دعاوى تطبيق الحدود...حجّة الإسلاميّين لبناء دولة "الخلافة"
فئة : مقالات
لا يتوقف إلحاح التيارات الدينية، الأصولية والسلفية، بتنوعاتها وتشكلاتها المختلفة، عن طرح قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، وفرض الحدود، بالإضافة إلى التشنيع وكيل الاتهامات، ضد الحكومات، والهيئات السياسية، الرسمية والحزبية، باعتبارها تعمد إلى تعطيل شرع الله، وتهميش قوانينه الملزمة، كما أقرتها آياته ونصوصه المقدسة.
وثمة دعاوى تلفيقية يغلب عليها الصراع الأيدولوجي والبراغماتي، الذي تخوضه وتتبناه التيارات الدينية، في إطار عملية تسييس "القرآن"، وتحويله إلى أداة، تنكمش داخلها عملية الهيمنة السياسية والاستيلاء على الحكم.
ومن ثم، يجري الخلط المتعمد، طوال الوقت بين الحدود في الإسلام والقوانين الوضعية، ووصف الأخيرة، بأنها تكف يد الله عن التشريع، وتعطل أحكامه، حيث تصف تلك التيارات، الأنظمة التي تخالفها بـ "حكم الطاغوت"؛ بحسب ما يندرج في أدبياتها الفكرية، وذلك في ضوء عدة اعتبارات، يجري تجاهلها وتهميشها عن عمد.
نهل الإسلام العديد من الأشكال العقابية، من التراث التشريعي للعرب، في الجاهلية، واستعار العديد من العناصر منه
ومن بين تلك الأمور، التي تحتاج إلى فض الالتباس، حول النصوص الخاصة بالحدود، والتفسيرات المتعسفة حولها؛ هو تفسيرها على ضوء شروطها التاريخية وسياقاتها المحلية، وتفاعلاتها مع الواقع والبيئة، التي اشتقت عناصرها من ضروراتها الملحة ومعطياتها، وفهم ملابساتها الاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى معرفة أسباب نزولها، وتحديد دقيق، للموقف الذي تأسس عليه الوحي، والذي أنتج المنظومة العقابية في الإسلام، حتى لا يؤدي خلاف ذلك، إلى تجميد النصوص، وتشوهها وانغلاقها، وإنتاج مقولات تتسم بالعنف وتأخذ صفة المقدس.
وبحسب ما جاء في مقدمة أسباب النزول، للإمام جلال الدين السيوطي، يقول: "إنّ بعض الآيات، لا يمكن فهمها أو معرفة أحكامها، إلا على ضوء سبب النزول"[1].
تطبيق الشريعة...فقه السياسة عند الإسلاميين
ويشير المفكر الإسلامي، خليل عبد الكريم في كتابه: "لتطبيق الشريعة... لا للحكم"، أن التفسيرات القديمة، التي فسرت الآيات الثلاث التي جاء فيها: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون- الظالمون- الفاسقون"؛ لا يقف وراءها دوافع طموح سياسي[2]، كما تعنى بذلك التيارات الدينية؛ لأنها لم تكن تقصد الحكومة الدينية، ولا تستهدف تبني نظرية الحكم بالحق الإلهي والحاكمية لله، التي صنعها المتشددون؛ من أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، إلى الظواهري وحتى أبي بكر البغدادي.
بيد أنّ من حرّف الآيات عن معانيها، عمد إلى تجاهل سياقاتها، التي كانت تدور حول "القتل" و"الرجم"، وفض النزاعات بين الأطراف، والحكم بـ"العدل"، دون أن تقترب، من مفهوم الدولة أو الحكومة، كأداوات سياسية وسلطوية للسيطرة.
وإلى ذلك، يستطرد عبد الكريم، في كتابه المذكور سلفاً، أن محاولات التيار الديني، الاستعانة بالمبدأ المشهور، في أصول الفقه، الذي يقول: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، يحمل تأويلاً غير صحيح، كما أن شرط هذا المبدأ الفقهي، متوقف في حالة وضوح اللفظ، فقط، وعدم التباسه؛ وهو أمر غير متحقق، في تلك الآيات[3].
فيما فسرت التيارات الإسلامية، "الحكم" المذكور في الآيات بأنها الحكومة وإدارة الدولة، وذلك بخلاف المعنى، الذي يتعين داخل سياق الآيات الحقيقي والواقعي، والذي يعني القضاء بين الناس، وفق الوقائع المروية في التفاسير.
وفي المفردات في غريب القرآن، يقول الراغب الأصفهاني: "الحكم بالشيء أن تقضي بأنّه كذا وليس بكذا، سواء ألزمت به غيرك أو لم تلزمه"[4].
التيارات الدينية... الحكم والطاعة أو التكفير والقتل
وتبقى إشارة مهمة، في ظل تعرية الاستخدام النفعي للآيات وتوظيفها البراغماتي والتلفيقي، لصالح الدعاية الأيديولوجية والصراع السياسي؛ وهو سلاح "التكفير"، الذي يجري عبر توظيف النص الديني، وتحكيم "الكتاب"، في وجه خصوم "الدعوة" الجدد، من السلفيين والأصوليين.
ووصل بالمفكر الإسلامي، سيد قطب، القيادي بتنظيم الإخوان المسلمين، في ستينيات القرن الماضي، وأحد منظري مفهوم الحاكمية لله؛ أن مد "تكفيره" ليشمل الحكومة والمحكومين، دون استثناء. فالشعب والمجتمع، والدولة ومؤسساتها؛ بكل أفرادها، في نظره، يقع عليهم الحكم بـ "الكفر"، لعدم الطاعة والاستجابة للحكم لله.
وفي عبارة واضحة لا تحتمل تأويلات كثيرة، ينفي صاحب معالم في الطريق، الإيمان عن عموم البشر الذين قبلوا بـ "الجاهلية"، التي تستبدل بالقوانين المادية ومؤسسات الدولة الحديثة، التي تعنى بالتشريع، القوانين الإلهية، فيقول: "فالناس في كل نظام غير إسلامي، يعبد بعضهم بعضاً في صورة من الصور، وفي المنهج الإسلامي وحده يتحرّر الناس من عبادة بعضهم لبعض، بعبادة الله وحده، والتلقي من الله وحده، والخضوع لله وحده"[5].
لكن في المقابل، توضّح كتب التفسير، كما يورد خليل عبد الكريم، في كتابه: "الجذور التاريخيّة للشريعة الإسلامية"، أنّ الكفر المذكور في القرآن: "ليس كمن كفر بالله وملائكته ورسله ولا يخرج من الملة. بحسب كبار العلماء والصحابة والتابعين".
وفي واقع الحال، هذا التزييف المقصود والتأويل المبتسر، بقدر ما يحمل رؤية تهافتيّة ونزعة انتهازية، لكنه من ناحية أخرى، يصنع حالة من التعالي، على الواقع والبشر، من خلال محاولات استدعائه للأشكال العقابية في الإسلام، واستردادها داخل زمن وبيئة مغايرة، في عناصرها وظروفها، والمطالبة بتطبيقها الفوري، أو تطويع وتهيئة الشروط لها، بهدف تمريرها وتنفيذها، طوعاً أو كراهة.
الدين وتطوّر الاجتماع الإنساني
لا يمكن التطبيق القسري لمجموعة من القوانين، مهما كان مصدرها، على جسم اجتماعي وثقافي، سيظل غير منسجم معها؛ ولا يتناسب مع ضروراتها واحتياجاتها، وطبيعة الإنتاج المادي للبشر، وتطورهم الاجتماعي والمعرفي وتفوقهم الحضاري، فهذه العوامل تستدعي قفزة تشريعية كل فترة زمنية، لتنظيم قواعد الحياة وانضباطها.
لقد اضطرت البيئة التشريعية للنص القرآني، والتي انحصرت وسائلها في التجارة والحروب، بالسيف والرمح والخيل، أن يحدد الرسول القصاص، في حد القتل، شرط أن يكون بالسيف فقط.
وذلك في حديثه النبوي: "لا قود إلا بالسيف"، فلا يجب القصاص إذا كان قتلاً إلا بالسيف"، ومن ثم يضحى ثمة مأزق تشريعيّ، أمام استحداث وسائل قتل جديدة، تحتاج الخروج على النص، في سياق المتغيرات، المرتبطة بتطور الاجتماع الإنساني.
ولئن حدد التشريع الإسلامي، قطع يد السارق وتنفيذ حد السرقة فيه، في حال كانت سرقته "ربع دينار فأكثر، وفق حديث النبي "لا تقطع يد السارق، إلا في ربع دينار"، وهو ما كان يتناسب، مع أشكال المعاملات المالية والتجارية، في ذلك الحين، فإن الاختلاس ونهب المال العامّ أو إهداره، لا يعد من المنظور الكلاسيكي الإسلامي، سرقة تستوجب الحد، وناهيك عن الفرص التي أتاحها الطب الحديث، الذي تمكن من تعويض الإنسان بأطراف صناعية، وبأسلاك ذكية لمحاكاة الأنسجة العضلية.
ارتهنت العقوبات في التاريخ القديم، بعوامل عديدة، من بينها الشروط الثقافية للمجتمعات القبلية، التي لم تكن لتفض العلاقة بين الفضاءين العام والخاص
تحكمت عدة عوامل في فترة الإسلام، حضارية وتاريخية، وتنتمي لعالم ما قبل نشوء الدولة الحديثة ومؤسساتها، في أن أوصى الرسول وفق حديث له: "ليس على العبد ولا على أهل الكتاب حدود".
ولئن لم يعد هناك عبيد في عصرنا، فإن الحدود لن تطبق على غير المسيحيين، وفق منطوق الحديث؛ إذا سرقوا مسلماً أو قتلوه، مثلاً؛ وهو ما لا يعد تخفيفا في الحكم عليهم، لكنه، تمييزا طائفي ودينيً، في الوقت الراهن، يتنافى مع قيم المواطنة والقوانين المدنية، التي يتساوى فيها كافة المواطنيين دون استثناء.
الجذور التاريخية للمنظومة العقابية في الإسلام
نهل الإسلام العديد من الأشكال العقابية، من التراث التشريعي للعرب، في الجاهلية، واستعار العديد من العناصر منه، حيث تعد فترة ما قبل البعثة المحمدية، بمثابة الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، التي لم تشتق ممارسات عقابية مغايرة، لما كان مفروضاً وسائداً؛ ومن بينها قطع يد السارق، الذي لم يختلف في الجاهلية عنه في الإسلام.
ويذكر ابن الكلبي في كتابه: "المثالب"، من قطعت أيديهم، بسبب السرقة، في فصل كامل، بعنوان "السراق"، ومنها قصة من سرقوا غزال الكعبة، في عهد عبد المطلب، جد النبي، فنفذ فيهم حد السرقة.
وأردف، المصدر ذاته، أنّ الوليد بن المغيرة، أحد حكام العرب من سادات قريش، هو أوّل من طبق حد السرقة، على عمرو بن مخزوم، الذي سرق إبل عمه[6].
ويوضح ابن الكلبي أنّ تحريم الزنا وحد عقوبته القتل، كان مفروضاً في الجزيرة العربية، قبل الإسلام، وهو ما يطعن في الصورة الذهنية التقليدية، عن فترة الجاهلية، التي كانت تعيش بدون انضباط أخلاقي، وفي انفلات تام.
لكن، قصة بيعة هند بنت أبي سفيان، ودخولها الإسلام، تنفي تلك الصورة، أو بالأحرى، تضيف مساحة جديدة وعناصر تكتمل بها الصورة، على نحو أدق.
ففي بيعتها للرسول، قال لها: "ولا يزنين"، فقالت له: "أوتزني الحرة، لقد كنا نستحي من ذلك في الجاهلية، فكيف في الإسلام؟"[7].
وعن أول من طبق حد الرجم، من العرب، قال ابن الكلبيّ أنّه ربيعة الأسدي، حيث كانت امرأة من قبيلة أسد قد أحبت رجلاً، وهربت إليه، وضبطها أحد أبنائها، وأخبر الأسدي فأمر برجمها.[8].
آليات العقاب قبل الإسلام وفلسفته
كانت قبائل مثل الأوس، تجلد من يتهم بالسب، وفرضت عقوبة ماعرف في الإسلام بحد الحرابة، على من يقطع الطريق؛ فصلب في الجاهلية النعمان، رجلاً من بني عبد مناف؛ لأنه كان يقطع الطريق، وذلك، وفق ما يذكر الدكتور جواد علي، في كتابه: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"[9].
لقد ارتهنت العقوبات في التاريخ القديم، بعوامل عديدة، من بينها الشروط الثقافية للمجتمعات القبلية، في ذلك التاريخ، التي لم تكن لتفض العلاقة بين الفضاءين العام والخاص، وتضع حدوداً فاصلة بينهما، كما هو واقع الحال، في الأزمنة الحديثة، التي يحدّد فيها القانون والتشريعات المدنية.
وتصنيف الأمور التي تدخل ضمن نطاق الخصوصية الفردية، يشكل ضمانة لإرادة الفرد، حتى لا تنسحق تحت وطأة الطاعة المطلقة، للسلطة الأبوية، وتمثلاتها المختلفة، في رأس القبيلة وشيخها أو الحاكم والأمة، إلى أن تنتهي عند المقدس لديهم، كما في التاريخ القديم.
ومن ثمّ، كانت تلك الصلات العضوية، تتحكم في تكريس نزعة خوف غريزي وبدائي، من شيوع الفساد واقتراف الذنوب والمعاصي، التي تعرضهم لانتقام (الآلهة)؛ فيما أضحت العقوبات التأديبية، بمثابة طقوس تطهيرية، وفدية للتخلص ممن يسكنهم الشيطان والدنس، فأخذت عناصرها، تقوم على البتر وفصل الأعضاء/ الأفراد، غير "الطاهرة"، عبر القتل والقطع والرجم، وذلك لضمان الطهارة والخلاص لباقي أفراد المجتمع /القبيلة.
أئمة الصحوة الإسلامية... معالم في طريق الدولة الدينية
لطالما تفاوتت الأصوات الداعية إلى تطبيق الحدود، ونبرتها التي تراوحت، بين الصخب والهدوء والحدة واللين، بيد أن المتغير في تلك المواقف، لا يتوقف فقط، على مدى راديكالية تلك التيارات، وموقفها العقائدي، بقدر ما تتحكم فيه رؤيتها للحالة السياسية، التي تظفر داخلها بمساحة تفك عنها القيود والانحسار، وتتمدد على تخومها وتتوغل في عمقها، فتحشد دعايتها السياسية والأيدولوجية، للحصول على أكبر شرعية، وحاضنة اجتماعية، مثلما كان الحال، عقب ثورة الخامس والعشرين، من كانون الثاني (يناير) 2011.
وقد خرج أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة، يحرض المصريين، إبان اندلاع الربيع العربي، على تطبيق الشريعة الإسلامية؛ لأن "أهم التحديات على المستوى الداخلي، هو الإصلاح التشريعي والقضائي، ومن أهم الإصلاحات التشريعية المطلوبة، تعديل المادة الثانية من الدستور، حيث تنص على أن أحكام الشريعة الإسلامية، هي مصدر التشريع، ويبطل كل ما يخالفها من مواد الدستور والقانون". بحسب ما جاء في نص حديثه.[10]
وتجلت أحد أعراض تلك الحالة في مواقف التيار السلفي، والتي أخذت أشكالاً عديدة وسياقات متنوعة، أثارت إشكاليات وردود فعل جدلية مختلفة، كان أبرزها عدم الوقوف لتحية العلم المصري، في مناسبات وطنية، ومحاولة تعطيل جلسات البرلمان المصري، في عام حكم الإخوان المسلمين، لأداء شعائر الصلاة، والإعلان عمّا عرف بـ "جمعة قندهار"؛ التي حشد فيها السلفيون أنفسهم، في ميدان التحرير، وسط القاهرة، في مظاهرة علنية، طالبوا فيها بدستور إسلامي، وتطبيق فوري للشريعة وتحكيم كتاب الله وإعلان "أمير المؤمنين".
توحش الإسلاميين
وفي إطار هذا الموقف النفعي والانتهازي، يمكن الإشارة إلى موقف الدكتور فرج فودة في كتابه: "الحقيقة الغائبة"، عندما قال "تطبيق الشريعة الإسلامية في مفهوم الإسلاميين، وسيلة لغاية أساسية، وهي إقامة الدولة الإسلامية، كما أنها تمثل حلقة الربط بين مفهوم الإسلام الدين، ومفهوم الإسلام الدولة؛ فهي ليست ربطاً بين مفهومين مختلفين، بل تأكيداً على أنهما وجهان لعملة واحدة - في رأيهم - وهي صحيح الإسلام. وهنا ينتقل النقاش إلى ساحة جديدة، هي ساحته الحقيقة، وهي ساحة السياسة الواقعية".[11]
وقد اعتبر الدكتور محمد فياض، مدرس التاريخ الإسلامي بجامعة طنطا، أن الاتجاهات الحديثة في التأويل، لم تعد تعتمد مفهوم بتر يد السارق، بمعنى القطع، بل وضعت تفسيرات أخرى، ترجح شج ظاهر اليد، فتتعرف على السارق حتى تتقي شره[12].
وأوضح، أن أشكال وصيغ العقوبات في الإسلام، صاغتها بيئة ثقافية ومجتمعية، باتت مختلفة في سياقاتها وواقعها عن الظرف الراهن في كل أبعاده ومعطياته، فيما اعتبرها باتت أقرب لفكرة مفلسة، لا تتماشى مع الواقع الآني، بظروفه الاقتصادية وتعقيداته الاجتماعية، وإن استدعاء "الدواعش"، لهذه المنظومة العقابية، وتطبيقها بهذا التوحش، يحض على إعادة النظر فيها والكف عن الدعاية ونسف صورتها التقليدية، المنقولة حرفياً من كتب التراث الإسلامي، وثمة صور عقابية، أكثر كارثية، حدثت على مر التاريخ الإسلامي؛ مثل، التسمير والسلخ والحشو والخزوقة، لا يجوز الحديث عن صلاحيتها اليوم، بأيّ حال من الأحوال.
دعاة الإسلام السياسي يتناسون القيم الكبرى، في الإسلام، ويروجون فقط لآليات الحدود والعقاب
كيف تحولت الشريعة إلى أدوات قمع المخالفين
ويشير مدرس التاريخ الإسلامي بجامعة طنطا، أن المنظومة العقابية تحولت فيما بعد، إلى كونها آلية لإرهاب وقمع المفكرين والمعارضين والمتصوفة، مثل، ابن المقفع الذي قتل، بل وتم استلهام وسائل عقابية أخرى، ارتبطت بتراث المسيحية، كصلب الحلاج، في مرحلة متأخرة بعد ذلك.
لعبت السياسة وصراع العروش ووراثة الحكم، دوراً في تثبيت صيغ العقاب، القائمة على تشويه الجسد، وبتر أعضائه، وسمل العيون، وغيرها، والتي كانت جزءاً من معادلة السياسة والحكم، والظفر بالسلطة، في الامبراطوريات القديمة، وتحديداً الإمبراطورية البيزنطية؛ حيث كان يعمد الحاكم الجديد، في أحيان عديدة، إلى تشويه الورثة الآخرين، بغية منع إمكانية المطالبة بوراثة العرش، وفي ذلك، نجد صدى بشكل غير مباشر، في الفقه الإسلامي، الذي وضع شروطاً جسدية، للحاكم الإسلامي، أبرزها سلامة الأعضاء من التشويه. بحسب فياض.
وأردف فياض: "تحكمت عناصر السلطة الأبوية في التاريخ، فتوارث تصوراتها القديمة، والتي استلهمتها من شيخ القبيلة والخليفة والقاضي والمحتسب، في تحديد المنظومة العقابية وشروطها وتشكيلها، وهو ما أدى إلى تآكل مساحة الحرية والتنوع، لصالح رؤية سلطوية وقمعية. وأبرز صورها في الإسلام حديث "الفرقة الناجية"، الذي احتكرته السلطة وفقهائها، لسحق المعارضة والفرق ذات الآراء المخالفة، وتوظيفه لتصفية وتطهير المجتمع الإسلامي من الجماعات الفكرية، أو بحسب التعبير التراثي من "تلبيس إبليس". وأخيراً، كان ذلك بابا مهمّا لتطبيق فكرة العقوبة، بالقتل والنفي والتعذيب باستغلال وتوظيف المقدس".[13]
وإلى ذلك، يقول الدكتور أحمد سالم، رئيس قسم الفلسفة بجامعة طنطا، تعتبر قضية تطبيق الحدود أو مايعرف بتطبيق شرع الله، أمراً جوهرياً، لدى معظم حركات الإسلام السياسي، وعليه فهم يكفرون معظم الدول والأنظمة السياسية، التي لاتطبق شرع الله، وإذا وضعنا في الاعتبار، أن آيات التشريع في القرآن، لاتتجاوز مئة وخمسين آية، معظمها يتعلق بالمواريث والأحوال الشخصية؛ فإن آيات الحدود وهي قليلة، وتتعلق بالزنا والسرقة وشرب الخمر، ويشترط الفقه الإسلامي، وجود أربعة شهود في قضية مثل الزنا، بما يعني استحالة التطبيق[14].
محنة الإسلاميين في العصر الحديث
وممّا يقوله الباحث أحمد سالم: "القانون الوضعي يكون أكثر فاعلية في العقاب، في هذه الحالات، لكن المشكلة أن تيارات الإسلام السياسي، تضع القضية نصب أعينها، رغم بساطة القضية ومحدوديتها، كما توسع من دائرتها على حساب القضايا الأساسية المطروحة، في النص القرآني، وهي قضايا العقيدة والتوحيد، فيما يتناسى هؤلاء أهمية تحقيق العدل، ومصلحة الشعوب، بما يعني الاهتمام بالقضايا الثانوية، وهي الحدود، وتناسي القضايا الجوهريّة، في رسالة الإسلام، وتلك محنة دعاة الإسلام السياسي، في العصر الحديث".[15]
"دعاة الإسلام السياسي يتناسون القيم الكبرى، في الإسلام، مثل: الحق والعدل والإحسان والمصلحة والخير، والدعوة إليهم وترسيخهم بالحسنى، ويروجون فقط لآليات الحدود والعقاب، وكأن الإسلام بالنسبة إليهم ديانة ترهيب وعقاب، وليست ديانة للترغيب، فيصورون تعاليم الله، على أنها آليات للعقاب، وليس طريقا للهداية والمحبة، وتلك آفات كبرى في خطاب الإسلام السياسي". يقول سالم.[16]
بيد أن ما يتصل بتاريخية الحدود، وارتباطها بزمن حدوثها والبيئة التشريعية، السابقة عليها، ومؤثرات ذلك عليها من ناحية نسبيتها وكونها حدث في التاريخ، حمل ظروف وتفاعلات خاصة، يمكن تعطيلها والاستعانة بغيرها، طالما تبددت الأسباب والشروط التاريخية لذلك، يقول أستاذ الفلسفة: "تتسم الحدود بعلاقتها الوثيقة بالأفق التاريخي، السائد في الأديان، في تلك الفترة التاريخية؛ فالرجم كان موجودا في اليهودية كما أن التشريع، في مسألة الحدود، قد ارتبط بالأفق التاريخى للبيئة البدوية الصحراوية، ومن ثم، يمكن القول بتاريخية التشريع، في تلك الفترة؛ بدليل أن الصحابي عمر بن الخطاب، أوقف العمل بحد السرقة في عام الرمادة لعدم تحقق الشرط التاريخي لتوقيع العقوبة، كما أوقف العمل بسهم المؤلفة قلوبهم، وهو نص قرآني، كما هو معروف، بعد أن أضحى الإسلام قوياً؛ وقال: "كنا نمنحهم يوم أن كان الإسلام ضعيفاً، ولسنا في حاجة لذلك".
[1] كتاب لباب النقول في أسباب النزول. جلال الدين أبي عبد الرحمن السيوطي. مؤسسة الكتب الثقافية. بيروت-لبنان. الطبعة الأولى 2002. ص 7
[2] كتاب لتطبيق الشريعة... لا للحكم. خليل عبد الكريم. كتاب الأهالي. القاهرة. ص 23
[3] نفس المرجع. ص 17
[4] المفردات في غريب القرآن. أبو القاسم الحسين بن محمد (الراغب الأصفهانى). دار القلم، دمشق، بيروت. ص 292
[5] معالم في الطريق. سيد قطب. دار الشروق. القاهرة. الطبعة السادسة 1997، ص 8
[6] مثالب العرب. هشام الكلبي. الطبعة الأولى. دار الهدى. بيروت/لبنان. ص 28
[7] نفس المرجع. ص 37
[8] نفس المرجع.
[9] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. د. جواد علي. دار الساقي. الطبعة الرابعة. ص 608
[10] فيديو مصور لأيمن الظواهري. http://ftp.elaphjournal.com/Web/news/2011/5/656693.html
[11] الحقيقة الغائبة. د.فرج فودة. دار الفكر للنشر والتوزيع. القاهرة. الطبعة الأولى. ص 4
[12] حديث مع الدكتور محمد فياض، وورد في سياق حوار معه تم تسجيله معه أثناء إعداد المادة.
[13] حديث مع الدكتور محمد فياض، وورد في سياق حوار معه تم تسجيله معه أثناء إعداد المادة.
[14] حديث مع الدكتور أحمد سالم، وورد في سياق حوار معه تم تسجيله معه أثناء إعداد المادة.
[15] حديث مع الدكتور أحمد سالم، وورد في سياق حوار معه تم تسجيله معه أثناء إعداد المادة.
[16] حديث مع الدكتور أحمد سالم، وورد في سياق حوار معه تم تسجيله معه أثناء إعداد المادة.
* ما ورد عن الدكتور أحمد سالم والدكتور محمد فيّاض، هو نتاج حوار وأسئلة طرحها الكاتب عليّهما أثناء إعداد المادة، ولم يسبق نشرها، ومن ثمّ، فهي خاصة، وحصرية بالنص المقدّم.