حوار مع د. منير السعيداني علم اجتماع الثّقافة في سياق الفعل والتّغيير
فئة : حوارات
حوار مع د. منير السعيداني[1]
علم اجتماع الثّقافة في سياق الفعل والتّغيير
د. منير السعيداني:
- أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التّونسيّة، متخصّص في علم اجتماع الثّقافة.
- حاصل على شهادة الدّكتوراه بأطروحة حول «الأنا والآخر في الفكر العربيّ الحديث مقاربة سوسيو- ثقافيّة».
- له مؤلّفات؛ منها المقالات والدّراسات والكتب، ونذكر من بينها مشاركة في كتاب «التّنظيمات السّياسيّة والمدنيّة في الانتقال الدّيمقراطيّ بتونس» (2012)، وكتاب «يريد ويبدع ما يريد: الشّباب في الانتقال الدّيمقراطيّ في تونس» (2012).
- صدرت له ترجمة لكتاب سيرج بوغام «ممارسة علم الاجتماع»، وترجمة لكتاب دنيس كوش «مفهوم الثّقافة في العلوم الاجتماعيّة».
في علم اجتماع الثّقافة
د. نادر الحمّامي: الأستاذ منير السعيداني، يبدو لمن يتابع ما أنجزته من دراسات في مجال تخصّصك، أنّ لك نظرة فاحصة إلى علم الاجتماع ودوره، تنطلق من المجتمع وترصد تحوّلاته، على اعتباره ورشة عمل مفتوحة. فهل أنّ المجتمع هو الّذي يفرض نمط البحث في علم الاجتماع الثّقافيّ، أم إنّ هذا العلم هو الّذي يفرض نظريّاته على المجتمع؟
د. منير السعيداني: تتميّز المجتمعات عموماً بالحضور الثّقيل لما نسمّيه ثقافيّاً، وتلك خصوصيّة تشمل الدّين والقيم واللّغة والحياة اليوميّة والتّصورات ومختلف التّمثّلات الّتي تحدّد نظرة النّاس إلى حياتهم وأنفسهم وعلاقاتهم وإلى الآخر. وعلينا أن نبحث دائماً عن زوايا نظر جديدة لما هو ثقافيّ في نطاق المجتمع، فما بُحث إلى حدّ الآن في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة كان من منطلقات دينيّة، سواء في الفقه أو العقائد من منظور تاريخيّ أو فيلولوجيّ. وما هو مطلوب أكثر هو أن نعدّد زوايا النّظر، حيث نعتمد على المقاربات الإنسانيّة والاجتماعيّة الجديدة، ومن بينها علم الاجتماع، وأقول مقاربات جديدة، على الرغم من أنّ علم الاجتماع قد تجاوز القرنين منذ ميلاده، وما أعتقد أنّه جديد يكمن في الرّوابط والعلاقات الّتي تنشأ باستمرار بين ما هو ثقافيّ وما هو ظواهر اجتماعيّة ثابتة أو متحوّلة، مثل العلاقة بالسّياسيّ الّتي تشمل التّحولات السّياسيّة الّتي يشهدها المجتمع الّذي نعيش فيه أو المجتمعات الأخرى القريبة منه، والعلاقة بالدّينيّ وبالتّاريخيّ وبالاقتصاديّ. وأعتبر أنّ مبحث علم اجتماع الثّقافة جديد، رغم أهمّية الاجتهادات السّابقة له في إطار علم الاجتماع نفسه أو في نطاق العلوم الإنسانيّة بصفة عامّة؛ فعندما نعود إلى منجز علم الاجتماع في تونس حول هذه المسائل نجد أنّه لا يتجاوز الخمسة عقود، فنحن إزاء مبحث جديد يختصّ بالنّظر في حضور الثّقافيّ في الحياة الاجتماعيّة، وهو يطرح الكثير من التّحدّيات في مستوى التّنظير والمفاهيم والمنهج. وقد اعتدنا في علم الاجتماع أن نتحدّث عن معنيين للثّقافة بشكل عامّ؛ يتعلّق المعنى الأوّل بالظّواهر الفكريّة والتّصوّريّة والإبداعيّة كالفنون والآداب، وهذا المعنى هو الّذي يستند إليه علم اجتماع الثّقافة في المنجز العلميّ الاجتماعيّ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وفي أوربا بالخصوص. ويتعلّق المعنى الثّاني بالعادات والتّقاليد والأعراف والتّمثّلات، والممارسات الدّينيّة واللّغويّة، وفي هذا المعنى نكون أقرب إلى ما يسمّى عادة مجال الأنثروبولوجيا الثّقافيّة.
د. نادر الحمّامي: كيف يمكن الحديث، في هذا السّياق، عن خصوصيّة علم اجتماع ثقافة تونسيّ، وهل هذا ما يجعلك تركّز في أغلب دراساتك على المجتمع التّونسيّ؟
د. منير السعيداني: هناك مستويان في هذه المسألة؛ يتعلّق الأوّل بمنجز علم الاجتماع الثّقافيّ في تونس، ويشترك في هذا المبحث العديد من علماء الاجتماع، وإن كان اعتبار هؤلاء علماء اجتماع مختصّين فيما هو ثقافيّ محلّ جدل ونقاش. ومع ذلك يمكن تصنيفهم في هذا الإطار بالنّظر إلى اهتمامهم بالمسائل الثّقافيّة، ومنها الدّينيّ والسّياسيّ والإبداعيّ وغير ذلك. ويتعلّق المستوى الثّاني بنوع المراجعة والتّحليل لما يُعتبر ثقافيّاً في نطاق المجتمع، وهذا يفترض وجود حدود مضبوطة بين ما يمكن اعتباره ثقافيّاً، وما يمكن اعتباره أنثروبولوجيّاً مثلاً، وهذا يظهر في عمليّة تحديد الاختصاصات داخل المنجز العلميّ الاجتماعيّ من منظور عالميّ؛ فمنجز علم اجتماع الثّقافة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة يعلّمنا دروساً هي غير الدّروس الّتي يعلّمنا إيّاها منجز علم اجتماع الثّقافة في شبه القارّة الهنديّة مثلاً. ذلك أنّ تلك الدّروس تحاول أن تمزج بين علم الاجتماع وما يمكن أن يحيط به ممّا يسمّى عادة في التّسميات الأنجلوسكسونيّة «الدّراسات الثّقافيّة» (culture studies)؛ في هذه الدّراسات لا توجد حدود واضحة بين منجز علم الاجتماع الثّقافيّ كما هو موجود في فرنسا أو ألمانيا أو غيرهما. لذلك نجد هناك تداخلاً بين ما هو ثقافيّ متعلّق بالفنّ أو متعلّق بالأدب أو بالممارسات الدّينيّة، وبين الأعماق الّتي يرتبط بها سوسيولوجيّاً؛ بمعنى ارتباط ذلك بالعادات والتّقاليد وتصوّرات الجماعات والتّحوّلات السّياسيّة الّتي يشهدها المجتمع.
د. نادر الحمّامي: ما مدى أحقّيّة القول بوجود خصوصيّات ثقافيّة في المجتمعات؟
د. منير السعيداني: في هذا الخضمّ أحاول أن أجدّد النّظر إلى علم الاجتماع الثّقافيّ بحيث أضع الظّواهر الاجتماعيّة الّتي تتعلّق بالمجال الثّقافيّ في سياق تحوّلات تاريخيّة كبرى، فما شهدناه من تحول اجتماعيّ عميق وسريع وحادّ وشامل في تونس، مثلاً، منذ خمس سنوات، يوجب علينا أن ننظر في الثّقافيّ بمناظير جديدة؛ بمعنى أنّ هذا التّحوّل في علاقة الطّبقات ببعضها، وعلاقة الفئات الاجتماعيّة ببعضها ولكن في الوقت نفسه علاقة الثّقافيّ بما هو سياسيّ؛ شكل السّلطة، شكل ممارسة السّلطة، بناء المجتمع لمؤسّسات ديمقراطيّة جديدة بالاعتماد على آليّات الانتقال الدّيمقراطيّ السّائدة الآن في البلاد؛ هذا كلّه يوجب علينا أن ننظر إلى الثّقافيّ نظرة جديدة، بمعنى لا فقط بربطه بما يسمّى عادة طبقات أو ما يسمّى فئات أو عادات أو تقاليد في المجتمع، بل بمحاولة فهم هذا التّحوّل الاجتماعيّ انطلاقاً من أنّه تحوّل ثقافيّ في حدّ ذاته.
د. نادر الحمّامي: أي إنّ ذلك يمثّل نظرة جديدة لتصوّر علم اجتماع الثّقافة، ويرتبط بهذا التّصور تصوّر منهجيّ آخر يتعلّق بأنّ علم الاجتماع، من هذا المنظور الّذي تتحدّث عنه، لم يعد يقتصر على المناهج المعروفة (المنهج التّاريخيّ أو منهج دراسة الحالة...)، فهل هو مرور من علم الاجتماع الكلاسيكيّ التّقليديّ القائم على الوصف والتّوصيف إلى نوع من الاستشراف؟
د. منير السعيداني: من بين ما يجب الانتباه إليه هو موقع الفاعلين الاجتماعيّين من المنجز الثّقافيّ الّذي نجده في المجتمع، فالمجتمعات عادة تعيش حركيّة دائمة، هناك نظريّات ومدارس أخرى في علم الاجتماع تنزع إلى أن تنظر إلى المجتمع في سكونه وفي هيكليّته الكبرى، وإن نظرت في التّحوّل، فإنّها تنظر فيه على امتدادات كبرى، ولكن أنا أميل إلى اعتبار أنّ المجتمعات تعيش حالة تطوّر دائم، وأنّ هناك طرائق متعدّدة لمقاربة هذا التّحوّل المتواصل وما يراه الفاعلون الاجتماعيّون في صنعهم له؛ وهو تحوّل في عمقه ثقافيّ متعلّق بتصوّر نمط الحياة وعلاقة ما هو قيميّ بموقع الإنسان وعلاقته بتراثه وكيفيّة بنائه لهويّته. وأعتبر هذه المسائل من صلب علم اجتماع الثّقافة، أي إنّ لها موقعاً مخصوصاً في هذا الفعل على اعتباره هو الّذي يصنع الثّقافة. ولذلك اعتمدت في بعض البحوث عناوين من قبيل «صنع المعيش بابتداع الثّقافيّ»، فبإعادة ترتيبنا لمعيشنا اليوميّ نحن نصنع الثّقافة، وعلينا أن ننتبه إلى أنّ الأمر في الاتّجاه المعاكس صحيح أيضاً، فالموقف الثّاني المنهجيّ يرى أنّنا لا يمكن أن نفهم هذا الّذي يحدث إلّا إذا انتبهنا إلى ما يقول الفاعل، ليس فقط في مستوى التّصريحات أو ما يعبّر عنه من أفكار بل، أيضاً، في مستوى ما يحدّده لنفسه من مواقع: بالسّلطة، بالثّقافة، بالسّياسة، بالدّين... هذه المواقف المنهجيّة الإرشاديّة تعطينا نمطاً معيّناً من البحث.
د. نادر الحمّامي: كأنّني أنظر هنا إلى أمرين؛ أوّلاً الإفادة من نظريّة بنية الإمكانيّات السّياسيّة، وهي جديدة وعلى أساسها كانت دراستك للحراك الاجتماعيّ الّذي بدأ في تونس من قبل سنة 2010؛ وذلك بنتائج مختلفة، بالإضافة إلى ما يمكن أن نستنتجه من كلامك بأنّ الواقع هو الّذي يفرض الدّرس الاجتماعيّ لا العكس، بمعنى أنّنا لا نسقط الدّرس الاجتماعيّ على المجتمع، بل إنّ المجتمع هو من يجب أن يوجّه المسائل الاجتماعيّة.
د. منير السعيداني: هذه نقطة اختلاف أخرى بين علماء الاجتماع بشكل عامّ، فهناك ما يمكن أن نعتبره نوعاً من علم الاجتماع التّقليديّ، وهو الّذي يرى أنّنا في علم الاجتماع ننتج خطاباً علميّاً نسلّطه على المجتمع من خارج، وهناك نظرة أخرى ترى بأنّنا إزاء المجتمع في معنى أنّه مختبر أو ورشة مفتوحة نجد فيه تحاليل واستراتيجيّات ورهانات. إن كان هذا الأمر متاحاً أمامنا فمن المفروض أن نجد أنفسنا منهجيّاً أقرب إلى النّقطة الّتي تجعلنا نفهم ما يحدث. إنّ فَهْم ما يحدث فيه جدل أيضاً، فهل هو من فعل الفاعلين بوصفهم فاعلين يعون بفعلهم ويستشرفون مقاديرهم، ويصنعون هذه المقادير؟ أو أنّهم يتحرّكون بطريقة أقرب إلى ما يمكن أن نسمّيه بـ «الغباء التّاريخيّ» أو «العماء الاجتماعيّ»، أي كأنّهم يعيشون من دون أن يفهموا ما الّذي هم بصدد صناعته؟ وأنا أميل إلى القول بأنّ هؤلاء الفاعلين، وهم يصنعون تاريخهم، يصنعون أيضاً مادّة ما نشتغل به نحن في علم الاجتماع، أي الأفعال والرّهانات والاستراتيجيّات. ويعبّرون عن ذلك بأقوالهم بما هي استراتيجيّات في بناء الاجتماع الإنسانيّ واستشراف المستقبل. ونحن في عمق جدل منهجيّ وبطبيعة الحال هذا الجدل يرتبط لا فقط بمسائل منهجيّة ولكن بمسائل موضوعيّة أيضاً. وفي اعتقادي إنّ ما حدث في تونس هو حركة اجتماعيّة، انطلقت مطلبيّة احتجاجيّة، وتحوّلت إلى انتفاضة وإلى ثورة بعد ذلك، على الأقلّ، في المستوى السّياسيّ. وبصرف النّظر عن هذه الثّورة، فما حدث في المجتمع هو نوع من مساءلة المجتمع نفسه بنفسه، أي عن طريق الفاعلين السّياسيّين والشّباب والمرأة والمجتمع المدنيّ، أي مساءلة الأسس الّتي ينبني عليها الاجتماع الإنسانيّ، وفي هذه المساءلة هناك ما يتعلّق بالجانب الاقتصاديّ البسيط، ولكن هناك أيضاً ما يتعلّق بما هو سياسيّ؛ لذلك نحن نلاحظ وجود هذه التّغيّرات الّتي توضع عادة تحت عنوان «الانتقال الدّيمقراطيّ». ولكنّنا، في الوقت نفسه، نناقش مسائل هي من العمق التّاريخيّ بحيث تتجاوز بكثير ما كنّا نقوله؛ مثل أن يسائل المجتمع نفسه ما الموقع الّذي يجب أن يسنده إلى الدّين في شأنه اليوميّ؟ وهذا نقاش أعمق بكثير، ويتفرّع عن ذلك نقاش حول موقع المسجد من الحياة وموقع المؤسّسة الدّينيّة من السّياسيّ، وكيفيّة صياغة النّص التّشريعي الأوّل والكبير الّذي يهندس الحياة، وكيفيّة تشريعه للعلاقات الّتي تعتبر عادة مقدّساً دينيّاً، وما يعتبر مرتبطاً بالهويّة الثّقافيّة للمجتمع وكيفيّة التّصريف السّياسيّ لذلك. فعلى الرّغم ممّا يبدو من أنّنا في حالة تخبّط اجتماعيّ تعبيراته السّياسيّة فيها كثير من الاضطراب، فإنّنا في حقيقة الأمر إزاء حركة في عمق المجتمع، ولذلك أنا أعتبرها في عمقها ثقافيّةً. فنحن نناقش مسائل سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، ولكن نكون في ذلك بإزاء أسس الاجتماع الإنسانيّ، ولذلك فقد انتقلنا ممّا كان سابقاً من النّقد الثّوريّ للثّقافة، أي الثّقافة بوصفها مرتبطة باستراتيجيّات الدّول، وموجّهة توجيهاً سلطويّاً إلى الثّقافة بوصفها قائمة على الفعل الحرّ الّذي يتوضّح في مواقف النّقد الثّقافيّ للثّورة.
الفعل التّغييريّ
د. نادر الحمّامي: أكثر المفاهيم الّتي تكرّرت في سياق بيان التّصوّرات المنهجيّة والنّظرية لعلم اجتماع الثّقافة هي الانتقال والتّغيّر والحركيّة، وهي مفاهيم مفصليّة في ما تسمّيه «الفعل التّغييريّ» الّذي يرتبط بخمسة مستويات هي: الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسّياسيّ والثّقافيّ والرّوحيّ/ الدّينيّ. فكيف تترابط هذه المستويات في إطار الفعل التّغييريّ؟ وما علاقة ذلك بالثّقافة والمجتمع؟
د. منير السعيداني: المستويات الخمسة الّتي ذكرتَها كانت في نهاية الكتيّب الّذي أصدرتُه في نهاية سنة 2012 بعنوان «يريد ويبدع ما يريد»، وهو عنوان فيه نوع من الشّعريّة وهو يتعلّق بالشّعار الّذي رُفع في التّحرّكات المطلبيّة والاحتجاجيّة في تونس، وهو «الشّعب يريد»؛ كان هذا الكتيّب نتيجة لجملة من الأعمال البحثيّة الّتي مارستها بوصفي ملاحظاً مشاركاً، باعتبار أنّ ذلك الفعل التّغييريّ كان شاملاً وعميقاً، وكنت بصدد الخروج من تجربة سياسيّة نحو آفاق أعتقد أنّها أرحب نوعاً ما، وهذا لا يخرج عن تحديدات ماديّة لعلم الاجتماع، فهناك تقنيّات للبحث توضع عادة بعنوان الملاحظة والمشاركة، وما لاحظته في ذلك الخضم أنّنا كنّا بصدد تغيير اجتماعيّ حاد بفعل تسارع الأحداث الّذي أدّى إلى إسقاط رأس السّلطة السّياسيّة، ما اضطرّها لمعاودة النّظر في علاقتها بالمجتمع، وفي علاقة الحاكم بالمحكوم في إطار نقاش عامّ حول ترتيب الشّأن السّياسيّ. وهو تغيير عميق يتجاوز ما هو سياسيّ إلى مستويات أخرى اقتصاديّة، تهمّ مناقشة الثّروة وكيفيّة توزيعها والأحقّيّة فيها والنّظر في التّراتب الطّبقيّ أو الفئويّ في المجتمع، ومستويات اجتماعيّة تهمّ أسس الاجتماع وقواعده وقواعد العيش المشترك، ومستويات روحيّة تهمّ مسألة الدّين في الحياة العامّة ومكانة المؤسّسة الدّينيّة في المجتمع. لذلك، فقد كان المجتمع التّونسيّ إزاء تغيير حادّ وعميق وشامل، وهو تغيير لا يُعتبر غريباً عن المسار الاعتياديّ للمجتمعات. ولعلّي أميل إلى الاعتقاد بأنّ هناك دورات متتالية للتّغيّر الاجتماعيّ، وهو ما يعني أنّ المجتمعات لا تكفّ عن التّغيّر، ولكن هذه الدّورات يمكن أن تكون أكثر حدّة أو شمولاً ممّا كانت عليه، وهو ما حدث في المجتمع التّونسيّ، لذلك أطلق على الحراك المجتمعيّ تسمية ثورة، رغم أنّه كان حراكاً مفاجئاً، ولم يستجب لبناء تطوّريّ معلن من قبل، وعلى العموم، فأنا لا أذكر أنّ ثمّة ثورة تمّ التنبّؤ بها قبليّاً.
د. نادر الحمّامي: ولكن ما تسمّيه تغيّراً ثقافيّاً قد يراه آخرون مجرّد عودة إلى نقاشات قديمة حول تصوّر المجتمع وما يسمّى النّمط الاجتماعيّ، خاصّة ما يتعلّق بالجوانب الدّينيّة وأشكال التّديّن.
د. منير السعيداني: نعم، قد يكون ذلك، ولكن ما هو مهمّ بالنّسبة إلينا في التّحليل العلميّ الاجتماعيّ (السّوسيولوجيّ) هو أن ننظر إلى علاقة هذه النّقاشات، وإن بدت قديمة، بما يعتمل في المجتمع من حركيّة أخرى، فهناك حركيّة في مستوى علاقة الفئات الاجتماعيّة ببعضها، وحتّى لو اعتبرنا أنّها مجرّد استعادة لنقاشات قديمة فإنّها تدلّ على وجود صراع اجتماعيّ بين قيم مختلفة.
د. نادر الحمّامي: هل هذا ما يفسّر، مثلاً، استعمالك لعبارات من نوع «زمن عاصف» أو «زمن مضطرب»؟
د. منير السعيداني: نعم، نحن في زمن عاصف ومضطرب، وأنا أعتقد أنّ من بين الأبعاد الكبرى الّتي لم نستكشفها بعد للثّورة في تونس أنّها مدخل تونس الحقيقيّ، وربّما مدخل العرب الحقيقيّ، إلى القرن الحادي والعشرين؛ فإلى حدّ هذه الثّورة لم نكن قد دخلنا بعد إلى القرن الحادي والعشرين بما في ذلك من إعادة ترتيب للأشياء على أساس يناقض ما كان، فنحن في زمن الانفتاح على التّغيّرات الكبرى، الّتي تنتهي إلى إعادة ترتيب للعلاقات الاجتماعيّة. وهذا يثبت أنّ المجتمع لا يكفّ عن التّغيّر، وفكرة أنّنا بصدد مناقشة مواضيع قديمة بأسلوب جديد تبدو غير مقبولة، فحتّى ما يسمّى تقليداً في المجتمعات هو شكل من أشكال إعادة طرح قواعد العيش المشترك، لأنّ ما هو مهمّ في علم الاجتماع دائماً هو أن نعود إلى تلك القوى الّتي تحمل التّصوّرات الّتي تبدو تقليديّة، وقد يكون هذا التّصوّر شكلاً تقليديّاً، ولكنّه مع ذلك يثير الكثير من الأسئلة الّتي يجب أن نجيب عنها؛ ومن بين تلك الأسئلة ما يتعلّق بماهيّة تلك التّصوّرات، وشكل القوى الجديدة الّتي تحملها، والدّوافع الكامنة وراءها والتي تجعلها تطفو على السطح اليوم، والمعنى الجديد الّذي تكتسبه تلك التّصوّرات القديمة وسط الجدل الحديث، وانعكاس ذلك كلّه على مختلف القوى في المجتمع...
د. نادر الحمّامي: ولكنّ ما نلاحظه أنّك على الرّغم من تحديد تلك المستويات الخمسة المتعلّقة بالتّغيّر الثّقافيّ، فإنّ النّتائج الّتي توصّلت إليها كانت مرتبطة أكثر بالجانب السّياسيّ، من ذلك أنّك تتحدّث عن نهاية الدّولة «ما بعد الاستعماريّة» في تونس، ومفاهيمها المستندة إلى الخصخصة والتجريم، أليس في ذلك تجاوز للمستوى الثّقافيّ والاجتماعيّ والدّينيّ نحو التّركيز أساسا على المسألة السّياسيّة؟
د. منير السعيداني: نحن نحتاج في كلّ مرة أن نحدّد ما هو المستوى الّذي يكون أقدر على إظهار ما يعتمل في المجتمع من تغيّر، فلا سبيل لإنكار أنّ السّياسيّ في تونس هو الّذي هيمن إلى حدّ كبير على السّنوات الأربع أو الخمس الأخيرة، مثلاً. لقد تعدّدت المناسبات الانتخابيّة في تلك الفترة ما يفرض مناقشة للمسائل السّياسيَّة، ولكن للمسائل الثّقافيّة أيضاً. ولكن أن يوجد هذا العدد المهول من الأحزاب السّياسيّة فذلك يوجب أيضاً أن نعتبر أنّ المستوى السّياسيّ هو الأقدر على إظهار ما يوجد من صراعات، أضف إلى ذلك أنّنا نشهد طفرة كبيرة في بناء مؤسّسات المجتمع المدنيّ. هذه العلامات تدلّ على أنّنا، في السنوات الأخيرة، كنّا مضطرّين إلى حدّ ما أن نهتمّ بالسّياسيّ، ولكن على مستوى أطول تاريخيّاً علينا العودة إلى مناقشة المسائل بما هي مسائل ثقافيّة في العمق. وحين ننظر في المناقشات السّياسيّة الّتي تعلّقت بالمجلس الوطنيّ التّأسيسيّ وفصول الدّستور نلاحظ أنّ عمق النّقاش كان حول ما يتعلّق بنمط المجتمع وهويّته الحضاريّة والدّينيّة. وأبلغ صورة لتلك المناقشات كانت المناقشة السّياسيّة داخل المجلس وفي محيطه، من أطراف سياسيّة وأخرى تنتمي إلى المجتمع المدنيّ ومن مثقّفين ونُخب وإعلاميّين وفئات اجتماعيّة عامّة، فلم يكن يغيب عن ذلك استحضار ملامح «الشّخصيّة التّونسيّة» في نقاش مسائل سياسيّة ذات عمق ثقافيّ بالأساس.
د. نادر الحمّامي: لاحظنا أنّ تلك النّقاشات في المجتمع التّونسيّ بدأت عفويّة تعبّر عن مطالب اقتصاديّة وسياسيّة، ولكنّها سرعان ما تحوّلت بعد ذلك نحو طرح مسائل الهويّة، كيف تفسّر ذلك؟
د. منير السعيداني: نعم، لأنّه وجدت قوى سياسيّة اعتقدت، في ظلّ ما كان يحدث، أنّ لحظة التّغيير في تونس هي لحظة مفصليّة في منظور استراتيجيّ يسمح لها بأن تعيد طرح مسألة الهويّة، ولكن هذه التّصوّرات ليست بالضّرورة ذات عمق اجتماعيّ كافٍ بحيث تحوّل المناقشة السّياسيّة إلى مناقشة اجتماعيّة حقيقيّة. ولو نظرنا إلى الأطراف المساهمة في النّقاش فإنّنا نجد أنّها لا تمثّل سوى نسبة قليلة جدّاً من المجتمع التّونسيّ، الّتي تعبّر عن نفسها في إطار أحزاب أو منظّمات مجتمع مدنيّ، وهي عموماً لا تشمل جميع الفاعلين الاجتماعيّين ولا تمسّ العمق الشّبابيّ الّذي بقي بعيداً عن المساهمة والاهتمام والمشاركة، وقد رأت بعض الأطراف السّياسيّة أن تعمل على استقطاب هذا العمق عبر مسائل هوويّة تجعله في قلب المعترك، ولعلّ لهذا العمق الشّبابي ما يصله أيضاً بمسائل النّقاش المجتمعيّ عبر زوايا أخرى ليست هوويّة بالضّرورة كما أنّها ليست سياسيّة تنظيميّة سواء كانت أحزاباً سياسيّة أو جمعيّات، وإنّما هي زوايا تعبيريّة وفنّيّة خارج الأنماط السّائدة والمألوفة.
د. نادر الحمّامي: يعني ذلك أنّ الشّباب يعبّر بما هو ثقافيّ على ما هو سياسيّ، كما يبدو ذلك في تحليلك لأغنية «الرّاب» المشهورة «حوماني» الّتي قمت بدراستها، فهي ليست تعبيراً فنيّاً أو ثقافيّاً أو نمطاً من الغناء، بقدر ما هي تعبير سياسيّ بالثّقافيّ عند الشّباب في غير الأطر الرّسميّة.
د. منير السعيداني: إنّ المجتمع، وهو يتغيّر، يعيد تعريف مجالات الحياة السّياسيّة، ومن ذلك مفهوم السّياسيّ نفسه، على اعتبار أنّه لا ينحصر بالضّرورة فيما هو حزبي متعلّق بممارسة السّلطة وفق الأليّات المتعارف عليها. ومن هنا نطرح السّؤال التّالي: هل هؤلاء الشّباب الّذين يعوّلون على التّعبير الفنّيّ سواء بـ «الرّاب» أو «الغرافيتيّ»، هم بصدد ممارسة تعبير فنّيّ بالمعنى الثّقافيّ الضّيّق، أم هم بصدد التّعبير السّياسيّ بشكل فنّيّ؟ ونحن إن عمّقنا المناقشة في هذه النّقطة، نلاحظ أنّ حركة التّغيير الثّقافيّ في جانبها الفنّيّ تطرح الكثير من الأسئلة حول مفهوم السّياسيّ، ونستنتج أنّها في عمقها مشاركة في السّياسة ولكن بطرائق غير تقليديّة، وهذا يوجب علينا إعادة النّظر فيما يعتبره البعض تدنّي نسب الاهتمام بالسّياسة في صفوف فئات واسعة من الشّباب، وبالتّالي يصبح القول بعزوف الشّباب عن المشاركة السّياسيّة لا معنى له. وإذا نظرنا في الحركة المطلبيّة الاحتجاجيّة، فإنّنا نلاحظ أنّ قادتها الحقيقيّين على الميدان لم يجدوا لهم تعبيراً في أي شكل من الأشكال السّياسيّة القائمة، فكأنّهم غير موجودين أصلاً، والحال أنّهم موجودون في مجال آخر للتّغيير السّياسيّ غير الّذي نرى. إذن علينا أن نجتهد في النّظر إلى السّياسيّ في اتّساعه، ولذلك فإنّ الانتباه إلى الافتراضيّ، مثلاً، وإلى أشكال التّنظّم الاجتماعيّ الأخرى يجعلنا ننظر إلى الرّوابط وإلى هذه الصّلات الاجتماعيّة الجديدة عن طريق شبكات التّواصل الاجتماعيّ، وهذا يجعلنا ننتبه إلى رغبة الشّباب في التّنظّم السّياسيّ بطريقة غير تقليديّة، فهم يميلون إلى الشّبكي وإلى الجماعاتيّ (الصّلات الاجتماعيّة الّتي لا ترى بالمنظور التّقليديّ)، أكثر من ميلهم إلى التّنظّم في أطر وهياكل سياسيّة تقليديّة ومتعارف عليها.
د. نادر الحمّامي: من غير المعروف كثيراً أنّك اشتغلت على إحدى فنّانات تونس وهي صليحة (1914-1958) من جهة الكاف، ونظرت في صلة ما أنتجته من أغانٍ بالإطار الاجتماعيّ والسّياسيّ القائم، فكأنّما هذه الفنّانة كانت في وقت ما في الثّلاثينات نصراً لنمط اجتماعيّ تقليديّ معيّن، وهي الفترة نفسها الّتي ظهرت فيها كتابات أخذت على عاتقها كسر تلك التّقليديّة، مثل محاضرة أبي القاسم الشّابيّ (1909-1934) حول «الخيال الشّعريّ عند العرب»، أو كتاب الطّاهر الحدّاد (1899-1935) «امرأتنا في الشّريعة والمجتمع». فهل يمكن القول، بنوع من القياس، إنّ هذه الحركات الفنّية الشّبابيّة الّتي تعبّر اليوم عن السّياسيّ بالثّقافيّ بأشكال غير تقليديّة تشابه تلك الفترات الّتي مرّ بها المجتمع التّونسيّ أو غيره من المجتمعات الأخرى؟
د. منير السعيداني: إنّ نقطة الاشتراك هي ما يمكن أن نعتبره ضرورة اجتماعيّة، فالمجتمع في حركته وفي تغيره يجد نفسه في حاجة إلى شيء ما هو معنى جديد لاجتماع أفراده وفئاته، وإن وجدنا تعبيرات عن بناء جديد وعن رؤية جديدة أو حتّى عن توجّه فنّيّ أو أدبيّ جديد، فذلك مدعاة من منظور علم الاجتماع للتّفكير في وجود ضرورة اجتماعيّة ما لهذا الجديد إلى جانب وجود قوى اجتماعيّة مطالبة به وفاعلة فيه. وعلينا أن نقوم بهذا التّمرين المنهجيّ حتّى نعود إلى أصل الأشياء، وهذا التّمرين هو عمق التّفكير السّوسيولوجيّ، لكن هناك إشكال، فما الّذي يمكن أن يفيدنا به ذلك فيما يسمّى عادةً تقليداً؟ هل فعلاً تطلب المجتمعات في وقت ما تقليداً؟ وبالعودة إلى أحد أسئلتك السّابقة، فإنّك تحدّثت عن عدد من المناقشات القديمة والآراء القديمة؛ في اعتقادي إنّ المجتمعات لا تعيد إنتاج نفسها أبداً، هي في حالة تغيّر دائم، وحتّى تلك العودة الحَرفيّة في بعض الأحيان إلى صياغات قديمة؛ فقهيّة، أدبيّة، فكريّة... هي في عمقها إعادة إنتاج جديد بالنّظر إلى الوضع الّذي يقوم الآن؛ وبهذا المعنى فحتّى المطالبات السّلفيّة هي جديد، لأنّها لا يمكن أن تكون مطابقة تماماً للمثال الّذي تعتقد أنّها بصدد إعادة إنتاجه. وما تتمّ الإشارة إليه في بعض الكتابات من أنّه عودة للنّقاش الرّوحيّ حول كيفيّات صنع المعيش، إنّما هو ابتداع ثقافيّ مختلف عن القديم؛ ففي الإسلام اليوميّ كما نلاحظه ممارساً في بعض التّعبيرات الّتي تسمّي نفسها ويسمّيها الآخرون أيضاً سلفيّة، هي في حقيقة الأمر تحاول أن تبني أسساً لاجتماع جديد، صحيح أنّه يستلهم من مثال قديم، ولكن واقع الأشياء يثبت أنّه جديد.
المجال العموميّ والتّغيّر الاجتماعيّ
د. نادر الحمّامي: أنت تذكّرنا بما كتبه ميشيل دي سارتو (michel de certeau) (1925-1986)، في كتابه «كتابة التّاريخ»، إذ اعتبر السّلفيّة تجديداً، وهذا يحيل على إشكاليّات أخرى قد تزيد في تعقيد ما هو معقّد أصلاً. ولعلّ ما تذهب إليه يبيّن أنّ التّقليد جزء من عمليّة التّغيّر الثّقافيّ وأنّه نوع من ابتداع أشكال جديدة وإن بدت أنّها تستعيد نماذج قديمة. هذه الرّؤية تستوجب تعميق النّظر في المجال العموميّ باعتباره الحاضن لعمليّة التّغيّر الثّقافيّ، ليبدو من ثمّ الدّور الّذي تقوم به الجامعة أساسيّاً، ونلاحظ أنّك اهتممت بهذا الجانب في بعض ما كتبت، وطرقت مسائل تتعلّق بالحرّيّات الأكاديميّة واستقلاليّة الجامعة، فما هو موقع الجامعة من الحراك الاجتماعيّ الكبير الّذي حدث في تونس؟
د. منير السعيداني: البحوث الّتي أنجزتها حول الجامعة هي جزء من برنامج بحثيّ متكامل، تشرف عليه الهيأة اللّبنانيّة للعلوم التّربويّة، ويهتمّ أساساً بمسألة المسؤوليّة المدنيّة للجامعات العربيّة، وفي ذلك محاولة لبناء نظرة جديدة للجامعة في علاقتها بالمجتمع وبنفسها وبالسّلطة السّياسيّة بشكل عامّ وبالسّلطة الأكاديميّة بالذّات؛ وكان عنوان البحث الأوّل «الدّيمقراطيّة في الجامعة التّونسيّة»، وبعد قراءة تاريخيّة سريعة في تأسيس الجامعة والقوانين المنظّمة لها والنّصوص النّاظمة للحياة الدّاخليّة بها، حاولت أن أركّز على النّقطتين اللّتين أشرتَ إليهما. وفي حقيقة الأمر فإنّ الجامعة في هذا البحث هي نوع من المثال المصغّر الّذي يمكن أن ننظر من خلاله إلى قدرة المجتمع على المرور من زمن الدّكتاتوريّة إلى زمن ما بعد الدّكتاتوريّة، كلّ ذلك في سياق الدّولة ما بعد الاستعماريّة؛ أي إنّنا إزاء تغير في تشكيل الفضاء العامّ، الّذي يتشكّل على وقع التّعبيرات الشّبابيّة، والّذي يُعاد تشكّله، أيضاً، ويعيد تشكيل نفسه على وقع هذه الطّرق الجديدة في التّعبير، الّتي هي على ارتباط بشبكات التّواصل الاجتماعيّ؛ فنحن إزاء إعادة تشكيل الفضاء العامّ ومن بين ذلك إعادة تشكيل الفضاء الجامعيّ، حيث يمكن أن نسمّيه الفضاء العموميّ الجامعيّ. وهذا يدعونا إلى البحث في أسس عملها وعلاقاتها بما يحيط بها من أشكال السّلطة، وكيف تبدو قادرة على أن تحوّل نفسها إلى فضاء عموميّ، يسمح بأخذ الكلمة والتّداول والمناقشة الحرّة. وعلى الرّغم ممّا طرأ على النّصوص القانونيّة وعلى الممارسة الاجتماعيّة من تغيير، من حيث انتخاب المسؤولين والتّخلّي عن الأساليب القديمة في التّعيين، فإنّ الاستنتاج الّذي توصّلت إليه أنّنا لا نزال بعيدين إلى حدّ كبير عن تكون فضاء عموميّ جامعيّ حقيقيّ.
د. نادر الحمّامي: ما المانع الّذي يحول دون تكوين فضاء جامعي عموميّ حقيقيّ؟
د. منير السعيداني: في اعتقادي أنّ المانع الكبير يكمن في عسر الانتقال من زمن الدّيكتاتوريّة إلى زمن الدّيمقراطيّة الحقيقيّة، وفي حقيقة الأمر فإنّ الأعماق الّتي كنّا نشير إليها؛ أي السّياسيّة والاجتماعيّة والرّوحيّة للتّحوّل المجتمعيّ المرغوب من وجهة نظر المجتمع نفسه، انحسرت في السّياسيّ. فمن إمكانيّة لتغيير عميق في علاقة الحاكم بالمحكوم، إلى مجرّد إجرائيات للتّحوّل الدّيمقراطيّ: مثل تنظيم الانتخابات والحرص على شفافيّة الصّياغات القانونيّة. والكلّ يعلم أنّ المناقشات القانونيّة، مهما تعمّقت، فهي في النّهاية مناقشات إجرائيّة، أي في كيفيّة إجراء الأشياء وفي النّصوص الّتي تنظّم، ولكن الحياة الحقيقيّة الحيّة تظلّ دائماً أغنى بكثير وتتطلّب الكثير ممّا يتجاوز الإجرائيّات إلى التّطبيق العمليّ.
د. نادر الحمّامي: ألا يختلف المنتمون إلى الجامعة في أشكالهم التّعبيريّة، عن أولئك المنتجين لأشكال ثقافيّة متمرّدة كالغرافيتي أو الرّاب، وأغلبهم كما نعلم لا ينتمون إلى الوسط الجامعيّ. فهل من تمايز بين هذا المجتمع الجامعي والمجتمع الّذي هو خارج الجامعة وخاصّة في فئات الشّباب؟
د. منير السعيداني: لابدّ أن نشير إلى أنّ الطّلّاب الجامعيّين كانوا إلى حدود سنة 2010 في سياق دكتاتوريّ مقلّص للحرّيّات ومانع لأشكال التّعبير. ولذلك فإنّ ما يبرز أكثر في الحركات الطّلابيّة هو جانبها الاحتجاجيّ والمطلبيّ، ومع ذلك فهي لا تتوفّق في أن تجمع حولها، إن اعتبرنا، مثلاً، أنّ الحركة النّقابيّة الطّلابيّة هي الوجه الأبرز للحركة الطلابيّة عموماً، لأنّ العمل النّقابيّ في صفوف الطّلّاب هو أخصّ بكثير من حركة طلّابيّة بأكملها، لكن إن اعتمدنا هذا المؤشّر، فسنلاحظ أنّ التّحرّكات النّقابيّة الطّلابيّة هي في نهاية الأمر تحرّكات احتجاجيّة مطلبيّة تتعلّق بمسائل جزئيّة، وهذا يظلّ بعيداً عن نظرة استشرافيّة توجِد للطّلّاب موقعاً من الفضاء العامّ في معناه المجتمعيّ الشّامل. ولذلك فنحن إزاء نوع من العُسر في الانتقال من هذا المظهر الاحتجاجيّ والمطلبيّ إلى مظهر أكثر استراتيجيّة في بناء موقع خاصّ للطّلّاب ولحركتهم؛ فسياق الممارسة، هذا، لا يوفّر مناسبات حقيقيّة للرّبط بين الحركة الطّلّابية، بوصفها وجهاً للحركة الشّبابيّة في المجتمع، وبين التّعبيرات الّتي تطوّرت على هامش الحركة الطلابيّة أو حتّى في انفصال عنها، وذلك حتّى نهايات سنة 2010، عند تحوّل قطاعات أوسع من ممارسي الرّاب والغرافيتي نحو التّعبير الفنّيّ عن المحتويات السّياسيّة، بما هي محتويات معارضة للسّلطة الّتي كانت قائمة آنذاك. هذا كلّه تمّ في غير علاقة بالحركة الطّلّابية، على الأقلّ في شكلها الرّسميّ؛ فمن الصّحيح أنّ طلّاباً كانوا موجودين في هذه الحركة، مثلاً حركة «الزواولة» للغرافيتي فيها طلّاب، ولكن لم يوجد رابط بين الحركتين، وهذا في اعتقادي من العلامات الّتي تدلّ على عسر تشكّل فضاء عموميّ حقيقيّ له من التّرابط ومن التّشابك ومن عمق الممارسة ما يجعله قائماً بذاته، حيث يوجِد توازن بين التّعبيرات السّياسيّة المختلفة في المجتمع.
د. نادر الحمّامي: ألا يعود ذلك إلى غياب رؤية موحّدة بين مختلف هذه الفئات الشّبابيّة، حتى توحّد مطالبها بحيث تكوّن رؤية خاصّة بها، إذ توجد فئات متعدّدة ذات اهتمامات متعدّدة بتعبيرات مختلفة؟
د. منير السعيداني: على الرغم من أنّ الفسحة التّاريخيّة هي من الاتّساع بحيث توجد إمكانيّة لهذا الارتباط أو التّشابك، فإنّ ذلك لم يحدث. وبالعودة إلى محاولات إنشاء اتّحادات شبابيّة، يمكن أن نلاحظ وجود منظّمات أو جمعيّات تحاول الحضور بوصفها صوتاً مخصوصاً، بما في ذلك العلاقة بمسائل أخرى من قبيل مسألة مقاومة الإرهاب والدّعوة إلى ضرورة تنظيم مؤتمر وطنيّ ضدّ الإرهاب؛ فهناك جمعيّات شبابيّة انتظمت في منظّمات وحاولت أن تطالب بمؤتمر ما للتّعبير عن رؤية الشّباب في كيفيّة مقاومة الإرهاب. ولكن عندما نعود إلى السّنوات الثلّاث أو أربع الأخيرة، نجد أنّ الأحزاب السّياسيّة لها أذرع شبابيّة وطلّابيّة، ونلاحظ أنّ الحملات الانتخابيّة الحزبيّة للانتخابات التّشريعيّة ثمّ بعد ذلك الانتخابات الرّئاسيّة، حاولت أن توجد بعض الرّوابط مع فئة الشّباب.
د. نادر الحمّامي: هل يدلّ ذلك على أنّ العمل المدنيّ في صفوف هؤلاء الشّباب بقي تابعاً للسّياسيّ؟
د. منير السعيداني: حاول السّياسيّ أن يستوعب فئة الشّباب ولكن المحاولة في اعتقادي لم تنجح. ولا يزال المجتمع التّونسيّ، بما في ذلك فئاته الشّبابيّة، يجيش بتعبيرات دفينة ومعلنة، لم تتناغم مع ما تعبّر عنه الأحزاب ولا الجهات السّياسيّة؛ من ذلك برزت بعض الحركات الاحتجاجيّة والمطلبيّة الّتي تُعتبر غير معهودة بالنّسبة إلى تونس، لأنّها متعلّقة بالمطالبات الإيكولوجيّة والبيئة، كما برزت حركات أخرى تطالب بنمط حياة جديد وفق ما يُعتقد أنّها حقوق وتصاغ بطريقة جديدة، مثل حق أهالي منطقة ما في أن يكونوا ذوي أولويّة في الانتفاع بالمشاريع الّتي تقام في منطقتهم، لا بوصفها مشاريع وطنيّة بل بوصفها مشاريع أقرب إلى المحلّيّة والأهليّة؛ هذه مطالب ليس للمجتمع عموماً ولا للمجتمع السّياسيّ خصوصاً عهد بها. إنّها تدلّ على عسر بناء هذه العلاقة بين التّعبيرات السّياسيّة المنظّمة في أحزاب ونقابات وجمعيّات وانتخابات وتعبيرات مهيكلة، وبين ما يجيّش في المجتمع الأهليّ في أوساط الشّباب وفي عمقه الجهويّ من تعبيرات عفويّة أو منظّمة. هذا يدلّ على أنّ بناء الفضاء العموميّ فيه الكثير من الإشكاليّات العميقة.
د. نادر الحمّامي: أليس السّبب في تعمّق هذه المشاكل أيضاً ما يتعلّق بالحرّيّات الأكاديميّة في صلب الجامعة، على اعتبار أنّها لم تُستغل كما يجب، ما جعلها محلّ تجاذب سياسيّ في كثير من الأحيان؟
د. منير السعيداني: هذا التّناقض يبدو متكرّراً في كثير من المجالات؛ فنحن أمام جامعة لها من العمر ما يتجاوز النصف قرن، ومع ذلك فهي تشكو عسراً في تنظيم حياتها الدّاخليّة، وفي إظهار المنتوج المعرفيّ والبحثيّ الخاصّ بها، وفي إيجاد موقع لها في المجتمع يحقّق لها الاعتراف، عوض ما أسمّيه حالة «الطّلاق» بينها وبين المجتمع، أي ذلك التّجاهل المتبادل بين الجامعة والمجال العامّ، فالمجتمع لا يجد صورة له في جامعته، والجامعة تجد عسراً في ربط علاقة بالمجتمع لأسباب مختلفة. لذلك، تبدو الحاجة ملحّة اليوم لإعادة بناء الجامعة أو إصلاحها، حتّى يمكن الوثوق في النّوايا الدّيمقراطيّة الّتي كثيراً ما يعلنها السّاسة حول علاقتهم بالجامعة وبالمجتمع بشكل عام. ومن المؤكّد أنّ الإشكال يتعلّق أيضاً بضعف الإمكانيّات الّتي يتمّ توفيرها للجامعة مادّيّاً وتنظيميّاً ولوجستيًّاً. والحقيقة أنّ ما يلاحظ هو غياب إمكانيّات كافية، وبالتّالي غياب نيّة حقيقيّة في إيجاد حوار حقيقيّ حول هذه المسائل، وفي هذا الوضع لا يمكن أن نطلب من الجامعة أن تنتج معرفة لها من العمق ومن إمكانيّة الاستخدام، حيث تكون فاعلة في إطار استراتيجيّات عميقة تتجاوز إشكالات منوال التّنمية في تونس؛ فهذا الأمر يبدو فيه الكثير من التّعقيد. إنّ جملة البحوث الّتي أجريتها حول الجامعة، بما في ذلك بحث حول «الحركة النّقابيّة في الجامعة» جعلتني أطلّ على بعض جوانب عسر بناء مجال عموميّ حقيقيّ، وهذا هو جزء ممّا يسمّى الانتقال نحو الدّيمقراطيّة، وأنا أحاول أن أضع هذا الأمر في سياق انتهاء الدّولة ما بعد الاستعماريّة، فهذه الدّولة، منذ 1956 إلى 2010-2011 وعلى الأخصّ في عقدها الأخير، قد تعسّرت فيها التّحوّلات الاجتماعيّة.
د. نادر الحمّامي: كيف يستشرف عالم الاجتماع إمكان زوال هذا العسر، خاصّة في ظلّ استمرار التّنازع على الفضاء الجامعيّ من قوى اجتماعيّة وسياسيّة مختلفة؟
د. منير السعيداني: هذا التّنازع هو وجه من أوجه التّفاوض الاجتماعيّ حول مآل التّغيير، ولعلّ ما انتصر هو القشرة الأقلّ سمكاً من السّطح الّذي يمكن أن يكون عليه التّغير في أي مجتمع، نحو انتقال ديمقراطيّ سلس بعيداً عن العنف، ويعتمد على الموافقات والتّوافقات أكثر ما أمكن، وهو بذلك يجد نفسه أقرب إلى بُنى الدّولة العميقة والبُنى القديمة الّتي كانت تتحكّم في سير المجتمع؛ لذلك يبدو أنّ حال العسر سيطول. ولكن بإمكاننا أن ننظر إلى الأمر بإيجابيّة من زاوية أخرى، تتعلّق بإمكانيّة انفتاح المجال العامّ أمام قوى شبابيّة، كانت تعاني من الإقصاء والتّهميش سابقاً، ليكون لها دور فاعل يمكّنها من التّعبير عن نفسها بوسائل غير تقليديّة. وبالإمكان أن يتوطّد دور هؤلاء في الفضاءات الفنّيّة، والثّقافيّة، والسّياسيّة، فهم يتزعّمون الحركات المطلبيّة بشكل متواصل، ومن شأن ذلك أن يؤدّي إلى إحداث تغيير في موازين القوى على المدى المتوسّط، والتّعبير عن حيويّة متواصلة في عمق المجتمع تتمثّل في إظهار المطالب والتّعبير عنها وتوفير الفرصة التّاريخيّة والاجتماعيّة لتكوين قيادات سياسيّة من غير المجال التّقليديّ، بإمكانها اعتلاء مراكز القرار، فما يلاحظه الجميع اليوم هو تلك المفارقة المتمثّلة في أن الشّباب الّذي قام بالثّورة ليس هو من يتولّى السّلطة، بل إنّ تمثيله في هذه السّلطة يكاد يكون منعدماً. وهذا إشكال يدلّ على أنّنا بصدد نوع من العطب البنيويّ في مآل التّغيّر، لذلك فإنّ الخروج من منطق الدّول ما بعد الاستعماريّة ومن المطلبيّة الاحتجاجيّة إلى استراتيجيّة بناء أسس علم الاجتماع الإنسانيّ بما هو مسألة ثقافيّة، يدلّ على أنّنا بصدد الخروج ولكنّنا لم نخرج بعد، كأنّ القديم بصدد الوفاة أو الاحتضار، ولكنّه لم يمت بعد، والجديد بصدد البناء ولكنّه لم يجد مرتكزاته بعد. وهذا أمر طبيعيّ ولكنّ خطورته في أنّه قد يفتح الأفق التّاريخيّ على مآلات أعنف بكثير جدّاً ممّا وقع؛ فهذا المجتمع عاش أوضاعاً فيها الكثير من مظاهر العنف السّياسيّ، ومن بينها الاغتيالات السّياسيّة ما مثّل تهديداً مباشراً للدّولة ولأسس الحياة السّياسيّة القائمة، وما هدّد بانسداد الأفق التّاريخيّ أمام التّغيير المدنيّ الدّيمقراطيّ الاجتماعيّ العميق، وهدّد بتلاشي أفق بناء دولة الرّعاية الاجتماعيّة المستقلّة العادلة. إن لم يكن التّغيير مجتمعيّاً عميقاً في اتّجاه دولة ترعى مواطنيها، وتكون مستقلّة في قرارها السّياسيّ الخارجيّ وفي بناء منوال تنميتها ومنوال إدارة الثّروة فيها، فإنّنا سنكون دائماً على حافّة الانزلاق إمّا نحو حياة سياسيّة شكليّة، وإمّا نحو خطر العنف السّياسيّ والحرب الأهليّة والغزو الخارجيّ من قوى متنقّلة، ولكن الانتباه إلى السّياق الّذي نحن فيه يجعلنا ننفتح على مسألة مهمّة وهي أنّنا في قلب منطق العولمة، بما هي تجاوز أو خرق للحدود السّياسيّة الإداريّة للدّول وللقوميّات وللثّقافات.
د. نادر الحمّامي: هذه خاتمة تجمع بين التّشخيص والاستشراف، وهما العمادان اللّذان قامت عليهما أبحاثك منهجاً وتصوّراً. الأستاذ منير السعيداني شكراً جزيلاً لك على ما تفضّلت به.
[1] - الحوار مقتطف من كتاب "أسئلة المجتمع والثقافة والسياسة"، نادر الحمامي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع.