دراسة في الاستبداد العربي: تاريخ الانحطاط الثقافي وتوطّن الاستبداد (نحو نظرية كوبرنيكوس اجتماعية)
فئة : مقالات
دراسة في الاستبداد العربي*
تاريخ الانحطاط الثقافي وتوطّن الاستبداد
(نحو نظرية كوبرنيكوس اجتماعية)
في عام 1198م مات (ابن رشد)، بعد أن طرده الغوغاء من مسجد قرطبة، ونفاه الملك الموحدي إلى قرية الليسانة اليهودية بعمر السبعين. وبعد عشرين عاماً طحِنت الدولة الموحدية بجنب مدينة (ثيوداد رويال) في الأندلس في معركة العقاب في أفظع عقاب. وبعدها تهاوت الحواضر الأندلسية كورق الخريف، بالنسيا 1236م، قرطبة 1238م، وأخيراً إشبيلية عام 1248م، ومع أفول عصر الموحدين دخل العالم العربي ليل التاريخ، وأنتج إنسان ما بعد الحضارة كما في نفايات الطاقة بعد استهلاكها. وهكذا تفعل الحضارة بالإنسان، تستهلكه كمادة خام، وتصنعه إنساناً متفوقاً، ويخرج منها متبخّر الطاقة الإبداعية. يظهر بعدها على السطح إنسان يتقن التمثيل، ويؤدي كلّ الأدوار بدءاً من الصعلوك وانتهاءً بالإمبراطور. قد تبخّر عنده المثل الأعلى، ووقع في شبكة (علاقات القوة) في مجتمع فرعوني تحول إلى (مستكبرين ومستضعفين). يعيش (كالإيميبيا) على شكل كائن رخوي بدون مفاصل تحدد حركته، وبدون عمود فقري يقيم صلبه. يحلّ مشاكله بمدّ أذرع كاذبة قابلة للتشكل على أيّ صورة، فيمكن أن يأخذ صورة (قلم) يوقع كلمة نعم في كلّ انتخاب، كما يمكن أن يكون (بوقاً) مردداً ما يطلب منه من شعارات، أو (بندقية) تقوم بحفلات الإعدام حسب الأوامر، أو (سيارة) جاهزة للقيادة لمن يحكم قبضته على مقودها ولو كان لصاً يخطفها، فمتى اعترضت سيارة على هويّة السائق؟ وبتعبير مالك بن نبي عن هذا الكائن الاجتماعي: (ثم يبدأ تاريخ الانحطاط بإنسان (ما بعد الموحدين)، ففي عهد ابن خلدون استحالت القيروان قرية مغمورة بعد أن كانت في عهد الأغالبة قبة الملك وقمة الأبهة والعاصمة الكبرى التي يقطنها مليون من السكان، ولم يكن حظ بغداد وسمرقند خيراً من ذلك؛ لقد كانت أعراض الانهيار العام تشير إلى نقطة الانكسار في المنحنى البياني). تروي لنا السيرة والتاريخ واقعتين على التشكل الصحي للمجتمع أو الانحراف المرضي. أمّا الأول فهو موقف أحد الصحابة في معركة أحد وهو يفارق الحياة قائلاً: لاعذر لكم إن خُلِص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف. وأمّا الثاني فهو عقيل بن أبي طالب يواجه مصادرة الحياة الراشدية على يد البيت الأموي: (إنّ صلاتي خلف عليّ أقوم لديني، وإنّ معاشي مع معاوية أقوم لحياتي). فالتاريخ ينقل لنا هنا مأساة انفكاك الضمير عن الواقع. في الوقت الذي كان علي نموذجاً يندمج فيه الضمير مع المثل الأعلى والحياة (إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين).
إنّ حادثة السيرة تروي أقصى ما يمكن أن تفعله التربية بالإنسان والمجتمع يمكن أن يحدد بين الصحة والمرض بموجب مؤشرين: إنتاج (النموذج الإنساني) و(الكمية الحرجة) من الكتلة، كما في أي تغير نوعي في أي وسط، فالقنبلة النووية لم تنفجر إلا بكتلة حرجة، كما أنّ تغير الماء النوعي يتمّ وفق الدرجة الحرجة سواء في التجمد أو التبخر، وهذا ينطبق على اندلاع الثورات في المجتمع، عندما تصل إلى الوضع الحرج بين سوء الأوضاع من طرف، والوعي الجماهيري من طرف مقابل.
وهناك ثلاثة مستويات يمكن أن يتشكل وفقها (الإنسان الاجتماعي): ففي الأول يبرز إنسان مستلب الإرادة، والثاني محرر الإرادة، والثالث إيجابي الإرادة. فأمّا الأول فممسوخ الآدمية أقرب إلى القردة والخنازير يفعل ما يوحى إليه في مجتمع متدني الفعالية، يعبد سادته وكبراءه، يعيش حالة وثنية سياسية بأصنام وصور مشرعة. وهو ما شبهناه بشكل القلم أو البوق أو البندقية، فلا يرد القلم ما تخطه اليد من الموافقة بنعم، أو بوق يردد رجيع الصوت بدون مناقشة، أو يقوم بالجريمة بأكبر حجم لأنّ الأوامر جاءت هكذا.
إنّ إنسان ما بعد الموحدين مستعد أن يهدم الكعبة لو أمر بذلك، ولربما بكى وهو يفعلها. هذا النموذج الممسوخ يمثل الطبيعة في ظاهرة (القصور الذاتي)، فالسقوط محتم لكلّ الأشياء باتجاه الأسفل. أمّا الصعود فيحتاج إلى طاقة، وهنا تفعل التربية فعلها فترتفع بالإنسان باتجاه المثل الأعلى.
يقول مالك بن نبي: (وهنا لا نواجه تغيراً في النظام السياسي، بل إنّ التغير يصيب الإنسان ذاته الذي فقد همته المحضرة فأعجزه فقدها عن التمثل والإبداع). ويطرح عالم النفس البريطاني (هادفيلد) في كتابه (التحليل النفسي للخلق) هذا السؤال الحرج: ما هو المنبّه المناسب لتنشيط الإرادة؟ ويجيب إنّ كلّ حاسة لها مثيراتها، وهكذا فالفوتونات تحرض حاسة البصر، والذبذبات الصوتية تحرض حاسة السمع، والجزيئات الكيمياوية تحرض حاسة الشم، ولكنّ ما يحرض الإرادة هو المثل الأعلى.
ويرى المؤرخ البريطاني (توينبي) أنّ الإرادة الجماعية تحرّض عند بروز التحدي التاريخي في وجه جماعة اختارت العمل المشترك، وهو ما تفعله التربية بالقفز بالإرادة الإنسانية إلى فرق جديد في الطاقة فتتحرّر، ويؤدي الأعمال في صورة مواطن واع مشارك مسؤول، فيفعل ما يراه صحيحاً، ويمتنع عن المعصية. وهكذا يظهر إلى سطح المجتمع إنسان جديد (محرّر الإرادة)، ليس عصا للضرب بكلّ يد، أو طبلاً جاهزاً للقرع بكلّ الأنغام والرقصات، أو مسدساً جاهز الزناد لإعدام أيّ أحد، ولو كان أباه.
إنّ القرآن قرن بين ثلاثة مظاهر للمسخ في اتجاه العبودية، فذكر (القردة والخنازير وعبد الطاغوت)، ويظن البعض أنّ المسخ كان بيولوجياً، وهو ثقافي كما نرى. إنّ أول ما نزل من القرآن كان سورة العلق، وهي أكدت ثلاثة معانٍ مفصلية:
ـ الأول: تأكيد الكرامة بالقراءة (اقرأ وربك الأكرم) من خلال تغيير محتوى الوعي بالمعلومة المكتوبة بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
ـ والثاني: معالجة أشدّ مشاكل المجتمع خبثاً واستعصاءً وهو الطغيان، وأنّه قابلية مشكلة في جبلة كلّ منا إذا مُنح السلطة بدون ضوابط. ونحن نعرف أنّ سلطة قليلة تعني فساداً قليلاً، وسلطة مطلقة تعني فساداً مطلقاً.
ـ والثالث: وصفة بسيطة للتخلص من الطغيان، وهو (عدم التعاون) ورفض الطاعة، لأنّ الحساب في الآخرة فردي، ويجب أن يفكر الإنسان باستقلال ويتصرف بإرادة، وهو مسؤول عن أعماله ولو كانت مثقال حبّة من خردل. والاقتراب من الله في النهاية لا يتمّ بغير سجود فعلي، ولا سجود إلا برفض طاعة الطاغية (كلا لا تطعه واسجد واقترب).
في انتخابات أيّ بلد عربي شمولي لو جلس الناس بكلّ بساطة في بيوتهم ورفضوا النزول إلى الانتخابات فما الذي سيحصل لهم؟ إنّ الناس لا تقرأ القرآن عمّا فعل فرعون بالجماهير (واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم)، إنّ العقل معتقل، وإنّ المثقف مقطوع اللسان. وإنّ مواطناً تُقدّم له بطاقة يخيّر فيها بين (نعم) و(لا) كحق دستوري ويشعر أنه مجبر على مخالفة ضميره لمواطن مسحور.
إنّ السحر أعيد إحياؤه بعد موت هاروت وماروت بأربعة آلاف سنة. يقول مالك بن نبي عن (إنسان ما بعد الموحدين): إنّ (نفسه المريضة تخلقت في جو يشيع فيه الإفلاس الخلقي والاجتماعي والفلسفي والسياسي).
إنّ القرآن يبني فلسفته ليس على قتل الباطل، أو التآمر على النظام، ولا إشباع القلب بكراهية الحاكم أو محاولة اغتياله، فكلها اختلاطات مربكة لا تزيد المرض إلا سوءاً.
ونعود إلى فكرة النماذج:
فالأول: هو الإنسان العربي الحالي الذي طلّق إرادته ثلاثاً في بينونة كبرى، قد لبس حلّة القاصرين، وهناك من يفكر عنه بالوكالة.
والثاني: هو من تحرّرت إرادته من العبودية فرفض الطاعة.
أمّا الثالث: فهو الذي يقول قبل أن تهدموا الكعبة اقتلوني فلن أرى ما يحدث أو أسمح به. إنّ الجيوش والشعوب العربية كلها تقاد إلى الكوارث من خطامها، لأنها في حالة خدر لذيذ مغيبة الوعي عن التاريخ خارج العصر، يفعل بها الأوصياء مايشاؤون.
إنّ شحن الإرادة من السلبية المطلقة إلى الإيجابية المطلقة هو محصل تيار إلكتروني عارم من الإرادة، بدفعها باتجاه المثل الأعلى، كما يفعل الليزر بتجميع حزم الضوء باتجاه نقطة واحدة حارقة.
يروي المؤرخ ديورانت أنّ (كوبرنيكوس) اكتحلت عيناه بكتابه عن الأجرام السماوية قبل موته بساعة. ويبقى السؤال لماذا كان اكتشاف كوبرنيكوس انقلابياً إلى هذا الحد، وهو لا يزيد عن شرح من يدور حول من؟ والجواب في ثلاث زوايا: زلزلة أشدّ الأمور وثوقاً، ووجوب إعادة النظر في مفاصل أساسيات التفكير، وأنّ الإيمان يجب أن يحرّر من الدوغمائية. فالإيمان هو تقليب النظر في السموات والأرض آيات لأولي الألباب، وأنّ الكفر هو إغلاق منافذ الفهم وتكميم الأفواه عن التعبير، وأنّ الكافرين لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها.
ويفيدنا هذا الأمر اليوم في إضاءة ثلاث حقائق: إنّ الشعوب هي التي تختار أصفادها فهي إلى الأذقان فهم مقمحون. والحكام لا يزيدون عن كواكب انفصلت من جرم الشمس فهي تدور حول الأمّة، وأنّ الحاكم على دين الأمّة وليس العكس. وأنّ الكسوف الاجتماعي يتمّ عندما تكفّ إرادة الفرد عن التشكل، فيبهت كلّ شعاع، وتنضب كلّ طاقة، ويدخل المجتمع ليل التاريخ.
يقول مالك بن نبي: (وطالما ظلّ مجتمعنا عاجزاً عن تصفية هذه الوراثة السلبية التي أسقطته منذ ستة قرون، فإنّ سعيه إلى توازن جديد سيكون باطلاً عديم الجدوى)، وما يحتاجه المجتمع بالدرجة الأولى هو العلوم الأخلاقية والنفسية، أمّا العلوم المادية فقد تكون على حد تعبيره: (خطراً في مجتمع ما زالوا يجهلون فيه حقيقة أنفسهم، ومعرفة إنسان الحضارة أشقّ كثيراً من صنع محرك أو ترويض قرد على استخدام ربطة عنق).
إرادة العبودية
(في محاولة لفهم آلية الطغيان)
وصف المؤرخ (سويتون) جنازة القيصر في كتابه (حياة القياصرة الاثني عشر) (كتاب العبودية المختارة ـ اتيين دي لابواسييه ـ ترجمة مصطفى صفوان، الحاشية 38) على النحو التالي: (فلما أعلن عن موعد الجنازة نصبت المحرقة في ميدان مارس (إله الحرب) تجاه منصة الخطابة. ولما تبين أنّ اليوم كله لن يكفي لمرور الناس الذين اصطفوا حاملين قرابينهم، صدر قرار بأن يحمل كلّ من شاء قرابينه إلى ميدان مارس، واكتفى القنصل أنطونيو مارك في رثائه بأن طلب إلى أحد المنادين أن يقرأ مرسوم مجلس الشيوخ الذي أسبغ على قيصر بالإجماع كلّ التشريفات الإلهية والإنسانية، ولم يضف هو إلا كلمات قليلة. وكان البعض يرى حرقه في معبد جوبيتر والآخر في مجلس الشيوخ. وإذا برجلين تمنطق كلّ منهما بسيف وحمل بيده رمحاً يشعل فيه النار فجأة بشموع موقدة. ولم يلبث جمهور المشيعين أن كدّس حوله الحطب والمقاعد ومنصات القضاة. بعدئذ خلع لاعبو المزامير والممثلون ثياب الاحتفال بالنصر التي كانوا قد ارتدوها لهذه المناسبة وزجوا بها في النار. إلى جانب هذه المظاهر العامة التي تجلى فيها حزن الجمهور أدت الجاليات الأجنبية مراسم الحداد، كلّ جالية على حدة حسب طقوسها، وبخاصة اليهود الذين ذهبوا إلى حد التجمع حول قبره ليالي متعددة. وبعد أن انتهت الجنازة شيد له عمود من مرمر بلغ ارتفاعه عشرين قدماً، ونقش عليه: إلى أبي الوطن). والسؤال المحيّر والملحّ الذي يطرح نفسه: كيف يقفز البشر إلى هذه المنزلة من القداسة في محياهم ومماتهم؟ وحتى نعرف معنى هذا الكلام ميدانياً فليتجرأ أحد الناس فيجرب حظه علناً في شارع مكتظ بالناس فيقوم بالتعرض لمقدّس ما، ثم التعرض لرئيس الجمهورية في بلد عربي، وعندها سيرى في أيّ من الحالتين تكون قوى الأمن أسرع بإلقاء القبض عليه وإشباعه ضرباً بالسوق والأعناق، ممّا يفتح عيوننا على استيعاب أين دائرة المحرّم والمقدّس فعلاً. كيف يضع فرد قبضته على رقبة شعب بأكمله فيرسم مصيره إلى حين؟ كيف تقع الشعوب في قفص العبودية وكيف تتحرّر؟ كيف يتحول الإنسان (عملياً) إلى (إله) يملك أقدار الناس في أرزاقهم وتسريحهم من وظائفهم، في حريتهم واعتقالهم متى يشاء، في حياتهم فيدفعهم إلى الإعدام أو ساحات القتال في صورة قرابين بشرية أو سجنهم حتى الموت أو دفعهم إلى الهروب من البلد في موت من نوع جديد. كان تعبير النبي يوسف عليه السلام واضحاً أنّ فرعون هو عملياً ربّ العباد والبلاد (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن)، وبالمقابل فإنّ فرعون هتف بالناس (ماعلمت لكم من إله غيري)، وبالتالي فهو يملك القداسة والحقيقة الحقيقية النهائية المطلقة (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد). ونحن اليوم نظن أنّ فرعون هو بيبي الثاني الذي عاش في الألف الثانية قبل الميلاد، وليس كلّ من اتصف بصفاته، وبذلك نقرأ القرآن بعيون الموتى، وعلى الموتى في مناسبة موت الرؤساء.
إنّ إدراك قوانين التغيير الاجتماعي أهمّ بما لا يقارن من اكتشاف قوانين الفسيولوجيا أو أطلس المورثات والجينوم البشري. والمشكلة الخطيرة التي واجهها الأنبياء في التاريخ هي المشكلة الاجتماعية، ولعل أخطر مرض يواجه المجتمع هو في كيفية تنظيم نشاطه.
في 18 أغسطس من عام 1562م توفي شاب فرنسي هو (اتيين دي لابواسييه) عن عمر 32 سنة بعد أن ترك خلفه كتاباً صغيراً بعنوان (العبودية المختارة)، اختفى تحت لجّة التاريخ، وكان صديقه الفيلسوف (ميشيل مونتيني) هو من انتبه إلى أهمية النص، ولكن لم يتمكن من نشره لأنه كما قال: (إنّ فيه حياكة أدق وألطف من أن تخرج إلى الجو الخشن الذي اتسم به ذلك العصر الفاسد)، وفي عام 1936 تمّ إعدام الشاعر الأندلسي (فيديريكو غارسيا لوركا) في ظروف غامضة في الحرب الأهلية الإسبانية، والسؤال كيف تحكم الآلة الاجتماعية على تصفية إنسان؟ من أصدر الأوامر؟ من نفّذ واعتقل؟ من أطلق النار؟ وكيف يتمّ الإجهاز على الناس بهذه الآلة الاجتماعية من تسلسل الأوامر؟ وكيف يتحول البشر مع تتابع الهيراركية (التراتبية) إلى آلات صماء تنفّذ أفظع الأشياء بأقلّ الأوامر وبكلمة واحدة: اعدموه!.
إنّ كتاب (لابواسييه) يمثل فعلاً (سوبرنوفا) اجتماعية، فهذه الظاهرة الكوسمولوجية لها ما يشابهها في قوانين الاجتماع. وكما في الانفجار النجمي الهائل الذي يصل نوره على موجات الضوء تعبر الفضاءات الكونية فنبصرها على الأرض، فهناك ما يشبه هذا في الظواهر الاجتماعية. وعندما تنقدح الأفكار بشرر كالقصر فإنها تعبر الفضاء الثقافي في زمن يطول ويقصر على نحو متغير حسب قدرة الاستقبال عند المجتمعات، ويقدر الغور الثقافي الذي يفصل عن مكان انفجار الأفكار بمسافات عقلية وليست مكانية، فقد يولد تركي في ألمانيا ويعيش فيها ولا يعرف سوى مصنع الصلب الذي يشتغل في أفرانه، وقد يعيش إنسان في الأرجنتين بعيداً عنها بمسافة ألفي كيلومتر، ويتذوق الفلسفة الألمانية ويعرف متى دشنت ميكانيكا الكم.
وهكذا فإنّ أفكار لابواسييه غطست عبر العصور لينشر النص الكامل عام 1835م للمرّة الأولى بعد 273 سنة من وفاة صاحبها، ولكنّ هذا الانفجار المعرفي لم يصل إلى فضاء الثقافة العربية إلا بعد أربعة قرون ونصف مع نهاية القرن العشرين، على نحو باهت يكاد لا يرى بفعل كثافة قشرة الثقافة العربية ومناعتها ضدّ التغيير وغيابها عن الحضور العالمي. وهو كتاب لم يلاقِ الرواج حتى الآن ولم ينتبه إليه إلا الآحاد.
يتعجب (لابواسييه) من سقوط البشر في أصفاد العبودية، كيف يخضعون لجبروت شخص واحد يأكل ممّا يأكلون منه ويشرب ممّا يشربون؟ (فلست أبتغي شيئاً إلا أن أفهم كيف أمكن لهذا العدد من الناس من البلدان ومن الأمم أن يحتملوا أحياناً طاغية واحداً لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه. إنّه لأمر جلل حقاً، وأدعى إلى الألم منه إلى العجب أن ترى الملايين يخدمون في بؤس وقد غلت أعناقهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة أكبر، بل هم فيما يبدو قد تمّ سحرهم).
نعم إنّه السحر الجديد. عندما أراد البعض تعريف السحر قالوا إنه الشيء على غير حقيقته، وعندما وصف القرآن عمل السحرة ذكر تصورات موسى عليه السلام (خيل إليه من سحرهم أنها تسعى)، فهذا التخيل لشيء ليس له أرضية، ويتمّ من خلال اغتيال العقل بطريقة خفية ومدروسة.
إنّ الاسلام أراد تحرير الإنسان من فكرة المعجزة وامتيازات الأشخاص جميعاً في أي خانة كانوا من عائلة أو حزب أو طبقة او طائفة أو جنس، وعمد إلى كسر احتكار الكهان والسحرة والعرافين لإخراج نموذج جديد للإنسان والمجتمع، إنسان محرّر بعقل غير معتقل، ومجتمع توحيدي متجانس بدون طبقات وامتيازات.
إنّ الدين جاء لمعالجة أعقد مشكلة إنسانية، وهي تحريره من الوثنية، ولذا فإنّ موضوعه الجوهري يتصل بأكثر مشاكل المجتمع إلحاحاً، وإنّ الشرك الذي لا يغفر ولا تنفع معه طاعة، وإنّ التوحيد الذي لا تضر معه معصية هو في إعلان كلمة السواء في المجتمع، فلا يستقل أناس بامتيازات، أو أن يمسخ المجتمع بانقلابه إلى آلهة وعبيد و(مستكبرين ومستضعفين).
هذه القضية أرّقت الفلاسفة والمفكرين والسياسيين، وفي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي طرح خروتشوف هذا السؤال المحوري: كيف أمكن لفرد واحد مثل ستالين أن يتحكم بمصير أمّة؟ كيف أرسل للموت مئات الآلاف ولم يقتل واحداً بيده؟ كيف كانت نظرة سيئة منه لعضو في المكتب السياسي تجعله يرتجف هلعاً بقية حياته؟
إنّ كارثة الحكم الفردي وسيطرة النخب والعائلات والأنظمة الشمولية عرضها (الكتاب الأسود) للكاتب الفرنسي (ستيفان كورتوا Stephane Courtois ) الذي صدر في فرنسا، وكيف أنّ مائتي مليون إنسان أصبحوا ضيوفاً على الأبدية على يد حكم الطغاة. ومن هنا فإنّ قضية الشرك والتوحيد هي لبّ القضايا الاجتماعية التي يغفر كلّ ما عداها ولا يغفر ذنبها، فهي أهمّ مشكلة تواجه البشرية على الإطلاق، وبدون حلها تأسن كلّ الحياة، فالتوحيد هو أوكسجين الحياة.
واليوم يعيش الجنس البشري في صورة وثنية جديدة بطبقة امتيازات تضمّ أصناماً تحت (هبل) العالم أمريكا بقرار الفيتو في صورة شرك أكبر يعيق ولادة العدل، ومن الطاغوت الأكبر يأخذ بقية طواغيت العالم الصغار شرعيتهم. وأمام العالم ولادة جديدة باتجاه التوحيد، ليس بإضافة أصنام جديدة مصنوعة في فرانكفورت وطوكيو بتوسيع مجلس اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل بتحطيم نادي الفيتو كله وإلغاء هذا الشرك العالمي كله جملة وتفصيلاً، والعودة إلى التوحيد الذي هو خير وأبقى، بإيجاد عالم جديد متجانس يقوم على (كلمة السواء)، محرر من علاقات القوة، كما وجه تلك الدعوة رسول الإسلام إلى هرقل. ولكن من العجيب أنّ مثقفي الحداثة من الغرب والشرق كلهم صم بكم عمي عن هذه الوثنية فهم لا يعقلون.
الطبيعة البشرية والطغيان
لا يُوثق بالإنسان، لأنّ في جبلته الاستعداد للطغيان مع كلّ امتلاك، ما لم توجد ضوابط ومراقبة، ولا يعوّل عليه لأنه خلق هلوعاً جزوعاً منوعاً. وبقدر التعطش للسلطة بقدر الفراغ والنقص الداخلي عنده، والسلطة بدون مراقبة ومحاسبة تفسد، وقليل من السلطة تعني قليلاً من الفساد، وسلطة مطلقة تعني فساداً مطلقاً، وإنّ الإنسان لظلوم كفّار. وهذه الحقيقة اهتدى إليها (اتيين دي لابواسييه 1530 ـ 1562 م) قبل 440 سنة في علم الاجتماع والفلسفة السياسية: إنّه (لبؤس ما بعده بؤس أن يخضع المرء لسيّد واحد يستحيل الوثوق بطيبته مادام السوء في مقدوره متى أراد، فإن تعدّد السادة تعدّد البؤس بقدر ما نملك منهم). والقرآن يضرب المثل في هذا بين رجلين: (ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً)، وهذه الحقيقة موجودة في (الفيزياء) كما هي في علم (الاجتماع)، فإذا ضغط الغاز تحولت الكمية الهائلة منه إلى قطرات من سائل، وإذا سمح لجزيئات بسيطة من عطر أن تخرج من عنق زجاجة فعلت كما فعل جني المصباح فانتشرت في جنبات الغرفة جميعاً مهما كانت الصالة رحبة.
وكذلك في امتلاك مفاتيح القوة الاجتماعية، فأيّ شخص منا يجلس في داخله الفرعون (رمسيس الثاني) الذي حكم تسعين سنة وقتل من الناس ما لا يحصيه عدد، وتزوج عشرات النساء وأنجب أكثر من مائة طفل، وزوّر أسماء الفراعنة الذين سبقوه فمسح أسماءهم وكتب اسمه على النصب والتماثيل.
وما يضبطنا هو قانون انتشار الغازات نفسه، فكلما انفسح المجال أمامها انتشرت، وكذلك في وضع اليد على السلطان، ويمكن لأيّ فرّاش أو خادم في أيّة دائرة أن يتحول إلى فرعون بشرط واحد هو امتلاكه مفاتيح القوة بدون كوابح، ويمكن لأيّ مدير في أيّة دائرة أن ينقلب إلى طاغية يذيق الموظفين أشد البلاء والعنت بشرط واحد هو امتلاكه مفاتيح القوة بدون مراقبة ومحاسبة. ويمكن لأيّ شرطي أن يصبح ديكتاتوراً، وكلّ ما يحتاجه هو وضع يده على السلاح والجيش.
ولا يمنح الإنسان الاعتدال والمجتمع العدل إلا (المعارضة)، ولذلك كانت المعارضة شرطاً للاتزان. وهذا المرض أيّ تحول البشر إلى صنفين آلهة وعبيد أو بتعبير القرآن مستكبرين ومستضعفين هو اختلال في رافعة القوة في المجتمع، ويمكن أن يتسرب هذا المرض بجراثيمه الفكرية إلى كلّ طبقات المجتمع ومستوياته حتى في علاقة الرجل بعائلته فيعامل امرأته مثل عبدة وأولاده كرقيق، ولا يمكن لأحد أن يعترض عليه، فكلماته لا معقب لها، وإذا أراد بهم سوءاً فلا مردّ له، وما لهم من دونه من والٍ.
من هنا كانت المعارضة أساسية لإرساء العدل الاجتماعي، وهي تهب الصحة النفسية لكلّ الأطراف، وهي ضرورية للأمّة، وتصبّ في مصلحة الحاكم وتحافظ على كلّ الأطراف، ولم يكن غريباً أن أفرد القرآن سورة كاملة باسم (المؤمن).
إنها رواية عن رجل رفض السكوت على الجريمة، وكان في الظلّ يكتم إيمانه في أجواء مشبعة بالرعب ورجال الأمن والجواسيس، فشعر أنّ الأمان ليس في الصمت بل بالجهر والإعلان في اللحظة المناسبة، فقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ في هذه الرواية يبرز معنى الحكمة فليست أن يتسربل صاحبها بقميص (السرية) ليقوم بانقلاب ناجح يطيح بالحاكم في ساعة الصفر. بل النطق بالكلمة المسؤولة والصحيحة في الوقت المناسب ولو كانت مكلفة، وهي ستخرج في النهاية بضريبة أخفّ بكثير من الخرس الاجتماعي، والقرآن يسجل أنّ الله وقاه من سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب. وخُسف بالمجتمع الفرعوني في ظلمات التاريخ.
إنّ العدل مفهوم وجودي لأنه التوازن بين أطراف القوة، وهذا ينطبق على قوانين الميكانيك وتيارات النفس وحركة المجتمع. فالسيارة التي لا تملك فرامل تمشي باتجاه الحوادث، والنفس التي لا تنمي ملكة النقد الذاتي تصاب بالكبر، ولن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. والمجتمع الذي لا يوجد فيه معارضة ميت. وهو أقرب إلى عالم القبور حيث الأمن والسكون بدون أيّة حركة، وهل رأينا الأموات يقومون من قبورهم ليمارسوا نشاطاً سياسياً؟ إنهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيّان يبعثون؟ تستقيم حركة السيارة بين (دعسة البنزين) و(الفرامل)، وتعمل العضوية على ترشيد أيّة حركة من أيّ إصبع بتمرير أوامر الحركة بمنظمات خاصة في قاعدة الدماغ، وتعطلها أو عجزها يقود إلى مرض باركنسون، فيمشي الإنسان مكبّاً على وجهه مترنحاً مهتز الأوصال.
وتعيش الروح بصحة نفسية مع ممارسة النقد الذاتي، وتنضج النفس بدخول مرحلة (النفس اللوّامة) بتشغيل آليات المراجعة، بحيث تتحول إلى جهاز يعمل تلقائياً من عالم الوعي واللاوعي أكثر من صحوات غير منتظمة للضمير.
وقد انتبه الغرب إلى مؤسسات المعارضة فاعتبرها قطعة أساسية من جهاز الحكم، فالحزب الذي يصل إلى الحكم يفرمل بحزب المعارضة، فيراقبه ويعارضه إذا أخطأ، ويعصيه في المعصية ويطيعه في الطاعة، ويكشف أخطاءه، فلا تأخذه في الله لومة لائم. أمّا عندنا في العالم العربي فقد انقلبت النسب وانعكست الصورة، كمن يبني طرقات سريعة باتجاه واحد، وسيارات بدون فرامل، وعقلاً بدون نقد، ونقلاً بدون عقل. لا غرابة أن رسا مصيرنا في أسفل سافلين في استعصاء خبيث للثقافة ومواصلة في خط الانحدار في رحلة موجعة نحو القاع.
إنّ المفكر (أحمد أمين) انتبه مبكراً إلى هذه الظاهرة القاتلة في مسيرة الحضارة الإسلامية. عندما انفرد بالساحة الفكر الوثوقي الدغمائي النصوصي ممّا يذكر بظاهرة الكتبة والفريسيين التي واجهت المسيح عليه السلام في المجتمع اليهودي، وتمنى بقاء الخطين معاً يعدل كلّ منهما الآخر، وألا ينفرد بالساحة حزب المحافظين على الحزب التحرري العقلاني، والمسلمون يظنون أنهم استثناء للقانون، والله يقول فلمَ يعذبكم بذنوبكم؟ ولذا فإنهم لايستفيدون من كنوز القرآن، لأنهم يشعرون أنّ الحديث عن الآباء هو آباء قريش وليس آباءهم. عندها استقر الأمر للعقل الكسيح وطحن التيار العقلاني من المعتزلة وسواهم، بحيث أنّ التشكيك بعقيدة أيّ إنسان حتى اليوم يكفيها أن تنتسب لهذا الخط الفكري.
وهكذا فالمعتزلة والاتجاه العقلاني في خانات التفكير تمّت هرطقتهم وتحطيمهم وإفناء كلّ تراثهم العقلي من نوعية العقل الجبار (النظّام)، وبقي في الساحة عقل بدون مراجعة، ونقل بدون عقل، وسيارات تمشي بدون فرامل، وهذا هو الأساس للاستبداد السياسي. لأنها نسخة من الاستبداد الفكري، ولأنها الوجه الثاني لعملة عدم التفكير، وتوقف المراجعة وممارسة النقد الذاتي وكسر قيود التقليد والانعتاق من أفكار الآباء، ومحاولة التحرر إلى فضاء التفكير الرحب والإبداع بدون خوف ومساءلة.
إنّ الغرب بنى سيارات تمشي بتوازن بين طاقة البنزين وعزم الكوابح، وقبل ذلك أنتج عقلاً يطرح الأسئلة بدون خوف، يغرم بالمعرفة وارتياد المجهول وكسر المسلمات، وأقام مؤسسات سياسية لاعوج فيها ولا أمتاً، في توازن بين محافظين وعمال، بعد أن حطّم سلطان الجبت والطاغوت الممثلة في الكنيسة والإقطاع، وبذلك وُلد مجتمعٌ أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، محرّر إلى حد كبير من علاقات الاستضعاف والاستكبار. أمّا نحن في العالم العربي فقد كتب علينا أن نعيش في قرية يلبس أهلها لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. الإنسان العربي خائف من المستقبل، يرجف من أجهزة المخابرات، لا يأمن السلطة. وإذا أوقفه الشرطي يسأله عن رخصة السير خفق قلبه وعلت وجهه صفرة. كلّ هذا بسبب خلل رافعة القوة في المجتمع وتحوله إلى مستكبرين ومستضعفين. وكلّ هذا الاستبداد السياسي خلفه الاستبداد العقلي، ولا حرية سياسية بدون حرية عقلية وبدون حدود. أمّا نحن فنريد عقلاً محدداً بالمسطرة من عيار النانوغرام، يمشي بأجزاء من الملمتر في مقاسات مجهرية، محدد الأبعاد الفراغية، فهناك سقف للتفكير، وأمام القفز حواجز لا نهاية لها تمنع أي حصان رشيق. فهذه هي أمّ المصائب، ويبقى السؤال هل إلى خروج من سبيل؟ كيف نكسر أغلال العقل ونحرره من الأصفاد؟ تروي القصة أّنّ رجلاً طلب من النجار أن يصنع له باباً، ثم جاءه في يوم والنجار غائب، فحمل الباب وانطلق به، ولمّا عاد النجار لم يجد الباب فركض خلف الرجل فوجده يمشي به خارج البلدة. فما كان منه إلا أن بدأ يقرع الباب قائلاً افتح الباب أقول لك افتح، والسارق يحكم إغلاق الباب، وكلّ الفلاة مفتوحة بينهما.
المعرفة والسلطة
لايمكن لأمّة أن تُستعبد لولا استعدادها على نحو خفي للعبودية
يطرح (اتيين دي لابواسييه) في مقالته عن (العبودية المختارة) هذا السؤال المحير: (شيء واحد لا أدري كيف تركت الطبيعة الناس بلا قوة على الرغبة فيه وهو (الحرية) التي هي الخير الأعظم وضياعها تتبعه النكبات تترى وما يبقى بعده تفسده العبودية وتفقده رونقه). لماذا تسقط الأمم في قبضة الديكتاتورية؟ وكيف تصاب مجتمعات شتى بهذا المرض الخبيث في التاريخ بحيث يشترك في توصيفه كلٌّ من (الكواكبي) و(لابواسييه) بأقبح النعوت، أمّا الكواكبي فيصف الاستبداد في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) أنه لو كان رجلاً وأراد التعريف بنفسه لقال: (أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وعمي الضرر وخالي الذل وابني الفقر وابنتي البطالة ووطني الخراب وعشيرتي الجهالة).
وأمّا (لابواسييه) فيصف الديكتاتورية: (ما هذا يا ربّي؟ كيف نسمّي ذلك؟ أيّ رذيلة تعيسة أن نرى عدداً لا حصر لهم من الناس يحتملون السلب والنهب وضروب القسوة لا من عسكر أجنبي بل من واحد لا هو بهرقل ولا شمشون. إنّ لكل رذيلة حداً تأبى طبيعتها تجاوزه. فأيّ مسخ من مسوخ الرذيلة هذه لا يستحق حتى اسم الجبن ولا يجد كلمة تكفي قبحه، والذي تنكر الطبيعة صنعه، وتأبى اللغة تسميته؟).
نحن نعرف من علم البيولوجيا أنّ الكائنات تمرض كما تنهار الدول وتنقرض الحضارات فلا تسمع لهم ركزاً. ولكن ما هو المرض تحديداً؟ وكيف يحدث؟ هل هو بسبب هجوم عنصر خارجي أم هو تعبير عن انهيار داخلي؟ هل هو أمر طبيعي أن تخسر الشعوب حريتها؟
يقول السياسيون إنّ الطغيان يحصل بـ(تسلط الفرد) على الأمّة بسلاح الخوف، ولا يفسرون لنا كيف يمكن لبشر فرد أن ينجح في بناء آلة رعب بحجم ديناصور لاحم.
ويرى المثقفون أنّ (القوة) هي التي تقرر مصير الأمّة، فلا يمكن (لعين أن تقاوم مخرزاً) ولا لعصفور أن يواجه مسدساً، كما جاء في شعر نزار قباني ـ رحمه الله ـ، ولكنّ القرآن يعكس هذا المفهوم فيلوم الضحية وليس الجلاد، وينفرد بمصطلح (ظلم النفس) فما يقع للناس هو بما (كسبت أيديهم) وما ربك بظلام للعبيد، ويلوم (المثقف) الذي يجب أن (يبين) الأفكار للناس ولا يقعد في جيب الحاكم، ويعتبر أنّ (الأفكار) هي التي تغير المجتمع وليس تغيير الحكام، لأنّ الطغيان سوف يستبدل بطغيان أشد، وعندما خسرنا الحياة الراشدة وحكمنا السيف تغيرت سيوف كثيرة على رقابنا، ولكن الحياة الراشدة لم تعد قط. ولا يفرخ مجتمع طاغية إلا بالاستعداد الخفي، ولا تخرج الدمامل إلا في جسم منهك بمرض السكّر أو الإيدز.
وبالمقابل فإنّ تغيير الواقع يتمّ بتغيير رصيد ما بالنفوس، وإنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، والأمراض الاجتماعية في النهاية تحملها (وحدات) من الأفكار كما حملت الأمراض (الوحدات) الإمراضية من جرثوم وفيروس. ولا يمكن لطفل أن يقود جملاً لولا أنّ الطفل يحمل من الوعي ما يفقده الجمل، ولا يمكن لأمّة أن تُستعبد لولا استعدادها على نحو خفي للعبودية، ولا يمكن لدكتاتور أن يقعد على رقبة شعب واع. ولا تحط النسور إلا على الجثث. فهذا مفتاح جوهري في فهم المشاكل، ويترتب عليه أمر هام، وهو تحديد منطقة الحفر في طبقات آركيولوجيا المعرفة على حد تعبير (فوكو) الفيلسوف الفرنسي.
الغصن يتهاوى إلى الأرض في فصل الخريف بتفسخ الارتباط مع الشجرة الأم، وينفجر المرض بانهيار الجهاز المناعي، وتمرض النفس بعبادة الذات الفانية، وتتداعى الدول بالتفكك الداخلي، ولم يظهر الخرّاج الصهيوني لولا المرض العربي، وتتلاشى الحضارات من صفحة التاريخ بالانتحار الداخلي، كما ذهب إلى ذلك حجّة التاريخ (توينبي) في كتابه (دراسة التاريخ STUDY OF HISTORY).
لقد تحدّث (لابواسييه) في رسالته القيّمة عن كيفية السقوط في وهدة العبودية، فأشار إلى أربع أفكار رئيسة: (سلطان العادة) وكيف أنها تتحكم في السلوك على ثلاث مراحل، وكيفية (تغير محتويات النفس) مع الوقت وانقلاب الأوضاع لتصل إلى درجة من البؤس لا يصدقها أكثر المتشائمين؛ فالحصان البرّي يجمح براكبه، والمروّض يتباهى بسرجه ويفلسف بؤس العبودية. وأنّ (أصناف الطغاة) ثلاثة، وأخيراً أنّ المجتمعات تنساق إلى العبودية بثلاث طرق: فأمّا الطغاة فهم على أنواع، فمنهم من يمتلك الشعب عن طريق الانتخاب (المزوّر) (والبعض الآخر بقوة السلاح، والبعض الثالث بالوراثة المحصورة في سلالتهم)، وعندما يريد المقارنة بينهم يرى بعض (الاختلاف)، ولكنه لا يرى (اختياراً) بينهم، بسبب طرق الوصول إلى الحكم وأسلوبه: (فمن انتخبهم الشعب يعاملونه كأنه ثور يجب تذليله، والغزاة كأنه فريستهم، والوارثون كأنه قطيع من العبيد امتلكوه امتلاكاً طبيعياً). أمّا الوقوع في قبضة العبودية فهي بدورها ذات ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب (فهو يقيناً لاينساق إلى العبودية إلا عن أحد سبيلين إمّا مكرهاً أو مخدوعاً)، (مكرهاً) بسلاح أجنبي أو (طائفة) من مجتمعه، وأمّا (الخديعة) فكما حصل مع أهل صقلية عندما استبدلوا الرمضاء بالنار فرفعوا (ديونيسيوس) إلى سدة الحكم لإنقاذ البلد فتسمّى: (باسم القائد ثم الملك ثم الملك المطلق)، ثم ليأخذ اسم الطاغية في التاريخ (TYRAN). وأمّا (تغير السلوك التدريجي) فمن نشأ في الاستعباد يشبه من اعتاد شرب السموم فلا يؤثر فيه لدغ الثعابين، أو يشبه أهل المناطق الاسكندنافية العليا فمن ولد في الظلام لأشهر طويلة يُفاجأ بسطوع ضوء الشمس، ويظن كما يحصل لحيوان (الخلد) أنّ الظلام هو أصل الأشياء، أو كما اعتادت الشعوب العربية على (الأحكام العرفية)، فهي لا تعرف ما هي (الحالة الدستورية)، وكلّ هامش خلاص ينفحه الحاكم بما في ذلك منحة (الديموقراطية) تأخذها الشعوب على أنّها هبة تتصدّق بها يد عليا.
وكما يقول (مكيافيللي) في كتابه (الأمير) إنّ على الحاكم أن يعطيهم (الرحمة) بالقطّارة، أمّا (العذاب) فيجب أن يصب من فوق رؤسهم كالحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد، بمعنى أنّ الناس متى سقطت في فخ العبودية صعب عليها جداً الخلاص من شركه. قد يعرف الجيل الأول مرارته أمّا من ولد فيه فالأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون، اعتادوا عليه، يعتبرون أنّ نظام الحياة يمشي هكذا، كما في بطء ضربات القلب عند السلاحف أو برودة الماء عند السمك. كذلك ترى المجتمعات أنّ (الطغيان) هو من طبيعة الأشياء.
يقول (لابواسييه): (لنقل إذن إنّ ما درج الإنسان عليه وتعوّده يجري عنده بمثابة الشيء الطبيعي، ومنه كانت (العادة) أول أسباب العبودية، كشأن الجياد الشوامس تعضّ الرسن بالنواجذ في البدء ثم تلهو به أخيراً، وبعد أن كانت لا تكاد تستقر تحت السرج إذا هي الآن تتحلى برحالها وتركبها الخيلاء وهي تتبختر في دروزها، تقول إنها كانت منذ البدء ملكاً لمالكها، وإنّ آباءها عاشت كذلك، وتظن أنها ملزمة باحتمال الجور، وتضرب الأمثلة لتقتنع بهذا الالتزام، وبمرور الزمن تدعم هي نفسها امتلاك طغاتها إياها). وهنا نفهم معنى الهجرة في الإسلام، ونفهم المغزى العميق من قصة أصحاب الكهف الذين هربوا إلى كهف بارد، وضنوا بكلبهم أن يبقى في مجتمع تبخرت منه الضمانات. والمجتمعات الوثنية لا تحمل أيّة ضمانة لأيّ إنسان أو حيوان أو شيء في أيّ زمان أو مكان، أو قصة موسى وهو يعبر ببني إسرائيل البحر فانفلق فكان كلّ فرق كالطود العظيم.
إنها نفض اليد من وسط محنط ميت وإعلان ولادة مجتمع جديد. إنّ إبراهيم كان مشروع أمّة، كذلك الحال في فتية الكهف، أو عبور بني اسرائيل إلى سيناء كي تكون مدفناً جماعياً لهم لجيل كامل خلال أربعين سنة يتيهون في الأرض؛ فيخرج من أصلابهم جيل جديد لا يعرف إلا الصحراء والحرية. إنّ بني اسرائيل الذين خرجوا من أرض فرعون لا يصلحون لحمل رسالة موسى، بل لا بدّ من جيل جديد لا يعرف الطغيان، ولا يستطيع العيش في ظروف الدكتاتورية. أمراض المجتمع العربي الإسلامي هي (عشرة كاملة) يأتي في رأس القائمة (تقديس الآباء)، أو ما كرّره القرآن بتعبير إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم مهتدون، بالإضافة إلى (2) تأليه القوة، (3) واحتقار العلم، و(4) تبرئة الذات واتهام الآخرين، و(5) إجازة الغدر، و(6) الظنّ أنّ النص يغني عن الواقع أو مرض انفكاك النظرية عن الممارسة والتاريخ، و(7) الاهتمام بفضائل الجهاد بدون معرفة بشروطه، وهو الخرّاج الذي فجّر كلّ مشاكل العنف في المجتمع العربي، و(8) رفض المسلمين للديموقراطية مع أنها أقرب إلى الرشد من كلّ ما عليه واقع المسلمين السياسي اليوم، و(9) وتمكن العقل الخوارقي الأسطوري في حياتنا وانحسار العقل العلمي، و(10) الظنّ أنّ الأحكام لا تتغير بتغير الأزمان، أي كأنّ العدل لا يمكن أن ينمو أكثر فأكثر. ويتعلق المرض الأول أي (سلطان العادة) بهذه الحزمة من الأمراض كسبب أساسي في رسوخ شجرة الطغيان.
ويختصر (لابواسييه) الخلاص من الطغيان بوصفة بسيطة واضحة، ليس بقتله بل بعدم طاعته: (اعقدوا العزم ألا تخدموا لتصبحوا أحراراً، فما أسألكم مصادمته بل محض الامتناع عن مساندته، فترونه كتمثال هائل سحبت قاعدته فهوى على الأرض بقوة وزنه وحدها وانكسر). ويتكلم القرآن بالمنطق نفسه عن جدلية الطغيان بتعبير الكلمة الطيبة والخبيثة؛ فيشبه الاثنتين بشجرتين، وعلى ما يبدو فإنّ هذا يصلح تفسيراً لماذا تكبر شجرة الديكتاتورية فيصل سعفها الى أعلى من شجرة نخلة باسقة طلعها كأنه رؤوس الشياطين، ولكنه نمو يحمل إمكانية سقوطها تحت ثقلها الخاص، فهي في النهاية تجتث من فوق الأرض ما لها من قرار، وبكلّ أسف فإنّ هذه الوصفة النبوية لم يستفد منها أحد، لا الإسلاميون ولاغيرهم، بل تبنّى الجميع مذهب الخوارج في قتل الحاكم بالسيف، أو مذهب الثورة الفرنسية في فصل رأس المستبد على مقصلة. تقول الرواية إنّ الطبع يغلب التطبع، ولكنّ مشرِّع إسبرطة (ليكورج) أثبت عكس هذا بالتجربة، حيث عمد إلى تربية كلبين خرجا من بطن واحدة جعل الأول يسمن في المطابخ والثاني يجري في الحقول، حتى إذا كبرا بما فيه الكفاية جاء بهما إلى السوق ثم وضع أمامهما وعاء من الحساء بجانب أرنب وأطلق الكلبين فإذا أحدهما يلعق الوعاء كسولاً رخواً وأمّا الثاني فيضرب في البراري يلاحق الأرنب المذعور. قال ليكورج يعلق على المنظر المثير: ومع هذا فهما أخوان. إنّ التربية قد تهبط بالإنسان إلى أسفل سافلين، فتمسخ الإنسان إلى شكل القردة والخنازير، أو قد ترتفع به إلى أعلى عليّيين، فتسجد له الملائكة أجمعون. وإنّ رصيد السلطة هو من الجهل أو المعرفة، ولم يكن للشيطان سلطان على الناس إلا من اتبعه من الغاوين.
* نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، العدد الثامن، 2016، إصدارات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.