دعوة للخلاص من كراهياتنا التي فتكت بحاضرنا وعطلت مستقبلنا
فئة : مقالات
لا خلاص إلا بالتخلص من أساليب التعبئة الأيديولوجية، ومن أبرزها ترك استخدام كلمات ومصطلحات دينية مشبعة بهجاء الآخر، متوارثة من صراعات الطوائف والفرق، والحروب بين أتباع الأديان في العصور الوسطى، فإن اللغة مشحونة بأحكام مسبقة، وحسب جاك دريدا "إن اللغة ليست أداة نستعملها، بل هي المادة التي نحن مصنوعون منها". ويشدد بيير بورديو على "أن الكلمات تصنع الأشياء إلى حد كبير، وإن تغيير الكلمات، وتغيير التمثيلات، بوجه أعم التمثيلات التصويرية، هو بالفعل طريقة لتغيير الأشياء. والسياسة جوهرياً هي مسألة كلمات".
لقد صارت الكلمات والعبارات في خطاباتنا وأحاديثنا وجدالاتنا وكتاباتنا بمثابة أدوات قتال نتراشق بها، وتعمل على بث التشنج، وإشاعة التوتر، حيال أية قضية نتحدث عنها، وأمسى الإصغاء للآخر، وتفهم ما يرمي إليه مستحيلاً، إثر عنف اللغة، وقسوة مداليل الألفاظ المتداولة بين المتخاطبين وصخبها، حتى صار المجال التداولي للغة المستعملة في حياتنا أحد أبرز منابع الكراهية، وتزوير صورة الآخر.
صارت الكلمات والعبارات في خطاباتنا وأحاديثنا وجدالاتنا وكتاباتنا بمثابة أدوات قتال نتراشق بها، وتعمل على بث التشنج، وإشاعة التوتر
إن تطهير اللغة من الكلمات والمصطلحات القدحية المشبعة بالتشهير بالآخر ضرورة يفرضها الواقع، الذي يضج بالاحتراب والصراع الديني والطائفي، وينبغي أن تتسع عملية تطهير اللغة من العنف، لتشمل المقررات الدراسية في سائر مراحل التربية والتعليم، ويجري تأهيل لغوي للمربين والمعلمين والمدرسين، فضلاً عن الصحفيين والإعلاميين، ويعمد إلى تثقيفهم وتنبيههم إلى خطورة تداول الكلمات والأساليب التعبيرية ذات الحمولة القدحية، وما يمكن أن ينجم عنها من تشويه لصورة الشركاء معنا في الإنسانية، فضلاً عن شركائنا في المواطنة.
ويستمد معجم هذه اللغة مادته ومفرداته من الرؤية السراطية وميراثها الكلامي والفقهي، المتفشي في جميع الفرق والمذاهب الإسلامية ـ لا سيما في تمثلاته السلفية ـ المناهضة للعقل، والتي دونته في فضاء سجالي يضج بالخصومات، ويتوكأ هذا النوع من الميراث على تفسير فظ ساذج للنص، معبأ بسلسلة من الإسقاطات والتحريفات، ويرفض أية محاولة تسعى لتأويل النص، واستكناه أبعاده الرمزية، والنظر إليه بوصفه نصاً مكتنزًا بالرمزية والإشارة والكناية والمجاز والإيحاء والتلميح وضرب الأمثال، ومنبعاً لتأويلات وقراءات متنوعة، تنبثق من الأفق المعرفي للقارئ، وأفق انتظاره وما يترقبه من النص، ورؤيته الكونية وخلفياته الذهنية، والفضاء الثقافي، ونمط المعطيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية السائدة في عصره.
إن التفسير الفظ الساذج يفترض وجود فهم واحد للنص، هو الفهم الذي قالت به الجماعة الأولى من السلف، ولا يحتمل النص أي تأويل أو تفسير يخرج على ذلك الفهم، ويعلن عن رؤية مغايرة له، ذلك أن مواقف وفهم السلف فقط هو ما يمثل المشروعية والقدسية، أما المواقف والتأويلات اللاحقة؛ فإنها مشروعة بوصفها معبرة عن رؤية السلف ومستنسخة لها، وهي هرطقة وبدعة، حينما تجتهد في بلورة رؤية مغايرة، تستلهم اللامرئي في النص، وتتحرر من الأصول والترسيمات الصارمة والمغلقة للتعاطي مع النص. لقد هيمن هذا المنطق الصارم في تلقي النص، منذ أن دوّن الإمام الشافعي هذه الأصول، وتكرست بمرور الزمان، وصارت ترسيمات أبدية، تحتكر فهم النص، وتسبغ الشرعية على كل تفسير مشتق منها، وترفض كل اجتهاد ينزع إلى التفكير خارج مداراتها، وصياغة مفاهيم لا ترتد إليها، بل تنظر إليه بوصفه بدعة وهرطقة خارج الشريعة، كما نلاحظ في تصنيفه للميراث الغزير للمتصوفة والعرفاء والفلاسفة، الذين حرصوا على استلهام العناصر الرمزية الروحية والإنسانية والجمالية والعقلانية في النص، وأدركوا أن النص القرآني رمزي المضمون، إشاري المقاصد، غزير المعاني، عميق البنية، وتخطوا القراءة الاختزالية التبسيطية، وما أفضت اليه من إفقار للنص، وإظهاره بصورة عارية من كل مضمون مكثَّف غني بالمداليل والمعاني المستترة.
وعادة ما تشيع القراءة السلفية التبسيطية للنص في حالة الانحطاط والتراجع الحضاري، بينما يزدهر التأويل الصوفي والفلسفي للنص في حالة النهوض الحضاري، وقد ألمح لذلك الشيخ مصطفى عبد الرازق بقوله: "يلاحظ أن الرأي السائد بين المسلمين في أمر الوحي يميل في الركود النظري إلى مذاهب المتكلمين، ويتأثر برأي الفلاسفة في عصور النهوض".
تسود القراءة التبسيطية للنص اليوم الأدبيات الإسلامية، ويتشكل في ضوئها وعي قطاعات عريضة من المنخرطين في الجماعات السلفية، ويجري تجنيدهم في معارك تستنزف طاقات مجتمعاتنا وتهدر إمكاناتها. وتصرّ هذه القراءة على القطيعة مع الميراث العقلاني الإنساني في تاريخنا، وتحارب بضراوة التفكير الفلسفي، وتعتبر تراث الحكماء غريباً عن المحيط الإسلامي، أما التجارب الروحية الخصبة لذوي التجارب الدينية من؛ المتصوفة والعرفاء، وذوي الإيمان الفطري البريء العفوي، وما أنجزوه من آثار وخبرات روحية قلبية فائقة الأهمية، متنوعة المضامين، عميقة المعاني، فإنها تصنّف على أنها شطحات وهرطقات أجنبية على الإسلام. ذلك أن الجماعات السلفية تنشد تديناً ساذجاً، يفتقر إلى التوغل في آفاق الإيمان الأنطولوجية، واستيعاب المضمون التنزيهي المفعم بالمعنى للتدين، وتستفزه التأملات العميقة، التي تقارب النص بفكر مركب، ووعي يضيء المضامين الكامنة والخفية فيه.
التجارب الروحية الخصبة لذوي التجارب الدينية من؛ المتصوفة والعرفاء، وذوي الإيمان الفطري البريء العفوي... تصنّف على أنها شطحات وهرطقات أجنبية على الإسلام
ويفتقر التدين الحرفي السلفي إلى التعاطي المتفائل المفعم بالأمل مع الحياة، والانفتاح على العالم، واستبصار ما يحفل به من ثراء وجمال وتنوع. ويعجز هذا النمط من التدين السلبي عن إدراك أن الله وهب الحياة للإنسان، فصارت مناط الاستخلاف والأمانة، ومن ثم المسؤولية، وارتكزت إليها وانبثقت منها كل مكاسب البشرية وإبداعاتها وتعبيراتها. وتحرص الأديان عادة على احترام الحياة، وربما تقديسها، وتتطلع الرسالات السماوية إلى تطهير الحياة من القلق، وبث الطمأنينة والسكينة في روع الإنسان، عبر ترسيخ الحياة الروحية والأخلاقية، وتكريس المضمون الرمزي للعالم، والكشف عن مظاهر الانسجام والتناغم بين الإنسان وما حولـه، وتحريره من الاغتراب الكوني، ومن كل ما من شأنه أن يسلخه وينفيه من هذا الكون.
غير أن الحياة تغدو لعنة، وأية محاولة للتشبث بها، والسعي لعمارتها، والتنعم بطيباتها، تصبح منافية للفهم السلفي للدين، ذلك الفهم الذي يتمحور خطابه على هجاء الحياة، وتمجيد الموت، ولعن المباهج، وأسباب الفرح والغبطة والمسرة. وما أعمق تفسير سبينوزا لحالات الفرح والحزن، والبهجة والكآبة، إذ يقول: "ليس الفرح شراً بصورة مباشرة أبداً، بل هو خير، أما الحزن فهو شر بصورة مباشرة...لا يمكن أن يوجد في البهجة إفراط، بل هي دائما حسنة، أما الكآبة فهي دائما سيئة".
الرؤية للعالم لدى الجماعات السلفية تشدّد على مسخ الذوق الفني، وتجاهل الأبعاد الجمالية في العالم، وإطفاء أشواق القلب، والعجز عن وعي وظيفة الفن، بوصفه اللغة المشتركة الأهم في الحياة البشرية، والوسيلة الحية للتواصل بين الشعوب، والقناة العابرة للتاريخ والثقافات.
كما تهمل تلك الجماعات الجسد، وتنسى متطلباته الغريزية، وما يحيط به من فضاء حسي، وما يجسده من جمال، فتتعامل معه وكأنه عدو، لاسبيل للتدين الحق الاّ بتجاوز رغباته وحاجاته. وترى أن الاحتشام والعفة لا تتحقق إلا بالتخلص من المشاعر الغريزية الحسية، ورفض الحب، واعتباره تهتكاً وابتذالاً. وأن النجاة في اليوم الآخر ترتبط بالفرار من حب الحياة وكل شيء ينتمي إليها.
إن التعامل مع الحياة بهذا المنطق، هو مصدر الشعور بالإحباط والفشل، وهو الذي يقود إلى العنف، والرغبة في تدمير الحياة، وتحطيم كل شيء ينتمي إليها. حين يمسي الشغف بالموت هدفاً لحياة الشخص البشري، تنطفئ جذوة الحياة في نفسه، ويفتقد القدرة على المساهمة في البناء، ولا يتقن أية حرفة سوى تقديس الحزن، وصناعة الحقد والبغضاء، فتندثر طاقاته، وتتعطل قابلياته، وتتبدّد إمكاناته ومواهبه بأسرها.
وليس هناك درب يقودنا إلى الحياة، ويعيد قطاعات واسعة من الشباب إلى العالم الذي افتقدهم، سوى إشاعة فهم عقلاني جريء للدين، يخترق الأدبيات الجنائزية في تراثنا التي تكثف حضورها في الخطاب السلفي اليوم،كما يخترق ما راكمته تجربة الاجتماع الإسلامي من إكراهات ومظالم وتعصبات وصراعات مختلفة، عملت على تبلور مفهومات وفتاوى مشبعة بتلوينات تلك التجربة.
لقد باتت الحاجة ملحة إلى دراسة وتحليل منابع اللاتسامح، وبواعث العنف والكراهية في مجتمعاتنا، والاعتراف بأن الكثير منها يكمن في الفهم المتحجر للدين، والجهود الحثيثة للسلفية في تعميم هذا الفهم وتعزيزه، عبر خطاباتها وأدبياتها المتنوعة. ومن الضروري عدم التوقف عند دراسة مضمون الخطاب، وإنما يجب تحليل خطاب الجماعات السلفية، ودراسة الرؤية للعالم الثاوية من خلفه، والشبكة المفاهيمة المنبثقة عنها، واللغة المشتبكة معه التي تبجل الكراهية وتمتدح العنف، وترى كراهيةَ الآخر بوصفها معياراً ومرتكزاً لأية وحدة داخل إطار الجماعة، وتخترع على الدوام أعداءً تجيّش العامة والحشد لمقاتلتهم وإبادتهم.
تحرص الأديان عادة على احترام الحياة، وربما تقديسها، وتتطلع الرسالات السماوية إلى تطهير الحياة من القلق، وبث الطمأنينة والسكينة في روع الإنسان، عبر ترسيخ الحياة الروحية والأخلاقية
إن اللغة ليست أداة محايدة في بيان المعاني، بل اللغة في حراكها التواصلي والاجتماعي، كما تجسـدها النصوص، هي فضاء من الفضاءات الاجتماعية يخضع لحركية خاصة، ينبغي أن تحلّل من داخلها. وعلى حدّ تعبير نيتشه، فإن "كل كلمة هي عبارة عن حكم مسبق".
يطغى في خطاب الجماعات السلفية ثناءٌ على العنف، وإعلاء من قيمته، وتشديد على أثره الحاسم في الدعوة، وتصرّ على أنه السبيل الوحيد للخلاص من الظلم والاضطهاد في الدنيا، والفوز بالفردوس يوم القيامة، بينما تتجاهل تلك الجماعات الأساليب اللاعنفية في دعوات الأنبياء، كذلك تهمل عن عمد أبرز حركتي لاعنف في القرن العشرين، وهما المقاومة السلمية الواسعة في الهند بقيادة المهاتما غاندي، والمقاومة السلمية في جنوب أفريقيا بزعامة نيلسون مانديلا، وما تحقق في المسعى السلمي لهما من مكاسب حاسمة، وما قطفتاه من ثمار في تحرير الهند وجنوب أفريقيا.
إن مراجعة عاجلة للأدبيات السلفية، ترينا بوضوح كيف أن هذه الأدبيات بقدر ما تتحدث عن مناهضة الآخر، وانحصار أسلوب التعاطي معه بالقتل والإبادة، فإنها تتكتم على مساحة مهمة في النصوص الدينية، تتحدث عن الرأفة والرفق والعفو والغفران والرحمةـ حتى يخيل لمن يستمع إلى منابر هذه الجماعات، أو يقرأ بياناتها، أنها تتحدث عن دين خاصّ تنحته، وتعيد تشكيله في إطار وعيها، وخلفياتها ومسبقاتها وقبلياتها ومفروضاتها الذهنية، لا علاقة لـه بالنص المؤسس. إنه دين مشبع بالإكراهات والتعصبات والكراهيات، ينفي الروح التطهرية للدين، ويمسخ ما يختزنه من معان سامية، ويفرغه من محتواه العقلاني، ويحيله إلى مجموعة من المقولات والشعارات المغلقة التي تستنزف الطاقة الحيوية الإبداعية لرسالة الدين، وتفقره، وتمسخه، وتستبدله بمفهومات ومقولات وشعارات مقطوعة الجذور عن روح الدين وجوهره، وتصيره عبئاً ينوء الناس بحمله، ويعطل دينامية التطور في الاجتماع البشري، ويستدعي القيم الرديئة للبداوة والصحراء والقبيلة، فيبعثها من جديد، ويتبناها، ويدافع عنها، ويسقط عليها قناعاً إسلامياً، بوصفها تمثل الهوية والأصالة، فيما هي في الحقيقة ليست إلا تمثلات وتعبيرات وتقاليد، لبيئة محلية صحراوية قاسية غليظة، رفضها القرآن، ونعتها بتسميات قدحية، وجعلها النقيض لروح الدين ومقاصده الأخلاقية، وأهدافه الإنسانية.
باتت الحاجة ملحة إلى دراسة وتحليل منابع اللاتسامح، وبواعث العنف والكراهية في مجتمعاتنا، والاعتراف بأن الكثير منها يكمن في الفهم المتحجر للدين
ينظر السلفيون للإسلام بوصفه شيئاً منجزاً ولا نهائياً في التاريخ، من دون أن يتنبهوا إلى أن الإسلام دين مثل بقية الأديان، تتنوع تمثلاته وتجلياته في الواقع. والدين بمعنى الظاهرة الأنثروبولوجية التاريخية، يسهم في تشكيل التاريخ، كما أنه يتشكل طبقاً لروح العصر، ومنطق التاريخ والزمان والمكان الذي يتحقق فيه. ومثلما يهدف الدين إلى بناء وتغيير الإنسان، فإن الإنسان أيضا يبني مفهوماته الخاصة عن الدين، ويصوغ نمط تديّنه الخاص؛ أي أن هناك تأثيراً وتأثراً متبادلاً بين الدين والإنسان كفرد وجماعة، مثلما يتأثر الإنسان بالدين، يعيد الإنسان صياغةَ التدين في سياق محيطه ورؤيته الخاصة للعالم.
من الوهم النظر إلى الإسلام والمسلمين كأمرين قارّين ساكنين، لا يتحولان ولا يتبدلان، يؤثران في كل شيء ولا يتأثران على مر الزمان، وذلك ما تكذبه وقائع الجغرافيا والتاريخ، وما تخوضه الأديان من حروب، بفعل حالتها الانقسامية المستمرة، وولاداتها فرقا تتفرع إلى فرق، وطوائف تتشعب إلى طوائف. الأديان تخضع للمشروطية التاريخية، والعوامل الزمانية والمكانية المتغيرة. وهذا يعني أن التفكير الميتافيزيقي والإلهيات المتوارثة لدى المسلمين، كانت مشتقة من طبيعة حياتهم، وشكل النظام السياسي، والفضاء المعرفي والثقافي السائد وقتئذ. لذلك كانت معظم الإلهيات الموروثة تتمحور حول استبعاد ونفي الآخر، وتعمل على تكريس مركزية لاهوتية مطلقة، تجد مثالها الأرضي في الخليفة أو السلطان، وحكومته الشمولية المستبدة. أن هذه الإلهيات لا محل فيها للحرية الدينية، أو إفساح المجال للآخر، ومساواته بسواه من الرعايا على أساس مفهوم المواطنة الحديث.
إن أوهامَ الهوية تحجب رؤيةَ الآخر، وتكرّس الانغلاق على الذات، وتفضي إلى افتعال صورة زائفة للذات والآخر، لا توجد إلاّ في المخيلة. يحلّل إدغار موران ما ينجم عن ذلك بقوله: "تؤدي نزعة التمركز حول الذات إلى الكذب على الذات، وبالتالي إلى خداعها، وهذا شيء ناجم عن اللجوء إلى التبرير الذاتي، وإلى تزكية الذات، والميل نحو جعل الغير مصدر كل الشرور، سواء كان هذا الغير عبارة عن غريب أو قريب لنا. إن عدم فهم الذات هو مصدر مهم جدا لعدم فهم الغير، فنحن نخفي عن ذواتنا عيوبنا ونقاطَ ضعفنا، الشيء الذي يجعلنا غير متسامحين مع عيوب ونقاط ضعف الغير. تؤدي نزعة التمركز حول العرق، ونزعة التمركز حول المجتمع، إلى أنواع مختلفة من كره الأجانب، ومن النزعات العنصرية، والتي يمكن أن تصل إلى حدود نزع صفة الإنسان عن الأجنبي".
تتغلب في مجتمعاتنا نزعات التعصب والتشهير الدائم بالآخر، وكأننا في عالم لا يعيش فيه معنا سوى الأعداء، وكأن المجتمعات الوحيدة التي تعرضت للاستعمار هي نحن، فكل أمراضنا ومشكلاتنا وعاهاتنا نعلّقها على هذا المشجب، ونغذّي باستمرار روح الانتقام والكراهية للآخر، في صحفنا وقنواتنا الفضائية ووسائل إعلامنا المختلفة. وعلى الرغم من أن الاستعمار شمل في القرون الماضية معظمَ الكرة الأرضية، وتوطن في أكثر بلاد العالم عشرات السنين، لكن هذه البلاد تحررت، وتجاوزت ماضيها، والتحق العديد منها بالغرب، بل تقدم بعضُها عليه صناعياً واقتصادياً، لكن مازلنا نحن نتحدث عن الاستغلال والتجزئة والإمبريالية، من دون أن نصحو فنكتشف ما يربض في ميراثنا من مفاهيم سامّة وفتاوى تشرعن الخصومة مع الحياة وكراهية الحياة والانخراط في مواجهة العالم. هل نجرؤ على مصارحة الذات، فننظر في أحكام: "الرقيق، أهل الذمة، الكفار...إلخ"، المتفشية في مدونة الفقه في مختلف المذاهب الإسلامية!
لا إكراه في الدين:
طالما لجأ السلفيون إلى تفسير قمعي للنص القرآني، واستندوا إلى هذا التفسير كمرجعية تبرر رغبتهم في الانتقام من الآخر، وتسوغ لهم كراهية كل من لا يتعبد بفقههم، ولا يدين بمذهبهم، وربما حكموا عليه بالخروج من الملّة والكفر، ومن ثم الموت، مع أن كلمة مسلم بالمفهوم القرآني تعني القبول العفوي، الطوعي، والمتلهف، بل وحتى العاشق، لكل ما تأمر به إرادة الله، وتعلمنا إياه. وأنها لا تعني إطلاقا الاستسلام لسلطة حتمية، أو الخضوع المؤدي للإكراهات والقيود. وإنما هي تلك الاندفاعة العفوية، اندفاعة الشكر، والعرفان بالجميل تجاه إله رحيم، يدعو الإنسان إلى الارتباط به، والسير على هداه. وأن كلمة "إسلام" في القرآن ليس لها ذلك المعنى العقائدي واللاهوتي والثقافي الذي كان قد فرض نفسه على مدار تاريخ الإمبراطوريتين الأموية والعباسية والعثمانية. إن الإسلام بمفهومه الإمبراطوري معبّأ بمداليل سلبية، فيما الإسلام بمفهومه القرآني يعني الدين الأولي والشعيرة النقية، والطاعة العاشقة والكلية لله.
أما من يحسب أنه مفوض بانتهاك كرامة الإنسان، وإلزامه بمعتقد معين، أو حرمانه من حق الحياة، لأنه يمتلك الحقيقة، وهو الوصي على الآخرين، فإنه يناقض "لا إكراه في الدين"، وأنه لا يدري أن حقَّ الحياة من الحقوق المصونة المحترمة لكافة البشر، بقطع النظر عن أجناسهم وثقافاتهم ومعتقداتهم، وأن عدم الإيمان أو الكفر وحده لا يصلح أن يكون موضوعاً للحكم بالاعتداء على شخص أو قتله، وأن الأصل هو براءة الكل من العقوبة الدنيوية، وإثبات أية عقوبة بحاجة إلى دليل. ذلك أن المعتقد أمر جوانحي باطني، وليس أمراً جوارحياً خارجياً، وأن تحققه وحصوله ليس باختيار الإنسان، بمعنى أن العالم الجواني الداخلي لا يمكن فرضه بالقسر، باعتباره عالم الحرية.
ينظر السلفيون للإسلام بوصفه شيئاً منجزاً ولا نهائياً في التاريخ، من دون أن يتنبهوا إلى أن الإسلام دين مثل بقية الأديان
يصرح العلامة محمد حسين الطباطبائي في الميزان، عند تفسير "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"؛ أن الآية في مقام بيان: "نفي الدين الإجباري، لما أن الدين، وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية، يجمعها أنها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإن الإكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهرية، والأفعال والحركات البدنية المادية، وأما الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبية، من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقا علمياً، فقوله "لا إكراه في الدين" إن كان قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين، أنتج حكماً دينياً بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً إنشائياً تشريعياً، كما يشهد ما عقبه تعالى من قولـه: "قد تبين الرشد من الغي"، إنه نهي عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرها، وهو نهي متكئ على حقيقة تكوينية، وهي التي مر بيانها. إن الإكراه إنما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية. وبعبارة أخرى، العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقي ينعقد في ذهن الإنسان ليس عملاً اختيارياً للإنسان، حتى يتعلق به منع أو تجويز أو استعباد أو تحرير، وإنما الذي يقبل الحظر والإباحة هو الالتزام بما تستوحيه العقيدة من الأعمال، كالدعوة إلى العقيدة.". ويصف القرآن الإيمان بأنه رشد وحق، وأن ما سواه زيغ وغي، والرشد هو الأمر الواضح الجلي، الذي لا يجبر عليه الإنسان، ويبدو أن الآية تقرر حقيقة عامة شاملة لكل إنسان، ومع كل معتقد، فإنه لا يمكن فرضه، مثلما لا يمكن خلعه وسلخه منه. يضيف الطباطبائي: "انطلاقا من الإطلاق الذي تفيده الآية، لم يقصر القرآن الكريم حرية العقيدة وعدم الإكراه على الدين الإسلامي، بل أعلن عن انتفاء كل أشكال الضغط والإكراه موضوعياً عن كافة الأديان والعقائد والأفكار، وذلك بالنظر لإلغاء خصوصية المورد؛ أي أن مثل هذه الحرية المتصلة طبيعياً وذاتياً بماهية البشر، مما لا يمكن وضعه ولا رفعه".
وهذا يعني أن المعتقد ما لم ينبثق الإيمان به من قناعة وجدانية، وإرادة قلبية، لا يمكن أن يلامس شغاف الفؤاد. وكل الأنظمة الشمولية التي تفرض نسقاً عقائدياً وأيديولوجياً مغلقاً على مواطنيها، إنما تعمل على تفشي ظاهرة النفاق، وهي تحسب أنها دمجت كافة المواطنين في النسق الاعتقادي الذي اختارته لهم، ذلك أن المعتقد ليس بمثابة الثوب الذي يلبس ويخلع بسهولة. في مثل هذه البلاد تشيع عادةً عقيدةُ ظاهرة، وهي ما تريده السلطة، بينما يخفي الأفراد معتقداتهم، التي هي واحدة من أهم مكونات هويتهم الباطنية.
في آيات أخرى، يتحدث القرآن أيضاً عن هذه المسألة، ويجلّيها بوضوح، كما في قوله تعالى: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين". هنا إشارة إلى المشيئة الإلهية التكوينية الحتمية التي بموجبها يمكن أن يجعل الله جميع سكان الأرض مؤمنين بالقسر، ولكن الله أنكر ذلك مستفهماً، بأن مثل هذه الحالة لا تليق بالإنسان، وكما أنه سبحانه لم يلجأ لذلك، فهو ينبّه النبي على أن لا يحزن أو يقلق، عندما لا يؤمن بعض الناس، لأن المورد خارج إطار الإكراه. وأن الإيمان موكول للإنسان، فبوسعه اختيار ما ترسو عليه قناعاته، وما يرتضيه قلبه، وما يستسيغه عقله.
في مجموعة آيات يتحدث القرآن عن حرية كل فرد في اختيار السبيل الذي ينشده في الدنيا، كما في قوله تعالى: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا". تقرر الآية بصراحة أن الإيمان والكفر يرتبطان باختيار الإنسان وإرادته، من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ولا تشير إلى عقاب، أو توبيخ، أو تحقير وإهانة، دنيوية، بل تقتصر على الإشارة إلى الاستحقاق الأخروي للظالمين المعاندين. وهكذا الآية "قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى، فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل"، والآية "إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل".
مجتمعاتنا المسلمة أنهكتها الكراهيات المزمنة المتراكمة منذ الأمويين إلى اليوم. لا سبيل لخلاص مجتمعنا إلا بالشفاء من الكراهيات. بالمحبة فقط
وعلى الرغم من أن القرآن لا يساوي بين الهدى والضلال، لكنه يمنح الإنسان حرية في الاختيار، ولا يلزمه بأحدهما خاصة، لأن المعاد يترتب على هذه الحرية، وليست هناك مسؤولية وحساب مع سلب الاختيار في الدنيا. وفي طائفة غيرها من الآيات يحدد القرآن نمط دعوة الرسول الآخرين إلى الدين، فيصفه بأنه: "مذكر، مبشر، منذر، شاهد، سراج منير، رحمة للعالمين، ما عليه إلا البلاغ، ليس بمسيطر، ليس بجبار.".
"فذكر إنما انتَ مذكرٌ. لستَ عليهم بمسيطر".
"نحن أعلمُ بما يقولون وما أنتَ عليهم بجبارٍ فذكّرْ بالقرآنِ من يخافُ وعيد".
"وما أرسلناكَ إلا مبشراً ونذيراً. قل ما أسألُكُم عليه من أجر إلا مَن شاءَ أنْ يتخذَ إلى ربهِ سبيلا. وتوكلْ على الحي الذي لا يموتُ وسبّحْ بحمدِه وكفى به بذنوب عباده خبيرا".
"وإنْ مّا نُرينَّكَ بعضَ الذي نَعُدهُم أو نَتَوَفينَّك، فإنما عليكَ البلاغُ وعلينا الحساب".
"ما على الرسولِ إلا البلاغُ واللهُ يعلمُ ما تبدون وما تكتمون".
"وبالحقّ أنزَلناهُ وباَلحقّ نزَلَ وما أرسَلناكَ إلا مبشّراً ونذيراً".
"وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين".
"يا أيها النبيُ إنا أرسلناكَ شاهداً ومبشراً ونذيراً".
"وما أرسلناكَ إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً".
"إنا أرسلناكَ بالحقِّ بشيراً ونذيراً".
"فإنْ أعرضوا فما أرسلناكَ عليهم حفيظا".
"إنا أرسلناكَ شاهداً ومبشراً ونذيراً".
إذن، وظيفة النبي تتلخص في التذكير بالبينات والهدى، وإبلاغ الحق، والشهادة، والتبشير بالنعيم، والإنذار بالخسران، في حالة الجحود والعناد، وإنه سراج يضيئ الطريق، ورحمة للعالمين. وبموازاة ذلك ينبهه الله إلى أنه ليس لـه سلطان في إكراه الناس على الإيمان، فهو "ليس بمسيطر، ولا جبار، رحمة للعالمين". فاذا كان النبي، وهو صاحب الرسالة، لم يفوّض في إجبار الناس وإكراههم، فكيف يفوض سواه بذلك؟! وإن كان ذلك ليس من وظائف النبي، فكيف يسوّغ لمن يدّعون أنهم من أتباعه سلبَ حريةِ الناس، ومصادرةَ حقهم في اختيار المعتقد؟!
الحب هو الحل الوحيد لمشكلة الوجود الإنساني:
يُحبُّهم ويُحبُّونه – المائدة 54
الله محبة – المسيح "ع"
الدين هو الحب والحب هو الدين - محمد الباقر "ع"
المحبة أصل الموجودات – محيي الدين بن عربي
المحبةُ حالةٌ أنطولوجية، تتحقق فيها الذات بنمط وجودي جديد، يمتلئ معه القلب بأشواق الحياة، وتتسامى الروح نحو فضاءات مشرقة. المحبة نحو التزام حيالَ الله والإنسان والعالم. ليس الإنسان الحقيقي الأصيل سوى التزام. الإيمان التزام مع الله والإنسان والعالم. الأمانة التزام مع الله والإنسان والعالم. الصدق التزام مع الله والإنسان والعالم. الإخلاص التزام مع الله والإنسان والعالم. العفاف التزام مع الله والإنسان والعالم. الحياة الروحية التزام وجودي. الحياة الأخلاقية التزام وجودي.
لحظةَ انهيار الالتزام هي لحظةُ موت الإنسان ثم تفسخه، وأخيراً ذهاب أشلائه إلى مكبّ النفايات. يولد الشخص البشري ولادات جديدة كل يوم، حين يتجسد الالتزام الأنطولوجي الروحي الأخلاقي في حياته. أهم مكسب للشخص البشري هو استعادة ذاته، واسترداد إنسانيته، ولا سبيل لذلك سوى الالتزام.
الإيمان، الأخلاق، الإنسانية؛ ينبغي أن تتحد في الذات، تصير هي مصداق الذات، وحقيقتها، وإن تغايرت مفهوماً. هي ما يمنح الحياة معنى، وهي ما يشخّص ويحدّد الوجودَ الحقيقي.
المحبة جوهر الإيمان والأخلاق والإنسانية. لكن لا يعرف قيمة المحبة، وتجلي الإيمان والأخلاق فيها، إلا أولئك الذين تبعث المحبة وجودهم من رماد القلق والعبث والعدمية، بل تصير هي طورهم الوجودي، فتتوحد ماهيتهم بها، تكون هي هم، وهم هي. وقتئذ تكف الكراهية أن تعثر على ثغرة تتسلل منها إلى حياتهم. يتمثل لهم؛ الله محبة، الإنسان محبة، والعالم محبة، لحظة تتحول ذاتُهم الإيمانية الأخلاقية محبةً.
من حقه أن يسخر ويتهكم ولا يصدق من يستمع هذا القول، ذلك أن حياتنا يندر فيها ذلك، إذ يسودها؛ الاحتيال، والدجل، والكراهية ونفي الآخر، وكل ما هو زائف ورخيص، والمسالخ البشرية وحرائق داعش وشقيقاتها. وقلما نعثر على من يعيش المحبة وجوداً أصيلاً، يمنح حياته ألف معنى يفتقر إليه سواه.
لكن لا خلاص إلا بإحياء التجارب الروحية الدافئة، وإعادة النظر في التدين الشائع، والعمل على بناء حياة روحية يشيع فيها "تدين المحبة"، بمعنى محبة الحق بل عشقه الذي يتذوق شيئاً منه أصحاب التجارب الروحية. أن تدين المحبة مما يُتذوَّق، لا مما يُدرَك. إنه لا يتوطن القلبَ فقط، بل إن الروح مشبعةُ به، وإنه تجلٍّ للحياة الإيمانية، والحياة الأخلاقية. يتجسد في الذات مرآةً للوصال بالحق، وأنشودةً لتمجيده، وابتهالاً لشكره. الحق تعالى هنا هو ما يفيض على المؤمن؛ السكينة والطمأنينة والتوازن والاكتفاءَ بالذات، والكفَّ عن اللهاث وراء كل ما هو زائف، والتهافت على ما هو رخيص زائل.
في زمن ومجتمع وبلد تسوده نزعات الكراهية واجتثاث منابع الحب، ربما يقال: لماذا الحب؟! أين الحب؟! هل بوسعنا استنبات الحب في ديار؛ تصطبغ بالدم المسفوح، وتختنق مآذنها بدخان المفخخات، ويُغرِق ترابَها رمادُ أشلاء الضحايا؟!
في بداية حياتي، كنت أضيق ذرعاً بالخاطئ، كان موقفي هذا تعبيراً عن مفهومي الرومانسي غير الواقعي للإنسان...وإثر مطالعاتي الواسعة لعلم النفس والعلوم الإنسانية بمختلف مجالاتها، وتجاربي الحياتية المتنوعة مع مختلف الناس، أدركت شيئاً عميقاً من طبائع الإنسان، وتعرفت على مواطن هشاشته وضعفه، وقوته وقسوته وعنفه، واكتشفت أن كل ذلك ليس طارئاً ومؤقتا في حياة الناس، بل إن هذا هو حقيقة الإنسان...وبذلك تحررّتُ من المفهوم المثالي للإنسان الذي يتجاهلُ طبيعتَه، ويحسبه كائناً عابراً للزمان والمكان، ومتعالياً على الواقع وما يحفل به من تعصبات وإكراهات وكراهيات..أصبحت أخيراً أفهم الإنسان فهماً علمياً واقعياً، في إطار طبيعته البشرية، أدركت مع هذا الفهم؛ أن كل البشر - وأنا أحدهم - خطاة...وبعد دراستي الفلسفة والعرفان والتصوف، ارتقى مفهوم الإنسان في وعيي ووجداني وضميري، فصرت أعرف؛ أن الخطيئة غير الخاطئ...أكره الخطيئة، لكني أحب الخاطئ، ذلك أنه إنسان، وأنا إنسان أولا وقبل كل شيء...أعرف حقيقة الإنسان، وأقبل وأحترم كل إنسان.
لا أشك أن لا سلامة روحية وقلبية وعقلية من دون الحب. الحب الحل الوحيد لمشكلة الوجود الإنساني. الحب المعنى الذي يمنح معنى لما لا معنى له. "قوة الحب" هي الحل الوحيد لمشكلة "حب القوة". حياة الحب الحل الوحيد للهروب من الحياة.
لحظة تصير المحبة معنى الإيمان والأخلاق والإنسانية، وقتئذ تكف الكراهية أنْ تعثر على ثغرة تتسلل منها إلى حياة البشر. يتمثل لهم الله محبة، والإنسان محبة، والعالم محبة، لحظة تتحول ذاتهم محبة.
مجتمعاتنا المسلمة أنهكتها الكراهيات المزمنة المتراكمة منذ الأمويين إلى اليوم. لا سبيل لخلاص مجتمعنا إلا بالشفاء من الكراهيات. بالمحبة فقط؛ بمضمونها الإيماني الأخلاقي الإنساني، يمكن أن ينبعث مجتمعنا من جديد، كي تشارك العالم احتفالاته وفتوحاته العلمية والمعرفية والتكنولوجية.
الحب ثقة ومشاركة، أساسه الكرم في كل شيء. كرم أن تتجاوز وتسامح وتهب أنقى ما لديك؛ لا لشيء إلا من أجل تثمين الحياة التي تتشاطرها مع الآخر. الحب تبجيل للحياة مقابل التبخيس الذي يحط من قيمتها.
الحب هو الحرية والأمان، وليس العبودية أو الاسترقاق. كما يوجز ذلك النفري في المواقف والمخاطبات: "أوقفني وقال لي: أريد أن أرفع الحجاب بيني وبينك، فقف بين يدي لأني ربك، ولا تقف بين يدي لأنك عبدي".
الحب الروحي الأخلاقي الإنساني هبة إلهية؛ بمعنى: أن الحق حين يحب شخصاً، لا يهبه المحبة فقط، بل يحول ماهيته إلى محبة، فيصير محبا لخلقه، لا محبوبا. كما الحق يفيض محبة؛ من يهبه الحق المحبة، هو أيضا يصير منبعا للحب؛ أي يفيض محبة.كما أن الحق حين يرحم أحدا لا يهبه الرحمة فقط، بل يحول ماهيته إلى رحمة، فيصير راحما، لا مرحوما. مثلما الحق يفيض رحمة، هو أيضا تتحقق فيه الرحمة، فيصير منبعاً للرحمة.
الحب - في مفهوم العرفاء والربانيين، ممن يسكرون بالعشق الإلهي- ينزلك منزلة من تحب، لو أحببت الحق تصير حقا، لو أحببت النور تصير نورا، لو أحببت الخير تصير خيرا، لو أحببت العدل تصير عدلا، لو أحببت الحسن تصير حسنا، لو أحببت الجمال تصير جمالا، لو أحببت الفضيلة تصير فضيلة، لو أحببت العفاف تصير عفافا، لو أحببت الطهارة تصير طهارة. اقتبس المتصوف الشهير إكهارت في إحدى عظاته قول القديس أوغسطين: "الإنسان ما أحب". ثم عقب عليه بقوله: "إن أحب حجرا فهو حجر، وإن أحب إنسانا فهو إنسان، وإن أحب الله - وحسبي فلن لزيد- فلعلي إذا قلت: هو الله؛ أن ترجموني".
بيد أن شلالات الدم المسفوح، ورماد أشلاء الضحايا، ومآذن بلدي التي يخنقها دخان الحرائق، لا تكاد ترينا أية ومضة للحب، ولا تسمح بأية موسيقى تعزف ألحان الحب!
قد يبدو ما أدعو إليه وأشدّد عليه ليس سوى هذيان وأوهام؛ ينشدها حالم بمجتمعات خيالية، لا صلة لها بدنيا الإنسان، وواقع حياته الذي يضمحل ويذوي فيه الحب!
نعم؛ وإن كان واقع حياة المجتمع كذلك، إلا أنه يحرّضني ويزيد إصراري، على أن أظل أشدو أغنية الحب، وأنشد قصائد الحب، وألحن سمڤونية الحب، وأتحدث لغة الحب، وأروي ملاحم الحب، وأكتب عقائد الحب، وأشيع ثقافة الحب، وأكرّس جهودي لإنتاج مفاهيم الحب، وأثري علاقاتي بجسور الحب. لن أتخلى أو أتراجع عن ذلك حتى لو جفّت كافة ينابيع الحب في العالم. عساني ألمح قبل رحيلي عن هذا العالم تدشين "تدين الحب". وما أجمل توصيف محيي الدين بن عربي لذلك، إذ يقول:
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ ... ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني
حاجتنا قصوى لكائن شفاف يشع حبا، وينبض قلبه بالحب. يمنح الحب، ويغرس الحب، ويهدي الحب. ينعتق بالحب، ويتحرر بالحب، ويحرر سواه. يعنيه الحب، ويعني الحب. مخلوق كأنه خلق من مادة الحب وعناصره.
لا تغتني الحياة إلا حين تنبثق فيها شخصيات تجسد الحب المطلق بلا قيد أو شرط. وتصير جوهراً وسلوكاً وشريعةَ حبّ أبدية. تشفى الأسقامَ لأنها ترياق حب، وتحيي ما هو رميم لأنها روح حب، تتحقق بها الحياة الأصيلة؛ لأنها تجيد خلق الحب. أؤلئك الذين يحبون الله فيحبهم الله. تغدو كلُّ لحظة في حياتهم مشروع حب، وشعلة حب لا تنطفئ. تسقي الأرض حبا طاهرا؛ بنحو تهتز وتورق. تتفجر ينابيعَ محبةٍ وإيمان، وتنبت وتزهر وتثمر حبا وإيمانا.
كل ما في هذا العالم من كراهية وحقد وأنانية وقسوة وعنف يجعل تدين الحب ضرورة قصوى لإنقاذ البشرية من الإعصار المتوحش للتدين الفاشي الذي يجتاح أرض الإسلام اليوم، ويخنق كل صوت لا يشبهه.
الحب والرحمة والجمال إنما هي العناصر التي خُلِقَ منها الإنسان والعالم. الوجود؛ مادته الحب، وجوهره الحب، وقضيته الحب، وفلسفته الحب، وسرُّه الحب. وأنْ لا خلاصَ لإنسان العصر، وأي عصر من عصور البشرية؛ إلا بالحب. وأن الوجودَ الإنساني لا تتدفق هويتُه المائزة وبصمته النوعية، ولا يتكامل في قوس الصعود؛ إلا بالحب.
ختاماً من أجل بناء الحياة الروحية والأخلاقية في مجتمعاتنا، ينبغي أن نعود إلى الطاقة الروحية المتدفقة في آثار الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، ومولانا جلال الدين الرومي، الذي أورد تصويراً رؤيوياً للحب والعشق الإلهي في "المثنوي"، في سياق حكاية إنكار النبي موسى مناجاة الراعي، فخطابه الله بقوله:
"إني أطلب لهيب (الحب)، فاحترق وتقرّب بهذا الاحتراق! اشعل في روحك ناراً من العشق، ثم احرق بها كل فكر، وكل عبارة!
يا موسى إن العارفين بالآداب نوع من الناس، والذين تحترق أنفسهم وأرواحهم (بالمحبة) نوع آخر. إن للعشاق احتراقا في كل لحظة...فلو أنه أخطأ في القول، فلا تسمه خاطئا، وإن كان مجللا بالدماء فلا تغسل الشهداء. فالدم أولى بالشهداء من الماء! وخطأ المحب خير من مائة صواب...إن ملة العشق قد انفصلت عن كافة الأديان، فمذهب العشاق وملتهم هو الله. ولو لم يكن للياقوتة خاتم فلا ضير في ذلك، والعشق في خضم الأسى ليس مثيراً للأسى".