درس الفلسفة بالمغرب: مؤشرات حضور التفكير العقلاني المتحرر
فئة : مقالات
تقديم:
لا نجانب الصواب، إذا قلنا إن تكوين صورة واضحة عن التفكير العقلاني المتحرر رهين بالبحث في المرجعية الفلسفية والمرجعية البيداغوجية والديداكتيكية، بالإضافة إلى الوثائق التربوية الخاصة بتدريس مادة الفلسفة، لننهل منها ما يمكن أن تجود به علينا فيما يتعلق بمادة هذا البحث. وهنا يمكن بسط بعض التساؤلات كالتالي: هل هناك حضور للتفكير العقلاني المتحرر في مرجعيات درس الفلسفة؟ وإذا كان هناك حضور، فما طبيعته؟ وأية علاقة تجمع بين التفكير العقلاني المتحرر والقيم؟
التفكير العقلاني هو تفكير نقدي وتساؤلي متحرّر من كل سلطة إلا سلطة العقل
المطلب الأول: التفكير العقلاني المتحرر ضمن المرجعيات الفلسفية
إننا لمّا نقول إن فلانا فكر في الأمر تفكيرا؛ معناه أنه أعمل العقل فيه، ورتب بعض ما يعلم ليصل به إلى ما كان مجهولا لديه. وفكر في المشكلة؛ معناه أعمل الروية فيها ليصل إلى حلّها. والتفكير عند معظم الفلاسفة عمل عقلي عام يشمل التصور والتذكر والتخيل والحكم والتأمل، ويطلق على كل نشاط عقلي، ومنه قول ديكارت: أنا أفكر، إذن أنا موجود[1]. ويفهم من مفهوم العقلاني rationaliste- عموما- الشخص الذي يؤكد قدراته العقلية تأكيدا خاصا، ولديه إيمان غير عادي بقيمة العقل والنجاعة العقلية وأهميتها[2]. فلما تنعت ثلة من الفلاسفة بكونهم عقلانيين؛ فذاك يعني أنهم كانوا ملتزمين باستخدام العقل والحجة لتحرير الفلسفة من قيود الخرافة والدوغما.[3]
بهذا المعنى، فأن نصف شخصا بأنه ذو تفكير عقلاني؛ يعني فيما يعنيه أنه لا يتلقى ـــ على الإطلاق ـــ شيئا على أنه حق ما لم يتبين بالبداهة أنه كذلك؛ أي إنه يُخضع كل ما يتلقاه إلى النقد والتمحيص ويتجنب التعجل والتشبث بالأحكام السابقة، ولا يُدخل في أحكامه إلا ما يتمثل لعقله في وضوح وتميز، فلا يكون لديه أيّ مجال لوضعه موضع شك، هكذا تكلم ديكارت. إذن فالتفكير العقلاني هو تفكير نقدي وتساؤلي متحرّر من كل سلطة إلا سلطة العقل. وهنا قد يتساءل سائل: ماذا نعني بالمتحرّر؟ ومن ماذا سيتحرر التفكير العقلاني؟ وإن كنا قد أشرنا إلى جزء من الجواب فيما تقدم أنفا.
الجواب هو الانعتاق والتحرر من قارة المعتقدات والتصورات اليومية والقبلية، ومن قيود الخرافة والدوغما، ولعل هذا ما يميز التحرر عن الحرية، فهو فعل وممارسة بينما هي شعار وتنظير. وإذا ما انفتحنا على تاريخ الفلسفة، نجد أن سقراط لم يكف عن الإلحاح على أنه ينبغي لنا ألا نكون راضين بالهوى الشعبي أو الرأي المقبول، بل علينا أن نتابع المحاجة إلى حيث ترشدنا، ويجب استخدام العقل من أجل تحليل معتقداتنا ومفهوماتنا، ومن أجل إخضاعها للفحص النقدي؛ فالحياة التي لا تمتحن غير جديرة بالعيش. ولم يكن شعار سقراط هذا تبجحا فارغا، فقد اختار أن يذهب إلى حتفه بدل أن يتخلى عن التزامه بالتحري النقدي والممارسة الاستقلالية للعقل[4].
لذلك، فلا عجب أن يقول كانط: "فواجب على الفيلسوف أن يقوم باستخدام عقله بصورة حرة وشخصية، حيث يفكر في ذاته فلا يكون مقلدا لغيره بصورة حرفية... ولكي نمارس التفكير من ذوات أنفسنا ونتفلسف ينبغي أن نعتني بالمنهج الذي نسير عليه في استخدام عقلنا أكثر مما نعتني بالأطاريح التي سيسمح لنا ذلك المنهج بإقرارها"[5].
هنا نتساءل: هل التفكير العقلاني مدخل من مداخل الفلسفة؛ أم إن الفلسفة هي الشرط اللازم للتفكير العقلاني؟ بتعبير آخر؛ هل يكفي أن تفكر بطريقة حرة حتى تجد نفسك قد غدوت من أهل الفلسفة، أم إن قراءة الفلسفة والتعرف على فلسفة الفلاسفة هي التي تعلمك التفكير الحر، ومن ثم تُمنح جواز الفلسفة والتفلسف؟
إن المعارف لا تكفي لكي تصنع منك فيلسوفا، بل تحتاج إلى امتلاك القدرة على التفلسف؛ أي التدرب على استخدام العقل بطريقة حرة لا بطريقة تقليدية وآلية إذا جاز القول.
صحيح أن الأفكار مهمة، لكن الأهم هو إمكان التفكير، وبالتالي ضرورة تعليم التفلسف/المنهج، وتعليم الفلسفة/الأفكار. وغض الطرف عن التفلسف يُحول درس الفلسفة إلى مجرد تلقين للأفكار، فتغدو الفلسفة مجرد مقابلة أفكار بأفكار، أو أطروحات بأطروحات، والحال أن الفلسفة ليست مجرد أفكار، بل هي أسلوب في التفكير.
غير أنه إذا كان التفكير العقلاني بوصفه قدرة على استخدام العقل، وقدرة على التفلسف قد نال اهتماما جدّيا من قبل الفلاسفة، فكيف يُتعلم؟ وكيف يغدو ممارسة وفعلا؟
لا تفكير ولا تفلسف بدون المفهوم، فمجال الفلسفة هو مجال الفكر، وخصوصيتها هي الاشتغال على الأفكار وفي الأفكار من أجل توليد الأفكار وتغيير طريقة التفكير، والأفكار تلتقط بواسطة المفاهيم/ مفاهيم الفلاسفة، ومنه فالمفهوم هو قوام التفكير الفلسفي. فالفلسفة كانت، وما تزال، عملا دؤوبا وجهدا متواصلا ينساب في هدوء وسكينة إلى أعماق مفاهيمها، لتختبر متانتها وصلابتها، ولتجدد أفكارها وحمولات مفاهيمها على ساحة الفكر، عبر تتبع سيرورته وتحولاته، فكل مفهوم له سيرة ذاتية ينبغي التعرف عليها، وكل تحول يطرأ عليه عبر مساره التاريخي لا بد وأن يحمل جدة...، فأن نتتبع تاريخ المفهوم ونرصد زمن تبلوره ونتعرف دلالته الأولى، ثم التغيرات التي طرأت هذه الدلالة، بالإضافة إلى تشعباته في مجالات عدة، فهذا يعني فيما يعنيه؛ أننا نتبع منهجا تحليليا في تناولنا الفلسفي؛ أي منهجا اكتشافيا تكوينيا يبدأ من الصفر ليصل إلى شيء معين، ولعل من أهم الفلاسفة الذين وظفوا هذا المنهج ابن طفيل في قصته المشهورة "حي بن يقظان"، وديكارت. فابن طفيل يصف خطوة خطوة كيف جاء حي إلى الحياة، وكيف كانت تربيته تحت رعاية ظبيته، وبين الحيوانات التي تقطن تلك الجزيرة المهجورة، وكيف تعرف على الموت، وعلى ذاته، وعلى النار، وعلى الروح، وعلى النفس، وكيف تعلم اللغة، وتعرف على الأجرام السماوية، وعلى واجب الوجود بذاته...إلخ.
من حسنات هذا المنهج أنه يورط القارئ أثناء البحث في المعضلات الفلسفية، ويخول له في نفس الآن إمكانية الولوج إلى مختبر الفلسفة؛ حيث يقوم الفيلسوف ببناء إشكالاته ومفاهيمه وأطاريحه، هكذا يتم تعليم ونرسخ التفكير العقلاني عبر المنهج التحليلي من خلال اطلاع المتعلم على سر الصنعة الفلسفية...إلخ.
في مقابل المنهج التحليلي نجد المنهج التركيبي؛ وهو ليس منهجا اكتشافيا، وإنما هو منهج عرض الأفكار، يكتفي بسرد المعلومات والنتائج الجاهزة، وما يقع في كواليس البحث يبقى سرّا غير علني لدى صاحبه، لذا فهو لا يصلح الفكر ولا يعلم التفكير[6].
لنعد إلى المفهوم، الذي نخلص من خلاله إلى أن الفلسفة فكر مفهومي، يوظف المفاهيم، وأنه لا تفكير ولا تفلسف بدون مفاهيم؛ بيد أن المفاهيم لا تحيا خارج النصوص، فعلاقة المفهوم بالنص، كعلاقة السّمكة بالبحر، فبمجرد أن تخرج منه تلفظ أنفاسها، كذلك المفهوم. وبالتالي، فما يحافظ على المفهوم ويخصبه هو النص. ومن ثم نقول إنه لا تفكير ولا تفلسف بدون نص؛ أي أنه لا مفرّ لمن يريد أن يفكر تفكيرا عقلانيا/فلسفيا من قراءة أسلافه والولوج إلى عوالمهم، ولا أحد قادر على تجاوزهم والانحراف عنهم إلا من اشتغل عليهم وتمرس بنصوصهم، لأن الأفكار والمفاهيم لا توجد في غياهب الفكر ولا في سماء متعالية، وإنما تتجسد في خطابات ونصوص. لهذا، فمادامت الفلسفة لا تتميز عن تاريخ الفلسفة على حد قول هيغل، ومادامت الخزانة الفلسفية والذاكرة الفلسفية مادة أساسية للتفلسف، فهذا ما يعطي في نظرنا أهمية للنص الفلسفي[7].
يبدو من خلال ما سبق، أن كل من أراد أن يظفر بالتفكير العقلاني المتحرر بوصفه ممارسة عقلية ونقدية للأفكار الذائعة وللأحكام اليومية والقبلية، وتحرّرا من عبادة الأصول والخطابات السحرية والأسطورية، لا غنى له عن تصفح نصوص الفلسفة، وفحص ما يستوطن هذه النصوص من مفاهيم، وكذا تبني المنهج التحليلي في قراءة النصوص ومفاهيمها، بل وتبنيه في قراءة ما يحصل خارج فضاء التعلم، وأن يظل ملازما للمتعلم حتى ما بعد زمن التعلم.
غير أن تعلم التفكير العقلاني المتحرر بطريقة مستقلّة ليس قدرة تكتسب دفعة واحدة، بل ينبغي اكتسابها بجهد شخصي وبمساعدة مرشد قادر على توجيه هذا الجهد، وهذه هي طريقة البحث تحت إشراف أستاذ، كما نعرفها اليوم في جامعاتنا. ويمكن القول إن أية مؤسسة أكاديمية تكون قد تحققت وظيفتها الصحيحة بقدر ما تنمي عادات التفكير المستقل وروح البحث المتحرر من التحيز والهوى المؤقت، أما إذا أخفقت في تحقيق هذه المهمة، فإنها تهبط إلى مستوى التلقين، وفي الوقت ذاته يكون لهذا الإخفاق نتائج أخطر، إذ إنه حيثما يتهاوى التفكير المستقل والمتحرر، سواء بسبب الافتقار إلى الشجاعة أو انعدام النظام، تنمو تلك النباتات الشيطانية، نباتات الدعاية والسلطوية، دون أن يقف في وجهها شيء.
تبني الكفايات في درس مادة الفلسفة يساهم في التعلم الذاتي، باعتباره مدخلا مهما في بناء وترسيخ التفكير العقلاني المتحرر
هكذا، فإن قمع الفكر العقلاني/النقدي، أخطر بكثير مما يتصور معظم الناس، فبدلا من أن يخلق وحدة هدف حية في المجتمع، نراه يفرض نوعا من التجانس الراكد والقبيح على المجتمع ككل. فالتعليم، إذن، هو أن يتعلم المرء كيف يفكر بنفسه بتوجيه معلم. إذا كان التفكير العقلاني هو غاية الفلسفة بمعناها الأكاديمي، فما الذي نستهدفه من درس الفلسفة في السلك الثانوي التأهيلي؟
المطلب الثاني: التفكير العقلاني المتحرر ضمن المرجعيات التربوية
1. التفكير العقلاني المتحرر من وجهة نظر البيداغوجيا والديداكتيك
نروم هنا لفت الانتباه إلى التصور البيداغوجي والديداكتيكي الذي أسهم به مشيل طوزي في بناء درس مادة الفلسفة، ولاسيما كلامه عن الأهداف النواتية في هذا الدرس، وسنقتصر فقط على تبيان دور المفهمة في تحريك عجلة التفكير، وتحرير العقل من المعارف والتمثلات العفوية والبداهات والأحكام المسبقة، لأن المرء لا يمكنه أن يستمتع بتفكير سليم، إلا إذ تخلص من الفكر الجاهز والمعطى، ووضع مسافة نقدية إزاءه، غير أن مساهمة المفهوم في إيقاظ وصقل المهارات العقلية لا تتأتى إلا من خلال التعلم والتفكير الذاتيين، لهذا لزم أن يشارك المتعلم في بناء المفهوم.
إن الهدف النواتي الأساس الذي ننشده في درس مادة الفلسفة بالسلك الثانوي التأهيلي، هو إخراج المتعلم من الكهف؛ أي تحريره من معتقداته وأحكامه القبلية وإقحامه في عالم التفكير، عالم العقل والمعنى. ويتأسس مفهوم الهدف النواتي كما نحته ميشيل طوزي على القدرة على المفهمةConceptualisation الفلسفية لموضوعة Notion معينة، لأنه لا تفلسف بدون تعلم المفهمة، باعتبارها سيرورة ترتقي بالمتعلم من الملموس والدوكسا إلى المجرد والكلي. وكل مفهمة لموضوعة ما يتم من خلال الاشتغال على المفاهيم لغويا وتاريخيا ودلاليا...، والمقارنة بين هذه الدلالات من جهة، وبينها وبين الاستعمال العادي من جهة ثانية، وبينها وبين الاستعمال الفلسفي من جهة ثالثة، ثم وضع هذه الدلالات موضع سؤال، وبهذا العمل يلج التلميذ إلى فلك التفلسف من بابه الواسع. ولما نضع مفهوما ما، أو دلالة ما، أو تعريفا ما، أو بداهة ما، موضع سؤال؛ فهذا يعني أننا نحول إقرارا ما إلى إشكال (الأشكلة Problématisation). غير أن الإشكال الذي نبسطه يتطلب جوابا معينا، يأتي بعد فهم وتحليل ونقد وإثبات ودحض للمادة التي نفحصها، في شكل استدلال (المحاجة argumentation).[8]
صحيح أننا لم نوضح كيف تنمي الكفايات المنهجية التفكير العقلاني المتحرر، وهذا ما نتوعد القيام به الآن، بيد أننا لن نبرز قيمة الكفايات الثلاث في ذلك، بل سنقتصر على كفاية المفهمة وكيف تقود إلى التفكير العقلاني المتحرر، علما أن سيرورة بناء المفهوم هي سيرورة تفكير وتأمل وتبرير وإثبات ودحض، وما إلى ذلك من العمليات العقلية، وهذا ما سيظهر جليا في حديثنا عن سيرورة بناء المفهوم.
يميز ميشيل طوزي بين الموضوعة والمفهوم، ويقصد بالأولى "الكلمة الفكرة" وقد خضعت لبحث فلسفي، مثل موضوعة الحقيقة أو موضوعة العدالة وما إلى ذلك، بينما يقصد بالمفهوم ما ينتج عن التفكير الذي ينتقل من الموضوعة إلى مفهومها[9]. والمفهوم ليس شيئا معطى؛ أي إنه غير جاهز، بل يبنى من خلال التفكير، أو يعاد التفكير فيه في حالة ما إذا تم بناؤه فيما قبل من طرف الفيلسوف.
يقترح ميشيل طوزي مجموعة من المقاربات الديداكتيكية لبناء المفهوم، مثل المقاربة اللغوية، والمقاربة الممتدة لموضوعة في حقول متعددة، ومقاربة الموضوعة من خلال أشكلة التمثل. غير أننا نكتفي بالوقوف عند مقاربة الموضوعة من خلال أشكلة التمثل، يتم في هذه المقاربة الاشتغال على تمثلات التلاميذ بعد انبثاقها والتعبير عنها، لكن كيف يمكن الكشف عن هذه التمثلات؟ وكيف نعالجها؟
هناك طرائق عديدة للكشف عنها، ومن هذه الطرائق نذكر[10]:
1- النصوص الخيالية: حيث نطلب من التلاميذ كتابة نص قصير جدا من النوع الأسطوري أو الخرافي، الهدف منه جعلهم يفهمون أمرا ما بصدد البحث عن المفهوم. وبعد ذلك، نوضح لهم داخل مجموعات ما تحتويه نصوصهم من تصورات مفترضة عن المفهوم ودفعهم إلى نقد هذه التصورات.
2- الرسم: حيث نطلب من التلاميذ رسم صورة عن المفهوم وتقديم تفسير شفهي أو كتابي للتمثل الثاوي وراء الصورة.
3- الصورة: نختار مجموعة من الصور ونطلب من التلميذ أن يحدد الصورة التي تطابق التمثل الذي يحمله عن المفهوم. ويجب أن تُأخذ هذه الصور من حقول مختلفة: من الفلسفة والدين والعلم والأخلاق والسياسة، ونساعد التلميذ على تعريف المفهوم في مختلف هذه الحقول بناء على الصور التي مُدّ بها. وبعد ذلك، نتعرف هل تعليقات التلاميذ صحيحة أم غير صحيحة.
لما نصل إلى عدد معين من التعاريف، ندفع التلاميذ إلى تحديد التعاريف التي يظهر أنها ملائمة للمفهوم الذي نفحصه، وأيضا التعاريف التي تبدو متعارضة مع معنى المفهوم، مع تبرير ذلك. وفي الأخير تتم صياغة تعريف تركيبي بناء على التعاريف السابقة. لكن كيف تعالج تمثلات التلاميذ عن المفهوم؟
نشير إلى أن استخراج دلالات المفاهيم تواكبها عملية معالجة تمثلات التلاميذ، وتتم هذه المعالجة من خلال مواجهة التلميذ مع أقرانه؛ حيث يدخلون في نقاش يخضع لقواعد فلسفية، شريطة أن يكون التلاميذ على دراية بما أنتجه زملاؤهم. وقد تعالج بمواجهة التلميذ مع المدرس؛ حيث يطرح المدرس بعض الأسئلة الاستفزازية التي تفتح نقاشات جديدة. وقد تعالج أيضا بمواجهة التلميذ مع الفلاسفة؛ حيث تستطيع النصوص الفلسفية أن تقلق بداهة مزيفة لم يتم التساؤل بصددها من قبل.
خلاصة القول، إن هذه المواجهات تخلق صراعا سوسيوـــ معرفيا بين التلميذ وأقرانه، وبينه وبين المدرس، وبينه وبين الفلاسفة، وهذا الصراع يحدث نوعا من التساؤل الفلسفي، حيث يتم الانتقال من الرأي إلى التفكير. والهدف المتوخى من هذه المواجهات هو خلخلة الاستقرار المعرفي للتلميذ من جهة، ثم تدريب التلميذ على التفكير وإعمال العقل بطريقة ذاتية متحررة.
من هذا المنطلق، فكلما تمرس المتعلم على هذه القدرات/الكفايات، كلما روض عقله وفكره، وأعاد النظر في آرائه، بغية تفكيكها وإعادة بنائها بطريقة شخصية، مما يعني أن درس الفلسفة وفق هذه الشروط المذكورة يسمح بتنمية مهارات التحليل والمحاجة والنقد.
ولعل التمرس على الكفايات المنهجية (المفهمة والأشكلة والمحاجة) يسهم في استثمارها خارج حجرة الدرس، وبالتالي التفلسف خارج الالتزامات المدرسية ومعالجة القضايا الحياتية، حيث تصير هذه الكفايات مؤسسة لقيم نعيش بها، فتكون هذه القيم وليدة تفكير عقلاني متحرر ناتج عن عملية تحويل مهاري لهذه الكفايات من الدرس إلى الحياة.
يتعلق الأمر إذن بتنمية التفكير الذاتي، الذي يحفز المتعلم على إعادة النظر في آرائه ومحيطه، عبر تفكيك تمثلاته وإعادة بنائها بطريقة شخصية، وهذا يساعد بنصيب وافر على تطوير ملكات التفكير والحكم الذاتيين لديه عبر تمفصل سيرورات المفهمة والأشكلة والمحاجة. ذلك أن السيرورة التي تكشف عن الفعالية الذاتية للتفكير؛ أي قدرة الذات على مزاولة المساءلة والنقد ومحاولة حل المشاكل التي تعترض الفكر في ارتباطه بالحياة، تترتب عنها تنمية شخصية الفرد وتعزيز انخراطه في الحياة العملية انطلاقا من حرية إرادته ووعيه بذاته وبالعالم[11].
إننا نتوخى أن يغدو التفكير العقلاني المتحرر مراسا ذاتيا لدى المتعلم، وأن يمعن النظر في كل خطوة يقبل عليها، وأن يتعقل، وأن يفكر، وأن يفهم، وأن يشخص، وأن يفسر، وأن يؤول، وأن يفكك... إلخ، فالتفكير العقلاني المتحرر لا قيمة له، إذا لم يمارس كفعالية نقدية وإبداعية، ولا نجانب الصواب إذا قلنا إن هذه الفعالية هي التي تحرر المتعلم من عبادة الأصول وتقيه شر الخطابات السحرية والأسطورية والقيم الجاهزة، فيتخذ من التفكير العقلاني المتحرر نهجا لتأسيس القيم وتشكيل الخطابات، فيغدو وسيلة من حيث كونه يؤسس لخطابات وقيم، ويغذو قيمة القيم وغاية الغايات من حيث إن قيمة القيم مستمدة منه، مما يجعله على رأس هرم القيم.
2. التفكير العقلاني المتحرر ضمن الوثائق التربوية.
تجدر الإشارة إلى أن التفكير العقلاني المتحرر ليس له حظ من الوثائق التربوية إلا الاسم؛ حيث لم تبين معناه، ولم تفصل فيه تفصيلا، ولم تحدد سبل ترسيخه واستنباته في نفوس النشء؛ مما يعني أن طريق البحث عن التفكير العقلاني المتحرر من خلال هذه الوثائق هي طريق غير معبدة، لذلك فكلامنا عنه من خلالها هو مجرد استنطاق وتأويل وإخراج ما بعمق هذه الوثائق إلى السطح، دون التعسف عليها وتقويلها ما لم تقله.
يبدو أن التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة لسنة 2007 تضع التفكير العقلاني ضمن رهاناتها، ولعل ما يشهد على ذلك هو تأكيدها على ضرورة إعداد التلميذ لتقبل خطاب العقل ووضعه في سياق معرفي وإنساني وتاريخي، والسعي إلى ترسيخ ممارسة تفكير فلسفي نقدي، حر، مستقل ومسؤول، يستند إلى الثقافة الفلسفية، عبر إكساب التلميذ القدرة على ممارسة الأشكلة والمفهمة والمحاجة.
يُترجم التفكير العقلاني المتحرر بلغة الكفايات[12] إلى امتلاك القدرة على حسن التواجد le savoir être، والمتمثلة في قدرة التلميذ على بناء علاقات إيجابية مع ذاته والآخرين والطبيعة والعالم على قيم كونية منفتحة ومتحررة من أثقال النرجسية والمركزية الإنسانية، إضافة إلى كفاية حسن الأداء/الفعل le savoir faire؛ التي تتخذ تسمية الكفايات المنهجية.
مما يعني أن تبني الكفايات في درس مادة الفلسفة يساهم في التعلم الذاتي، باعتباره مدخلا مهما في بناء وترسيخ التفكير العقلاني المتحرر. وهذا ما سبق للمنهاج الخاص بمادة الفلسفة أن أقره من خلال تأكيده على أفضلية العمل بمفهوم الكفاية، الذي يشمل مفهومي القدرة والمهارة بمعناها المركب؛ أي إنه لا يحيل على أفعال ذرية معزولة، وإنما يحيل على قدرات ومهارات متعددة ومتصلة ومؤتلفة في بنية عقلية سلوكية أو وجدانية قابلة للتكيف مع وضعيات جديدة. انطلاقا من ذلك، سيتم تحديد أربعة أصناف من الكفايات، سيسعى المنهاج إلى إكسابها للتلميذ هي:
1- الكفايات التواصلية: التي تتخذ شكلا شفويا وكتابيا يتمثل في الإصغاء والتعبير والقراءة والكتابة.
2- الكفايات المنهجية: التي تقترن بما يسمى بالأهداف النواتية objectif noyaux المتمثلة في بناء المفاهيم الفلسفية، واستخراج الإشكالات، ومعالجتها عن طريق استدعاء أطروحات الفلاسفة بمنطقها الحجاجي والبرهاني.
3- الكفايات المعرفية والثقافية: التي تروم توسيع الأفق الفكري للمتعلم عبر تكوين ثقافة فلسفية متنوعة.
4- الكفايات القيمية: التي تنشد ترسيخ حرية التفكير والاستقلالية والحوار والاحترام المتبادل.
إلا أن السؤال الذي يثار هاهنا هو: كيف نرسخ هذه الكفايات؟ كيف تتحول إلى سلوك وممارسة؟ سبق أن أشرنا إلى أن التفكير العقلاني المتحرر لا يُتعلم دفعة واحدة، بل يتطلب تاريخا، لهذا فتبني المقاربة المنهجية في تدريس مادة الفلسفة، قطب العلوم نموذجا، كما وردت في الكتاب الأبيض يشي بأن ترسيخ التفكير العقلاني يتطلب؛ فيما يتطلبه:
أ- الملاءمة: رُتبت مجزوءات البرنامج المذكور وفقا لأفعال تعلُمية يفترض أن تلائم جدة المادة، وتناسب النمو النفسي والعقلي للمتعلم خلال مستويات السلك التأهيلي. لهذا، نكتفي في مستوى الجذوع المشتركة بتعريف التلميذ بالفلسفة والاستئناس بها، من خلال مده بمختصر لنشأة الفلسفة وتطورها وكذا كيفيات اشتغال التفكير الفلسفي، بينما نعمل في مستوى السنة الأولى باكالوريا على تدريب المتعلم على الممارسة الفلسفية اعتمادا على نصوص فلسفية أصلية. هكذا، نؤهل المتعلم في السنة الثانية باكالوريا لممارسة التفكير الفلسفي المستقل، والمتحرر، والمبدع، بمساعدة نصوص فلسفية أو معينات ديداكيتيكية أخرى.
ب- بيداغوجيا التسيير: يُفترض في إنجاز برنامج الفلسفة في هذا القطب أن يقوم المدرس بدور المسير والمسهل للتعلم، وأن يخطط وينظم درسه، وأن يوفر وسائله ويحدد للمتعلمين ما سيفعلونه ليتعلموا بأنفسهم.
ج- بيداغوجيا التشارك والتفاعل: يُفترض في إنجاز البرنامج المذكور أن يوضع المتعلمون في وضعيات تعلمية تمكنهم من تجربة فعل التفلسف، واكتساب المضامين والكفايات الفلسفية من خلال ممارستها، أو إعادة بنائها، وتجسيد قيم الفلسفة في تشاركهم للمعرفة، من إنصات واحترام وتعبير وحجاج وإقناع.
يبدو أن المقاربة المنهجية التي عرضت في الكتاب الأبيض تراعي المستوى المعرفي للمتعلمين، وهذا ما يحيل عليه مفهوم التدرج في تدريس مادة الفلسفة؛ حيث يكون الجذع المشترك لقاء أول بين المتعلم والفلسفة، يستأنس من خلاله بخطاب العقل والمساءلة، ويتعرف السياق المعرفي والإنساني والتاريخي لهذا الخطاب. وتعد السنة الأولى بكالوريا بالنسبة إلى المتعلم مرحلة التمرن والاشتغال على النصوص الفلسفية. أما السنة الثانية- باعتبارها مرحلة تتويجية للمرحلتين السابقتين- فإن المتعلم خلالها يتمرس ويتمرن على خطوات التفكير الفلسفي الأساسية من أشكلة ومحاجة ومفهمة. وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن الهدف من تدريس الفلسفة هو تحقيق استقلالية المتعلم من خلال تمكنه من كفايات ومهارات تمكنه من التفكير بكيفية سديدة، وتخوله مُساءلة البداهات.
أما التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة لسنة 2007، فتقوم على مقاربتين اثنتين هما:
1- المقاربة الفلسفية: وهي مقاربة تنبى على شقين، شق منهجي وآخر خاص بالمبادئ[13]، إلا أننا سنكتفي بالإشارة إلى الشق المنهجي، ونتحدث فيه عما يلي[14]:
أ- البناء الإشكالي: انطلاقا من وضعيات مشكلة لها علاقة مباشرة بمعيش التلميذ، حتى لا يظل الدرس الفلسفي مفصولا عن حياة المتعلم، وحسنات هذا الربط بين الفلسفة وواقع التلميذ هي أنه يحفز المتعلم على البحث والتفكير، غير أن السؤال الذي يثار هنا هو: كيف يتم البناء الإشكالي؟
تجيبنا التوجهيات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة لسنة 2007، بأن البناء الإشكالي يتم من خلال استعمال الأدوات الآتية[15]:
- الأسئلة: التي ينبغي أن تتوجه إلى المفاهيم المحورية في المجزوءة وإلى المفاهيم المجاورة؛
- التساؤل: وهو إقامة حقل استفهامي يتم فيه الربط بين الأسئلة المطروحة بشكل منتظم، ويعتبر كل تساؤل بنية من الأسئلة تسمح بخلق إشكال معين؛
- الإشكال الفلسفي: هو حصيلة عمل تأملي ينطلق من الأسئلة والاستفهامات الأولية وصولا إلى التساؤل لكي يخلص إلى صياغة قضية أو إشكال فلسفي، يأخذ منطقيا شكل مفارقة.
ب- البناء المفاهيمي: أي جعل الدرس الفلسفي درس مفهوميا، ينبني على مفاهيم، وتحليل النصوص الفلسفية من خلال المفاهيم، وهذا الأمر لا يتحقق إلا إذا تم:
- رصد التمثلات الثاوية وراء اللفظ أو المفهوم العام، وإبراز ما تحمله من مفارقات؛
- تعريف المفهوم انطلاقا من قواميس عامة ومعاجم تقنية متخصصة.
- إقامة بنيات مفاهيمية بواسطة الربط والتركيب.
لكننا نثير هنا مجموعة من الأسئلة من قبيل: كيف يتم التعرف على هذه التمثلات؟ ما هي الوسائل الديداكتيكية التي نستعين بها لإخراج هذه التمثلات من القوة إلى الفعل؟ وكيف نعالجها؟ وهل تعريف مفهوم ما من خلال قواميس ومعاجم يعد بناء؟
ج- البناء الحجاجي: القائم على استدعاء أطروحات الفلاسفة ونظرياتهم ومواقفهم واستدلالاتهم، أثناء معالجة الإشكالات وبناء المفاهيم. والفعل الحجاجي لا يكون فعلا حقيقيا إلا إذا[16]:
- وظفت الأطروحات الفلسفية، وقُورنت في ما بينها، ودُحضت أو أُثبتت؛
- استحضار الأمثلة القابلة أن تعمم والحالات الإشكالية أثناء المناقشة؛
- الاستشهاد بأقوال فلسفية أو علمية أو أدبية ذات سند.
بيد أن الملاحظة التي نسجلها هاهنا هي أن التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفية لسنة 2007 لم توضح كيف يساهم البناء المفاهيمي والحجاجي في تحقيق التعلم الذاتي وتنمية التفكير العقلاني، كما أنها لم توضح كيف يتم الانتقال من البناء المفاهيمي إلى البناء الإشكالي ومنه إلى البناء الحجاجي.
التفكير العقلاني المتحرر هو نشاط عقلي يروم التخلص من التمثلات السلبية التي تستوطن العقول، من خلال إعادة النظر فيها وتفكيكها، والحذر في إصدار الأحكام
يبقى الحديث عن الأبنية السابقة نشازا إذا تركت مفصولة عن حياة المتعلم، بمعنى ضرورة فتح درس مادة الفلسفة على واقع التلميذ، وبالتالي فالمدرس ينبغي أن يشركه في هذا البناء، وأن ينطلق من نشاط المتعلم وفعاليته وانخراطه الإيجابي حسب حاجاته وإيقاعات تعلمه، ومن أجل تحقيق ذلك؛ يجب أن يتعرف المدرس على تمثلات التلاميذ، وأن يربط مفاهيم المجزوءة بحياتهم، إذ لا قيمة للدرس الفلسفي ما لم يكن منفتحا بفكر نقدي يقظ على الواقع، والفكر الذي يقفز على الحياة اليومية مآله الغوص في الأوهام وإهمال الحياة ومحق الاستقلالية الفردية أو خنق الطاقة على الخلق والإبداع، وبالتالي فمن عوائق ممارسة التفكير أن يغفل المدرس عن إشكالات زمن المتعلمين ومكانهم، أو استشكال ما ليس بمشكل عندهم.
نؤكد أن تجنيد التلميذ بالكفايات، وربط درس مادة الفلسفة بمعيشه، من شأنه أن يحفزه على التفكير العقلاني المتحرر، لأنه يشعر أن ما يناقش وما يقال يعنيه ويهمه، إذ الكفايات تحيل من بين ما تحيل عليه؛ إلى كونها وسائل لحل وضعيات مشكلة مرتبطة بالحياة اليومية للتلميذ.
نستنتج من خلال ما سبق، أن التفكير العقلاني المتحرر هو نشاط عقلي يروم التخلص من التمثلات السلبية التي تستوطن العقول، من خلال إعادة النظر فيها وتمحيصها وتفكيكها، وأخذ الحيطة والحذر في إصدار الأحكام، ووضع كل شيء موضع تساؤل وامتحان في أفق بنائه بناء ذاتيا ينسجم وخصوصية الموضوع، بيد أن ذلك يتطلب دربة وتمرسا على قراءة نصوص الفلاسفة ومحاكاتهم في طرائق تفكيرهم وفي استخدام أدواتهم؛ فالفلاسفة هم بمثابة أساتذة، والتلاميذ يفككون إذا فكك أساتذتهم، ويحفرون إذا حفروا، ويؤولون إذا أولوا، وينتقدون إذا انتقدوا، بهذا المعنى، فالتلاميذ يتخذون من أساتذتهم، سواء كانوا فلاسفة أو غير فلاسفة، أسوة لهم.
فضلا عن ذلك، فعقد نقاشات بين المتعلمين أنفسهم، وبينهم وبين أساتذتهم، من شأنه أن يخلق صراعا ولقاحا معرفيا تكون ثماره تنوير العقل وتطهيره من الشوائب التي تحول دون إعماله بطريقة سليمة. لكن الأهم من كل هذا وذاك، هو أن هذا الاختيار التربوي البيداغوجي والديداكتيكي يجعل المتعلم على وعي تام بأن كل شيء يبنى ولا يعطى، وأنه لا بناء بدون فاعلية، ولا فاعلية بدون تعلم ذاتي. ومن ثم يغدو التعلم الذاتي جوهر التفكير العقلاني المتحرر من الأحكام المسبقة عبر تبني المساءلة النقدية للحقائق، وهنا يبرز التفكير الذاتي كتجسيد للحرية العقلية وللتأمل النقدي؛ فهو يسمح للفرد المتعلم بالتساؤل عن معنى قيمه ووجوده والمشاكل التي تطرحها حياته الشخصية والتزاماته الفردية والجماعية.[17]
خلاصات:
ختاما، يصح القول إن الإنسان كائن عاقل ومقوّم؛ أي إنه ينتج القيم ويتعقلها، ووسيلته في ذلك هي المعرفة، ومنه فالجهل لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن ينتج فيما إذا كانت القيم تحيل فقط على ما هو خير؛ أي ما هو ثمين ومفيد ونافع، بل كل ما في مقدور الجهل أن ينتجه هو الشر أو قل إنتاج "اللاقيم". ومن ثم يكون التفكير العقلاني المتحرر باعتباره تفكيرا مؤَسّسًا على معرفة وعلم هو علة إنتاج القيم، غير أن ذلك يحتاج إلى شن ثورة على الأحكام المسبقة والتمثلات السلبية واجتثاثها، والخروج عن المعتاد والمألوف، ولكن تجدر الإشارة إلى أنه ليس كل ما هو سائد ومألوف فاسد وغير صالح، إلا أن الاطمئنان إليه والتأكد من قيمته من منظور التفكير العقلاني المتحرر يتطلب إخضاعه لسلطة العقل؛ أي تحليله وتفكيكه ونقده...، ونكاد نقول بإطلاق أن هذه الفكرة لمت شمل الفلاسفة؛ أي إن فكرة إخضاع كل شيء للنقد جعلت الفلاسفة يلتفون حولها جملة وتفصيلا، باعتبار النقد هو جوهر الفلسفة. فرغم أن نتشه، مثلا، أبى أن يتفلسف وأن يفكر على منوال آبائه ورغب في التحرر من سلطتهم، إلا أنه وجد نفسه يطبق تعاليمهم ويرددها، وفي مقدمة هذه التعاليم تعاليم ديكارت وكانط، يتجلى ذلك في أن تمرده على الفلسفة/ الفلاسفة كان نتيجة قيامها على ما هو غير بديهي وواضح بلغة ديكارت، لهذا أراد أن يخرج من حجر الفلاسفة ووصايتهم، وأن يتفلسف بطريقته الخاصة، فنتشه نفسه إذن فيلسوف العقل رغم معاداته للعقل.
من هذا المنطلق، فالتفكير العقلاني المتحرر يصبح وسيلة وغاية في درس الفلسفة، فهو وسيلة من حيث إنه يُخضع كل القيم للنقد والتمحيص... ليُبقي فقط على الصالح منها، ويرغب عن الفاسد، وهو وسيلة لأن به تُبنى القيم، ويُعلِّم في نفس الآن كيف نؤسس لها، وهو غاية من جهة أن قيمة القيم مستمدة منه، ولعل هذا ما يجعله يتماهى معها؛ فيصيرا شيئا واحدا.
نظرا لهذه الحظوة التي يشغلها التفكير العقلاني المتحرر في الفلسفة بمعناها العلمي والأكاديمي، فيبدو أن منهاج مادة الفلسفة بقي وفيا لهذه الحظوة، من خلال اهتمامه ببعض المؤشرات الدالة عليه، التي تتخذ صيغا مختلفة، من قبيل: حرية التفكير، تعلم التحرر من السذاجة الفكرية، واتخاذ مسافة نقدية إزاء المعارف، تعلم ممارسة التفكير المستقل عبر المساءلة والتحليل والنقد والانعتاق من حجة السلطة ومن سلبية التلقي.[18]
من هنا يكون التفكير العقلاني المتحرر هو فضيلة الفلسفة، وينبغي على المدرس أن يرسخه لدى التلاميذ من خلال بعض الاختيارات البيداغوجية والديداكتيكية التي يراها مناسبة، ومن خلال معالجة التمثلات التي تكون حجر عثرة أمام استنباته في نفوس النشء، غير أن مهمة المدرس لا تقف عند هذا الحد، بل تتعداها إلى إقدار المتعلم على نقل التفكير العقلاني المتحرر من حجرة الدرس إلى الحياة اليومية، كي لا يبقى هذا التفكير مجرد حبر على ورق، بل ينبغي أن يغدو سلوكا وممارسة في المجتمع.
لائحة المراجع المعتمدة:
- صليبا جميل، المعجم الفلسفي، الجزء الأول، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1982
- كوتنغهام جون، العقلانية، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، حلب، الطبعة الأولى، مركز الإنماء الحضاري، 1997
- كانط ايمانويل، المنطق، ترجمة علي حرب، ضمن: مجلة الفكر العربي، العدد 48، أكتوبر 1978
- العقاد أحمد، درس الفلسفة وبيداغوجيا الكفايات، ضمن: مجلة علوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، العدد الواحد والثلاثون، سبتمبر 2006
- طوزي ميشيل وآخرون، الدراسة الفلسفية للموضوعة وللنص، ترجمة عزيز لزرق ومحمد شريكان، بدون ذكر مدينة النشر، بدون ذكر دار النشر، الطبعة الأولى، 1996
- الخطابي عزالدين، التكوين المستمر وإصلاح المنظومة التعليمية- مادة الفلسفة نموذجا-، ضمن: مجلة وليلي، المدرسة العليا للأساتذة بمكناس، العدد10، أبريل 2004
- التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي.
- بربزي عبد الله، قراءة في مؤشرات التربية على القيم في منهاج الفلسفة بالمغرب، ضمن: مجلة عالم التربية.
[1] صليبا جميل، المعجم الفلسفي، الجزء الأول، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1982، ص 317
[2] كوتنغهام جون، العقلانية، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، حلب، الطبعة الأولى، مركز الإنماء الحضاري، 1997، ص 13
[3] بهذا المعنى، فكل الفلاسفة عقلانيون بما فيهم المعادون للعقل، لأن العقل لا يتخذ صورة واحدة، بل يتخذ صورا عديدة.
[4] المرجع نفسه، ص ص 13 و14
[5] كانط إيمانويل، المنطق، ترجمة علي حرب، ضمن: مجلة الفكر العربي، العدد 48، أكتوبر 1978
- نقلا عن: سبيلا محمد وبنعبد العالي عبد السلام، التفكير الفلسفي، ضمن: سلسلة دفاتر فلسفية، دار توبقال للنشر ومطبعة النجاح الجديدة، العدد1، الطبعة الثالثة، 2008، ص 41
[6] أود أن أشير في هذا الصدد إلى ملاحظة تخصنا، هي أن بعض المشاريع الفكرية المغربية لم تكن لها امتدادات؛ حيث فقدت صلاحيتها بوفاة أصحابها، وأدلكم هنا على مشروع محمد عابد الجابري مثلا، بالإضافة إلى مشاريع أخرى لا زال أصحابها أحياء يرزقون، فهي مشاريع ربحت أتباعا ومريدين، يرددون أفكارها عن ظهر قلب، لكن تعوزهم الجرأة على نقدها وتطويرها، ويعزى ذلك في تقديرينا إلى أن أصحاب هذه المشاريع ورثوا لطلبتهم أفكارا لا منهجا للعمل، وتوريث المنهج أصعب من توريث الأفكار.
[7] كانط إيمانويل، المنطق، ترجمة علي حرب، ضمن: مجلة الفكر العربي، العدد 48، أكتوبر 1978
- نقلا عن: سبيلا محمد وبنعبد العالي عبد السلام، التفكير الفلسفي، ضمن: سلسلة دفاتر فلسفية، دار توبقال للنشر ومطبعة النجاح الجديدة، العدد1، الطبعة الثالثة، 2008، ص 9
[8] العقاد أحمد، درس الفلسفة وبيداغوجيا الكفايات، ضمن: مجلة علوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، العدد الواحد والثلاثون، سبتمبر 2006، ص 64- 67
[9] طوزي ميشيل وآخرون، الدراسة الفلسفية للموضوعة وللنص، ترجمة عزيز لزرق ومحمد شريكان، بدون ذكر مدينة النشر، بدون ذكر دار النشر، الطبعة الأولى، 1996، ص 28
[10] المرجع نفسه، ص 46
[11] الخطابي عزالدين، التكوين المستمر وإصلاح المنظومة التعليمية- مادة الفلسفة نموذجا-، ضمن: مجلة وليلي، المدرسة العليا للأساتذة بمكناس، العدد10، أبريل 2004، ص ص 14- 15
[12] الكفايات: هي القدرة على الفعل بنجاعة إزاء فئة من الوضعيات التي يتمكن المتعلم من التحكم فيها، بعدما يتوفر في الوقت نفسه على المعارف الضرورية والقدرة على تعبئتها بفعالية في الوقت المناسب، لتحديد مشكلات حقيقية وإيجاد حل لها.
[13] سبق أن تطرقنا إلى هذه المبادئ لما تحدثنا عن الكتاب الأبيض.
[14] التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مرجع مذكور، ص 9
[15] المرجع نفسه، ص 9
[16] التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مرجع مذكور، ص 10
[17] بربزي عبد الله، قراءة في مؤشرات التربية على القيم في منهاج الفلسفة بالمغرب، ضمن: مجلة عالم التربية، مرجع مذكور، ص 474
[18] بربزي عبد الله، قراءة في مؤشرات التربية على القيم في منهاج الفلسفة بالمغرب، ضمن: مجلة عالم التربية، مرجع مذكور، ص 472