خير الدين التونسي ونظرية التنظيمات
فئة : مقالات
مثل الوزير التونسي خير الدين التونسي (1225-1308هـ/1810-1890م)، محطة مهمة في تاريخ تطور خطاب التجديد والإصلاح في المجال العربي الحديث، والذي توافق نهجه الفكري والإصلاحي، وتناغم إلى حد كبير مع نهج الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي الذي كان معاصرا له.
وهذا يفسر ما جرت عليه عادة الباحثين والمؤرخين، الذين اعتنوا بالاقتران في الحديث عنهما تارة، وبالتتابع تارة أخرى، أو بالمقارنة بينهما توافقا واختلافا تارة ثالثة، خاصة وأنهما ينتميان لجيل واحد، وكانا معاصرين معا، وكل واحد منهما نوه بكتاب الآخر في أشهر كتابين لهما.
شرح خير الدين التونسي رؤيته الإصلاحية في كتابه الشهير (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) الصادر سنة 1868م، ويعد هذا الكتاب أحد أهم المدونات الإصلاحية في تاريخ تطور الفكر العربي والإسلامي الحديث.
وقد أحسن التونسي صنعا حين دون هذا الكتاب الذي عرف به وبرؤيته الإصلاحية، وجعله حاضرا في ذاكرة المؤرخين، والأكيد أن لولا هذا الكتاب ما حظي التونسي بالمكانة والمنزلة التي حظي بها، وبالشهرة التي حصل عليها، ولكان من الصعب تكوين المعرفة بطبيعة رؤيته الإصلاحية، والإحاطة بها، ولكان الجدل ممكنا وقائما من جهة هل هو صاحب رؤية إصلاحية تنسب إليه ويعرف بها أم لا!
ولعل من أبرز الملاحظات التي كشفت عن أهمية كتاب التونسي، الملاحظة التي أشار إليها المؤرخ ألبرت حوراني، حين قارن بين هذا الكتاب وبين مقدمة ابن خلدون، فقد بدا لحوراني في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة) الصادر عام 1962م، أن خير الدين وضع كتابه (وهو على شيء من الاعتقاد بأنه يفعل للعصر الحديث ما فعله ابن خلدون لعصر أسبق، فالمؤلفان تونسيان، وضعا كتابيهما في فترة عزلة عن الحياة السياسية، وعالجا فيهما، كل على طريقته، قضية نشوء الدول وسقوطها. وقد قسم كل منهما كتابه إلى مقدمة لعرض المبادئ العامة، وإلى أجزاء عدة، إلا أن التشابه يقف عند هذا الحد. ففيما يعنى كتاب ابن خلدون في معظمه، بتاريخ الدول الإسلامية، يعنى كتاب خير الدين، في معظمه أيضا، بتاريخ الدول الأوروبية وتركيبها السياسي وقوتها العسكرية).
وكما عرف رفاعة الطهطاوي بنظرية المنافع العمومية واشتهر بها، عرف خير الدين التونسي أيضا بنظرية التنظيمات أو التنظيمات الدنيوية واشتهر بها، وهي النظرية التي كشف عنها، وشرحها بتوسع واهتمام في مقدمة الكتاب، المقدمة التي حمل الباب الأول فيها عنوان (التنظيمات)، واعتبر ألبرت حوراني أن أهمية الكتاب تكمن في هذه المقدمة.
وعند النظر في هذه المقدمة، يمكن اعتبارها أنها مثلت لب الكتاب، وأبانت عن حكمته وفلسفته، وأوضحت جوهر أطروحته، وكانت بالنسبة إلى الكتاب بمثابة منزلة الرأس من الجسد، أو القلب من الجسد.
ولولا هذه المقدمة وعناية المؤلف بها شكلا ومضمونا، لظهر الكتاب وظهرت معه علامات النقص، ولتراجعت أهميته وقيمته في نظر الباحثين والمؤرخين، ويكفي للدلالة على ذلك أن أغلب الذين رجعوا إلى الكتاب تعرفا وتوثيقا واقتباسا، إن لم يكن جميعهم، إنما رجعوا إلى مقدمته، فهي التي عرفت بالكتاب، وغطت عليه، أو كادت تغطي عليه.
استندت نظرية التنظيمات عند التونسي، على خلفية البحث عن أسباب التقدم وأسباب التأخر في الأمة الإسلامية، ولا يتيسر التقدم في نظر التونسي، من دون إجراء تنظيمات سياسية تتأسس على دعامتي العدل والحرية، اللذين هما حسب قوله، أصلان في شريعتنا، كما أنهما ملاك القوة والاستقامة في جميع الممالك.
وأراد التونسي من نظرية التنظيمات، ربط التقدم بإصلاح النظام السياسي، وإقامته على دعامتي العدل والحرية، وهذا لا يتحقق في تقديره إلا من خلال تبني التنظيمات التي يصفها بالدنيوية، المجربة والمشاهدة في الأمم الأوروبية.
ويعتبر التونسي أن هذه الأمم الأوروبية، إنما تقدمت في العلوم والصناعات بسبب هذه التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية، ومن هنا دعوته وتأكيده على الانفتاح والاقتباس من التجربة الأوروبية، وأراد من كتابه أن يكون منهجا يرسم فيه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، وبالذات بالخصوص البلدان الأوروبية التي لا يتم الغرض من كتابه حسب قوله، إلا ببيان أحوالها.
أطلق التونسي على نظريته تسمية التنظيمات، واعتبر أنها من نمط التنظيمات الدنيوية التي يمكن تحصيلها واقتباسها من الأمم والممالك الأخرى، مع اختلاف شرائعها عن شريعتنا، ومنها وفي مقدمتها الأمم والممالك الأوروبية، التي نهضت وتقدمت بفضل هذه التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية.
وبهذا الدور يكون التونسي، قد جدد مرة أخرى علاقة الفكر العربي والإسلامي الحديث بقضايا التقدم والتمدن والعمران، وفتح عليه فرص التواصل والانفتاح على العلوم والمعارف والتجارب الحديثة، وبالذات التجارب الأوروبية التي عرفها التونسي وعاينها وعايشها.
كما نبه التونسي الفكر العربي والإسلامي الحديث، بضرورة الالتفات إلى الإصلاح السياسي المستند على فكرة التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية.
وهذه القضايا والأبعاد لا شك أنها من صلب مطالب التجديد والإصلاح في ساحة الفكر العربي والإسلامي اليوم، وتحظى بدرجة عالية من الأولوية والاهتمام.