حوار مع عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا المغربي محمّد الصغير جنجار
فئة : حوارات
كان لنا -على هامش ندوة علميّة دوليّة نظّمتها "جمعيّة الأوان" في تونس تحت عنوان "المقدّس وتوظيفه" يومي 19 و20 أفريل 2013، وشارك فيها محاورنا- لقاء مع عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا المغربي محمّد الصغير جنجار. وقد طرحنا عليه أسئلة عديدة عن الظاهرة الدينيّة من منظور علم الاجتماع وعن العلاقة بين الدين والثقافة الدينيّة من جهة، والعلاقة أيضا بين الإسلام والعنف، مثلما هو شائع في الأوساط الغربيّة من جهة أخرى.
ومحمّد الصغير جنجار حاصل على الإجازة في علم الاجتماع (جامعة محمّد الخامس في الرباط) وعلى دكتوراة المرحلة الثالثة من جامعة السوربون في باريس عن عمل بعنوان "تجربة المقدّس عند الزاوية العيساويّة بالمغرب". شارك في عدة ملتقيات علميّة دوليّة داخل المملكة المغربيّة وخارجها في مواضيع شتّى منها "الذاكرة ورهانات كتابة تاريخ المغرب المعاصر"، وأيضا "التحوّلات الاجتماعيّة والثقافيّة في المغرب المعاصر: التوجّهات الوازنة والآفاق". ويشغل محمّد الصغير جنجار الآن منصب نائب المدير في مؤسّسة الملك عبد العزيز آل سعود بالدار البيضاء، وهو بذلك مؤسّس ومدير مجلّة "مقدّمات" (Prologues)، وهي المجلّة المغاربيّة للكتاب.
بسّام الجمل: الأستاذ محمّد الصغير جنجار، أنتم مهتمّون بقضايا علم الاجتماع، وهو علم واسع يشمل العديد من الاختصاصات، وهو يبحث في الجانب الإجرائي من الظواهر الاجتماعيّة من قبيل الحراك الاجتماعي والعلاقات بين الأفراد، ولكن ليس بالاقتصار على ما هو مكتوب ومدوّن من الدراسات النظريّة، بل يتجاوزها إلى دراسة حالات اجتماعيّة معيّنة، استنادا إلى بحوث ميدانيّة وإلى اعتماد الإحصائيّات والمقارنات، فما هو الدور الذي يمكن أن يقوم به علم الاجتماع اليوم بعد أن شهدت عدّة بلدان عربيّة تحوّلات سياسيّة واجتماعيّة؟
محمّد الصغير جنجار: أعتقد أنّ علم الاجتماع نشأ بصفة متزامنة مع قيام الدولة الحديثة وخروج المجتمعات من المنظومة التقليديّة نحو المجتمع الحديث القائم على التصنيع وعلى إدارة الدولة لمختلف القطاعات الناشطة في المجتمع، مثل المؤسّسات الديمقراطيّة؛ فكان من متطلّبات هذه الدولة الحديثة أن أصبح المجتمع مقروءًا (lisible) بالنسبة إلى الفاعلين السّياسيّين والاجتماعيّين، وبالنسبة إلى الدولة أيضا؛ فهي تسهر على تنظيم التعليم وعلى توفير الرعاية الصحّيّة لأفراد المجتمع. ولكي تدير كلّ ذلك بطريقة فعّالة، فإنّها تحتاج إلى علوم تمكّنها من قراءة هذا المجتمع واستشراف تحوّلاته الممكنة. فعلم الاجتماع إذن، يأتي في مسار بناء الدولة الحديثة. ولكن المفارقة أنّه بعد خروج الاستعمار وقيام الدولة الحديثة لم تَحْظَ هذه العلوم الاجتماعيّة بالعناية الجديرة بها؛ ففي حالة المغرب مثلا، أنشأنا "معهد السوسيولوجيا" سنة 1964، وما كادت تحلّ سنة 1967 أو 1968 حتّى تمّ إغلاق المعهد المذكور، لأنّه كان حاضنا لفكر نقدي. فأنتَ حينما تحلّل المجتمع وتدرس بنياته فمِن المفروض أن يساعد ذلك كلّه على فهمه وعلى دراسته بطريقة علميّة. وبمقتضى ذلك تكون الدولة القائمة أوّل مستفيد من هذا التمشّي؛ فقد اعتقد الحاكم العربي أنّ الفكر النقدي المتولّد من العلوم الاجتماعيّة، والذي يجعل المجتمع واعيا بذاته من خلال تلك العلوم يتعارض مع الشرعيّة؛ أي مع الدولة، وهذا ما يفسّر إغلاق الكثير من المعاهد من هذا الصنف، بل إنّ عدّة بلدان عربيّة لم تُقدِم أصلا على تدريس العلوم الاجتماعيّة، ولم تعتمدها في برامجها التعليميّة، ولم تُبْنَ السياسات العموميّة على معرفة اجتماعيّة للمجتمع، فظلّ هذا الأخير غامضا ويُدار بطريقة أمنيّة فقط، حيث لمّا قامت الثورات العربيّة الأخيرة، فإنّ الكثير من الأشياء التي كان من الممكن أن تعرفها عن المجتمع تعذّر الإلمام بها، بل إنّ السلطات السياسيّة القائمة كانت تجهل ما يجري في واقع مجتمعاتها. واعتبارا لما سبق، فإنّ صفحة جديدة تُفتح في التاريخ المعاصر للبلدان العربيّة التي تراهن أن تكون مجتمعات ديمقراطيّة تعي ذاتها وتقرأ تحوّلاتها. ولا نعرف مجتمعا بُني بهذه الطريقة دون أن يُتيح قراءة نفسه بالأدوات الاجتماعيّة المعروفة. ولذلك، فإنّ عالم اجتماع، مثل جاك بارك (Jacques Berque) الذي درس المغرب يقول في كلام له مشهور بأنّه ليست هناك مجتمعات متخلّفة فقط، وإنّما هناك مجتمعات غير مدروسة (sous-analysées) بما فيه الكفاية.
بسّام الجمل: ولعلّ هذا ما يفسّر أسباب قدوم علماء اجتماع وأنثروبولوجيا إلى المغرب الأقصى ودراسة تركيبته الاجتماعيّة، وتحليل ما يقوم به من أنشطة مادّيّة ورمزيّة من قبيل البحوث التي قام بها كلّ من أرنست غلنر(E. Gellner) وكليفورد غيرتز (C. Geertz) في منتصف القرن العشرين.
محمّد الصغير جنجار: فعلا إنّ حالة المغرب شدّت إليها الكثير من المهتمّين بالعلوم الاجتماعيّة قبل علماء الاجتماع الذين نعرفهم اليوم، مثل غيرتز. ويمكن أن نذكر ههنا على سبيل المثال إدوارد وسترمارك Edward Westermarckالذي قدم إلى المغرب منذ بداية القرن العشرين قادما من السويد، إذ درس المجتمع المغربي وترك لنا وثائق مهمّة من المنظور السوسيولوجي تعرّفنا بعادات المغاربة وبأعيادهم ومعتقداتهم منذ مطلع القرن الماضي. وهذه المعطيات لا تجدها في مصنّفات الفقه أو نحوها، إذ هي معطيات مستقاة من مقاربة ميدانيّة. ولذلك كان المغرب ولمدّة طويلة موضوعا للبحث الاجتماعي. ويمكن الحديث عن وجود تقاليد في البحث الاجتماعي استمرّت قائمة لدى علماء الاجتماع المغاربة إلى اليوم؛ فكان عندنا بول باسكون (Paul Pascon) (ت 1985) الذي أسّس علم الاجتماع القروي، وأُسّست مدرسة أنثروبولوجيّة احتضنت أسماء باحثين لامعين، مثل عبد الله الحمّودي وحسن رشيق وغيرهما. وأعتقد أنّ الثورات العربيّة والحراك الذي عرفته المجتمعات العربيّة وفّرت فرصة ثمينة للشباب العربي كي يكون سبّاقا إلى الدراسة الميدانيّة التي تعالج التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة التي شهدها المغرب. ولذلك، تجد جيلا من الشباب الباحثين يتابع كلّ الأحداث التي اقترنت بحركة 20 فبراير، فيقوم برصد مسارها ويدرس شعاراتها ويتابع الثقافة السياسيّة عند الفاعلين في المجتمع، وهذا العمل كان في السابق لا يقوم به إلاّ الباحثون الفرنسيّون. أمّا الآن، فإنّنا نتوفّر على قدر من الدراسات والمعلومات في هذا الباب ما لا يتوفّر لدى الباحثين الأجانب. وهذا الأمر يتطلّب بالتأكيد توفّر هامش من الحرّيّة، وهو في الحقيقة أصبح متاحا اليوم في المغرب.
بسّام الجمل: ما كنتم تقولونه للتوّ يوصلنا إلى مبحث مهمّ في تقديري، وهو دورعالم الاجتماع في دراسة الظواهر الدينيّة التي يعيش في كنفها المجتمع سواء بطريقة يوميّة أو دوريّة وموسميّة، ففيم يتمثّل ذلك الدور حسب رأيكم؟
محمّد الصغير جنجار: كلّ ما كان بحوزتنا من كلام عن الدين فهو إمّا كلام عن الدين نفسه، وإمّا كلام إيديولوجيّات عن الدين. ولكنّ السؤال المهمّ الذي ينبغي طرحه هنا هو كيف يتديّن المغاربة؟ وما هي التحوّلات التي عرفها المجتمع المغربي على مستويات القيم والسلوك والمعتقدات؟ وما هو تأثير العولمة ووسائل الإعلام والمؤسّسات التقليديّة (الأسرة مثلا) والمقرّرات المدرسيّة على أفراد المجتمع؟ كلّ هذه الأسئلة لم تكن مطروحة في مجتمعاتنا، فأنت عندما تطلب من الإدارة المغربيّة بصفة رسميّة الإذن للقيام ببحث ميداني عن الدين، فإنّه عادة ما يتمّ التحفّظ على هذا النوع من الدراسة. ولذلك، فإنّ آخر دراسة ميدانيّة عن المغرب قمنا بها، ونشرت لاحقا بالعربيّة، هي بعنوان: L’Islam au quotidien : enquête sur les valeurs et les pratiques religieuses au Maroc.وهي تهمّ فئة الشباب في المقام الأوّل. وحتّى في السنوات الأخيرة كان هناك شيء من التحفّظ في دراسة الشأن الديني بالمغرب ودراسة الظواهر الدينيّة هناك. وقد بيّنت الدراسة الميدانيّة المذكورة، أنّنا صرنا اليوم نفهم أسباب التحوّلات الدينيّة وتقدير آثارها على المجتمع. ومثل هذه الأعمال تُجرى بصفة دوريّة منتظمة (كلّ خمس سنوات مثلا)، وهذا من شأنه أن يسمح للباحث الاجتماعي بمعرفة ما حدث. ففي أوروبا تعرف بالضبط حجم التحوّلات الدينيّة التي حصلت هناك منذ بداية القرن العشرين. وقد شرعنا الآن في المغرب في اتّباع هذا التوجّه السوسيولوجي استنادا إلى بعض الفرضيّات والظواهر الملاحظة، مثل عودة التديّن أو علاقة الشباب بالدين وصعود المرأة كممارس للدين في الفضاء العامّ. وقد وفّر هذا العمل معطيات مهمّة على صعيد البحث الاجتماعي من خلال عيّنات واستجوابات، ويمكن أن نذكر هنا أنّ نسبة 65% من الشباب المغربي يقيم صلواته الخمس (سواء في البيت أو في المسجد)، ثمّ إنّ التديّن لم يعد تديّنا موروثا عن الآباء والأجداد، بل إنّ هذا الشباب يتديّن وفق اختيارات فرديّة سواء من ناحية حجم التديّن أو من ناحية أوقات التديّن وأيضا من جهة أمكنة التديّن، فضلا عن تعيين طبيعة التنشئة الدينيّة ومصادر الثقافة الدينيّة الموافقة لها، وهي في الغالب تقوم على اختيار فردي يرتبط بالرفاق لا بالأسرة أو بالمدرسة؛ فهذه المعلومات تعطينا فكرة عن الثقافة والممارسة الدينيّة تعويلا على مقارنات مع دول أخرى. والمهمّ هنا هو أنّ البحث السوسيولوجي اتّجه مباشرة إلى العمل الميداني المسترشد بالمناهج العلميّة، وذلك يمكّننا من معرفة ماذا يحصل؟ وكيف يحصل؟ وهذا الأمر أهمّ من وضع نظريّات حول الإسلام وماهيته.
بسّام الجمل: في إطار هذه الرؤية يندرج تمييزكم بين الدين والثقافة الدينيّة، وهذا مهمّ جدّا لأنّ التمييز يبيّن إلى أيّ حدّ يوجد سند ثقافي له علاقة بالممارسة الدينيّة مثلا؟
محمّد الصغير جنجار: فعلا، كنّا نعتقد أنّ الناس في تديّنهم يعودون إلى الكتب الدينيّة أو إلى غيرها من مصادر الثقافة الدينيّة، وينهلون من التراث الديني بشكل كبير، فإذا بنا نُفاجأ بأنّهم في قطيعة مع ذلك التراث ومع تلك المصادر، وأنّ ما يهمّهم من ذلك التديّن هو ممارسات دينيّة معيّنة تُعرّف بهويّتهم تجاه الآخر. وهذا أيضا من الملاحظات الجديدة المتعلّقة بأسئلة مهمّة حول التراث الديني والمعرفة الدينيّة. فقد لاحظنا أنّه بقدر ما كانت هناك ممارسات لشعائر وطقوس كان هناك أيضا جهل بالثقافة الدينيّة وبمصادرها، كلّ ذلك يعني أنّ الفاعل الديني المعاصر يفصل بين الثقافة الدينيّة والممارسة الدينيّة البسيطة التي تجعله يحسّ بكونه مسلما. هذه أيضا من الملاحظات الجديدة، ولنا أن نسأل هل إنّ هذا الوضع وليد التربية والمدرسة؟ هل إنّ في ذلك دليلا على عدم حاجة المسلم المعاصر إلى الثقافة المذكورة؟ هل حصل شيء ما في نقل المعرفة الدينيّة؟ كلّ هذه الأسئلة تطرح انطلاقا من معطيات البحث الميداني.
بسّام الجمل: في هذا السياق أيضا نبّهتم إلى غياب السُمْك الرمزي للطقوس وأنّ هناك نتائج مترتّبة على ذلك الغياب جديرة بالتفحّص، إذ أصبح الطقس الديني يُؤدّى بطريقة جوفاء، فتلاشى معناه الأوّل وانحصر في إطار فردي ضيّق، ممّا يدفع الباحث اليوم إلى دراسة الظاهرة الدينيّة وتتبّع أثرها في النسيج الاجتماعي وفي علاقة المجتمع بمختلف مؤسّساته.
محمّد الصغير جنجار: هذه الملاحظة غير خاصّة بالمجتمعات المغاربيّة أو الإسلاميّة فحسب، وإنّما تهمّ أيضا العالم البروتستاني. هنا طرحت الفرضيّة التالية: ألا تكون الحداثة المتطوّرة هي التي قادت تلك المجتمعات إلى ذلك الوضع؟ إنّ المجتمعات التقليديّة هي التي تنتج الرموز الدينيّة وتنقلها إلى أعضائها وتربّيهم عليها. فهناك إذن ثقافة دينيّة موروثة؛ فالفرد لا يختار ثقافته الدينيّة، بل يرثها عن أمّه وجدّه. أمّا الآن وفي ظلّ بروز الفردانيّة والتحوّل من مجتمع قرويّ إلى مجتمع حضري وما عرفه الناس من حركيّة (mobilité) في أنشطتهم اليوميّة، كلّ ذلك جعل الفرد يدخل في نوع من سوق دولي كبير للرموز الدينيّة، فيختار منها ما يشاء ويعرض عمّا يريد. ومن ثمّ يخلق لنفسه توليفة (bouquet) لرموزه الدينيّة الخاصّة به، ويأخذ من تلك الرموز القليل الذي يحتاجه لبناء هويّته في خطّة معيّنة. وهذا ما نجده عند المهاجرين مثلا أو عند أبنائهم. وأنتج كلّ ذلك لديهم ثقافة دينيّة لا تربة لها ولا تاريخ. إنّهم فعلا مسافرون عابرون للقارّات وفي جعبتهم أدوات قليلة لا تثقل كاهلهم، وهي في نظرهم تكفي لبناء هويّتهم. وبذلك انفصلوا نهائيّا عن ثقافة الأجداد الدينيّة. ولكن هناك فرضيّة أخرى مفادها أنّ الثقافة الدينيّة نفسها، أصبحت هي نفسها مختزلة في سؤال وجواب (على طريقة الفتاوى)؛ فالفاعل الديني الحديث يذهب إلى الأنترنت ويأخذ منها ما يريد، وهو سلوك عام حتّى عند غير المتديّنين. والمسألة متعلّقة بالذاكرة؛ فالناس لا يحفظون الشعر ولكن الأنترنت توفّر لهم المادة المطلوبة. كلّ ذلك خلق وضعا جديدا يتميّز بتعدّد مصادر المعرفة الحديثة والمعاصرة مقابل تقلّص دور الذاكرة. فالإنسان اليوم يحمل الأشياء القليلة معه؛ بمعنى أنّ هناك أرضيّة أنثروبولوجيّة لعلّها أرضيّة الإنسان المعاصر في زمن الحداثة. وحتّى الإنسان المتديّن الذي نقول عنه إنّه سلفي، يشتغل بنفس الميكانيزمات أو الآليّات التي يشتغل بها الإنسان المعاصر نفسه.
بسّام الجمل: ألا يخفي ذلك ضربا من القلق أو ربّما من الفصام الذي يعاني منه المتديّن الممارس للطقوس؟
محمّد الصغير جنجار: من الصعب أن تحكم هل يوجد قلق أم لا؟ أو هل هناك شيزوفرينيا أو فصام (schizophrénie)؟ فمثل هذه الأحكام تترك جانبا في مجال العلوم الاجتماعيّة. فما يهمّ هذه الأخيرة هو وصف الميكانيزمات: كيف يتحرّك الناس؟ ماذا يأخذون؟ وماذا يتركون؟ وبعد ذلك حينما نتوفّر على بيانات وعلى معلومات حول حقل دينيّ معيّن تبدأ صياغة النظريّات. فعندما وضع ماكس فيبر (Max weber) نظريّته حول الإيتيقا البروتستانيّة والرأسماليّة، فقد أقامها على دراسات ميدانيّة طويلة عن الظهرانيّين وسط البروتستانت ومتابعة المشهد في الميدان. هنا بدأت تتبلور فرضيّات صاغها في لحظة زمنيّة معيّنة؛ فقبل أن نبني نظريّات عن الإسلام يجدر بنا القيام بمثل ما قام به فيبر وأمثاله من أبحاث ميدانيّة قائمة على مناهج علميّة في المقاربة.
بسّام الجمل: كيف يمكن للمسلم، الآن هنا، أن يتصالح مع تاريخه؟ وكيف يمكنه المشاركة في الحداثة العالميّة وأن يساهم فيها؟
محمّد الصغير جنجار: هناك عدّة مستويات لهذا الموضوع تهمّ الفرد، مثلما تهمّ الدولة؛ فلا بدّ في تقديري لتحقيق تلك المصالحة أن تُطرح أسئلة جديدة، وأن ينشأ منها فكر ديني جديد، وهذا ما أسمّيه بلحظة الإصلاح التيولوجي الفلسفي والفكري الذي ستتفرّع عنه كتابات تعمل على تفسيره وعلى تبسيطه (vulgarisation) حتّى يلقى القبول من المجتمع. ثمّ إنّ هذا الفكر بطبيعة الحال لن يقدّم الحلول نفسها التي ارتضتها حركة الإصلاح البروتستاني منذ القرن السادس عشر للميلاد، فهو سيلتمس لشواغله الدينيّة الحلول الملائمة؛ فالمسلم إذا أراد أن يتصالح مع تاريخه عليه أن يتصالح مع فكر الإنسانيّة المعاصرة. فأنا لا أعتقد أنّ ضعف الفكر الديني في مجتمع ما آت من الفكر الديني نفسه. فالضعف، ههنا، كامن في الثقافة السائدة وفي المجتمع أيضا. فلكي ينهض الفكر يجب أن ينهض التعليم والاقتصاد وأن تطرح الأسئلة في مناخ من حرّيّة الرأي والتعبير. وهذا ما يقيم البرهان على وجود تكامل بين المعارف الإنسانيّة وبين مختلف قطاعات المجتمع؛ فالنهضة الفكريّة في الدين لا تتحقّق إلاّ إذا قامت نهضة فكريّة في علوم الاقتصاد والسياسة والمجتمع وتوفّرت الحرّيّات. ولذلك نأمل من التحوّلات الحاليّة التي تعرفها البلدان العربيّة أن تعيد طرح مثل هذه الأسئلة وأن توفّر الشروط اللازمة لطرحها، لأنّنا فعلا نصطدم بأسئلة محيّرة. والعصر يفرض علينا طرح تلك الأسئلة. وأنا أستحضر هنا مقالة لعبد الله العروي، باعتباره تاريخانيّا إذ يقول ما معناه: ليس هناك مجتمع يقوم بتحديث نفسه باختياره. وهذا يدلّ على أنّ الحداثة قامت تحت ضغط مجتمعات أخرى؛ فالفرنسيّون طلبوا الحداثة واهتمّوا بإصلاح التعليم لأنّهم انهزموا في معركة سنة 1870 مع ألمانيا، وقارنوا الجامعات الفرنسيّة بالجامعات الألمانيّة. إنّ الحداثة في مجتمع معيّن تقوم على أساس وجود تحدّيات من مجتمع آخر. فليس هناك مجتمع يُسلَّط عليه تحدّ فيرفضه ويركن للانتحار. لذا أرى أنّ على العرب والمسلمين عموما أن ينهضوا بأسئلة جديدة، والشروط بدأت تتوفّر للقيام بهذه المهمّة التاريخيّة.
بسّام الجمل: الوجه الآخر للقضيّة التي نحن بصددها هي علاقة المسلم بالآخر. فكيف يقرأ عالم الاجتماع هذه العلاقة في سياق رواج ثنائيّة معروفة عند الغرب أساسها إثبات التلازم بين الإسلام والعنف، فضلا عن شيوع مصطلح جديد في الدراسات المعاصرة، وهو الإسلاموفوبيا (Islamophobie). ثمّ هل من أمل في تغيّر نظرة الغرب إلى المسلمين، وهي نظرة مبنيّة على صور وتمثّلات موروثة عن العصور الوسطى يصعب مبدئيّا تغييرها في الاتجاه الإيجابي؟
محمّد الصغير جنجار: هذه النظرة حسب رأيي قائمة على خلفيّات إيديولوجيّة، وعمل الإعلام الغربي على ترويجها. وهناك دراسات عديدة اليوم كشفت عن وجود تلك الخلفيّات؛ فإذا أخذنا فقط القرن التاسع عشر وكامل القرن العشرين، وحاولنا فقط أن نقيس كمّيّة العنف، فأيّ المجتمعات أكثر إنتاجا للعنف مقارنة بمجتمعات أخرى؟ هنا سنجد أنّ العنف الاستعماري انطلق من أوروبا، ويمكننا اليوم قياس مداه وآثاره ونتائجه. هذا فضلا عن العنف المقترن بالحربين العالميّتين الأولى والثانية. كلّ ذلك حدث في أوروبا. ونحن إلى حدّ الآن لم نذكر الحروب الدينيّة قبل ذلك. هنا يمكننا أن نعقد مقارنة بمقتضاها نقيس بواسطتها حجم العنف الممارس في أوروبا بحجم العنف الذي ربّما مورس في العالم العربي الإسلامي انطلاقا من حركات الاستقلال والثورات. ولنأخذ مثالا على ذلك الثورة الإيرانيّة، وهي كما قيل ثورة دينيّة، فهذه الثورة ثمّ الثورة التونسيّة أو الثورة المصريّة تعتبر أكثر الثورات سلما مقارنة بحجم الضحايا الذين سقطوا في الثورات الفرنسيّة والروسيّة والصينيّة. ثمّ إذا أخذنا إنتاج العنف داخل المجتمع؛ أي القتل، قتل الأشخاص (Homicide)، فإنّ الإحصائيّات الدوليّة تبيّن أنّ العواصم العربيّة أقلّ عنفا من نيويورك وغيرها. فهناك إذن كليشيهات وتمثّلات ينتجها الإعلام. والمسلمون يسهمون أحيانا في رواجها بطريقة لا واعية. ولكن لو تمّت دراسة هذه المسألة بطريقة موضوعيّة لأمكننا تفكيك تلك الصور النمطيّة. وعلم اجتماع الأديان يمكنه أن يساعد على دراسة هذه الصور ويعمل على تفسيرها. وهنا علينا أن نتمكذن من الأدوات المعرفيّة التي يمتلكها الآخر وبذلك نستطيع أن نتحدّث لغته ونشارك فعلا في إنتاج معرفة جديدة.
بسّام الجمل: أترك لكم كلمة الختام.
محمّد الصغير جنجار: أشكركم على ما تفضّلتم بطرحه من أسئلة، وأنا في كلّ مرّة أعود فيها إلى تونس ألاحظ التحوّل الكبير والمهمّ والإيجابي الذي حصل في السنوات الأخيرة، وهو تحوّل لم نكن نتوقّع تاريخه ولكن كان عندي يقين نسبيّ مبنيّ على معرفة اجتماعيّة، وقد كتبت ذلك – في الليلة التي حدث فيها ما حدث - في مقال قصير لا يتجاوز الصفحة ونصف الصفحة. قلت فيه: إنّ شروط الانتقال إن كانت قد اجتمعت، فقد اجتمعت في بلد، مثل تونس قبل كلّ البلدان العربيّة، وهي شروط معروفة في المقارنات الدوليّة: الانتقال الديمغرافي، انتشار التعليم، بلد مندمج، كثافة العالم الحَضَري، تاريخ إصلاحي كبير وطويل، نخبة مثقّفة أنتجتها نهضة تعليميّة معروفة. فكلّ هذه الشروط، في كلّ المجتمعات، تنتج نَقْلات، ولا أقول ثورات، في أنظمة السلطة وغيرها. وهذه الشروط نراها مثلما قلت متوفّرة في حالة تونس. ونرى اليوم أنّ نتائجها بدأت تتّضح. طبعا ككلّ النقلات، توجد فيها توتّرات كبيرة وإرهاصات ورجّات. لكن من الواضح أنّ تونس على الطريق الصحيح.
تونس العاصمة في 20 أفريل 2013