حول فكرةُ فلسفة الدين
فئة : ترجمات
حول فكرةُ فلسفة الدين[1]
تقديم:
يمثّل النص الذي ننقله إلى العربية، بمتنه وحواشيه ومراجعه، مقدّمة وضعها الكاتب يان شميت (Yann Schmitt) للعدد 9/2016 من مجلّة ThéoRèmes الفرنسية المتخصّصة في الدراسات الدينية وهو عدد مخصّص للبحث في فلسفة الدين قبل عصر الأنوار يضمّ إلى جانب هذه المقدّمة ومقدمة أخرى لأنطونيلاّ دل برت (Antonella Del Prete) بحثين عن أصول فلسفة الدين لدى مفكّرين أمثال رينه ديكارت (R. Descartes) ومالبرانش (Malebranche)، فضلا عن خمسة بحوث أخرى تعالج محور العدد من زوايا مختلفة. والعدد متاح كاملا على شبكة الإنترنت[2]:
المترجم
النص:
1. لفلسفة الدين، بوصفها اختصاصا حيويّا، مكانة مركزيّة مهمّة، إذا ما قورنت بالميتافيزيقا أوّلا وبالفلسفة الدينية وعلم اللاهوت ثانيا وبعلوم الأديان ثالثا. فأمّا الميتافيزيقا، وهي بإيجاز فرع من فروع الفلسفة يدرس المبادئ الأولى للوجود والمعرفة، فهي ممزّقة بين علم الوجود من ناحية، واللاهوت بوصفه ضربا من الميتافيزيقا يتّخذ من الله هدفا له من ناحية ثانية. وعلى هذا الأساس، فهي تشترك مع فلسفة الدين في دراسة بعض المسائل دون أن تجعل من الدين في ذاته موضوعا لها لتبيّن ما هو. وأمّا علم اللاهوت، فيبدو ملتزما فكريّا وتنظيميّا بدين من الأديان بخلاف الفلسفة التي لا تعنيها حقيقة الوحي بقدر ما يعنيها نقد النصوص الدينية المقدّسة نقدا إيجابيا أو سلبيّا. ومع ذلك، لابدّ لهذه التفرقة بين الفلسفة وعلم اللاهوت من أن تضع في اعتبارها فلسفات الدين التي يتولّى فيها الفلاسفة صياغة رؤى دينيّة وأفهام أكثر تعقيدا من الفهم اللاهوتيّ دون أن يكونوا لاهوتيّين، والمثال على ذلك ما رأيناه في ملفّ حول البروتستانتية الليبراليّة. قد يبدو الخيط الفاصل بين الميتافيزيقا وفلسفة الدين دقيقا جدّا، ومع ذلك لابدّ من مراعاته مادام كلّ تفكير فلسفيّ في الشأن الدينيّ قد يكون بداية تفكير ميتافيزيقي في المبدأِ الأوّل. وحين تكون فلسفة الدين في حدّ ذاتها محلّ نظر، يُطرح بالضرورة السؤال عن طبيعة الاختصاصات المجاورة لها وعن العقول التي تديرها.
2. سنحرص، في هذه المقدمة، على أن لا نذهب بعيدا في تعريف الميتافيزيقا واللاهوت والفلسفة، وسنختار في المقابل تعريفا شاملا لفلسفة الدين، ولها في تقديرنا محوران اثنان. أمّا الأوّل، فهو محور المطلق، أو المبدأِ الأوّل، أو الله / الآلهة. وأمّا المحور الثاني، فهو مجمل العلاقات التي يقيمها البشر، فرادى أو جماعات، مع ذلك المطلق الذي هو الله أو الآلهة. وبهذا تكون فلسفة الدين تفكيرا فلسفيا في الشأن الدينيّ، وتفترض، تبعا لذلك، التفكير من جديد في الفعل الفلسفيّ نفسه أي في وظيفته وفي الغاية منه وفي وسائله وفي منزلته في التاريخ. (دي لكروا، 2015).
3. ولم يتسنّ لفلسفة الدين أن تحوز هذه المنزلة بين تلك التخصّصات بسهولة؛ لأنّ هذا الضرب من ضروب التفلسف نشأ عالقا بين مطلب نقديّ مستقلّ يخصّ التقليد الفلسفيّ من ناحية، وبين موضوع يقتضي فهمُه من الداخل اختلافات جذريّة بين ما تقوله نصوص الوحي المقدّسة وما تقوله السنّة، أو بين ما يقوله الله وما يقوله عنه أولياؤه. وإذا كان الشرط في التفكير العقلاني أن يكون مستقلاّ تماما، فالخطر الناجم عن ذلك هو أن لا تراعى للأديان حرمة، وهذا من شأنه أن يقوّض مشروعيّة هذه الفلسفة المفرطة في العقلانية العاجزة عن فهم موضوعها إلاّ بما أوتيت من نقد أحاديّ الجانب. وإذا تمّ الاعتراف، في المقابل، باختلاف الأديان، وإقرار الحقل الفلسفي بمعيارية الدين، تكون الفلسفة حينئذ فلسفة دينيّة، يقيّدها المعطى الدينيُّ ويحدّها موقف دينيّ يستند إلى سلطة مّا أو إلى تجربة لم تُختبر، وهذا يعني بعبارة أوضح نقيض الفلسفة.
4. الشائع أن فلسفة الدين، بوصفها تخصّصا معترفا به، قد تشكّلت في نهاية القرن الثامن عشر في ثلاثة مطالب تجعلها قادرة على مراجعة الأديان مراجعة موضوعيّة ونقديّة؛ أي إنّ لفلسفة الدين مهمّة التفكير في الدين في كلّ تجلّياته، وهذا ما يُلزمها أوّلا بالكشف عن معنى الأديان في ذاتها بطريقة موضوعيّة بدلا من بناء مفهوم فلسفي للدين من الصفر، وثانيا بتحليل كلّ التعبيرات الفردية والجماعية كالطقوس والمعتقدات والنزعات الروحانية، وكذلك أنماط التفكير والخطاب التي تنتجها، وبأن تأخذ بعين الاعتبار ثالثا معطيات تاريخ الأديان لتصوغ منها نظريّة عامّة عن معنى التاريخ الكوني. (جون غريش 2002، ص: 33).
5. تبدو المهمّة الثالثة المشار إليها أعلاه مهمّة عرضيّة؛ إذ لا يفترض أيّ تخصّص فلسفي موقفا مسبقا من التاريخ الكونيّ، وهي إذن مهمّة تشير إلى ما نأمل التفكير فيه. فهل علينا أن نختزل فلسفة الدين في تخصّص نشأ في نقطة التقاطع بين فلسفة التاريخ وآخر فلسفة الأنوار والفلسفة المثالية الألمانية وبداية الهيرمينوطيقا؟ الأكيد أن فلسفة الدين تحتاج إلى فضاء عام للنّقاش لا سلطة فيه للاّهوت والمؤسسة الدينيّة، وتضمن فيه الأنوار والجامعة الحديثة لكلّيات الفلسفة وللفلاسفة استقلالا حقيقيّا وظروفا مواتية لممارسة التفكير بحرّية. وكذلك تبدو العلمانية شرطا تاريخيا لازما لإتاحة نقاش غير دينيّ في الشأن الدينيّ بوصفها تسمح بوضع المعتقدات والممارسات الدينية جانبا عند كلّ نظر فلسفيّ. ولكنّ العلمانية، مثلها مثل فضاء الأنوار النقدي العامّ، لهما تاريخ سابق عن العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر كما أوضح ذلك تايلور (2011) وهابرماس (1967).
6. نفترض أنّ فلسفة الدين، إذا حصرناها في المهمّتين الأولى والثانية المشار إليهما أعلاه وفقا لما ذهب إليه جريش، قد ظهرت أوّلا في أماكن أخرى غير أوروبّا وهذا ما كشف عنه عدد من مجلة (ThéoRèmes) خاص بفلسفة الدين في الهند سنة 2017، وظهرت ثانيا قبل عصر الأنوار كما يبيّن ذلك هذا العدد من (ThéoRèmes). وعلينا إذن أن نستمر في تتبّع هذا المسار التاريخي في أوروبّا حتّى نصل إلى نقطة البداية.
7. لقد أوضح دافيد هيوم في ذروة عصر الأنوار أنّ لنقد الأديان مسلكين اثنين. أمّا الأوّل، فيظهر في كتابه حوارات حول الديانة الطبيعيّة (Dialogues sur la religion naturelle) حيث تمّ البحث في معقوليّة تجربة الإيمان وأسبابها، وأمّا الثاني فيظهر في كتابه التاريخ الطبيعيّ للدين (Histoire naturelle de la religion) حين اقترح قراءة حفرية تكشف عن أصول الدين وفصوله ببيان الأسباب الكامنة وراء المشاعر والرموز الدينية. وقد تسنّى له بذلك أن يستكمل، بشكل قلّ أن نجد له نظيرا، عملا بدأه قبل الأنوار مفكرون أحرار أبدوا ملاحظاتهم النقدية على هامش النقاشات التي كانت تجري في الفضاء العام. ولكن، هل ينبغي أن نختزل عملهم في ما يسمّى نقدا فلسفيا للدين دون أن يكونوا فلاسفة دين؟ ومع أنّ أعمالهم كانت في الغالب غير منهجيّة؛ إذ كانت تخلط سيكولوجيا العواطف بالتاريخ والتفسير العقليّ والتفكير السياسي والفلسفة بشكل عام دون أن ننسى ذلك الكم الهائل من المصادر الأدبيّة، إلاّ أنّ ظهور هذه الأعمال قبل القرنين السابع عشر والثامن عشر لا يمنع من اعتبار أعمالهم ضربا من ضروب فلسفة الدين. ويزداد الأمر تعقيدا حين نرى فلسفة الدين المعاصرة تعيد تهميش هذه الأعمال كما يوضّح ذلك هذا العدد، رغم كل ما فيها من شموليّة وصرامة تجعلانها جديرة بأن تكون من فلسفة الدين.
8. وإذا سلّمنا بوجود فلسفة دين في أعمال أولئك المفكّرين الأحرار، فهذا يعني أنّ فلسفة الدين تقع بين اتجاهين نقديين، أمّا الأوّل فينظر إلى فلسفة الدين على أنها تخصّص معترف به ويعي وجوده بشكل مّا رغم أزمة الشرعية التي يعاني منها[3]، وهذا التخصّص محمول في الغالب على أنّه ينظر إلى الدين من زاوية مناسبة ولا يخلو من روح نقديّة، وفيه تبدو الأديان مصدرا للأخلاق والروحانيات والأفكار الاجتماعية والسياسيّة يمكن للفلسفة أن تبيّنها وتقيّمها. وأمّا الثاني، وهو الحداثة الأوروبيّة، فيذهب إلى أنّ فلسفة الدين تخصّص قد تكوّن في القرن الثامن عشر كما يقول غريش وإن كان استبعاد هيوم بسبب نزعته الطبيعية [Greisch 2002, p. 22] أمرا غير مبرّر، خصوصا إذا علمنا أنّ عمل هيوم بوجهيه المشار إليهما سابقا يسمح لنا بفهم النزعة التحليلية في فلسفة الدين وعلاقتها بعلوم العرفانية لما فيها من تفكير في أسباب الإيمان وطبيعة المعتقدات الدينية ودواعيها.
9. إنّ دافيد هيوم في صف الاتجاه الثاني أو على مقربة منه، عمل إقصائيّ فضلا عمّا فيه من الحرج، ولا يمكن لأحد أن يدّعي معرفة بفلسفة الدين إذا لم يقبل النقد الجذريّ الذي وجّهه أولئك المفكرون أمثال سبينوزا[4] ونيتشه ونيكولا دي كوس (2008) الذين ستتم دراستهم هنا باعتبارهم مفكرين متحرّرين.
10. سنحرص هنا على اعتبار هذا القطب المهمل هامشا من هوامش فلسفة الدين. وفي عبارة "القطب الهامش" مفارقة تشير إلى ما في فلسفتهم الدينية من أهميّة وطرافة لا نجدها في هذا التخصّص بالضرورة، بل هي تغذّي هذا التخصّص كما يظهر في مقالات هذا العدد التي تكشف عن المسار الذي سبق فلسفة الدين قبل أن تصبح تخصّصا قائم الذات فضلا عن كونها قد جعلت من فلسفة الدين أمرا ممكنا حين كشفت عن مجالات نشأته الاجتماعية وما جرى فيها من نقاشات هيّأت هذا الحقل لظهور تخصّص مستقلّ عن اللاهوت والسياسة.
11. قطبان اثنان يكشفان عن نقيصتين في فلسفة الدين أشرنا إليهما سابقا. أمّا الأولى، فهي الفلسفة الدينية التي ترمي إلى تفسير نصوص الوحي بأدوات الفلسفة، وأمّا الثانية فهي الفلسفة اللادينية التي تعادي الأديان وتعتبرها مجرّد أوهام وخرافات. ورهان هذا العدد هو الكشف عن شكل من أشكال فلسفة الدين لا يقترب من هذا التخصّص بل هو أقرب إلى فلسفة دين مبسّطة أو ممارسة فلسفية نسعى إلى تعريفها في مختلف مراحل التاريخ البشري.
المراجع:
- Nicolas de Cues, La paix de la foi; suivi de La lettre à Jean de Ségovie, Paris, Téqui, 2008
- Vincent Delecroix, Ce n'est point ici le pays de la vérité: introduction à la philosophie de la religion, Paris, Le Félin, 2015
- Jean Greisch, Le buisson ardent et les lumières de la raison: l'invention de la philosophie de la religion. Tome 1, Héritages et héritiers du XIXe siècle, Paris, les Éd. du Cerf, 2002
- Jean Greisch, Le buisson ardent et les lumières de la raison: l'invention de la philosophie de la religion. Tome 3, Vers un paradigme herméneutique, Paris. Les Éd. du Cerf, 2004
- Jürgen Habermas, L'espace public: archéologie de la publicité comme dimension de la société bourgeoise, Paris, Payot, 1997
- Charles Taylor, L'âge séculier, Paris, Le Seuil, 2011
[1] المرجع: https://doi.org/10.4000/theoremes.848
[2] https://journals.openedition.org/theoremes/847
[3] يشير غريش إلى أن عبارة الفلسفة الدينية ظهرت أولا عند Von Storchenau سنة 1772 في كتاب بعنوان Philosophie der Religion رغم أنه في الأصل عمل اعتذاري لا يرقى إلى مرتبة فلسفة الدين.
[4] يعد سبينوزا حالة محرجة لاثنين من المدافعين عن فكرة ميلاد فلسفة الدين في نهاية القرن الثامن عشر أولهما غريش (غريش، 2004، ص: 95)، حين اعتبر سبينوزا معبرا ضروريا لفلسفة الدين دون أن يمنحه موقعا في هذا التخصص الذي آلت إليه فلسفة الدين، والآخر هو دي لكروا (دي لكروا، 2015، ص: 60 – 1) حين اختزل عمل سبينوزا في كونه مجر نقد للدين يمكن اعتباره واحدا من بين الأصول التي تعود إليها فلسفة. مقابل ذلك، يرفض التوصيف المزدوج لفلسفة الدين أن تكون المثالية الألمانية والهيرمينوطيقا والبروتستانتية وفلسفة التاريخ أشكالا أوليّة لفلسفة الدين.