داعش؛ بين الدين والسياسة
فئة : مقالات
توطئة:
"ذلك أنه، ما دامت الجماعة جماعة دينية فحسب؛ أي جماعة لا تطلب من عضوها أن يضحي بنفسه من أجل إيمانه، ضدًّا على جماعة عدوة لها، تبقى بمعزل عن السياسة، ومبعد ومنأى، لكن حينما تخوض جماعة دينية معينة، حربًا ما؛ فإنها، آنذاك، تتجاوز طبيعتها، من حيث هي؛ جماعة دينية، لتصير جماعة (وحدة) سياسية..."[1].
ثمة مقاربات عديدة للظاهرة "الداعشية"؛ اجتماعية، ونفسية، وتاريخية، وجيوسياسية، ودينية، تنطلق من نصوص مقدسة للتأصيل لها، ويبدو أن الظاهرة أكثر تعقيدًا، من أن تقارب من زاوية واحدة، بيد أننا، في هذا المقال، سنحاول رصد ذلك المزج والدمج بين السياسي والديني في هذه الظاهرة.
يربط الكثير من الباحثين، صورة تنظيم الدولة في التراث الإسلامي بفرقة الخوارج، رغم اختلاف سياق نشأة كل منهما، ولكن يبقى الملمح المشترك بينهما، هو: سلوك طريق العنف والتكفير للتغيير، والملاحظ في العصر الحديث، وجود تنظيمات متطرفة، تتوسل العنف للسيطرة بالقوة على السلطة السياسية، كما تصنع "داعش" الآن، رغم اختلاف العقيدة الأيديولوجية، بينها وبين هذه المنظمات؛ كمنظمة الفارك اليسارية بكولومبيا، ومنظمة إيتا بإسبانيا، والألوية الحمراء بإيطاليا؛ فإن القاسم المشترك بينهم، هو: استهداف السلطة القائمة واغتيال رموزها، وتدمير مفاصل الاقتصاد في أفق إحكام السيطرة على الدولة.
إن تنظيم الدولة (تأسس صيف عام 2014م)، كما هو معروف، ينبثق من تنظيمات جهادية، من قبيل؛ جماعة التوحيد والجهاد (2003م بزعامة الزرقاوي)، والدولة الإسلامية في العراق، والقاعدة في العراق (2010م بزعامة البغدادي)، ومجموع هذه التنظيمات، تتشكل من مقاتلي تنظيم القاعدة الذين فرّوا من أفغانستان، خلال حرب (عام 2001م)، ليستقروا في منطقة الشرق الأوسط، وتنظيم القاعدة (1988م بزعامة أسامة بن لادن)، بدوره، هو: نيتجة اندماج بينه وبين حركة الجهاد (المصرية)، وقد تحالفا مع حركة طالبان (بزعامة الملا عمر)، إبان وجودهم في أفغانستان.
وإذا نظرنا، الآن، إلى التشكيلات المقاتلة، التي تعود جذورها إلى "الجهاد الأفغاني"؛ نجد تنظيم القاعدة (بزعامة الظواهري)، وتنظيم الدولة الإسلامية المنشق عن القاعدة (بزعامة البغدادي)، هما الأكثر تواجدًا في الساحة العربية، خصوصًا، في المناطق السنية منها، ولكن الملاحظ؛ أن هذه الأخيرة، تفوقت على تنظيم القاعدة، باحتلالها مساحة واسعة من الأراضي في العراق وسوريا، بينما القاعدة تموقعت في سوريا في مساحة محددة، عن طريق أحد فروعها (جبهة النصرة، بزعامة الجولاني).
فما هي، إذن، العوامل التي ساهمت في انتشار هذا التنظيم بهذه السرعة؟
من العوامل التي ساهمت في انتشار تنظيم الدولة ما يأتي:
لم يعد العالم ثنائي القطب أو أحاديه؛ بل تعددت أقطابه، ولوحظ، بشكل جلي، حروب الوكالة؛ حيث إن كل طرف فيها، يود الحفاظ على مصالحه الخاصة، ومما ساعد التنظيم على الاستمرار في تواجده وتعزيز مكانته، هو: معرفته الأكيدة باستبعاد التدخل الدولي في سوريا، لتعقيدات المنطقة من جهة، ولتشابك المصالح بين الدول العظمى، كما بدا من خلال التدخل العسكري، الذي قامت به أمريكا وبريطانيا (بوش وبلير)، أنه غير مجدٍ، ولم يحقق السلام المطلوب، ومن جهة أخرى؛ أن في الحالة السورية، يصعب أن يتجاوز المنتظم الدولي، الفيتو الروسي الصيني، ليتدخل على شاكلة ما حدث في ليبيا.
فلنعد، إلى سؤال: أوجه التشابه والاختلاف بين القاعدة وداعش؟[2]
أولًا: معظم قيادتهم شاركت في الحرب الأفغانية، وجميعهم ينطلقون من العقيدة السلفية؛ التي تؤطر سلوكهم وممارستهم، وتعتبر هذه العقيدة الأساس الإيديولوجي التحتي لديهم؛ حيث تقوم على معاداة الغرب، والحكام العرب، والمسلمين الموالين لهم، والعودة إلى صفاء الإسلام؛ أي إلى الماضي المشرق، ومن غاياتها الكبرى؛ إقامة الخلافة الإسلامية، قصد تحكيم شرع الله، وإقامة حكمه.
ثانيًا: تشترك جميعها في بعض المحظورات والممنوعات:
حظر التدخين، ومنع التصوير، وعدم السماح للنساء بالسفر من دون محرم، ووجوب ارتدائهن النقاب، واعتبار المرأة كلها عورة، وحظر سماع الموسيقى.
ردًّا على هذه القواسم المشتركة لديهم، بالنسبة إلى منظورهم للعقيدة الإسلامية؛ فهو لا يصح أن يعمم أو يفرض على جميع المسلمين؛ لأنه محض تمثل، وتأويل، أو لنقل: قراءة لا تلزم الغير، كما أنها تنطوي على أوهام تقفز على التاريخ.
أما بالنسبة إلى المحظورات التي تقررها؛ فهي محض قراءات مجتزأة من النصوص الحديثية، وفيها اختلافات متعددة، وآراء فقهية مختلف حولها، لا يجوز شرعًا، ولا يجوز، حسب القاعدة الفقهية المعروفة، (لا يجوز الإنكار حول المسائل المختلف فيها) إلزام المسلمين بها، وإكراههم على تبنيها؛ لأنها تندرج ضمن دائرة الظنيات، (بمعنى؛ وردت فيها نصوص قرآنية أو حديثية، تحتمل أكثر من معنى ورأي).
وبالرجوع إلى أوجه الاختلاف بينهما، نلاحظ أنه اختلاف على مستوى الأولويات؛ أي اختلاف تكتيكي أكثر منه استراتيجي، إضافة إلى أن داعش تفوقت؛ بل تخطت تنظيم القاعدة وذلك، بالرفع، إلى درجة قصوى، من حجم تسييس الدين الإسلامي، وجعل نصوصه، وبعض الممارسات التاريخية للمسلمين، ذريعة لتسويغ ممارساتها المتشددة والمتطرفة، وهذه النصوص، الدينية والتراثية، توظف من أجل الشرعية الدينية؛ فالواقع أن الخطاب الذي تتبناه الحركات الجهادية السلفية، في الأساس، هو: خطاب سياسي مركَّب على ما بات يعرف بـ (الأزمة السنية)، والذي يتلخص في تهميش الأكثرية السنية، وحرمانها من تحقيق تطلعاتها بحرية، عبر تسليط أنظمة، أقلوية أو ديكتاتورية، تعمل على خنقها، وخنق فرص التنمية فيها.
واقع الأمر؛ أن هذا الوضع السياسي، تشتق منه الحركات الراديكالية الجهادية، خطابًا سياسيًّا، يستمد قوته من أربعة عناصر: المطابقة مع المخيال العام، المتشكل حول أزمة السنّية السّياسيّة، والوضوح الشّديد في التعبير عنها، والتعبير عن الهويّة بشكل حاسم (الإسلاميّة السنيِّة)، والمقاومة، وعدم التسليم للأوضاع الحالية، وتغييرها بالقوة، كما هي مفروضة بالقوة"[3].
وفيما يلي؛ نعرض لهذه الاختلافات، التي جعلت داعش تحظى بهذا الاهتمام والمتابعة:
طالبان والقاعدة كانتا، وما تزالان، أكثر وفاء لأدبيات التيار السلفي الحرفي والظاهري؛ حيث رفضت كل محمولات الدولة الحديثة؛ من تكنولوجيا، وتحريم للموسيقى، على خلاف داعش؛ التي استخدمت التكنولوجيا الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، ووظفت العالم الافتراضي باحترافية عالية، ونهجت قواعد الحرب الدعائية، وكذا، جربت ممارسة السلطة في المناطق التي سيطرت عليها، كما رفضت تبني سياسة قتال العدو الأبعد، وتحديدًا، الولايات المتحدة الأمريكية (الغرب)، التي نهجتها القاعدة؛ بل ركزت على العدو الأقرب (الأنظمة العربية الحاكمة).
واتسمت آليات العقاب لدى "داعش"، بالوحشية والهمجية، مع أعدائها وخصومها؛ (قطع الرؤوس، والذبح، والحرق)، بينما القاعدة وطالبان، بقيتا في دائرة، ما تعتقده، العقاب الشرعي (من جلد وحدّ)، تحمي المناطق التي تتواجد فيها، بينما داعش تلجأ إلى الانتقام والقتل، بطريقة بشعة ومقززة، وركز تنظيم الدولة على جلب الشباب، الساخط والناقم والمستاء، جراء الفساد واللامساواة، والظلم، والاضطهاد الممارس في بلدانهم من قبل أنظمة شمولية، كما أن أغلب "الدواعش" يريدون العيش في ظل دولة الخلافة، بينما كان هاجس معظم أعضاء القاعدة، الفوز بالجنة والحور العين، وفي الصدد ذاته، يقول أبو عمر، أحد مقاتلي "داعش": "القاعدة منظمة، أما نحن؛ فدولة"، ولعل هذه المقولة: هي تعبير عن الصراع حول "الإمارة"؛ القيادة التي تتسم بها التنظيمات الإسلامية، المتشددة والمنغلقة، مما يولد كثرة الانشقاقات داخل الفصيل الواحد.
ومن تجليات تسييسها للدين، وبعض وقائع التاريخ الإسلامي؛ اغتصاب النساء المسبيات (السبي)؛ حيث سيرغمهن هذا الوضع، أن يطلبن من أقاربهن عقد مصالحة مع أزواجهن، الذين أصبحوا أزواجهم بعد السبي؛ فالسبي، إذن، أصبح أداة لتعزيز وجود داعش، ومنحها شرعية، وتفادي أية مجابهة محلية.
أشرنا، آنفًا، إلى بعض نقاط التشابه بين داعش والتنظيمات المتطرفة العالمية، ونضيف قاسمًا مشتركًا بين داعش والحركة الصهيونية، من خلال الخطابين، الداعشي والصهيوني؛ حيث إن كليهما، يستندان إلى رؤية دينية- سياسية، توظف فيها نصوص دينية، تتحدث عن نهاية التاريخ (الزمان)، يقول البغدادي في أحد خطبه: "من بإمكانه الهجرة إلى ربوع الدولة الإسلامية، ينبغي عليه فعل ذلك؛ لأن الهجرة إلى دار الإسلام، واجب شرعي"، ثم يقول أيضًا: "سارعوا أيها المسلمون إلى دولتكم، إنها دولتكم، هذه هي نصيحتي لكم، وإذا ما التزمتم بها؛ فإنكم ستغزون روما، وتملكون العالم إن شاء الله"، ويتضح من خلال هذه العبارات، دعوة البغدادي؛ الشبيهة بالدعوة إلى الأرض الموعودة التي دعت إليها الحركة الصهيونية.
" تحاول داعش في عرضها للخلافة الجديدة، تقديم صورة سياسية عصرية لها، شبيهة بتلك التي عكسها الصهاينة الأوائل، رغم أن كلمة الديمقراطية، لا تثمنها الدولة، كما كان يثمنها مؤسسو إسرائيل، في أربعينيات القرن الماضي؛ فاليهود من كافة أرجاء العالم، انضموا إلى الحركة الصهبيونية، في كفاحها ضد البريطانيين لإعادة فتح أرضهم التاريخية"؛ الوطن الموعود، الذي وعد الله بإعطائه إياهم، على حد زعمهم، لكي يسعون فيه إلى الخلاص، وكما يعتبر اليهود أرضهم الموعودة، وتمثل الخلافة للمسلمين، الدولة المثالية والأمة المثالية، ليسعوا فيها إلى الخلاص، الذي طالما انتظروه لقرون، وعانوا فيها من العنصرية، والإهانة، والهزائم على يد العلوج؛ أي القوى الأجنبية وشركائها من المسلمين، وكما شيد نسخة معاصرة عن إسرائيل القديمة تضم كافة اليهود في العالم، تنهمك "الدولة الإسلامية" بتشييد بلد مسلم، يضم كافة السنة في القرن الواحد والعشرين، أو على الأقل، هذا ما تقوله حملتها الدعائية"[4].
- داعش والجمع بين الحداثة والبرغماتية:
سيظن البعض؛ أن هذه العبارة تنطوي على تناقض جلي، وتعد مدعاة للاستغراب والتعجب؛ فكيف بتنظيم تعود كل ممارساته، وأفكاره، ومواقفه، إلى ما قبل الدولة الحديثة، وتنتمي كثير من أحكامه إلى بيئة صحراوية بدوية، وتستند آدابه إلى رواسب ثقافية، تقوم على الثأر والانتقام والتعصب، ولا شك أن هذه الملاحظة، تحتوي على بعض من الصحة والوجاهة، خصوصًا في جانب معين منها، ولكن بالنظر إلى حياة أعضاء هذا التنظيم الداخلية، وتحركاته للسيطرة على بعض المناطق التي تغيب فيها الدولة، نلحظ، في أدواته ووسائله، بعض المظاهر التي تجمع بين الحداثة والبرغماتية، ونقصد بالحداثة، هنا، شقها الأداتي؛ أي الوسائل الحديثة التي توظفها في تحقيق مآربها، أما ما يتعلق بالجانب البرغماتي (النفعي)؛ فيكمن في طريقة تدبيرها للمناطق التي تسيطر عليها.
بالطبع، داعش لا علاقة لها بالحداثة في شقها الفلسفي، المرتكز على العقلانية والفردانية والحرية، لا من قريب ولا بعيد، ولكنها تستثمر شقًّا منها بحس برغماتي عالٍ جدًّا؛ "فقد أبدت القاعدة براغماتية في مهادنتها لإيران بعد الحرب الأفغانية، وقد امتثل تنظيم الدولة، نفسه، لأوامر القاعدة بعدم التعرض للروافض في إيران؛ حفاظًا على مصالح القاعدة وخطوط إمدادها"، كما صرَّح بذلك العدناني، وأنه لم يلتزم بذلك داخل حدود دولته؛ فالحدية عندهما إنما تظهر في حالة ما يصادم الأصول، فيمكن التوسل بالبراغماتية، فيما يعزز استمرار المشروع دون ما يقيده أو يعرقله؛ فحين أعلن تنظيم الدولة "الخلافة"، جعل كل من يعارضها في طائفة "البغاة"؛ حيث ينطبق عليهم فقه البغاة، الذي يؤمن به كل الجهاديين..."[5].
وبخصوص اسم "الدولة الإسلامية"؛ الذي أطلقته على نفسها؛ فمصطلح الدولة، لم تعرفه العرب، ولم يرد في تداوله في صدر الإسلام، واستخدام هذا المصطلح حديث، يرتبط بالتراث الغربي؛ فلماذا حرصت داعش على توظيفه، وهي التي تقف ضد كل ما يأتي من الغرب الكافر، بنظرها؛ بل هي تناصب الدولة الحديثة العداء، وتطمح لإزالتها؛ أم أن الأمر يتعلق بإجراء برغماتي، تهدف من ورائه إلى إعداد مشروع الخلافة؟ فالناظر إلى أنشطة داعش وتحركاتها في المنطقة، نجدها تركز على التوسع الجغرافي، والسيادة، والشرعية، والبيروقراطية، وهذه الركائز، نفسها، تعتمدها الدولة الحديثة، لذلك؛ لاحظنا أن تنظيم داعش، حين يسيطر على بلدة ما أو منطقة، يبدأ بالمحافظة على الأمن والنظام والقانون، وتوفير بعض الخدمات؛ من إصلاح الطرق، وتوليد الكهرباء، وإطعام الفقراء، لكسب ود السكان المحليين، وهذه من سمات وظائف الدولة الحديثة، وبعدها تنتقل إلى الضرب على المخيال الديني للناس، بالدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، ومما يساعدها على نجاح مخططاتها؛ كون هذه المناطق غالبيتها من "السنة"، التي تعرضت للتهميش والإقصاء، من لدن أقلية حاكمة شيعية (العراق)، أو علوية (سوريا)؛ فتجد في داعش ملاذًا لإعادة الاعتبار لها، والاستعداد للقتال إلى جانبها، ليس بهدف تحقيق الخلافة، ولكن للثأر لها، مما مارسته الطائفة الشيعية عليها؛ من تعذيب، وإهانة، وتقتيل؛ فالأساليب التي استعملتها الميليشيات الشيعية، أبشع بكثير مما تستعمله داعش بنظرها.
وبما أن داعش، في إطار مخططها التوسعي، تحتاج إلى إسناد بشري ومادي؛ فهي تعتمد على أبناء تلك المناطق المحلية، في التسيير والتدبير، وأكثر من ذلك؛ تبدي مرونة كبيرة مع زعماء القبائل، وتتقاسم معهم الإيرادات، من خلال استغلال موارد طبيعية (آبار النفط في شرق سوريا)، لكي تضمن استقرارًا لها في أفق التطبيع مع وجودها، كما تعمل على استقطاب المهاجرين، خاصة العرب منهم، مستغلة أوضاعهم الاجتماعية والنفسية، نتيجة التفكك الأسري، والبحث عن الأمن الروحي.
قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخيل} [الأنفال (8): 60]، في جل أدبيات تنظيم داعش، الكثير من المظاهر والسلوكيات تريد أن تستعيدها، وتمارسها كما كانت في الماضي المجيد والمشرق، وتحاكي حياته الاجتماعية بحذافيرها، لذلك؛ شأنها شأن معظم الحركات السلفية، العلمية والجهادية، تتعامل مع النصوص تعاملًا ظاهريًّا، ولكن النص أعلاه، خرج عن هذه القاعدة؛ فتنظيم داعش لم يستعمل في حربه الخيول والسيوف؛ لأنه يدرك النتيجة الحتمية، إذا ما واجه بهذه الأساليب العتيقة، دولًا تستعمل أسلحة متطورة، ولهذا؛ فتنظيم الدولة الإسلامية، استخدم، هو الآخر، أسلحة روسية وأمريكية، إما غنائم أخذها من الجيشين؛ العراقي والسوري، أو اشتراها من السوق السوادء للأسلحة، كما استعمل استراتيجية "الحرب الدعائية"، كما توظفها الدول، نظرًا لما لها من أهمية بالغة في إثارة الخوف والرعب، وقد تم التنظير والتفصيل لهذه القضية، في كتاب (إدارة التوحش لأبي بكر ناجي)[6]، تحت مسمى "سياسة دفع الثمن واعتماد الشدة"، وقد تم تطبيق ذلك في العراق؛ مع الإعدامات الجماعية لأسرى من البشمركة، وفي سوريا؛ مع الطيار الأردني معاذ الكساسبة، الذي تم تصوير حرقه، وكذا مشاهد الذبح الأخرى لبعض الصحافيين، أمام الرأي العام العالمي، واللافت للانتباه في عرض هذه المشاهد البشعة، التي تنتمي إلى عهود ما قبل الدولة، هو: استخدام تنظيم الدولة الإسلامية للتكنولوجيا الحديثة، بحرفية عالية في عالم التصوير؛ حيث شهد بذلك أهل الاختصاص، مما يدلل على انغماسه في منتجات الحداثة، توظيفًا وتطبيقًا.
ثمة تنظيمات عسكرية في الماضي، القريب والبعيد، استعملت همجية وحشية، لا تقل فظاعة عما قامت به داعش، لكن ما أضافته داعش، هو: استخدامها المتقن للتكنولوجيا الحديثة في حربها الدعائية، وبشكل خاص، استغلالها لمواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك والتويتر)، في نشر همجيتها ووحشيتها للعالم بأسره من جهة، وترويع العدو والمرتدين (المسلمين الموالين للغرب)، ولعلها، بذلك، تجذب المتعاطفين معها، والمناصرين من جهة أخرى؛ ففي عشية كأس العالم لكرة القدم عام 2014م، وثّقت "داعش" على تويتر؛ مبارة لكرة القدم، لعب أفراد التنظيم فيها الكرة برؤوس خصومهم المبتورة.
ومن مظاهر استخدم الأساليب الحديثة في الإعلام الداعشي؛ إطلاقها لمجلة إلكترونية باسم "دابق"، أنجزتها بمعايير المجلات الدولية، وأبانت فيها عن حرفية عالية في الإخراج الفني، واختارت اللغة الإنجليزية لها، وتترجم، بعد ذلك، إلى لغات أخرى، يعود هذا الإنجاز إلى قدرة تنظيم داعش، على استقطاب المتمكنين من تكنولوجيا الاتصال والإعلام، كل ذلك، بغية تحقيق تواصل فعال مع الرأي العام العالمي، وجذب أجانب حديثي العهد بالإسلام، في أفق تحقيق رؤيتها السياسية الدينية (مشروع الخلافة).
حاصل القول؛ أن داعش استخدمت آليات حديثة في نشاطها، الحربي والإعلامي، تحقيقًا لأغراضها الاستراتيجية، المتمثلة في التوسع في جغرافيا العالم الإسلامي، وتأسيس مشروع الخلافة، مستغلة إنتاج الحضارة الغربية ومكتسباتها في مجال التقنية، وأبانت عن حس براغماتي، في تعاملها مع القبائل والمناطق التي هيمنت عليها، تحالفًا وتعاونًا وشراكة، وانتهزت كل وسيلة، من شأنها نيل مرادها؛ بل شرعنة وسائل همجية، بالاستناد إلى الموروث والتاريخ الدينيين.
لقد أساء تنظيم الدولة، إساءة بالغة، للدين الإسلامي، وشوه صورته أمام العالم، بتصرفاته الوحشية والهمجية؛ إذ استحلّ الأنفس البشرية البريئة، التي حرم الله قتلها بغير حق، متناسيًا أن هذا االدين، الذي يتحدثون باسمه، قد شيّد حضارة، قامت على السلم، والعدل، والرحمة، والحوار، والتعارف، والمسؤولية، والعقل، بحيث استفادت الحضارة الغربية من ذلك الإرث، العلمي والعمراني، للمسلمين، وبنت عليه تقدمها وازدهارها، وما تقوم به داعش، يعد أكبر عملية اختطاف في التاريخ لدين الإسلام، وما تقوم به، أيضًا، من انتهاكات فظيعة في حق الإنسانية، فالإسلام بريء منه.
المراجع:
الشيخ محمد، فصل المقال فيما بين الدين واللاهوت من اتصال عند كارل شميث، ضمن كتاب: الدين والسياسة من منظور فلسفي، إشراف: محمد المصباحي، مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود، منشورات عكاظ، 2011م.
لوريتا نابوليوني، "الدولة الإسلامية" وإعادة ترسيم حدود الشرق الأوسط، ط 1، 2015م.
مواقع على الإنترنت:
عبد الرحمن الحاج، "هل الإصلاح الديني هو الحل للعنف؟"، جريدة القدس العربي، يناير 14، 2016م.
http://www.alquds.co.uk/?p=465845
الخطيب معتز، تنظيم "الدولة الإسلامية": البنية الفكرية وتعقيدات الواقع، ضمن ملف مركز الجزيرة للدراسات حول: تنظيم الدولة الإسلامية؛ النشأة، والتأثير، والمستقبل، إعداد: فاطمة الصمدي)، بتاريخ 23 نوفمبر 2014م.
http://studies.aljazeera.net/ar/files/isil/2014/11/2014112355523312655.html
[1] الشيخ محمد فصل، المقال فيما بين الدين واللاهوت من اتصال عند كارل شميث، ضمن كتاب: الدين والسياسة من منظور فلسفي، إشراف: محمد المصباحي، مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود، منشورات عكاظ، 2011م، ص 140.
[2] بالنسبة إلى الخلاف الأيديولوجي، بين تنظيم الدولة والقاعدة؛ ينظر إلى ورقة شفيق شقير: "الجذور الإيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية"، ضمن ملف الجزيرة للدراسات.
[3] عبدالرحمن الحاج، "هل الإصلاح الديني هو الحل للعنف؟"، جريدة القدس العربي، يناير 14, 2016م.
http://www.alquds.co.uk/?p=465845
[4] لوريتا نابوليوني، "الدولة الإسلامية" وإعادة ترسيم حدود الشرق الأوسط، ط 1، 2015م، ص ص 72- 73 بتصرف.
5 الخطيب معتز، تنظيم "الدولة الإسلامية"؛ البنية الفكرية وتعقيدات الواقع، ضمن ملف مركز الجزيرة للدراسات حول تنظيم الدولة الإسلامية: النشأة، والتأثير، والمستقبل، إعداد: فاطمة الصمدي.
بتاريخ 23 نوفمبر 2014م.
http://studies.aljazeera.net/ar/files/isil/2014/11/2014112355523312655.htm
6 يعتبر هذا المؤلف، بمثابة المانفيستو العملي لتنظيم "داعش"، ومن على شاكلتها، إلى جانب مؤلف آخر، بعنوان: "ملّة إبراهيم ودعوة الأنبياء والمرسلين"، لأبي محمد المقدسي؛ الذي يعد بمثابة المانفيستو النظري، الذي يشكل الأيديولوجية التصورية الداعشية.