دعوة إلى الفقه التجريبي


فئة :  مقالات

دعوة إلى الفقه التجريبي

دعوة إلى الفقه التجريبي

لقد أحرزت العلوم الإنسانية تقدّماً كبيراً جعل منها مرجعاً لا يستغنى عنه في حياتنا، بل صارت هذه العلوم مرشداً لا يستغنى عنه في استراتيجيات السياسة والاقتصاد وغيرها من ميادين الحياة.

إلا أن اهتمام علمائنا بهذه العلوم مازال دون الحد المطلوب، ولهذا دعونا فقهاءنا إلى الاستفادة من طرائق التقييم التي تسلكها هذه العلوم في تقييم نتائج البحوث والتجارب، وهي طرائق يمكن أن تفيد في تقييم الأحكام الفقهية والفتاوى بعد فترة من صدورها، للتأكد من أنها قد حققت فعلاً الأغراض التي صدرت من أجلها، وهذا ما نصطلح على وصفه بـ (الفقه التجريبي) فكما تخضع العلوم الإنسانية للمنهج التجريبي لاختبار مصداقيتها، فقد آن الأوان أن نضع منهجاً تجريبياً للأحكام الفقهية والفتاوى نستطيع من خلاله اختبار كفاءة هذه الأحكام والفتاوى في حل المشكلات التي صدرت من أجلها؛ ذلك أن الحكم الشرعي والفتوى جهد بشري قد يصيب وقد يخطئ، وعملية التقييم هي التي تبين مدى نجاح عملية أو فشلنا الاجتهاد.

أدلة الفقه التجريبي:

مستندنا في الدعوة إلى (فقه تجريبي) هو ما يعرف في علم الأصول بـ "مآلات الأفعال" أي (النظرُ فيما يمكنُ أنْ تؤولَ إليه الأفعالُ والتصرفاتُ والتكاليفُ موضوعَ الاجتهادِ والإفتاءِ والتوجيهِ، وإدخالُ ذلكَ في الحسبانِ عندَ الحُكْمِ والفتوى)[1] والمآلات أصل شرعي معتبر عند علماء الأصول والفقهاء، فإن (النظر في مآلاتِ الأفعالِ معتبرٌ مقصودٌ شرعاً، كانت الأفعالُ موافقةً أو مخالفةً، وذلك أنَّ المجتهدَ لا يَحْكُمُ على فعلٍ من الأفعالِ الصادرةِ عن المكلفين بالإقدامِ أو بالإحجامِ إلا بعدَ نَظَرِهِ إلى ما يَؤول إليهِ ذلكَ الفعلُ، فقد يكونُ مشروعاً لمصلحةٍ فيهِ تُسْتَجْلَبُ أو لِمَفْسَدَةٍ تُدْرأُ، ولكنْ لَهُ مآلٌ على خلافِ ما قُصَدَ فيهِ، وقد يكونُ غيرَ مشروعٍ لمفسدةٍ تنشأ عنهُ أو مصلحةٍ تندفعُ بِهِ، ولكنْ لَهُ مآلٌ على خلافِ ذلكَ)[2].

وبناء على هذا الأصل، ينبغي للمجتهد أن ينظر في مآل فتواه قبل أن يصدرها، وقد كان هذا هو ديدن المجتهدين، إلا أن النظر في المآلات كان يعتمد على بصيرة المجتهد وتقديره الشخصي لما يمكن أن تؤول إليه فتواه، من مصالح أو مفاسد. أما اليوم، فقد توافرت لدينا وسائل رصد عديدة يمكن أن تساعدنا في تقدير مآلات الحكم تقديراً يقوم على أسس علمية وإحصائية قوية يمكن الاعتماد عليها والوثوق بها، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الدراسات الاجتماعية الميدانية التي أصبحت وسيلة لا يستغنى عنها في رصد الظواهر الاجتماعية وفهمها، ووضع الخطط الكفيلة بالتعامل معها بكفاءة عالية، ومن هنا وجدنا أن معطيات العلوم الإنسانية يمكن أن تساعد الفقيه في التعامل مه المسألة موضوع الاجتهاد، مما يجعل فتواه أكثر كفاءة في حل المسألة.

وسائل الفقه التجريبي:

يمكن للفقه المقترح أن يستفيد من وسائل العلوم الإنسانية الحديثة، منها:

1. الإحصائيات (Statistics) التي أصبحت اليوم مرجعاً ومستنداً علمياً لا غنى عنه في مختلف البحوث والدراسات والعلوم، لما توفره الإحصائيات من معلومات رقمية دقيقة تساعدنا في تحديد حجم الظاهرة موضوع البحث، وتبين بالأرقام والبيانات والرسوم والجداول مختلف العوامل التي تتعلق بالظاهرة، ومقدار تأثير كل عامل من هذه العوامل في تشكيل الظاهرة، كما تظهر الإحصائيات مقدار التغير الذي طرأ على الظاهرة خلال فترة الرصد، وهكذا يتمكن الفقيه بواسطة الإحصائيات أن يحيط بالظاهرة إحاطة دقيقة قبل إصدار فتواه فيها، كما أن الإحصائيات تساعد الفقيه في تقييم فتواه بعد فترة مناسبة من صدورها؛ وذلك بالرصد الإحصائي الدقيق لنتائج الفتوى على أرض الواقع، وهذا ما سوف نبينه بالمثال الذي نذكره بعد قليل.

2. الاستبيانات (Questionnaires) واستطلاعات الرأي (Public Opinion) وهي وسائل رصد ميدانية، تصمم بحسب الظاهرة التي نود رصدها، وهي تفيدنا في التعرف على اتجاهات الرأي في المجتمع حول القضايا الاجتماعية التي نود إصدار فتوى بشأنها، مما يساعد الفقيه بإصدار فتاوى تكون أكثر مواءمة لحال المجتمع وتطلعاته، لأن بعض الأحكام قد تكون ملائمة لمجتمع دون مجتمع، ولا نستبعد أن يكون الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قد أجرى استطلاعاً من هذا القبيل ـ ضمن وسائل عصره ـ حين انتقل إلى مصر وخرج باجتهادات جديدة تختلف عن بعض الاجتهادات التي قال بها في المجتمعات التي عاش فيها قبل مصر، وهذا لا يعني أن تكون فتاوانا فتاوى حسب الطلب، كما قد يتبادر للوهلة الأولى، ولا يعني إصدار فتاوى تساير أهواء الناس، لكنها تعني معرفة هموم الناس واحتياجاتهم الفعلية من خلال الرصد الميداني لواقعهم، وإلا كانت فتاوانا في واد وهموم الناس في واد آخر!

3. التغذية الراجعة (Feedback): وتعني جمع المعلومات عن نتائج الفتوى بعد فترة مناسبة من الظاهرة موضوع البحث، وإرسالها إلى جهة الاختصاص التي تتولى تحليلها، وتحديد العوامل والأسباب والمؤشرات المختلفة التي تتعلق بالظاهرة، ومن ثم استخلاص النتائج التي تفيد في التعامل مع الظاهرة تعاملاً مبنياً على قاعدة قوية من المعلومات الدقيقة الموثوقة.

إن هذه الوسائل الحديثة في الرصد والتقييم والمتابعة والمراجعة تنطوي على فوائد جمة في مختلف الدراسات الإنسانية، ولم يعد ثمة غنى عنها في أية دراسة جادة للظواهر الاجتماعية المختلفة قبل وضع الخطط والبرامج والحلول لها، وهذه الوسائل يمكن أن تساعد الفقيه في أمرين:

1. بيان طبيعة المشكلة وتحديد حجمها، مما ينير للفقيه جوانب المشكلة المختلفة، ويظهر له الصورة كاملة، ويعينه على رؤية أفضل للواقع، ويجعل اجتهاده وأحكامه أو فتواه أكفأ في معالجة مشكلات الواقع.

2. تقييم نتائج الاجتهاد أو مآل الفتوى، ليعرف المجتهد ما إذا حقق اجتهاده الأهداف التي توخاها أم لا؟

ونعتقد أن هذا الأسلوب في تقييم عملية الاجتهاد والفتوى أجدى بكثير مما جرى عليه العرف على مدار تاريخنا الفقهي حتى اليوم، إذ كانت الفتوى ـ ومازالت ـ تصدر عن الفقيه ثم لا يلتفت إلى نتائجها، أو مآلها، ولا ريب أن فقهاءنا قديماً معذورون في ذلك المسلك؛ لأنهم كانوا يجتهدون ضمن معطيات عصورهم التي لم تعرف مثل هذه الأساليب الحديثة في الرصد والتقييم والمراجعة والتقويم. أما نحن، فلم يعد لنا عذر اليوم في تجاهل هذه الأساليب التي أثبتت كفاءتها وفوائدها الجمة في بيان أبعاد المشكلة المعروضة للاجتهاد، وفي تقييم نتائج الفتوى ومآلها بعد ذلك، ولكي نبين الأهمية العملية لهذه الأساليب الحديثة في عملية الاجتهاد والإفتاء نضرب مثلاً من واقعنا المعاصر:

مثال على تطبيق الفقه التجريبي:

* زواج المسيار: ظهر في بعض البلدان الإسلامية في السنوات الأخيرة ـ تحت ضغط بعض الظروف الاجتماعية ـ شكل جديد من أشكال الزواج عرف باسم (زواج المِسْيـار)، وهو زواج تتوافر فيه أركان الزواج الشرعي المتعارف عليها عند جمهور الفقهاء، لكنه يتضمن بعض الشروط الإضافية، مثل تنازل المرأة عن بعض حقوقها (المسكن، النفقة، المبيت..) لكن لم تمض سنوات قليلة على الفتوى بإباحة هذا الشكل من الزواج حتى بدأت قاعات المحاكم تغصُّ بالقضايا الشائكة الناجمة عنه، ولا سيما بعد إنجاب الأولاد، وتبرم أسرة المرأة من زيادة الأعباء عليهم، واستغلال بعض الرجال لهذا الزواج لإشباع نزواتهم، باعتباره لا يكلفهم الكثير، واستغلال بعض النساء هذا الزواج لجمع المال والمتعة الجنسية، وظهور الكثير من المؤسسات التجارية التي راحت تتاجر بالأعراض تحت غطاء هذا الزواج، وغير ذلك من المفاسد التي نجمت عنه، حتى كاد هذا الزواج يصبح زواج شهوة ومتعة، لا زواج سكينة وعائلة وأولاد (!)

والشاهد هنا .. أن هذه القضايا وهذه الظواهر السلبية على كثرتها لم تغير من الموقف الفقهي شيئاً، بل ظل كثير من الفقهاء يفتون بإباحة زواج المسيار، بحجة توافر أركان الزواج الشرعي فيه، ونعتقد أن هؤلاء الفقهاء لو احتكموا إلى الإحصائيات والدراسات الاجتماعية الميدانية، التي تبين ما ترتب على هذا الزواج من مصالح ومفاسد، لعَدَلوا عن إباحته أو على أقل تقدير لقالوا بتعديل بعض شروطه ليكون أقرب إلى تحقيق المصالح التي أباحوه من أجلها، وأبعد عن المفاسد التي نجمت عنه.

ويمكن أن نقيس على زواج المسيار الكثير من المسائل التي تندرج في إطار (الأحوال الشخصية) التي مازالت أحكامها على حالها كما وضعت قبل قرون عديدة، ولم يطرأ عليها أي تعديل، رغم التغيرات الواسعة التي طرأت على الحياة المعاصرة وجعلت الحاجة ماسة لإعادة تقييم تلك الأحكام، ونذكر من تلك التغيرات على وجه الخصوص انخراط المرأة انخراطاً واسعاً في حقول العمل المختلفة، ومشاركتها المادية وغير المادية الفعالة في بناء بيت الزوجية، مما جعل الحاجة ماسة لإعادة النظر في تلك الأحكام من أجل إعادة التوازن المنشود بين حقوق وواجبات كل من الزوجين والأولاد وبقية أفراد الأسرة.

وبناء على هذه الملاحظات، فإننا ندعو إلى اعتماد طرائق الدراسات الإنسانية الحديثة في تقييم الأحكام الفقهية، قديمها وحديثها:

  • فأما الأحكام والفتاوى القديمة التي مازال العمل جارياً بها حتى اليوم (أحكام الأحوال الشخصية مثلاً) فيعاد تقييمها ميدانياً، لمعرفة مدى تحقيقها اليوم لمصالح العباد، وما قد يترتب على استمرار العمل بها من مفاسد، وبناء على نتائج التقييم، والترجيح ما بين المصالح والمفاسد، يعاد تكييف هذه الأحكام تكييفاً فقهياً جديداً يكون أقدر على تحقيق المصالح، ودرء المفاسد.
  • أما الأحكام والفتاوى الجديدة، فيكون تقييمها بعد فترة مناسبة من صدورها لتحديد مدى كفاءة الفتوى في تحقيق الأغراض التي صدرت من أجلها، وذلك بأن تعطى كل فتوى جديدة فترة زمنية محددة، ترصد خلالها نتائج الفتوى في المجتمع بواسطة دراسات ميدانية، واستطلاعات رأي، وغيرها من وسائل الرصد الحديثة التي أشرنا إلى بعضها آنفاً، وبعد ذلك تراجع الفتوى من قبل المجتهدين في ضوء نتائج التقييم، وبعد ذلك تقرُّ الفتوى على صورتها التي صدرت بها أول مرة، أو تعدَّل، أو تستبدل بفتوى أخرى تكون أكثر تحقيقاً للمصالح المرجوة.

وبطبيعة الحال، فإن هذا المنهج الجديد في التعامل مع النوازل يحتاج إلى هيئة أو مجلس متكامل من الفقهاء، والاختصاصيين، وخبراء الدراسات الإنسانية، لكي تكون عملية الاجتهاد أكثر تكاملاً، وأقرب إلى تحقيق الأهداف المرجوة.

والخلاصة، إننا باعتماد هذه القاعدة التجريبية، القائمة على أسس قوية من الرصد والدراسة والمراجعة والإحصائيات والتغذية الراجعة للنتائج، يمكن أن نطور عملية الاجتهاد، ونرفد علم الأصول بأدوات جديدة تجعل منه عملاً أكثر كفاءة، وأكثر مواكبة للعصر، فقهاً مرناً، قابلاً للتعديل والحذف والإضافة بحسب تغيرات الأزمان والأحوال، وبهذا المنهج تتحقق عملياً ـ وليس نظرياً ـ القاعدة الأصولية العظيمة (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان والأحوال).

[1] - أحمد الريسوني : نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص 67، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.

[2] - الشاطبي : الموافقات 5/177