حوار مع سهام الدّبابي الميساوي حول اليوميّ وقضيّة المنهج
فئة : حوارات
حوار[1] مع سهام الدّبابي الميساوي[2]
حول اليوميّ وقضيّة المنهج
دراسة اليوميّ: أهمّيّة المبحث وأسباب التّغييب
د. نادر الحمّامي: لا تقلّ الحياة اليوميّة أهميّة مقارنة بما يعرف بالأحداث الكبرى لدراسة حضارة ما أو فكر ما؛ فالاهتمام بالأنساق اليوميّة وبالثّقافة المادّيّة جانب مهمّ جدّاً يشمل دراسة حياة النّاس إضافة إلى ما يمكن دراسته في أيّ حضارة وأيّ تراث من أخبار الملوك والأمم وغيرها ممّا تعارفنا عليه في دراسة التّاريخ؛ فهل صحيح أنّ هذه الأنساق اليوميّة والطّقوسيّة تبدو مغيّبة في الدّراسات الأكاديميّة اليوم؟
دة. سهام الميساوي: قبل أن نبيّن ما دُرس من هذه الأنساق وما لم يدرس، لا بدّ من تحديد المقصود بالحياة اليوميّة وباليوميّ؛ لأنّنا قد نخلط بين الحياة اليوميّة والاجتماعيّة والحال أنّهما مختلفتان، فالحياة اليوميّة تتكوّن من الأنشطة الرّتيبة الّتي تكون على درجة كبرى من التّكرار، حتى إنّ الفاعل خلالها يشعر بوطأة الزّمن الرّتيب، ولكن على الرّغم من هذا الشّعور الّذي يمكن أن يكون تراجيديّاً، فإنّ هذه الرّتابة في حدّ ذاتها يمكن أن تُشعره بالأمان؛ فهي تمثّل ما يعيشه الإنسان في كلّ يوم، من تفاعلات في أفضية عاديّة ومألوفة كالطّريق والبيت ومقرّ العمل والحقل والميناء. ودراسة الحياة اليوميّة، هي دراسة للأشياء الّتي تؤثّثها، والتي هي مادّيّة ولكنّها تُتمثّل وتُستعمل لتدلّ على حالة أو وضع ما، وهي تلفت انتباهنا إلى الأحاسيس اليوميّة كالألم والفرح والغبطة والطّرب والتّعب، وكلّ ما يتعلّق بالانفعالات، ويعجبني هنا وصف ميشيل دي سارتو (michel de certeau) (1925-1986) عندما يقول «إنّ الحياة اليوميّة هي دراسة فنون الفعل»، وكذلك تعريف فيرناند بروديل (ferdinand braudel) (1902-1985) الّذي يعتبر أنّ تاريخ الحياة اليوميّة هو تاريخ مجرى الحياة الطّبيعيّ والرّتيب، ولذلك اهتمّ بدراسة السّكن والغذاء، ودرس غيره العائلة والطّفولة والإحساس أمام الموت والمرض. ولعلّ دراسة الحياة اليوميّة في الجامعات العربيّة لم تأخذ بعد الحيّز الجدير بها، رغم أنّ الكثير من الباحثين في الجامعة التّونسيّة، وخاصّة في كلّيّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس، أشرفوا على دراسات في الحياة اليوميّة، ولفتوا الانتباه إليها، وتوجد أعمال وأطروحات ورسائل جامعيّة في ذلك، كما توجد في جامعة الرّباط في المملكة المغربيّة دراسات للمجاعات الكبرى والفقر والحرب ودراسات للتّغذية وغير ذلك... ولكنّها دراسات قليلة مقارنة بدراسة الدّينيّ والسّياسيّ ودراسة مسائل أخرى اجتماعيّة حول المرأة والمجتمع. ولعلّ الفضل في التّنبيه إلى أهمّيّة المباحث حول اليومي في الجامعة التّونسيّة يعود إلى بعض أساتذتنا وزملائنا منذ التّسعينيات، حين أصبحت الحضارة تُدرّس مثلما يدرّس الأدب واللّغة، وكان ذلك بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشّرفي. وقد انتبهنا منذ ذلك الوقت إلى أهمّيّة دراسة الحياة اليوميّة، باعتبار أنّ الحضارة لا تتكوّن من الفكر فقط، وإنّما أيضاً من الجوانب المادّيّة الّتي وجب الاهتمام بها.
د. نادر الحمّامي: هل يعود ما أشرت إليه من تغييب لدراسة الحياة اليوميّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، في رأيك، إلى اختيار ذاتيّ، أم أنّه موجّه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من الدّراسات الكلاسيكيّة الغربيّة، أساساً، والتي بقيت في إطار الفكريّ والسّياسيّ والدّينيّ، لإعطاء صورة ما عن هذه الحضارة؟
دة. سهام الميساوي: لعلّ الدّرس الحضاريّ في الجامعة التّونسيّة قد توجّه منذ بدايته نحو الدّراسات الإسلاميّة ودراسات الظّاهرة الدّينيّة والسّياسيّة، ونحن إذ نتفهّم ذلك بناءً على حاجتنا إلى إعادة التّفكير في التّراث الدّينيّ والسّياسيّ، فإنّ الإشكال أنّنا بقينا في بوتقة أردناها لأنفسنا وأرادها الغرب لنا، ما جعل ثقافتنا تبدو كأنّها ثقافة فقه وتشريع فقط. وعندما نتحدّث عن التّراث العربيّ الإسلاميّ فكأنّنا نتحدّث عن الدّينيّ والسّياسيّ والعلاقة بينهما، وفي المقابل نُغيّب أو نكاد دراسة الفنون والعمارة والتّقنيات والمهارات والعلوم... كأنّنا بترنا جزءاً كبيراً منّا، على الرّغم من محاولاتنا في قسم العربيّة، وأذكر أنّنا أجرينا عمليّة إحصائيّة في إطار لجنة انتداب، وكانت أمامنا أكثر من ستّين أطروحة للنّظر فيها، ولفت انتباهي أنّ 90% من الأعمال كانت في الإسلاميّات وهي أطروحات مفيدة، ولكن 10% المتبقيّة كانت 8% منها أطروحات في الفكر العربيّ الحديث والتّيّارات الفكريّة والسّياسيّة ومشاغل المفكّرين العرب و2% أو أقلّ ربّما في موضوعات أخرى كالتّمثيلات واللّهو والجندريّات، وأنا أعتبر ذلك قليلاً؛ لأنّنا في قسم العربيّة قادرون على مقاربة نصوص كثيرة تهتمّ بمظاهر شتّى من الثّقافة العربيّة والإسلاميّة لا تقلّ قيمة عن الموضوعات الكُبرى.
د. نادر الحمّامي: ألا يعود هذا الاهتمام بالفكريّ والسّياسيّ والدّينيّ إلى وضع المجتمعات العربيّة والإسلاميّة الّتي لم تتحرّر بعدُ من هذه الشّواغل الّتي تجاوزها الغرب شيئاً ما؟
دة. سهام الميساوي: نعم، هي شواغل هذه المجتمعات، ولكن الغرب أيضاً لم يتجاوزها فهو ما يزال يدرس هذه الظّواهر باستمرار. ولعلّ اهتمام النّخب الجامعيّة لدينا بمباحث الدّينيّ والسّياسيّ وغيرها ممّا يُعد راهنيّاً من تحوّلات وأفكار، له دوافعه. ولكنّني أرى ضرورة الفصل بين المشاغل الرّاهنة الّتي تهمّني، بصفتي منخرطة في الشّأن الاجتماعيّ العامّ وبين البحث العلميّ الأكاديميّ، وبصفتي مدرّسة وباحثة بالأساس، وبالتّالي فإنّني أرفض الخلط بين المجالين كما يفعل بعض الجامعيّين الّذين اختاروا أن يكونوا في علاقة مع الشّأن العامّ وأن يتلوّنوا حسب «الموضة» وحسب المطلوب في العالم العربيّ وفي الغرب. وأنا أميل شخصيّاً إلى البحث الأكاديميّ الّذي يتناول موضوعات معيّنة، وأرى من الأفضل أن يبقى الباحث في مجال ما يعرف، يدقّق ويمحّص في مسائل اختار منذ البدء أن يدرسها، وأن يعدل عن دراسة أشياء تحت الطّلب لا لشيء إلّا لأنّها رائجة، دون أن يكون قد تسلّح بأدواتها، وقد لامني الكثير من أصدقائي على ابتعادي عن السّاحة العامّة وعن المشاغل الوطنيّة والعربيّة، ولكن جوابي كان بأنّي لست مختصّة في ذلك، فما أنا مختصّة فيه هو أن أدرس الحياة اليوميّة والأنساق الاحتفاليّة وأنكبّ على نصوص قديمة أقاربها بمناهج حديثة، وأنّ عليّ أن أنكبّ خاصّة على تكوين طلبتي في المناهج الحديثة الّتي هم في حاجة إليها، وأرى دوري في القسم ومع طلبتي أكثر منه في السّاحات الإعلاميّة. وأنا أعتبر أنّ ضعف اهتمام الباحثين بمباحث الحياة اليوميّة يعود في قسم كبير منه إلى أنّ كثيراً من الأكاديميّين ما زالوا يعتبرون أنّ هنالك موضوعات تستحقّ الدّرس وأنّ هنالك موضوعات ثانويّة حقيرة دنيئة تافهة لا تستحقّ الدّرس، أي إنّه يوجد تصنيف يكرّس نوعاً من النّخبويّة في النّظر إلى الحضارة وتوجد أسباب أخرى من بينها صعوبة البحث خاصّة في مستوى المناهج المعتمدة في هذه الدّراسات، والتي يتوجّب على الباحث أن يطّلع عليها.
مسألة اليوميّ وقضيّة المنهج
د. نادر الحمّامي: ذكرتِ دي سارتو وبروديل اللّذين اشتغلا ضمن مدرسة الحوليّات الفرنسيّة منذ ثلاثينيات القرن الماضي على مفهوم الأمد الطّويل وعلاقته بمسألة القطائع، فهل تنزّلين بحوثك في إطار هذا المنهج الكبير؟
دة. سهام الميساوي: ما قامت به مدرسة الحوليّات في فرنسا مهمّ جدّاً، وكذلك المدرسة التّاريخيّة الألمانيّة الّتي كان لها ردّ فعل ضدّ التّاريخ الرّسميّ، بلفت النّظر إلى تاريخ الطّبقات الشّغّيلة وإلى تاريخ النّساء مثلاً. وقد قرّبت مدرسة الحوليّات بين التّاريخ والأنثروبولوجيا، فكانت الأنثروبولوجيا التّاريخيّة أساساً منهجيّاً للدّراسة التّاريخيّة. وأعتبر أنّ مدرسة الحوليّات بما كتبه أعلامها مثل هيمردينكار (hémardinquer) ودوبي (duby) وبروديل (braudel) وفوفال (vovelle) ولوسيان فيفر (lucien febvre) وأرياس (ariès)، لفتت انتباهي إلى قيمة الأشياء الّتي يعتبرها البعض تافهة، بينما هي في صميم التّاريخ، وإلى أهمّيّة دراسة المؤسّسات ممثّلة في العائلة والسّوق والميناء والحقل وانتظام النّاس داخلها ومعاملاتهم في إطارها، لا المؤسّسات كما درجت على حصرها بعض الدّراسات الحضاريّة في الخلافة والحجابة والوزارة والقضاء. لذلك، فإنّ دراسة الحياة اليوميّة تُعنى بفضاء العائلة وبمعاملات النّاس في الأسواق وبحياة الفلّاح في حقله، والصّيّاد كيف يصطاد سمكه ويشقى في تحصيل قوته؛ فهي حياة التّعب والشّقاء، ولكنّها أيضاً حياة الإناسة والألفة العجيبة الّتي تُبنى في الواقع المعيش الّذي يمثّل موضوع ما هو يوميّ. لذلك فدراسة الحياة اليوميّة هي دراسة الواقع المعيش، وطرائق العيش: كيف آكل؟ وكيف ألبس؟ ولماذا ألبس؟ وكيف أنام؟ وكيف أستيقظ؟ وكيف أستحم؟ وكيف أمشي في الطّريق؟ وكيف أؤثّث بيتي؟ وكيف أحبّ؟ وكيف أحزن؟ وكيف أشعر بالألم؟ وكيف أمرض وكيف أتداوى؟ وكيف أنتج وكيف أبدع؟ وما هي أبعاد ذلك كلّه؟ فالحياة اليوميّة تتكوّن من أنساق كنسق الطّعام ونسق اللّباس ونسق السّكن، ومن هنا يأتي التّفكير في هذه الأنساق بنيويّاً، ومعنى هذا أنّها أنساق دالّة. وقد بيّنت في أطروحتي، عندما درست الطّعام والشّراب في الثّقافة العربيّة والإسلاميّة، والغذاء نسقاً يوميّاً ماديّاً، أنّ الغذاء نسق دالّ، لأنّ كلود ليفي ستروس (claude lévi-strauss) (1908-2009) اعتبر أنّ الغذاء كاللّغة هو نسق دالّ ورامز، في سياق تفكيره في الأسطورة واعتباره أنّ الطّقوس نسق رمزيّ. والحقيقة أنّ دراسة الحياة اليوميّة تفتح المجال لدراسة أنشطة فيها العقلانيّ وفيها التّجريبيّ والسّحريّ والمتخيّل والرّمزيّ والميثيّ، فالإنسان في ثقافة ما عندما يأكل فهو يفكّر في أكله ولكنّه، كذلك، يلتهم رموزاً.
د. نادر الحمّامي: قد يكون ضعف المعرفة لدى الباحثين بهذه المدارس المنهجيّة الحديثة عائقاً أمام اهتمامهم بدراسة الحياة اليوميّة، إضافة إلى قلّة المصادر حول الحياة اليوميّة في التّراث العربيّ الإسلاميّ.
دة. سهام الميساوي: أودّ أن أشير إلى الصّعوبة الثّانية فيما ذكرتَ؛ وهي تتعلّق بنصوص التّراث، بالنّظر إلى أنّ المعلومات الّتي تتضمّنها حول الحياة اليوميّة تبدو مشتّتة ومبعثرة جدّاً في متونها، حيث يشقى الباحث المتمرّس كما يشقى الطّالب حديث العهد بالبحث العلمي في جمعها، فالعمل على مصادر التّراث هو عمل مضنٍ للغاية، فقد يكون لزاماً على الباحث تفحّص العديد من المجلّدات في التّاريخ وفي الفتوى وكتب التّراجم والمناقب من أجل أن يظفر في النّهاية بنزر قليل من المعلومات حول اليوميّ، ومردّ ذلك إلى كتابات المصنّفين أنفسهم، فقد نجد نصوصاً مفردة كثيرة في موضوع الطّعام ككتب الطّبيخ والأغذية ورسائل في الشّارب والمشروب ورسالة في الحلوى، ولكنّها قليلة إذا قسناها بالمعلومات المبعثرة في غيرها من النّصوص، لأنّ من يشتغل على الحياة اليوميّة يحتاج إلى استغلال وثائق عديدة ومختلفة ومتنوّعة يضنيه تحصيلها. وهذه صعوبة أنهكتني شخصيّاً في أطروحتي، وكذلك أنهكتني أخيراً في كتاب سيصدر قريباً، وهو حول مائدة إفريقيّة. أمّا الصّعوبة الأخرى فهي أنّنا أمام خيارين: إمّا أن نجمع وإمّا أن نقدّم مقاربات. وأنا لست ضدّ الجمع والتّرتيب والتّبويب لأنّنا في حاجة إلى معرفة جوانب كثيرة من الحضارة، وهي خطوة أساسيّة وتتطلّب تفكيراً عميقاً ودقّة عالية. أمّا الخيار الثّاني فهو أن نقارب هذه النّصوص الّتي مواضيعها السّكن والطّعام واللّباس والطّقوس، وهنا نحن مجبرون على العلم بالأنثروبولوجيا والسّوسيولوجيا وحتّى علم النّفس. وأعتبر أنّه لا يمكن أن نقرأ نصّاً يتحدّث عن طقس من الطّقوس دون أن نكون على علم بالتّنظير في التّقسيم والتّنظير في الطّقوس؛ فحتّى ينجز فريق أشرف عليه عملاً جماعيّاً في دراسة آداب السّلوك والطّقوس قمنا بتكوين نظريّ دام سنتين، وكنت أسبوعيّاً أقدّم لهم كتباً نظريّة في الطّقوس وقد احتجنا إلى معرفة ما كتبه إميل دوركايم (1858-1917) ومارسيل موس (1872-1950) وجاك هيبار (jacques hubert) (1872-1927)، فمهمّ أن نعرف تصنيف دوركايم للطّقوس وأن نعرف دراسة هيبار للهبة وللقربان وللسّحر، وكان علينا كذلك أن نقرأ أرتور موريس هوكار (arthur maurice hocart)؛ لأنّه بيّن أنّ الطّقس هو أصل الحضارة، وإن كان قد نُقد، ثم كان علينا معرفة فان غيناب (van gennep)؛ لأنّه هو الّذي أنتج مفهوم طقوس العبور، والاطّلاع على ما كتبته نيكول بالمونت (nicole belmont) الّتي عمّقت دراسته، وكان لا بدّ أن نميّز بين تصنيفات الطّقوس؛ فجون كازونوف (jean cazeneuve) لم يصنّف الطّقوس كما صنّفها دوركايم، على الرّغم من أنّه كان قد تأثر به، وكان علينا أن نطّلع على الطّقوس الدّنيويّة؛ لأنّ هناك من لفت انتباهنا إلى أنّ الظّاهرة الطّقسيّة ليست ظاهرة دينيّة، ثم كان لابدّ أن ننظر إلى مقاربة فيكتور تورنر (victor turner) (1861-1932) وهي مقاربة مقارنيّة ومتأثرّة بالفينومينولوجيا، وكان علينا أن نقرأ ما كتبه كلود ليفي ستروس وأن نطّلع على الطّريقة البنيويّة الّتي درس بها الطّقس وقد اعتبره نسقاً، والنّقد الّذي وجّهه إلى غيره ممّن درسوا الطّقوس، كما كان لا بدّ أن نطّلع على كتب عالم فذّ ولكنّه على درجة من الصّعوبة وهو إرفين غوفمان (erving goffman) (1922-1982)؛ لأنّه لفت الانتباه إلى أنّ الحياة اليوميّة الّتي ندرسها هذه الحياة البسيطة «التّافهة» هي حياة مطقسنة، وأنّنا دوماً في حالة مسرحة وفي حالة مواجهة نُمسرح فيها حياتنا ونتصرّف وفق قواعد ومعايير وطقوس، فالتّحيّة مثلاً، خاضعة لطقوس هي طقوس التّحية، ثمّ في الأخير كان لزاماً علينا أن نطّلع كذلك على ما كتبته دومينيك بيكار (dominique picard) حول ما سمّي طقوس حسن السّلوك (les rituels de savoir vivre) أو ما نصطلح عليه في الثّقافة بــ «آداب السلوك».
د. نادر الحمّامي: هنالك قضايا كبرى يتمّ الحديث عنها اليوم، باعتبارها عودة إلى الدّينيّ، وهي عودة تأتي في أشكال المعيش اليومي لتعوّض الطّقوس الدّينيّة القديمة، على اعتبار أنّ اللّعب واللّهو وحتّى الاهتمام بحديقة... إنّما هو نوع من عودة الدّينيّ. ما رأيك في ذلك؟
دة. سهام الميساوي: تتمظهر أشكال التّديّن في الطّقوس، ودراسة اليوميّ تهتمّ بالطّقوس الدّينيّة على اعتبارها جزءاً الحياة اليوميّة، وتبحث في الدّين بمفهومه العامّ؛ لأنّه عنصر من العناصر المحدّدة للسّلوك اليوميّ والموجّهة للسّلوك اليوميّ؛ فالدّينيّ موجود في طريقة أكلنا وطريقة استحمامنا وطريقة نومنا... لذلك فالمناهج الّتي يتمّ توظيفها في مباحث الحياة اليوميّة تسمح لنا أن ندرس، دراسة جديدة، ما نصطلح عليه بآداب السّلوك في الثّقافة الإسلاميّة، وهي في كثير منها هي طقوس؛ فآداب التّحيّة، وآداب النّكاح، وآداب الدّعوة والضّيافة، وآداب العالم والمتعلّم، وآداب القاضي، وآداب المفتي والمستفتي، وآداب الملوك... كلّها آداب مطقسنة. وتطبيق تلك المناهج يحتمل الكثير من الصّعوبات بالنّظر إلى أنّ العمل على جزء بسيط من تلك الآداب قد يتطلّب وقتاً طويلاً من البحث والقراءة والاستيعاب والكتابة، والاطّلاع على مستجدّات ما يكتب في هذه المباحث في مختلف الحضارات الأخرى إلى جانب حضارتنا، على غرار ما كتبه سارج موسكوفيتشي (sergemoscovici) ودونيس جودلي (denise jodelet) وجون أبريك (jean abric) وفرنسوا لابلاتين (françois laplatine)، وما كتبه سعدي الحلو في «التّمثيلات الغذائيّة»، حتّى نستطيع أن نفهم التّمثّلات الموجودة في نصوصنا التّراثيّة، وأن نفكّر فيها ونتجاوز دراسة التّمثّلات الدّينيّة والأسطوريّة وتمثّلات الرّجال، إلى دراسة تمثّلات الصحّّة والمرض ودراسة تمثّلات السّويّ والمرضيّ، ودراسة تمثّلات الجسد والطّريقة الّتي يُبنى بها في مجتمعنا، وتمثّلات الطّفولة، والحياة المهنيّة والحرفيّة وتمثّلات الثّقافة والأشياء الّتي تؤثّث عالم اليوميّ، ومعرفة كيف توجّه هذه التّمثّلات السّلوك اليوميّ، والوظائف التّنظيميّة والمعياريّة والخياليّة والرّمزيّة والإبداعيّة والعرفانيّة الّتي تقوم بها هذه التّمثّلات، وكيف تساهم في بناء الواقع والهويّة.
د. نادر الحمّامي: نلاحظ أنّ بعض المباحث الغربيّة وصلت في دراسة اليومي، حدّ الاهتمام بتمثّلات الطّريق السّيّارة والكرسي والإبرة... في حين أنّنا في الثّقافة العربيّة الاسلاميّة لا نزال غير شاعرين بأهمّيّة تلك التّمثّلات؛ فما هو السّبيل برأيك حتّى ننتبه إلى تلك الأهمّيّة؟
دة. سهام الميساوي: هناك دراسة تُعتني بالبناء الاجتماعيّ للواقع (la construction sociale de la réalité) وقد أنجزها كلّ من بيتر بيرجير (peter berger) وتوماس لوكمان (thomas luckmann)، وبيّنّا فيها أنّ الحياة اليوميّة تتكوّن من تفاصيل العيش في الواقع، كما بيّن كلود جافو (claude javeau) في دراسة حول المجتمع يوما بيوم (la société au jour le jour) أنّ الحياة اليوميّة تعاش كلّ يوم وتُتمثّل وتُتخيّل وتُرمّز، وهذا هو المفيد. وأعتقد أنّ هذه الدّراسات وغيرها على درجة كبرى من الأهمّيّة بالنّسبة إلينا؛ لأنّ من شأنها أن تساعدنا على اكتشاف تمثّلات الحياة اليوميّة في نصوصنا التّراثيّة دون أن نتعسّف عليها، حتّى نُظهر ما تنطوي عليه من قيمة أنثروبولوجيّة وسوسيولوجيّة. لذلك فنحن في حاجة ماسّة إلى الاستعانة بما قدّمته هذه الدّراسات الغربيّة وغيرها حتّى ندرك أهمّيّة تمثّلات اليوميّ في تراثنا، فكيف يمكن لنا، على سبيل المثال، أن ندرس نصّاً للجاحظ يوجد في آخر كتاب البخلاء في علم العرب بأطراف الطّعام، وأن نشرح جيّداً ولائم العرب الشّهيرة كالعقيقة والخُرسة والعذيرة والوليمة والوكيرة والنّقيعة، دون الاطّلاع على ما كتبه دوركايم في «الأشكال الأوّليّة للحياة الدّينيّة»؛ فهذا الكتاب يبيّن لنا قيمة المائدة القربانيّة باعتبارها جامعة ومجدّدة للرّوابط الاجتماعيّة ومساهمة في بناء النّمط الاجتماعيّ، وكيف يمكن لنا أيضاً أن نفكّك رموز تلك الولائم، ومنها، الدّم والشّاة الّتي تُقطّع وتُعَقّ على الصّبي والزّعفران... دون وعي بما كتب موس (mauss) وهيبار في «القربان»، وروني جيرار (rené gérard) في «المقدّس والعنف»، ودون المعرفة بتاريخ الأفكار الدّينيّة وتاريخ الشّرق والثّقافة الكونيّة وعلم نفس الأعماق وعلم الرّموز (la symbologie). لذلك أعتبر أنّ إدراك أهمّيّة تمثّلات اليوميّ في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة عموماً لا يمكن أن يتمّ دون التّشبّع بهذه المناهج الحديثة.
د. نادر الحمّامي: ما تقولينه يدلّ على أنّ هذه الحضارة العربيّة الإسلاميّة، في بعدها اليوميّ، لا تقلّ أهمّيّة عن غيرها من الحضارات، وأنّ الاهتمام بما يميّزها من خصوصيّات ثقافيّة يكون عبر الاهتمام بها في سياق كونيّ.
دة. سهام الميساوي: هذه الولائم الّتي ذكرتها منذ حين هي ولائم عبور كونيّة، وبعض المظاهر المتعلّقة بها موجودة في ثقافات عديدة، فجميع الشّعوب تحتفل بالولادة، والطّقوس المتعلّقة بذلك قد تتشابه أو تختلف جزئيّاً، وهذا ما يُحدث الخصوصيّة بين ثقافة وأخرى، ودراسة الحياة اليوميّة والأنساق الاحتفاليّة تسمح بالمقارنة وتحديد تلك الخصوصيّة، فالغذاء واللّباس كلّها عناصر بانية للهويّة، وهوية الشّعوب لا تتلخّص في لغتها ودينها، بل إنّها تشمل جميع أنساقها الثّقافيّة وطرق التّعبير والتّمثّلات اليوميّة المختلفة. ونحن مطالبون بأن نبحث في ذلك حتّى نرفع اللّبس ونصحّح أخطاءً قيلت في الدّراسات الاستشراقيّة، ومن بينها ما أشاعه بعض المستشرقين من أنّ «العرب أمّة جائعة تأكل ما هبّ ودبّ، ولا تشبع إلّا من التّمر واللّبن»، ولكنّ المتعمّق في دراسة جزيرة العرب قبل الإسلام وما وصلنا عنها يتبيّن أنّ العرب كانت لهم الأخباز ومن بينها «الأستوكة» و«التّرموثة» وغيرها، وبأنّهم كانوا قوماً لاحمين ولابنين وتامرين، وكانوا يفتخرون بأكل الخبز، و«الثّريد» الّذي كان يهشّمه هاشم، و«الحريرة» و«الهريسة»، و«البسائس» و«الجشائش» و«الوديكة» و«العصائد» ومنها «اللهيدة»... وقد اشتغلتُ في القسم المتعلّق بالطّعام العربيّ في أطروحتي على بيان الكثير من ذلك، وبيّنت أنّ الصّورة المغلوطة حول العرب كانت موجودة في النّصوص الشّعوبيّة، وأنّها لا تعبّر عن ثقافة اليوميّ لديهم بخصوص الطّعام والمآكل، وبالتّالي فإنّ ما ذهب إليه بعض المستشرقين يعدّ خاطئاً.
نفض الغبار عن تراث مغمور
د. نادر الحمّامي: يبدو أنّ الدّراسات الغربيّة قد اهتمّت بتراثنا أكثر ممّا اهتممنا به نحن، ولعلّ من واجبنا اليوم النّظر في هذا التّراث وإحياء الكثير ممّا هو مغمور فيه من مظاهر اليوميّ، من أجل تصحيح بعض المغالطات الاستشراقيّة، كما أشرتِ إلى ذلك، وحتّى لا يبقى جزء كبير من هذا التّراث في حكم المجهول.
دة. سهام الميساوي: لابدّ أن ننوّه ههنا بما يقوم به الكثير من الأكاديميّين في الجامعة التّونسية من جهود بحثيّة تشمل التّدريس والتّأليف ومخابر البحث. ومع ذلك علينا الاعتراف بوجود شيء من التّقصير لدى أساتذة الحضارة العربيّة والإسلاميّة، خاصّة في العمل على تحقيق مصادر التّراث، وقد لاحظت أنّ نصوصاً كثيرة على درجة عالية من الأهمّيّة لا تزال مخطوطة، ومن بينها بعض المخطوطات الموجودة بدار الكتب الوطنيّة، وفيها نصوص طبّيّة تونسيّة قديمة ونصوص أخرى في الطّبخ والعصائر وفي الممارسات الخرافيّة والسّحريّة وفي الدّخان وفي الباءة والزّواج وفي الأعياد والمواسم، وفي الفقه والأدب وفي العلوم... وغير ذلك، وهي نصوص مفيدة ولكنّها غير محقّقة. إنّه أمر مؤسف أن يكون لدينا تراث مخطوط ثريّ جدّاً لم يُدرس بعد ولم ينتبه الباحثون إلى ضرورة الاستفادة منه، ومؤسف أيضاً أن لا يعرف طلبتنا الكثير من نصوص التّراث الإسلاميّ الّتي اهتمّت بالحياة اليوميّة والتي لا تزال مغمورة ولا يتمّ نفض الغبار عنها، ومن بينها؛ «قانون» ابن سينا و«تقويم» ابن بطلان و«كلّيّات» ابن رشد وكتاب «الأغذية والأدوية» لإسحاق بن سليمان وكتاب «الماليخوليا» لإسحاق بن عمران، ومؤلّفات ابن الجزّار وابن الزّهر، وما كتبه المجوسيّ وابن جزل وابن النّفيس، وغيرهم... وهي كتب مفيدة لا لأنّها تحتوي ثقافة عالمة فحسب، ولكن لأنّها تحتوي تجارب النّاس، وما تأثّروا به من الثّقافات الأخرى وما أدخلوه في معيشهم اليوميّ، من تنظير ومن تطبّب ومن سِحر. وممّا يُستغرب حقّاً ألّا يقع الاهتمام بكتب الفلاحة والنّبات وهي كثيرة وأذكر من بينها؛ «كتاب الفلاحة النّبطيّة» لابن وحشية، و«كتاب الفلاحة» لأبي زكريّا بن العوّام، وكلاهما يبيّن طرق زرع الحبوب وغرس الأشجار وتلقيحها وتلقيمها وجنيها وقطافها، إلى غير ذلك ممّا هو تقنيّ وما يجب أن نعرفه، كما يشمل أدعيةً وطقوساً فلاحيّة وتمثّلات للأفلاك والأبراج والثّمار والحبوب ووصفات طبيخ، وغير ذلك من تجارب النّاس الّتي يجب أن نعرفها. ولو أخذنا كتب الأدب في التّراث العربيّ القديم، وما تضمّنته من نصوص في الأغذية والطّبيخ والأواني والمصايد والمطارد والنّبات والحيوان والمسكن والجنان والسّلاح وتقنيات الجسد، كالاستحمام والتّزيّن والتّطبّب واللّباس... فإنّنا سنجد أنّها تكشف لنا الكثير من العلاقات الاجتماعيّة والتّفاعل اليوميّ، ومن ذلك ما يوجد في «عيون الأخبار» لابن قتيبة أو النّصوص الموجودة في «العقد الفريد لابن عبد ربّه»، وغير ذلك من وصف للتّحابب والتّوادد والتّهاني والتّعازي والصّداقة واتّخاذ الإخوان والجوار والاستنجاح والمداراة والتّباغض والحقد والتّفاعل الاجتماعيّ الّذي هو أسّ الحياة الاجتماعيّة واليوميّة.
د. نادر الحمّامي: لماذا يهتمّ الغرب بهذه النّصوص التّراثيّة في حين يُهملها العرب والمسلمون، والحال أنّهم الأقدر على فهم هذه الثّقافة وتفاعلات اليوميّ فيها أكثر من غيرهم بالنّظر إلى انتمائهم إليها؟
دة. سهام الميساوي: لا يمكن أن ننكر أنّ بعض العرب قاموا بالكثير من الجهود إزاء تلك النّصوص، فحقّقوا جانباً منها، ولكن ذلك ليس كافياً، ولا يرتقي إلى ما قام به المستشرقون من كشف وتحقيق لأغلب النّصوص الجيّدة الّتي نستعملها اليوم في أبحاثنا ودراساتنا الأكاديميّة. ولعلّ اهتمام الغرب بتلك المصادر يأتي في سياق اهتمامهم بدراسة الثّقافات المادّيّة والأشكال الاحتفاليّة اليوميّة من منظور كونيّ، يفرض عليهم ألّا يُهملوا ما تتضمّنه الثّقافة العربيّة الإسلاميّة من نصوص. وأذكر في هذا السّياق ومن خلال ملامستي لبعض التّجارب البحثيّة الغربيّة، كيف كان الباحثون شغوفين بمعرفة بعض المصادر العربيّة بعد أن تُرجمت إلى لغتهم، ومنها «تقويم ابن بطلان» و«كتاب الأغذية» لإسحاق بن سليمان و«كتاب الطّبيخ» للورّاق، وقد عاينت اهتمامهم الفائق بمعرفة تاريخ تلك الكتب والاطّلاع على مضامينها، وقرأت في إحدى البحوث الّتي تؤرّخ لكتب الطّبيخ الغربيّة، إشارة مهمّة تقول إنّ أقدم كتب الطّبيخ إسلاميّة، ولكنّ الباحث لم يستطع التّعمّق في ذلك بشكل جيّد؛ لأنّه لا يعرف الكثير من تلك الكتب في الثّقافة الإسلاميّة، كما قرأت أطروحة مهمّة جدّاً في علم التّغذية الغربيّ لمارلين نيكو (marilyn nicoud) المتخصّصة في الطّب الغربي الوسيط، ووجدت أنّها تشير لكتب التّغذية في الثّقافة الإسلاميّة، كذلك فعل برونو لوريو (bruno laurioux) الّذي يؤرّخ لكتب الطّبيخ، وقد أشار إلى أهمّيّة كتب التّغذية لدى العرب، ولكنّه لم يعرّفها لأنّ أحداً لم يكتب شيئاً حولها. وأذكر أيضاً أنّني حين دُعيت إلى مدرسة الدّراسات العليا في باريس، لإلقاء محاضرة حول الطّبيخ لدى الخاصّة في العصر العبّاسيّ، قال لي الأستاذ الّذي قام بدعوتي «لم أكن أتصوّر أنّ فنّ الطّباخة (la gastronomie) كان موجود لدى العرب في ذلك العصر». لذلك أعتبر أنّنا حينما نكتب في هذه المباحث فإنّنا نفيد أنفسنا أوّلاً، ولكن إن نحن نقلنا ذلك إلى اللّغات الأخرى أو كتبناه في اللّغة الفرنسيّة أو الإنجليزيّة، فإنّنا نساهم في نشر ثقافتنا لدى شعوب أخرى.
د. نادر الحمّامي: أشرتِ سابقاً إلى أهمّيّة الخطوة الأولى في الاشتغال على هذا التّراث حول اليوميّ، وتتمثّل في الجمع والتّرتيب والتّحقيق، فما هي الخطوة الّتي يجب أن تعقُب ذلك؟
دة. سهام الميساوي: يجب أن ندرس كلّ ما لم ندرسه بعد من أشكال الحياة اليوميّة وتمثّلات اليوميّ ورموزه انطلاقاً من تلك المصادر، وأن نهتمّ بتوظيف المناهج الحديثة في هذا المجال، ونقوم بأيّام دراسيّة وندوات، حتّى ننقد أعمال بعضنا، ونقدّم الأفضل دائماً لأنفسنا ولثقافتنا، وعلينا أن نشجّع الباحثين على الخوض في هذه المسائل رغم صعوبتها، وألّا ننظر إلى مسائل البحث باستعلاء على اعتبار أنّ بعض المسائل أجدر بالبحث من غيرها، فلا توجد مسائل صالحة للدّرس وأخرى غير صالحة أو هي أقلّ قيمة من غيرها، وقد عاينت ذلك كلّه من خلال اشتغالي بالتّدريس والتّأطير، ولاحظت أنّ بعض الطّلبة يُقدمون على البحث في هذه المسائل متشجّعين في البداية ولكنّهم سرعان ما يعزفون عنها بالنّظر إلى الصّعوبات الّتي تواجههم في مراحل البحث المتشعّبة، والتي تتطلّب منهم الإلمام ببعض التّخصّصات الأخرى، مثلما هو الحال مثلاً في بحث حول الطّبّ لدى العرب في عصر معيّن، فإنّه يتطلّب الإلمام بكثير من الجوانب ومنها الفلسفيّة والدّينيّة... فلا نستطيع أن نفهم الأطبّاء إلّا بمعرفة الفلسفة والفقه، لأنّ معظمهم كانوا فلاسفة، وفقهاء، ولا نستطيع أن نتعمّق في الطّبّ الإسلاميّ دون الاطلّاع على الطّبّ اليونانيّ، الّذي كان للثّقافة العربيّة الإسلاميّة في مراحلها التّأسيسيّة اتّصالٌ واضحٌ به. وقد عاينت تلك الصّعوبات بصفة شخصيّة حين أنجزت أطروحتي حول «الأنساق اليوميّة والظّواهر الاحتفاليّة»، وقد تطلّب منّي تذليل بعض الصّعوبات المعرفيّة والمنهجيّة وقتاً طويلاً.
د. نادر الحمّامي: إضافة إلى تقاطع مباحث اليوميّ مع مباحث متنوّعة من مجالات أخرى في التّراث العربيّ الإسلاميّ، كما بيّنت هذا من خلال الأمثلة الّتي ذكرتها، فإنّها تتقاطع فيما بينها أيضاً، كيف تفسّرين ذلك؟
دة. سهام الميساوي: حين نبحث مثلاً في الاحتفاليّة أو اللّعبيّة، وهي من المباحث المهمّة في الحياة اليوميّة، فلا بدّ أن نلاحظ أنّها تتقاطع في علاقتها باليوميّ، لأنّ اللّعب والاحتفال واللّهو والأعياد كلّها أشكال تحوّل رتابة الحياة اليوميّة وتجعلها متجدّدة، لذلك من المفيد دراسة الاحتفاليّ في علاقته باليوميّ، وكشف أسس تلك العلاقة القائمة على التّجديد، وقد بيّنت أهمّيّة ذلك في مقال لي حول «العمرة الرجبيّة»، وهو منشور في حوليّات الجامعة التّونسيّة. كما يجب أن ندرس التّمثّلات الّتي تُبنى انطلاقاً ممّا هو يوميّ، وأن نبحث في تمثّل الفواعل والأشياء والأفكار الّتي تعدّ بسيطة، مثل النّبات والحيوان والمعدن والمرأة والرّجل والشّيخ والآخر، والجنون والمجنون، ونبحث في تراكب العلاقات الّتي تنشأ بينها والنّتائج الّتي تترتّب عن ذلك التّقاطع. وأذكر مثالاً عن ذلك ما أورده ميشيل دي سارتو في الجزء الأوّل من كتاب (l'invention du quotidien) عندما درس السّكن وكيف تبنى المدينة وكيف نمشي فيها، وكيف نسكن وكيف ننظّم هذا الفضاء، وعدّد انطلاقاً من ذلك التّمثّلات والرّموز والمعتقدات والتّخيّلات والتّعبيرات المحيطة بفعل السّكن. وأعتبرُ أنّ مباحث اليوميّ متعالقة ومتشابكة ويستدعي بعضها بعضاً، وأنّ الخوض فيها لا يمكن أن يكون في بعض الأعمال المنفصلة عن بعضها، فلا يكفي أن يأخذ بعض الباحثين على عاتقهم الاهتمام بدراسة الغذاء في التّراث الإسلاميّ، على سبيل المثال، حتى نظنّ أنّنا خطونا خطى مهمّة في مجال دراسة الحياة اليوميّة، لأنّ التّراث ضخم ويتطلّب الكثير من البحوث وتكاتف الجهود. ولنا في بعض ما تقوم به مراكز البحوث الغربيّة مثالاً، فما يُصدرونه في السّنة من بحوث فرديّة وجماعيّة لكثرتها لا يستطيع المرء أن يقرأها كلّها. لذلك، علينا دائماً أن نعمل على إيجاد هياكل بحث تساعد في إنجاز مشاريع بحثيّة تتوفّر فيها القيمة العلميّة والجودة الفكريّة والثّراء الكمّيّ.
د. نادر الحمّامي: لعلّ أهمّ ما نخلص إليه في هذا الحوار، هذه الدّعوة للباحثين إلى الاهتمام بجانب من التّراث مازال مغيّباً في البحوث الجامعيّة والأكاديميّة. الأستاذة سهام الميساوي الدّبابي نشكرك شكراً جزيلاً على ما تفضّلت به.
[1] - أجري هذا الحوار في 2 أيار/مايو 2016
[2] - أستاذة الحضارة العربيّة بالجامعة التّونسيّة، مهتمّة بموضوع الأنساق اليوميّة والاحتفاليّة والطّقوسيّة. حاصلة على دكتوراه الدّولة بأطروحة حول «الطّعام والشّراب في التّراث العربيّ». تولّت الإشراف على تنظيم بحوث عديدة في مجال تخصّصها، ومن بينها ما نشر عن جامعة منّوبة حول «خطاب الطّعام» سنة 2014