم ومشاريع وهويَّات كانت تعامل بوصفها بداهات أو يقينيات أو مقدَّسات. وأراني أذكر هنا هذه الحكاية.
لقد التقيتُ، في شهر كانون الثاني من العام الفائت (2016)، أثناء زيارتي مسقط، وزير الصحة العُماني، الدكتور أحمد بن محمد السعيدي، الذي هو طبيب، وليس مثقفاً محترفاً. وقد فاجأني بقوله لي إنَّه تعرَّف إليَّ عبر كتابي (نقد الحقيقة)، الذي لفت نظره بعنوانه، واستدرجه إلى قراءته.
ومغزى الحكاية أنَّ الفلاسفة يقدّمون أنفسهم، أو يعتبرهم الناس، بوصفهم باحثين عن الحقيقة أو عشاقها أو شهداءها، فإذا الكتاب يسير بعكس التيار، لكي يتحدّث عن نقد الحقيقة. بطبيعة الحال كان الوزير صاحب عقل منفتح، وعلى عكس المثقفين الذين تحكَّمت في نظرتهم إلى أعمالي مسبقاتهم الماورائيَّة أو السحريَّة حول الحقيقة، بل الديكتاتوريَّة. وليس عجباً أن يحصدوا كلَّ هذا الاستبداد، بعد أن ختمت على عقولهم أفكارهم المغلقة وثوابتهم المعيقة.
ونقد الحقيقة لا يعني الوقوع في مطبّ الشك واللاأدريَّة أو النسبيَّة المبتذلة. وإنَّما يعني إعادة النظر في مفهوم الحقيقة، بعد أن تحوَّل المصطلح إلى أيقونة مقدَّسة. وما يقدّسه الإنسان يستبدُّ به أو يقع ضحيته؛ كما يؤكّد لنا أصحاب الكتب المقدَّسة الذين يضحُّون بمن يخالفهم المعتقد، أو يتحوَّلون هم إلى ضحايا أفكارهم.
محمد شوقي الزين: باطّلاعك على الإنتاج الفلسفي والفكري العربي، هل يمكنك أن تقول إنَّ ثمَّة «فلسفة عربيَّة» لها برامج ومناهج ومعاجم ككلّ فلسفة، أم مجرَّد مشتغلين على الفلسفة؟
علي حرب: لم يتعامل المشتغلون بالفلسفة من العرب مع مهنتهم كفلاسفة في المقام الأول، بل كمناضلين أو كمصلحين، بقدر ما تعاملوا مع العقل بصورة ساذجة أو سحريَّة أو ماورائيَّة. من هنا لم ينجحوا في أن ينشئوا حول الذات والعالم أو حول العقل والواقع خطابات خارقة لحواجز الثقافات، بلغاتها المفهوميَّة وأدواتها المعرفيَّة وقواعدها التداوليَّة. لم يخرج أحدهم على العالم بفكرة (نظريَّة، معادلة، مفهوم، منهج...) تترك أثرها على ساحة الفكر العالمي، بقدر ما تستأثر باهتمام الإنسان المعاصر بصرف النظر عن خصوصيته الثقافيَّة أو الوطنيَّة.
ولذلك أسباب وعوائق أبرزها: تغليب الاعتبارات القوميَّة أو الدينيَّة على المشاغل المعرفيَّة، كما تمثَّل ذلك في تجنيس العقول والفلسفات (عقل عربي أو غربي أو إسلامي)، أو في تغليب المهام النضاليَّة التحرُّريَّة على مشاغل التنوير العقلي الذي هو هاجس الفيلسوف. والتنوير هو خروج المرء من قصوره وكسر الوصاية على عقله، من أيَّة سلطة أتت، ولو كانت فلسفيَّة، حيث يُفكّر من دون أن يستعبده أو يستعمره اسم أو أصل أو مذهب أو نموذج. ولعلَّ هذا ما فعله ديكارت: ليس تحرُّره من السلطات السياسيَّة أو المجتمعيَّة، بل من قبضة المنطق الأرسطي، باجتراحه منهجاً جديداً للتفكير.
إلا أنَّ العائق الأهم هو أنَّ الفلاسفة العرب حسِبوا أنَّ مشكلة العقل هي خارجيَّة كما تتمثل في قمع السلطات الدينيَّة أو السياسيَّة لحريات التفكير والتعبير، في حين أنَّ مشكلة العقل هي ذاتيَّة بنيويَّة، تتمثل في حدود العقل وتناهيه؛ لأنَّ ما ينتجه من الأنساق المعرفيَّة والتراكيب المفهوميَّة أو الصيغ العقلانيَّة قد تستهلك لكي تتكشف عن مسبقاتها الخادعة وممارساتها المعتمة أو قوالبها الجامدة.
هذه الأسباب حالت دون مساهمة الفلاسفة والمفكرين العرب في الإنتاج الفكري العالمي. ومن الشواهد الفاضحة على ذلك أنَّ بعض الكتَّاب العرب المقيمين في المجتمعات الأوروبيَّة، وخاصَّة في فرنسا، اعتادوا التفكير والكتابة، فيما عقولهم وقلوبهم مشدودة إلى العالم العربي والتراث العربي والعقل العربي. هذه الصورة ربَّما أخذت تنكسر، بعد الهجمات الإرهابيَّة على باريس، حيث بدأنا نشهد الأدباء والفلاسفة، العرب أو الذين هم من أصل عربي، يخرجون من قواقعهم ويحضرون وسط المشهد، ليقدّموا قراءاتهم للأحداث والمجريات العربيَّة والعالميَّة، على قدم المساواة مع الكتَّاب الفرنسيين. وفي هذا شاهد على أنَّ فرنسا تغيَّرت بعد الهجمات الإرهابيَّة، بقدر ما غيَّرت علاقتها بذاتها وبسائر مكوناتها.
محمد شوقي الزين: لقد جعلتَ من القراءة البديل عن الحقيقة. كيف نقرأ؟ وخصوصاً، ماذا نقرأ؟
علي حرب: أعود إلى مصطلح الحقيقة لأقول إنَّ «نقد الحقيقة» أفضى إلى تفكيك منظومة فكريَّة بمفرداتها حول المماهاة والمطابقة والهويَّة والثبات والتعالي والأحاديَّة...، وسواها من المقولات التي تحكَّمت في الفكر الفلسفي منذ أرسطو حتى هيغل. ولم يكن ذلك عبثاً، بل كان محاولة للخروج من المأزق بفتح مفهوم الحقيقة على احتمالاته، لإعادة صوغه وبنائه، بتناوله من خلال مفردات الصناعة والتحويل، أو الخلق والتركيب، أو السياسة والاستراتيجيَّة، أو الرهان واللعب.
وأنا أدرج هذه الشبكة من المفاهيم تحت مصطلح القراءة. وفعل القراءة هو تفكيك بقدر ما هو تركيب؛ لأنَّه لا تفكيك من دون تركيب، سواء على المستوى اللغوي أم على المستوى الفكري. كلُّ كلام مختلف بترتيبه وعبارته، ولو أدنى اختلاف، يُحدث تغييراً في النحو والمنطق، أو في المبنى والمعنى.
من هنا كانت معارضتي لنيتشه على عنوان كتابه: (هكذا تكلم زرادشت). فالأحرى القول: هكذا قرأ نيتشه زرادشت. ومسوغ اعتراضي أنَّ النص يتعدَّى صاحبه، ولا يُختزل إلى أطروحته، وأنَّه متعدّد الدلالة، ولا يمكن القبض على معناه. ولذا، الممكن هو قراءة النص لإعادة إنتاج المعنى، كما هو شأن القراءات الخصبة والفعالة. وهذا ما فعله نتشه. إنَّه قرأ نصوص زرادشت قراءة مختلفة، واخترع له شخصيَّة مفهوميَّة جديدة. وأراني بذلك أجيب عن سؤالك: ماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ لم يقبض نتشه على الحقيقة، بل صنع حقيقته، وكتب نصه في ما قرأه من نصوص وأحداث.
وقد شاع مصطلح القراءة، فخرج من صعيده المعرفي الإبستمولوجي أو الأثري والأركيولوجي، لكي يستثمر على الصعيد السياسي والاستراتيجي، وكما يفعل من يشتغلون بتحليل الأحداث وقراءة المجريات. ولكلّ واحد قراءته تبعاً لخبرته وظروفه، أو لاستراتيجيته ورهاناته.
وهكذا نحن نقرأ الواقع، بقدر ما نفاجأ بما يقع. والرهان أن تفتح قراءتنا لما يحدث أو يفاجئ، سواء أكان واقعة أم نصاً، حرباً أم حبَّاً، أبواباً وفرصاً للفهم والتشخيص، أو للعمل والتدبير، أو للَّذة والمتعة. كيف لا؟ فإذا كان فعل القراءة لا يخلو من لعب، فاللعب هو مصدر للمتعة سواء أكان لعباً بالأجساد أم بالكلمات.
مع كلِّ قراءة جديدة، للنص أو الحدث، يُعاد النظر في المفاهيم السائدة، إمَّا بابتكار مفاهيم جديدة، وإما بإعادة بنائها على سبيل التعويم والتلميع أو التوسيع والتطوير، وكما نفعل مع مفهوم الديمقراطيَّة أو العقل أو الحقيقة.
ولنتوقف عند مصطلح شاع مؤخراً هو «ما بعد الحقيقة». هذا المفهوم لا يعني القفز فوق الواقع أو إنكار الحقائق. بالعكس، إنَّه يعني نقد مفهوم الحقيقة وإعادة بنائه في ضوء ما حجبه خطاب الحقيقة المتعالي، وأسهم في تلغيمه وتفجيره، كما يتجسَّد ذلك في هوامات الرغبة وأطياف الذاكرة أو مجازات اللغة وألاعيب المخيلة.
وهكذا، بحسب نقد الحقيقة وفلسفة العلاقة ومنطق التحوُّل، ليس الكلام مرآة الحقيقة الخالصة، ولا هو ترجمة مطابقة لواقع الحال، وإنَّما هو كينونته اللغويَّة الكثيفة، بقدر ما هو تشكيلاته الخطابيَّة الملتبسة، وهو سياقاته النصوصيَّة المفتوحة بقدر ما هو شبكات علائقه المتحوّلة. بهذا المعنى، لكلّ خطابٍ أفخاخه التي هي مسكوتاته أو منسيَّاته أو عتماته؛ أي كلّ ما لا يدركه القائل من طيَّات فكره أو غياهب عقله أو التباسات مفهومه...، وهذا ما يجعل، في كلّ ما نفكر فيه ونقرّره، منطقة مُعتِمة تخرج عن نطاق التفكير وسيطرة العقل.
ولذا مع هذا النقد للحقيقة تتغير نظرتنا إلى المفهوم نفسه وإلى طريقة التعامل معه؛ أي مفهوم كان، سواء كان مفهومنا للحقيقة أم للذات أو للعقل...، فليس المفهوم مرآة لمرجعه في الخارج، ولا هو مجرَّد فكرة تقوم بذاتها، بل هو على المستوى الوجودي واقعة لها كينونتها وقسطها من الحقيقة، وهو على المستوى الدلالي كثافته اللَّامفهومَّية من المجازات والاستعارات أو الهوامات والأطياف، وهو على المستوى المعرفي أداة تنوير بقدر ما يكشف المستور أو الدفين أو الخفي أو المستعصي، أو بقدر ما يقتحم مناطق وصعداً جديدة للحياة والوجود، وهو على المستوى السياسي أداة تحرير، بقدر ما يجسّد شبكة جديدة للقراءة تتغير معها خرائط المعرفة وتشكيلات السلطة، وهو على المستوى العملي والخُلُقي ليس أمراً جازماً نذعن له، أو قاعدة صارمة نقوم بتطبيقها، وإنَّما هو قدرته على خلق مساحة تداوليَّة ننشئ معها علاقات جديدة مع الآخر، عبر خلق مساحات ومجالات للتواصل والتبادل. بهذا المعنى، ما بعد الحقيقة هو ثمرة نقد الحقيقة، تماماً كما أنَّ ما بعد الحداثة هو ثمرة لنقد الحداثة. وأيَّاً كان النقد، فإنَّه لا يعني النفي والإقصاء، كما لا يعني المماهاة والمطابقة.
ولذا أنا لست مع منطق النفي الجدلي عند هيغل؛ لأنَّه لا شيء ممَّا يحدث يمكن نفيه. الممكن هو استثماره أو إعادة بنائه. ولذا، المفهوم هو مفاعيله التحويليَّة، بمعنى أنَّه هو نفسه يتغير مع كلّ قراءة جديدة، ويسهم في تغيير قارئه، بقدر ما يسهم في تغيير علاقته بالآخر وبالواقع. هذا شأن مفهوم مثل الـ«كوجيتو»، من حيث مفاعيله. لقد غيَّر علاقتنا بالفكر والواقع والوجود. من هنا أيضاً لست مع دولوز الذي كان معادياً لعصر التواصل، بقدر ما كان يؤلّه المفهوم؛ لأنَّ المفهوم لا يقوم بذاته وإنَّما بقدرته التداوليَّة؛ إذ معه ننشئ علاقات جديدة مع الأشياء والأحداث أو بين الكلمات والأشياء.
محمد شوقي الزين: مثلك مثل دريدا كنتَ دائماً تتورَّع عن نسبتك إلى السلوك الفكري المُسمَّى «التفكيك». هل لأنَّ هذا التفكيك يُستعمل بلا هويَّة، فقط لأنَّه ممارسة كامنة في كلّ قراءة ولا حاجة إلى أن نخترع له عنواناً أو لقباً أو صفةً أو سِمةً؟
علي حرب: لقد أخذ دريدا مصطلح «التفكيك» عن هايدغر، فحوَّله إلى مفهوم خارق ترك بصمته، واحتل غيره على ساحة الفكر الفلسفي حتى بات الآخرون ينسبونه إليه بوصفه مخترعه.
هل تورَّع دريدا عن أن ينسب هذا الاختراع إلى نفسه؟ لا أعتقد. لأنَّه دافع عن صنيعه بكلّ ما أوتي من خبرة ومهارة. ربَّما كان يتحلَّى بشيء من التواضع قياساً إلى نرجسيَّة الكتَّاب والمثقفين. وعلى كلٍّ، لا يجدر بنا، بحسب منطق التفكيك، أن نركن إلى ما يصرّح به المؤلف.
في ما يخصُّني، أنا اشتغلتُ بمنهج التفكيك واستثمرته، وأعدتُ صوغه، بقدر ما توسعتُ فيه نحو ما هو جديد ومختلف من الأسئلة والحقول والقضايا. مع الإشارة إلى أنَّ التفكيك، كما فهمتُه ومارستُه وطوَّرتُه، هو ثمرة قراءتي لنصوص دريدا ولأعمال فوكو ودولوز، حول الخطاب والنص والمعنى.
هل التفكيك، بوصفه منهجاً للمقاربة أو سلوكاً فكرياً، لا يحتاج إلى اسم أو صفة أو عنوان...؟ اعتقادي أنَّ الشيء أغنى من مفهومه أو أوسع من مصطلحه، سواء أكان نصَّاً أم حادثة، ذاتاً أم فعلاً، على ما هي مفاهيم كالله أو العقل أو الحب أو الحرب... ونحن نعلم أنَّ أسماء الله الحسنى بلغ تعدادها مئة اسم. ومع ذلك، هي ليست سوى مقاربات لوصف شيء يندُّ عن الحصر ولا تستنفد معانيه.
لأنَّ الشيء ليس ماهيته المحضة أو هويته الخاوية والفقيرة، بل نسبه وعلاقاته المختلفة والمتعددة، التي لا تنتهي، هناك إمكان لنسبته إلى شيء آخر. بهذا المعنى، الكلام على الشيء هو ابتكار النسب، وتجديد الإضافات، بقدر ما هو خلق لعلاقات جديدة بين الكلمات والأشياء.
محمد شوقي الزين: كان هجاؤك لأدوار المثقف كبيراً. هل انتهى بالفعل كلُّ دور للمثقف؛ لأنَّ أدواراً أخرى أكثر فاعليَّة تزاحمه اليوم، أم هل هذا الدور ينبغي أن ينحصر في مهام حصريَّة يضطلع بها؟ ما هذه المهام إن وُجدت؟ نعرف أنَّ «أوهام النخبة» أحدث ضجة كبيرة واستياءً لدى المثقفين عند صدوره. كيف تقنعهم بأن يعيدوا من جديد ابتكار أدوارهم لتكون أكثر فاعليَّة وإنتاجيَّة وأقلَّ رسوليَّة وقداسيَّة؟
علي حرب: لا أوثر استخدام كلمة هجاء المشحونة بمعانيها السلبيَّة، كما مورس الهجاء لدى الشعراء، إمَّا للحصول على أعطيات من لدن أولي الأمر، وإما للدفاع عن القبيلة مظلومة أو ظالمة بذم القبائل الأخرى. حتى هِجاء الذات لا يفي ما أنا بصدده؛ لأنَّه لا يتناول مساوئ الذات وعيوبها. في حين أنَّ نقد الذات كما نمارسه جميعاً إنَّما يخضع الأفكار للمراجعة بوصفها تصدر عن عقيدة أو ترجع إلى فلسفة أو تعود إلى تيار فكري أو سياسي.
هذا ما حاولته منذ عشرين عاماً في كتابي (أوهام النخبة): الانخراط في نقد المثقف بالمعنى التنويري الإيجابي، على وقع الإخفاقات المتلاحقة للشعارات والمشاريع.
صحيح أنَّ هذا النقد كان قاسياً، وربَّما صادماً، ولكنَّ الوقائع ليست أقلَّ صدماً أو هولاً. ما يعني إعادة النظر في ما طرحناه من أفكار، من أجل تشخيص أوجه الخلل ومواطن العجز والقصور، وتسليط الضوء على المأزق الفكري الذي انزلق إليه المثقف من حيث لا يعقل ولا يحتسب. وهذا مثقف كبير هو ريجيس دوبريه يعترف بفشل مشاريع التقدُّم الحضاري والتحرُّر الإنساني، سواء أكانت دينيَّة أم علمانيَّة، كما جاء في كتابه الذي صدر مؤخراً بعنوان (السيّد التاريخ)، في مطلع عام (2016).
ولأتوقف عند الحقل الفلسفي. هناك عاملون في هذا الحقل، فزعوا من النقد على حداثتهم العاجزة بعناوينها المستهلكة حول العقلانيَّة والتقدُّم والإنسانيَّة...، هذا مع أنَّ الحداثة بدأت بداية نقديَّة مع الشكّ الديكارتي والنقد الكانطي. ولكنَّها استنفدت، ولم تعد تفي بفهم العالم وتشخيص مشكلاته وأزماته، بل أصبحت هي مصدر المشكلة ومصنع الأزمة. هذه حال مفهوم كالتنوير. لقد تعامل معه الحداثيون بصورة أصوليَّة بقدر ما تعلقوا به تعلقاً أعمى، وفهموه بصورة ساذجة بقدر ما وثقوا ثقة مفرطة بالعقل والإنسان. من هنا، فقد شعار التنوير مفاعيله في الكشف والإضاءة، أو في التحرير والتغيير، بل بات يُمارس كشعارٍ خاوٍ أو كسلطة وصاية على العقول، وكذلك سائر العناوين. من هنا بات نقدها مطلباً مشروعاً، من أجل تجديد لغة الفهم ومنظومات الإدراك ومناهج المقاربة.
هذا من حيث المهنة المعرفيَّة. لقد أخفق المثقفون في تجديد العدَّة الفكريَّة. أمَّا من حيث المهمة النضاليَّة، فقد فشل أصحاب الإيديولوجيات من النخب الثقافيَّة، في مهام الإصلاح أو التغيير. فالواقع قد تغيَّر بخلاف تصوُّراتهم ورؤاهم، أو سار بعكس استراتيجياتهم وخططهم. هذا ما تشهد به المآلات البائسة للشعارات سواء لدى الماركسيين أم القوميين، أو لدى من أتى بعدهم من الإسلاميين. ما يكشف عن جهل المثقفين المركَّب بالأفكار وبالواقع أو بالمجتمع الذي أرادوا تغييره.
والأخطر هو جهلهم بأنفسهم. فطالما قدَّم المثقف نفسه بوصفه وصيَّاً على قيم الحقيقة والعدالة والحريَّة. فيما خطابه يتستَّر على محركاته اللاواعية، التي تفخخ دعوته، كما تتجسَّد في أناه النرجسيَّة ومنازعه النخبويَّة وتهويماته الخلاصيَّة الفردوسيَّة؛ أي كلّ ما يجعل صاحب الفكرة يصل إلى ما لم يفكّر فيه، أو يعمل بخلاف ما أراده. والشاهد أنَّ المثقف حلم بمجتمع تتحقَّق فيه المساواة التامَّة، بقدر ما ينال الواحد كلَّ حقوقه، فإذا النتيجة الإطاحة بكلّ المكتسبات والحقوق.
وهكذا لا مصداقية للمثقف في ادِّعائه أو في ما دعا إليه. من هنا كان قولي: المثقف ينفي الواقع لتصحّ مقولاته، والحصيلة أن تفاجئه الوقائع كما تمثَّلت في عودة الدّين عودته المرعبة وعودة الاستعمار عودته البربريَّة.
ولا يُجدي هنا قول القائل بسذاجة، لتبرير قصور المثقف وإخفاقه. إنه لم يسمح له بأن يمارس دوره التحريري والتنويري؛ فالمثقف هو الذي تخلَّى عن دوره؛ إذ لم يقم بمراجعة أفكاره، على ضوء التحديات الجسيمة والتحوُّلات الهائلة التي يشهدها العالم، لتجديد شبكات القراءة وأطر النظر أو لتطوير خرائط المعرفة وقواعد العمل. الأكثر من ذلك أنَّ بعض المثقفين من دعاة الثورة والحريَّة، ممَّن فاجأتهم الثورات العربيَّة، قد وقفوا ضدَّها، ممَّا صبَّ في مصلحة أنظمة الطغيان والفساد.
محمد شوقي الزين: «الثورة» عنوان الإبهام والإلهام، تارة الشيء المرعب والمحيّر، وتارة أخرى الشيء المحفّز والدافع نحو استحداث بدائل. بدأت الثورات العربيَّة بمطالب مشروعة وانتهت في بعض البلدان بالفوضى والإرهاب. هل الثورة في السياق العربي «مستحيلة»؟ هل تنتج المطبَّات نفسها، بينما أنتجت في أمريكا اللاتينيَّة دولاً متقدّمة مثل الأرجنتين والبرازيل وتشيلي، وفي أوربا الشرقيَّة ثمَّة دولٌ تتجه نحو التحديث والتصنيع مثل بولونيا والمجر وبلغاريا ودول البلقان؟ هل هناك أمل في أن يتجاوز العرب محنتهم، وبأيَّة وسائل أو بدائل؟
علي حرب: في الإجابة عن هذا السؤال، أراني أعود إلى تجربتي، محاولاً تسليط الضوء على هذه المسألة العويصة التي تختصر توق المجتمعات العربيَّة إلى النهوض والتقدُّم منذ احتكاكها بالغرب الحديث.
فأنا كنتُ قد انخرطتُ في مشروع ثوري يساري، لإعادة بناء المجتمع اللبناني على أسس حديثة وفقاً لمبادئ المساواة والعدالة أو لقواعد الجدارة والاستحقاق. ولكن لم يطل بي الأمر إذ سرعان ما اكتشفتُ أنَّ العقيدة الحديثة التي رفعتُ شعاراتها لا تشكّل مشروع خلاص لتحقيق المساواة بين الناس، فانصرفتُ عن العمل السياسي، لكي تقتصر علاقتي بالسياسة دارساً أو ناقداً محللاً.
وكان أهلنا أكثر وعياً منَّا، نحن أدعياء الفلسفة والمعرفة، إذ كانوا يقولون لنا: ما تطلبونه هو من المحالات في بلد كلبنان. وكانوا على حق، فإقامة الفردوس الليبرالي والمساواتي ليست ممكنة في هذا العالم، في أيّ مكان، والشاهد هو غرق البلدان الأوروبيَّة التي عُدَّت نموذجاً للتقدُّم الحضاري في أزماتها العاصفة، كما تمثَّلت في الصَّدمات والانهيارات والتراجعات على أكثر من صعيد مالي، أو سياسي، أو مجتمعي، أو بيئي، أو أمني.
هذه التراجعات دفعتني إلى الوقوف موقفاً نقديَّاً من أصحاب المشاريع والدعوات سواء أكانت إصلاحيَّة أم ثوريَّة. إلا أنَّه عندما اندلعت الثورات العربيَّة تجدَّدت الآمال بحدوث تغيير إيجابي في ما يخصُّ مطالب الديمقراطيَّة والعمل والتنمية والكرامة، حيث تنجز المجتمعات العربيَّة ما أنجزته مجتمعات أخرى كانت وراءها فأصبحت أمامها، كاليابان وماليزيا وجنوب أفريقيا. ولكنَّ المسار الذي اتخذته الثورات قد فاجأ الجميع، كما فاجأهم انفجارها. فما جرى هو عسكرة الحراك السلمي المدني بحشوده العارمة، وغرق المجتمعات في صراعات طاحنة تحوَّلت إلى حروب أهليَّة، كما حدث بشكل خاص في ليبيا واليمن وسورية.
بطبيعة الحال هناك استثناء شكَّلته تونس، بنجاحها في وضع دستور يحترم حريَّة العقيدة والضمير، وفي إدارتها الصراعات بين قواها السياسيَّة وفقاً لقواعد اللعبة الديمقراطيَّة. ويعود الفضل في ذلك إلى عهد بورقيبة، الذي نجح في تحديث تونس في مجال التعليم والتشريع المتعلق بحقوق المرأة. صحيح أنَّه كان مستبداً، ولكنَّه كان أقلَّ تكلفة استبداديَّة على تونس، ممَّا لو حكمها المنظّرون العقائديون من أصحاب المشاريع الإيديولوجيَّة اليساريَّة أو القوميَّة؛ فهؤلاء ما إن وصلوا إلى السلطة، في هذا البلد العربي أو ذاك، حتى أطاحوا بالمكتسبات الحضاريَّة والديمقراطيَّة التي تحققت في عهود الاستعمار. ثم أتى على أعقابهم الإسلاميون ليستجمعوا مساوئ الجميع.
بطبيعة الحال، ما زال أمام تونس الكثير لكي تتمكن من إعادة البناء، ولاسيما أنَّ القوى المضادة ما زالت تعمل، وقد نجحت في تخريب الثورات العربيَّة، بقدر ما تواطأت مع المنظمات الإرهابيَّة، تواطؤ الضدّ مع الضدّ، لكي تحصد المجتمعات العربيَّة كلَّ هذا العنف الأعمى والفاحش، العدمي والبربري.
هل يعني ذلك أنَّه ما كان ينبغي للثورات العربيَّة أن تحدث، لأنَّ الإطاحة برأس النظام لا يغير شيئاً، ما لم يتغير المجتمع بأبنيته الفوقيَّة والتحتيَّة، الثقافيَّة والفكريَّة، أو الاقتصاديَّة والماديَّة؟ ولكن لو حصل مثل هذا التغيُّر لما عاد ثمَّة حاجة إلى الثورة؛ لأنَّ هذه قد اندلعت لانسداد الآفاق، ولأنَّه لم يكن ثمَّة إمكان للتغيير، لا من تحت ولا من فوق، كما في سورية واليمن وليبيا ومصر...
يجدر بنا هنا عدم إغفال العامل الخارجي. صحيح أنَّ العالم العربي لم ينجح في الاستحقاقات الحضاريَّة المتعلّقة بامتحانات الديمقراطيَّة والتنمية والمعرفة والإدارة، لكي ينتهي إلى ما انتهى إليه من التراجع والتردّي والتفكُّك، ولكنَّ هذا لا يجعلنا نتعامى عن حقيقة صادمة، وهي أنَّ العالم العربي عاجز، بقدر ما هو مُستهدَفٌ اليوم من جانب اللاعبين على المسرح من أمريكيين وإيرانيين وأتراك، ثمَّ أتى الروس ليتواطؤوا معهم في أعمال القتل والتدمير والتهجير تحت ذريعة محاربة الإرهاب الذي أسهموا هم في صنعه وتصديره أو في دعمه وتوظيفه.
وهكذا، بات المشرق العربي بين فكَّي الكمَّاشة: بين همجيَّة داعش وتواطؤ الشيطان الأكبر، أو بين مخالب كسرى وأنياب قيصر. وأراني أعتذر من كسرى الحقيقي الذي كان عادلاً، على عكس أسلافه الذين رفعوا شعار العدالة ضدَّ المظلوميَّة، ليملؤوا العالم ظلماً وعدواناً.
ومع ذلك لا عودة إلى الوراء، إلا بصورة كاريكاتوريَّة أو مأساويَّة أو إرهابيَّة، حتى لو تمَّ سحق الثورات العربيَّة، وإعادة رسم خارطة البلدان العربيَّة. لا مجال لحكم البلدان العربيَّة بالعقليات والمفاهيم والأدوات التي أنتجت الحروب والكوارث. لا مجال لإدارة المصالح العموميَّة والخير المشترك، في هذا العصر، بعقليَّة الزعيم الأوحد الذي يتصرَّف بوصفه مالك بلده لكي يستبدَّ به ويبدّد ثروته، ولا بعقليَّة المرشد المتأله الذي يدَّعي امتلاك مفاتيح الإيمان والخلاص، فيما هو لا يحسن سوى صنع النماذج التكفيريَّة والإرهابيَّة التي تشعل فتيل الحروب الأهليَّة. وبطبيعة الحال، لن تُدار بعقليَّة المثقف النخبوي الذي ادَّعى أنَّه يقود المجتمع نحو الأحسن، فإذا هو يفقد مصداقيته وفاعليته، ويمسي في المؤخرة قياساً إلى بقيَّة الفاعلين الاجتماعيين.
لنحسن التشخيص، نحن ضحيَّة أفكارنا، لأنَّنا نحصد ما نزرع. لقد ولَّى زمن البطل المنقذ والداعية المشعوذ الذي يفكّر عن الناس. ولذا لا خروج من النفق المظلم في عصر المعلومة والمعرفة والشبكة، ما لم تمارس المجتمعات العربيَّة، بكلّ مكوناتها وقواها وقطاعاتها، حيويتها الوجوديَّة، حيث تتقن لغة الخلق والفتح، في هذا المجال أو ذاك، لكي تمارس حضورها على المسرح وتشارك في صناعة الحضارة، بابتكار ما هو نافع وصالح أو إيجابي وبنَّاء أو مُثمر وجذَّاب، سواء على المستوى المادّي والتقني، أم على المستوى الثقافي والفكري.
محمد شوقي الزين: أصبح الإرهاب ظاهرة عالميَّة بعدما عانت منه بعض الدول على المستوى الإقليمي والداخلي، وأعني على وجه التحديد الجزائر في التسعينيات من القرن العشرين. يُرجع البعض الظاهرة إلى معطيات ماديَّة أو معيشيَّة مثل تفاقم الفقر والبطالة والتهميش، ويُعطي البعض قيمة زائدة للرمز من حيث الانتماء الثقافي والاقتصاد العاطفي المفرط في العلاقة بالدّين. هل يمكن أن نحدّد بدقَّة عوامل ظهور وانتشار الإرهاب؟ هل المعطيات الماديَّة كافية لتفسير الظاهرة؟ هل التأويلات التي تصبُّ في البُعد الرمزي والانفعالي مصيبة في تقديراتها؟
علي حرب: أخشى أن أذكر ما قلته في قراءتي للظاهرة الإرهابيَّة سواء في كتابي (الإرهاب وصُنَّاعه)، أم في ما سبقه أو تلاه من مقالات ومقاربات.
والإرهاب، مصطلحاً، يشير إلى ظاهرة معقَّدة، ملتبسة، شأنه شأن أي مفهوم. من هنا حاجته إلى قراءة مركّبة. لا شك في أنَّ للعوامل المعيشيَّة والسياسيَّة أو النفسيَّة والحضاريَّة دورها، كما تشهد المعضلات المتراكمة حول الفقر والاستبداد أو الإحباط والاستلاب. ولكنّني، كما هي عادتي، إنَّما أعطي الأولويَّة في مقاربتي للإرهاب للعوامل الفكريَّة والثقافيَّة، كما تتجسَّد في أنماط التفكير وأنساق القيم وطرق التعامل مع الحقيقة أو مع الذات والآخر.
على هذا المستوى لا تعسُّف في القول إنَّ الأديان تشكّل خزَّاناً لا ينضب لممارسة العنف، بمرجعياتها المقدَّسة وثنائياتها التكفيريَّة، وسواها من الأصول التي تصنع للمسلم هويَّة مغلقة عدوانيَّة، بقدر ما يعتقد أنَّه صاحب كتاب نطق بالحقيقة النهائيَّة، الأولى والأخيرة، أو أنَّه ينتهي إلى فرقة أو إلى جماعة هي الأحق والأصدق والأشرف، من دون سائر الناس. ومن يفكّر على هذا النحو الأصولي، الأحادي، الجذري، مآل تفكيره إقصاء المختلف في الداخل، أو الآخر في الخارج، سواء على المستوى الرمزي بلعنه وتكفيره، أم على المستوى الجسدي بقتله وتصفيته. تستوي في ذلك النماذج الثلاثة لأصحاب المشروع الديني: المتكلم الذي يجتهد ويُشرّع، والداعية الذي يُفتي ويُكفّر، والجهادي الذي يقتل ويُنفذ.
من هنا أنا أخالف كلَّ الذين ينفون وجود علاقة بين الإسلام والإرهاب من المثقفين والساسة العرب والغربيين، من أوليفييه روا إلى البابا فرنسوا، ومن الرئيس الفرنسي هولاند إلى الداعية الإسلامي الذي يقول لنا إنَّ الإرهاب دخيل على ديننا وقيمنا وثقافتنا.
مثل هذه المقاربات تدلُّ على جهل الغربيين بالدّين الإسلامي، أو على محاباتهم المسلمين، كما تدلُّ على جهل المسلم بأصول ديانته أو على نفاقه وتستُّره على رأيه.
ولا جدوى هنا من حشر القرآن في المجادلات الدائرة. أولاً: لأنَّ القرآن يقول الشيء ونقيضه سواء في مسألة الإرهاب أم سواها من المسائل؛ ثانياً: لأنَّ الذي صنع هويَّة المسلم ليس قواعد التعارف والتواصل بين الناس، بل الأنساق الكلاميَّة والمنظومات الفقهيَّة التي أسَّست للعداوة بين المسلمين، ثم بينهم وبين سواهم.
هل يعني ذلك أنَّه لا يوجد مسلم معتدل؟ رأيي أنَّ المسلم المعتدل الذي يقبل الآخر، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم، هو ثمرة للحداثة بمفاهيمها وقيمها ونظمها. من هنا أذهب إلى القول: لا مصالحة بين الإسلام والحداثة أو العالم إلا بعد هزيمة السلطات الدينيَّة، كما حصل للكنيسة من قبل في أوربا. ولا أنسى أنظمة الفساد والطغيان التي هي الوجه الآخر للعملة البربريَّة. نحن إزاء ضدَّين يستدعي أحدهما الآخر ويسوّغ له مشروعيته. ولذا من المستحيل، من دون سقوطهما، أن تنفتح أمام المجتمعات العربيَّة إمكانات التحرُّر الفكري والسياسي أو التطوُّر الاجتماعي والتقدُّم الحضاري.
محمد شوقي الزين: حول ماذا تشتغل الآن؟ وكيف تنظر إلى المستقبل على ضوء المعطيات الراهنة؟
علي حرب: الكاتب لا يمكنه التوقف عن الكتابة، وإلا أصبح كشجرة يابسة لا تثمر. هل ما نشتغل عليه ونكتبه ذو فائدة؟
لا أقطع بذلك. أحياناً يقول لي البعض إنَّك تشتط بكتابتك التي تميل إلى طرف ضدَّ الآخر في الصراع الدائر، على المستوى العربي والإقليمي، على ما يقول الكارهون لهويتهم العربيَّة. ولكنَّ ما أكتبه لا يهمُّ فيه الموقف السياسي؛ بل تحليل السياسات والمواقف. وهذه مهمَّة من يشتغل في حقل المعرفة أن يفهم ويُشخِّص، لا أن يلتفَّ على المشكلات أو يشتغل بتزوير الوقائع وطمس الحقائق لتبرير السياسات الفاشلة أو الأنظمة الفاسدة أو الاستراتيجيات القاتلة. من هنا إنَّ المقالات التي جمعتها في كتابي (الإرهاب وصُنَّاعه)، قد لاقت صدى لدى القُرَّاء؛ لأنَّ مقاربتها للظاهرة الإرهابيَّة، المتطرفة والراديكاليَّة، لا تقف عند المظاهر أو النتائج؛ بل تهتمُّ بتقصي أسبابها وجذورها على مستوى العقليات والمفاهيم والأساليب.
وهكذا، لا يسع الواحد منَّا ألَّا يكتب حول المجريات. ثمَّة من يُقرّر مصائرنا، ولذا الكتابة هي نوع من أنواع المقاومة للواقع البائس والمتردّي، خاصَّة في العالم العربي، أقله على المستوى الفردي.
في ما يخصُّ المستقبل، الملاحظ أنَّ العالم يزداد تأزُّماً عمَّا كان عليه قبل عقود. أتوقف عند المعطى الجديد الذي تمثل في انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وعلى نحو فاجأ المثقفين والإعلاميين الذين كانوا في ما قدَّموه من قراءات كمن يرجمُ في الغيب. وهذا ما حصل في فرنسا، حيث صعد فرانسوا فيون في الانتخابات الأوليَّة، مرشحاً للحزب الجمهوري، للانتخابات الرئاسيَّة، على حساب آلان جوبيه ونيكولا ساركوزي؛ أي ضدَّ التوقُّعات. وكانت بريطانيا قبل ذلك قد فاجأت أوربا والعالم بخروجها من الاتحاد.
وفي هذا شاهد على أنَّ الإنسان، فاعلاً تاريخياً، أخذ يفقد سيطرته على نفسه وعلى أشيائه، بقدر ما فقد القدرة على الفهم والتشخيص أو على التوقع والتقدير. ما يعني فشل الطبقات الحاكمة في إدارة الدول، كما يعني أيضاً الحاجة الماسَّة إلى عُدَّة جديدة من الرؤى والتصوُّرات أو المدارس والاستراتيجيات، بقدر ما يعني أنَّ ثنائيات اليمين واليسار، أو المحافظ والإصلاحي، أو حتى الأنا والآخر، لم تعد صالحة، نظراً لموجات الهجرة المتعاظمة بسبب الحرب أو الفقر، أو نظراً لتشابك المصائر والمصالح على المستوى العالمي. ولذا، ما عاد مُجدياً لأيَّة دولة أن تنسحب من على المسرح، أو أن تفكر في إقامة جدران عازلة على غرار جدار برلين. مثل هذه العودة إلى الوراء ستكون عودة سيئة أو مُدمِّرة، كما هو شأن كلّ عودة لماضٍ لا يتمُّ الاشتغال عليه بعقليَّة التحويل الخلَّاق والتركيب البنَّاء والتجاوز الفعَّال.
من هنا، إنَّ العالم اليوم غارق في أزماته التي ألخِّصها بثلاث كلمات:
1. التخبُّط: ومعناه أنَّ الفاعل لا يمتلك رؤية متماسكة للأمور، ولذا نجده يتردَّد بين النقيض والنقيض في مواقفه وسياساته.
2. التورُّط: ومفاده أنَّ الفاعل لا ينتج إلا مأزقه؛ لأنَّه يحسب المشكلة حلاً وبالعكس، كما هي الحال اليوم في العالم العربي.
3. التواطؤ: ومفاده أنَّ الفاعل لا يصنع إلا النماذج التي يدَّعي محاربتها، ولذا هو لا يخدم سوى أعدائه.
والدرس المستخلص: لم تعد تجدي إدارة الشأن العالمي بعقليَّة الصدام الحضاري والصراع الطائفي، ولا بمنطق التوسُّع الإمبريالي أو التشبيح الاستراتيجي. فاللاعبون الذين يتصدَّرون الواجهة على المسرح الإقليمي والعالمي قد استُهلِكَت أفكارهم وأسماؤهم وصورهم، بعد كلّ هذه النهايات الكارثيَّة والمآلات البربريَّة.
هل نحن نحتاج؛ لحلّ هذا المأزق البشري، إلى «أنا أعلى سياسي»[4]، كما يفكر ريجيس دوبريه أو مارسيل غوشيه؟ لا أعتقد أنَّ لغة فرويد تصلح أساساً لبناء استراتيجيَّة جديدة فيما يخصُّ إدارة الدول والعلاقات الدوليَّة. ولنتأمل عندنا إلى أين أوصلتنا سياسة «المرشد الأعلى» أو «المرشد العام». فالأعلى أو المتعالي هو مصدر المشكلة وليس الحل. المخرج هو في إعادة بناء مفهوم الشأن العام أو العالمي، على مستوى الوطن أو على المستوى العالمي، بمفردات الوسط والمساحة والفسحة والشبكة...، حيث تدار الأمور بمنطق التجاور والتعايش أو التداول والتبادل.
لنفق من سباتنا الإنساني، فلا نضع الملامة على السوق والليبراليَّة والرأسماليَّة الوحشيَّة. إنَّها وحشيَّة الإنسان، إذا شئنا أن نقارب ما يحدث مقاربة فلسفيَّة تتجاوز صراعات المذاهب والإيديولوجيات والاستراتيجيات. وإلا فكيف نُفسر أن تتحوَّل الاشتراكيَّة إلى فقر، والحريَّة إلى استبداد، أو أن تنتهي الدول الوطنيَّة إلى تخريب الأوطان؟ باختصار كيف نُفسّر أن يتحوَّل المظلوم إلى ظالم والضحيَّة إلى جلاد، ولكن على النحو الأسوأ والأفظع!؟
لعلنا نفتقر إلى نماذج كـ«مانديلا» الذي اتَّسم بالتعقُّل ضدَّ التعصُّب، وبالتواضع ضدَّ التأله. ولا يفوتني أن أشير إلى الجرأة على الذات، لدى الرئيس الفرنسي هولاند، الذي قرَّر ألَّا يترشح لولاية ثانية، لأنَّه أخفق في سياساته، في حين أنَّ النماذج النيرونيَّة المسيطرة عندنا تُحوّل بلدانها إلى سجون أو إلى مقابر.
هل أنا متشائم؟
لست مع الشاعر هولدرلن الذي يقول: «حيث يوجد الخطر تجترح سبل النجاة». فنحن ندخل في مجتمع المخاطرة، كما لاحظ عالم الاجتماع أولريش بك، وهذا ما يقوله أيضاً التاريخ البشري؛ إذ هو يشهد بأنَّ العنف في تصاعُد، وأنَّ المخاطر تزداد عصراً بعد عصر. وهذا ما يجعلني أكرّر قولي إنَّ الإنسان ليس عاقلاً كما عرَّفه أرسطو. فالعقل ليس هو المحرّك أو الحاكم أو الناظِم؛ بل هي الأهواء والمطامع والأحقاد والنزوات، الأمر الذي يُفسِّر ما نحصده على المسرح العالمي من العَبَث والحُمْقِ والجنون.
وأيُّ جنون أعظم وأكبر من أن ينتج الإنسان مفاعلات نوويَّة سامة يكلّف تدميرها لاتّقاء خطرها أكثر من بنائها؟ أمَّا الخطر الأعظم فهو أن يلعب الإنسان ببرنامجه الوراثي، لإنتاج كائن جديد يتعدَّاه أو يخلفه. بذلك يكتب نهايته بيده. فأيُّ وحشٍ أو مسخٍ سيخرج من الحاضنات البيولوجيَّة؟!
[1] ـ قام محمد شوقي الزين وباحثة لبنانيَّة مقيمة في باريس بترجمة مقال للفيلسوف اللبناني إلى الفرنسيَّة عنوانه: «الفيروس الجهادي»، يُقدم فيه رؤية مختلفة عن الأحداث الإرهابيَّة في أوربا (المحاور).
[2] ـ كانت هذه، بطبيعة الحال، فكرة فريدريش شلايرماخر (Friedrich Schleiermacher)، مؤسس الهرمينوطيقا في القرن الثامن عشر، الذي استحدث مفهوم التكهُّن (divination) ليقصد به أنَّ القارئ يضع نفسه في وضعيَّة المؤلف، ويفهم أشياء النص أحسن ممَّا فهمه كاتبه. ينفي علي حرب أن تكون قراءاته التأويليَّة من قبيل التكهن. إنَّها بالأحرى قراءات تبحث في الكتابة عن المكبوت والصامت (المحاور).
[3] ـ تنخرط «الدولة» لغوياً في هذا «التداول»، كما يشرح علي حرب، بما يتطلب التفاعل بين القوى السياسيَّة في تفعيل المؤسَّسات وإدارة الشأن العام. لكن، واقعيَّاً وتاريخيَّاً، لم ينطبق المنطوق «دولة» مع المنطوق «تداول»؛ بل كان هنالك استئثار بالحكم ونزاع دموي من أجل السلطة (المحاور).
[4] ـ يشير علي حرب إلى الحوار الذي أجراه مارسيل غوشيه مع أسبوعية «لوبوان»، وعنوانه: «نشهد أفول الأنا الأعلى السياسي» (المحاور):
Marcel Gauchet, «Nous assistons à la disparition du surmoi politique», Le Point, 17 / 11 /2016