"دِينُ الحكومة": تقديم كتاب سمير حسن
فئة : قراءات في كتب
"عنوان كتابي هذا هو: "دين الحكومة"، وفيه أرجعت كلمة "دين" إلى موضعها من بعد اجتثاث للكلمات "دستور" و"نظام" و"قانون"، ورجع معها مفهوم العقد والعهد والميثاق للكلمة. فالدين عند اللَّه هو شرع معروف قيّم لحكمه الاتحادي بسلام في ملكه. وله المثل الأعلى. وهو ما وعظ الناس بمثله وأرسل لهم الرّسل ليضربوا لهم المثل على قيام الدين والحكم بمثل ما عنده."
"دين الحكومة" لسمير إبراهيم خليل حسن، ص16.
يُعدّ كتاب "دين الحكومة"، لسمير إبراهيم خليل حسن، من الكتب التي تضفي على العلاقة الجامعة بين الدين والسياسة ملمحاً آخر من ملامح الاتصال البعيد عن التوظيف المغرض لمفاهيم تمّ اجترارها على مدار تاريخ طويل، دون أن يكون لها الأثر البالغ في تغيير سلوكيات الإنسان المسلم، ولا في أنماط تفكيره كما جسّدها الواقع الفعلي. كما يمكن أن يكون هذا الكتاب دعوة للرجوع إلى مفاهيم تمّت قولبتها في ثقافة غيّرت منحى الدّين كما جاء به رسل الله، وكما تضمنّته رسالاته. فلم تعد تفرِّق بين المفاهيم، أو تقرأ كتاب الله بعيداً عن نظرة الأسلاف، منذ أن وقع التحوّل التراجيدي لمسار الرّسالة في بُعدها الإنساني الهادي بموت الرّسول محمد، وصولاً إلى ملهم السّلفية القديمة والمعاصرة ابن تيمية، حيث سيحيد الدّين عن بُعده الرّسالي، ليصير سياسة في يد كهنوتٍ لا يعرف من الدّين إلا منطق العقوبات.
صدر كتاب "دين الحكومة" عن دار السّاقي في طبعته الأولى سنة 2012، وضمّ مجموعة من المباحث، كلّها تتمحور حول إعادة صياغة المفاهيم القرآنية بطريقة تعيد للمفاهيم حقيقتها، بعد أن شحنها الكهنوت بفقهه وتفسيراته، وِفْق منهج لغَا في القرآن، وأزاح عن الإنسان فرصة تلقّي الهداية القرآنية، والسّير نحو نور الله، وتحقيق الإيمان البعيد عن لغو اللاغين، كما سنرى في ثنايا هذه القراءة. وعموماً فالكتاب نموذج من الكتابات المعاصرة التي ترغب في الخروج من النّفق المظلم الذي أطّرته قواعد التّفسير المأثورة عن السّلف، واستدعى بروز حركة تفسيرية من بين ركام هذه الثّقافة المحدّدة للحركة الإنسانية، والمانعة من التّجديد الفكري والنّظر بعيْن الواقع في الكثير من الأحيان.
يستهلّ سمير حسن كتابه دين الحكومة بمقدّمة من شأنها توضيح هدفه من الكِتاب، فيؤكّد على أنّ رغبته منه هي أن يكون "دستوراً يستوي مع ما كتبه الحاكم محمد في الصحيفة سنة 622 م. وهو ما يعهد إلى حكومة تدين له وهي تسعى وراء خير الشّعب في أيّ وقت وأيّ بلد"(ص7). ولتحقيق هذا الهدف كان لزاماً أنْ يشتغل الباحث على تصويب بعض المفاهيم المركزية في هذا المجال، وأوّلها مفهوم الكفر.
فالكافر ليس مفهوماً ينطبق على المخالف عقدياً كما صوّرته الثّقافة العربية، ولكنّه مفهوم ينطبق على من يغطّي ليظلم ويعيق ويمنع كلّ ما يؤثر على ما له من سلطة ومنافع. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: "وقالَ ٱلَّذين كفروا لا تَسمَعُوا لِهٰذا ٱلقرءانِ وٱلغوا فيه لَعلَّكم تَغلِبونَ "(فصلت 26). ولتتحقّق تغطية النّاس عن سبل الهداية الربّانية أطلقوا لغوَهم في دليل كلمة دين. فقد كان لهذه الكلمة المسار التّحريفي نفسه الذي عرفته سابقتها، حيث صارت اسماً جامعاً لكلّ ما يعبد به الله، من ملة وإسلام ويوم آخر، وغيرها من المفاهيم الدّينية كما تتداولها المنظومة الإسلامية. ولم تتوقّف هذه الآلة التّحريفية عند هذا الحدّ، بل امتدّت إلى مفاهيم أخرى كمفاهيم الأمّة والمعروف والمنكر والإيمان والإسلام.
"فبمفاهيم هذا اللّغو عُبّد النّاس تربية وتعليماً. ومن يقرأ القرآن الكريم لن يجد فيه كلمات دستور ونظام وقانون، ولن يدرك أنّ لكلمة دِين مفهوم أيّ عقد بين طرفين، ولن يدرك أنّ كلمة معروف هي وصف لشرع من الدّين لا منكر فيه، وبذلك ينكر اللّغو عليه مفاهيم الهداية والموعظة في القرآن، فيضيع عنه مفهوم الوفاء بالعهد وميثاقه. ولن يدري أنّ مفهوم الوصيّة والموعظة في القرآن يهدي إلى سبيل الحكم الصالح وشرعه المعروف"(ص11).
إنّ خطورة هذا اللّغو هو في تغطيته وقلبه للمفاهيم، ومن تمّ شحنه من النّاس بمفاهيم مغلوطة، لن يفهم من قوله: "شَرَعَ لكم من ٱلدين ما وصَّىٰ بهِ نوحًا وٱلَّذى أوحينآ إليكَ ومآ وصَّينا بهِ إبرٰهيمَ وموُسَىٰ وعيسى أن أقيموا ٱلدين ولا تَتَفرَّقوا فيهِ كَبُرَ على ٱلمُشركينَ ما تدعوهم إليهِ ٱللَّه يجتبى إليه مَن يشآءُ ويهدى إليه مَن يُنيبُ" (ٱلشُّورىٰ 24). لن يفهم أنّه شرع "دستوريّ" لقيام حكم ٱتحاد "فيدرالية" صالح. وفيه عقدٌ يجمع بين أمم للنّاس ذات أطوار مختلفة، ولهم شرعات ومناهج من ٱلدين مختلفة.
كلّ هذا السياق من دوافع الكتابة كما فصّل فيها الكاتب من تغيير المفاهيم وقلبِها، والتّغطية عن دلالاتها الصّحيحة، لم يكن هو السّبب الوحيد لأهداف الكتابة. بل كان أيضاً العملُ على بيان الفرق بين لسان القرآن ولسان اللّغو دليلاً وخطّاً أحدَ المحرّكات الأساسية لدوافع البحث. فكلّ هذه العوامل ساهمت في تغيير وسيلة الفهم لبلاغات القرآن. فقوله: "يَسئَلُهُ مَن فى ٱلسَّمٰوٰت وٱلأَرض كلَّ يومٍ هُوَ فى شَأنٍ" (ٱلرّحمٰن 26) يوضح أنّ "شأن الحق لا سكون فيه، ومثله شأن البلاغه. وأنّ هذه الحركة تظهر فيما يدركه سائل حي، بنظره في كتاب حي، وفيما يفهمه ويستنبطه من الدّرس في كلام وقول البلاغ" (ص13).
إنّ اختيار دين الحكومة بدلاً عن كلمة دستور لم يكن اعتباطاً، بل هو اختيار يوحي بأنّ كلمة دين أصابها أيضاً من التّحريف واللّغو ما أصاب غيرها كما سنرى لاحقاً. ولتيسير هذا المفهوم على القارئ سبّق عليه الكاتب بعض المفاهيم، مثل المسلم والمؤمن والديمقراطية والعلمانية وسيادة الشّعب والسّياسة والحكمة وحقوق الإنسان. فالدّين عند الله هو شرعٌ معروف قيّم لحكمه الاتّحادي بسلام في ملكه وله المثل الأعلى. وهو ما وعظ النّاس بمثله، وأرسل لهم الرّسل ليضربوا لهم المثل على قيام الدّين والحكم بمثل ما عنده. لكنّهم ما زالوا لا يفهمون موعظته. وبدل الاهتداء كان التفرّق والصدام الحضاري الذي نرى تجليّاته في واقعنا المعيش.
ينتقل بنا سمير حسن إلى الحديث عن أسماء الله الحسنى من بعد ما كشف لنا عن دواعي ودوافع التّأليف وتحدّيات البحث في واقع ثقافي قدّم الرّواية على القرآن، وتجاوز في تقديس اللّغة إلى الحدّ الذي قلب فيه كلّ المفاهيم. فأسماء الله الحسنى هي أسماء لمن نفخ الروح فيه. وهي عبارة عن مناهج وأفعال يكتسبها الإنسان وعلى قلبه تنزّل تنزيلاً. فيشفع نفسه باسم كلّ منهاج نزّله وعلم به وخبر بفعله. أمّا النفس التي خبرت الأسماء ولم توحّد بينها في كلّ فعل أو قول أو عمل، فتظهر كأوتار متفرّقة لا وحدة بينها. إذ الشفع اسم لكلّ زوج متّحد اتّحاداً صامداً لا يفترق كالهيدروجين. أمّا الوتر فهو ضد الشّفع. (ص17) وهكذا فعلى الإنسان أن يشفع نفسه بأسماء الله الحسنى يقرأ فيها مسيرة الهداية في الأرض، ويتجنّب تشفيع نفسه بأسماء إبليس كي لا يعيش معيشة الضّنك والقهر.
لم تتوقف مسيرة التّحريف عند هذا الحدّ، بل طالت كذلك اسمي المسلم والمؤمن. فالمؤمن اسمٌ لمن لا يخاف، وهو اسم من أسماء الله، وهو مالك الملك والملك القدّوس في ملكه. وهو الخبير بقيام الأمن والسّلام في نفسه وفي ملكه. فلا يخاف على نفسه أي ملك آخر، ولا يخاف أنْ يخسر شيئاً من ملكه أو أنْ يضيع.
أمّا "المسلم". فهو اسم لعبد مملوك لمالك الملك، وله أسلم وليس له مهرب منه: "أَفَغَيرَ دِينِ ٱللَّه يَبغُونَ وَلَه أَسلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوٰتِ وَٱلأَرضِ طَوعًا وَكَرهًا واِلَيهِ يُرجَعُون" (ءال عمران 24). فلا يحارب وليس له ملك ولا حكم ولا أمر. وليس له أمن بنفسه. وأمنه وسلامه مسؤولية مالك الملك السّلام المؤمن. ولمنهاج السَّلام فى ملك اللَّه يسجد.
لقد خلق الله الأشياء وفق نظام جدلي دقيق dialectic، وسوّاها أزواجاً تعبُده بشِرعات ومناهج مختلفة، محكومة بدِين قيِّم في مُلْكه. ومن هذه الأزواج نفسٌ واحدة بمنهاج جدلي الدّفع (فجور/تقوى)، ومن خلال ثنائية الذّكر والأنثى للتّدافع والتكاثر. ومن هذا الزّوج الجدلي هناك بشر ظلوم، يسفك الدّماء ويعيث في الأرض فساداً. ثمّ علّمه الأسماء كلّها، وهداه إلى سبيل الشّفاعة بها وتمثّلها فصار فيه دفع بين جدَلين (بشر/إنسان). وبهذا الدّفع صار أكثر شيء جدلاً: "وَلَقَد صَرَّفنَا فِى هَٰذَا ٱلقُرءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُل مَثَلٍ وَكَانَ ٱلإِنسَٰنُ أَكثَرَ شَىءٍ جَدَلًا" (ٱلكهف 23).
إنّ المسلم اسم حال، ووصف للونين من البشر:
الأوّل "مسلم "طَوعاً: وهو مَن يعلم بجعله خليفة، وأنّ كثرة جدله مناهج أسماء، يشفع نفسه بها، ولا يجهل بطرفيها ويدفع بينهما على صراط مستقيم. فينظر ويعلم وينجل بوراً ويملكه ويزرع فيه، ويحصد منه الثمرات، ويطعم من جوع. ويقيم الأمن من خوف في نفسه ونفس مواليه وفي حدود ملكه. وبإقامته للأمن من خوف يشفع نفسه باسم "مؤمن".
والثاني مسلم "كَرهاً": وهو مَن ينكب عن الصراط منحرفاً إلى طرف من طرفيّ جدل "الجعل والخلق". فَمَن ينحرف إلى طرف بشريته، وهي طرف الخلق، يجهل ويجوع ويخاف، ومَن ينحرف إلى طرف إنسانيته، وهي طرف الجعل، يعلم ويملك ويطغى ويكفر ويفسد ويسيء.
وبمن "ءَامن"، وبمن "أسلم" ينشأ جدل يدفع بين بلدين للإنسان:
البلد الأول تقوم فيه حكومة بشرع معروف من الدّين على صراط مستقيم، ولا تنكب عنه تدفع بين طرفين جدليّين فى البلد "مؤمنين ومسلمين" من أمم مختلفة، فيصلح البلد ويطيب نباته والعيش فيه، وتبقى وحدة طرفيه الجدليين قائمة بسلام وأمن.
البلد الثاني تقوم فيه حكومة تنكبّ عن الصّراط وتدفع بالفحشاء والمنكر تفرّق بين طرفي البلد وبين أممه، فيخبث نباته والعيش فيه ويتحارب أهله ويُهدم شأنهم وتهلك قوّة الدفع فيه. (ص31/32)
وبهذا التّعريف يصل سمير حسن إلى أنّ المسلمين أممٌ، وأنّ إبراهيم النّبي الذي اتخذه الله خليلاً هو أبٌ لمسلمين بمواصفات معينة، فهو أبٌ لكلّ من ينظر ويعلم ويملك ويؤمن ويجاهد في تبديد ظلمات الواقع. وأنه ليس أباً لمسلمين كرْهاً. وهذا ما عرّفه الحاكم الرّسول والنّبيّ مُحَمَّد فيما سنّه من الدين شرعاً عهده ووثّقه في كتاب، بين طرفي الجدل في مجتمع "يثرب"، أقام به حكومة المَدِينة:
"هَذَا كِتَاب من مُحَمّدٍ ٱلنَّبِى بَينَ ٱلمُؤمِنِينَ وَٱلمُسلِمِينَ مِن قرَيش ويثرب وَمَن تبِعَهُم فَلَحِقَ بِهِم وَجَاهَدَ مَعَهُم".
وبهذا التّعريف يخلص إلى أنّ هناك طرفين:
الطرف الأول: المؤمنون من دون بيان الإيمان باللَّه أو اليوم الآخر.
الطرف الثاني: المسلمون، وهم عامّة البشر في أيّ مجتمع، ومنهم الذين يسلمون أمر طعامهم وأمنهم لمؤمنين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ومنهم منافقون يرجفون في الشرع والأمر، ويحدثون أحداثاً تشيع بها الفحشاء في البلد ويضيع الإيمان. (ص38)
إنّ المؤمن سيّد والمسلم عبْدٌ في جميع الأحوال، كما أكّد الباحث، وعلى الدّارسين في كتاب الله وفي الصّحيفة التي وثّقها النّبي محمّد في المدينة أنْ يتبيّنوا أنّ عليهم إقامة حكم بشرع معروف من الدّين constitution يستوي مع ما كتب في الصحيفة "فيبيّنوا أشراط ديّانٍ هو ٱلشّعب بأممه وطرفيه ٱلجدليّين على مَدِين هو حكومة ٱتحاد توحّد بين طرفي ٱلجدل (المالكون والعبيد) ليكونوا بنياناً مرصوصاً لا ينفصل منه شيء. فتقوم حكومة من أمم ٱلمؤمنين مَدِينة لأشراط دين الدَّيَّان، متطهرة من مفاهيم القوم والطآئفة والطبقة، تأمر وتحكم بين المالكين والعبيد فيما يختلفون ويتنازعون"(ص41).
بعد تصويب مفهومَيْ المسلم والمؤمن، وإزاحة كلّ معاني التّحريف التي لحقتهما بفعل اللّغو اللّساني الذي درج عليه الباحثون المسلمون، ينتقل بنا الكاتب إلى فضاء دلالي آخر، وهو كلمة ديمقراطية، ويعترف بأنّ هذه الكلمة أيضاً تتناقض وإقامة الدّين كما تمّت الإشارة إليه في ثنايا الكتاب. "فالدّيموقراطية سياسيًّاً: إحدى صور الحكم التي تكون فيها السّيادة للشعب، واجتماعيًّاً: أُسلوب في الحياة يقوم على أساس المساواة وحرية الرأي والتفكير". وسبب هذا التّأثير هو الحمولة الثقافية الغربية التي شحنت بها هذه الكلمة. وقيام الدين بما وصّى اللَّه به المؤمنين المختلفين في شرعاتهم ومناهجهم. هو قيام حكومة اتّحاد بشرع معروف من الدين يوحّد بينهم ولا يفرّق.
فهل يقوم الدين بشرع ومنهاج الديموقراطية؟
كلمة ديموقراطية في لسان اليونان اسم لحكم يقوم بتصويت الشعب، وبهذه الوسيلة يتساوى صوت المؤمنين من الشعب. وعددهم قليل في أيّ شعب، مع صوت المسلمين من الشعب ذاته، وعددهم فيه كثير. وبهذه الوسيلة يخالف الناس وصيّة اللَّه: "وإن تطع أكثر من فى ٱلأرض يضلُّوك عن سبيل ٱللَّه إن يتبعون إِلَّا ٱلظنَّ وإن هم إِلَّا يخرصون" (الأنعام 221).
وبهذا يفتح على النّاس أبواب الاستغلال السّياسي للعامّة، وشراء أصواتهم وتوظيفهم في مشروعات لا تخدم مصالحهم. وهذا هو المدخل الأساسي لديكتاتورية أصوات العامة أو ديكتاتورية الأغلبية؛ فتختفي بذلك حكومة الدّين القيّم والشّرع المعروف.
إنّ موقف المسلم من كلّ مفاهيم الحكم الرّاشد والصّالح محكوم بمفهومه للدّين، كما سبق الإشارة إلى ذلك. فالدّين ليس سوى ما يتمّ تداوله من مفاهيم اللّغو المعاصرة كالقانون والدّستور والنّظام. فمنذ لحظة الانقلاب التي شهدها التاريخ الإسلامي والمسلمون يعيشون انقلاباً مفاهيمياً على جميع المستويات. حيث سيادة المفاهيم السّياسية والسّلطة والتحكّم، وعدم الإدراك لجدل (الخلق والجعل). فكلّ ما نحتاجه هو شرع معروف constitution عقداً وعهداً وميثاقاً، تدين له السّلطة فيما تأمر وتحكم وتفي به. كما نحتاج شخصاً بحجم إبراهيم النّبي بما دلّ عليه من مفاهيم النّظر والتأمّل والحنيفية والانفصال عن القوم والتبرؤ من الشرك.
وهذا ردٌّ صريح على من يحملون اليوم شعار "الإسلام هو الحلّ" ظنّاً منهم بأنّ الشّريعة الإسلامية هي شرعُ الدّين عند الله. فهم لم يميّزوا بعدُ بين المسلم والمؤمن، وأنّ هذا الشعار هو فسق عن الوصية: "أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه". ويبيّن شعارهم أنّهم لا يعلمون أنّ الحلّ لن يكون من دون شأن جديد وشرع معروف جديد. أسوة حسنة بما كتبه الحاكم الرّسول والنّبيّ "محمّد"، وبه دفع بين "المؤمنين" و"المسلمين" في "يثرب" مؤلّفاً وموحّداً. وهذا ما جهله المسلمون بدءاً من تاريخ الانقلاب على الصحيفة، وصولاً إلى ابن تيمية الذي صار أباً لكلّ من غفل عن الحدود والصّراط والدّفع بين طرفي جدل المجتمع.
ومن الدّيمقراطية إلى العلمانية secularism يرى سمير حسن أنّ هذه الكلمة في صيغتها الإنجليزية تحمل دليل الحياة الدّنيا ومفهومها، وبها يُحّدد النّاس للحكومة وجهة أوامرها ومناسكها، فتهتمّ بحياة الفرد منهم وسبيل طعامه وسبيل أمْنه في "الحياة الدّنيا"، ولا تأمر ولا تنسك بما يؤثِّر فيما يأمل به في "الحياة الآخرة". هذا المفهوم للكلمة الإنكليزية هو ممّا جاء بيانه في القرءان بتفريق قوله بين الحيوٰة الدنيا والحيوٰة الآخِرة. وفي بيانه أنّ الحياتين مسؤولية الفرد، وأنّه ليس لأحد من الناس وكالة عنه أو ولاية عليه، فهو مَن يختار كيف يعيش حياته الدنيا، وأنّ الحياة الآخرة مسؤوليته، وليس لأحد سلطة عليه.
وبالرّغم من الإشارة القرآنية إلى الحياة الدّنيا كمفهوم موازٍ لكلمةsecularism الإنجليزية، إلا أنّ المسلمين لم ينتبهوا لهذا التّحديد، فوضعوا كلمة العلمانية ترجمة للكلمة الإنجليزية، وحتّى من زعم القضاء على الحكم العثماني وتبني secularism، أطلق اسم تركيا على ميديا وكيلكيا والأناضول وعلى السّلطة الجديدة فيها دون مراعاة وجود قوميات أخرى كالأكراد والشاميين واليونان والأرمن.
ينتقد الكاتب أيضاً كلمة سياسة. فالنّاس عليهم إدراك أنّ وظيفة الحزب هي وظيفة سياسية، وهم مجرّد موظّفين عند من يسعى لبلوغ السّلطة. وعليهم أن يعلموا أنّهم في أيّ مجتمع يتوزّعون بين قوميات وطوائف. وفي كلّ قوم وطائفة فريقان: المؤمنون والمسلمون، وأنّ حاجتهم إلى حكم يدفع موحّداً بينهم على صراط مستقيم لا تأتيهم بالسّياسة ولا بأحزابها، بل يأتي بهذه الحاجة أشخاص مالكون عارفون راشدون صالحون منهم جميعاً، قلوبهم ملقَّمة بالحكمة، ومنهم اسم لقمان: "وَلَقَد ءَاتَينَا لُقمَٰنَ ٱلحِكمَة" (لقمان 20).
ما تدلّ عليه كلمة "سياسة" هو منهاج المَكر والمكيدة بدابّة وحشيّة، لمسكها وقيدها وحبسها داخل موطن "زريبة"، أو العمل على قهرها وتذليلها وإخضاعها، وفي لسان الأميين العبريّ كلمة "סוּס سوس"، اسم لدابة الخيلا قُهرت وذلّلت وأخضعت، ليحصن راكبها نفسه بها ولها اسم "حصان".
من هنا يقترح الكاتب بدل السّياسة مفهوم الحكمة القرآني، حيث تدلّ على منهاج علم كثير معروف يلقّم في قلب إنسان، وهو من يعلم حاجة المجتمع الموزّع فِرَقاً. لهذا لم تذكر كلمة سياسة في كتاب الله ولا مشتقاتها، بل جاءت في مقابلها كلمة حكمة.
يدرس سمير حسن في مبحث "سيادة الشّعب" كلمة شعب، التي تعني من وجهة نظره من هاجروا من عشيرتهم وقبيلتهم، ومن شُعب مختلفة في الأرض. واجتمعوا في بقعة منها وتفاهموا على العيش معاً فيها. وهم قريش من طوائف وفئات مختلفة. والشّعب طرفان: مؤمنون ومسلمون: وفي الشرع طرف المؤمنين (وهم أرباب العلم والملك والمال) هو مَن يشترى بدَيْنٍ، وعليه الوفاء به بما يحكم ويأمر وينسك، وطرف المسلمين (وهم جميع فئات الشعب الأخرى) هو مَن يبيع. وبذلك يكون للشعب حقّ القول والاحتجاج والطلب بالوفاء (ص130). ومن يضع الشرع ليس هو الشعب كما تزعم الديمقراطية بل هو شخص واحد أو عدد محدود من الأشخاص، مؤمن صالح عليم يوفّر حاجة النّاس من المأكل ويؤمّنهم من خوف. فوظيفة الشّعب دوماً هي البيع ديناً بما كتبه الشّخص عهداً وميثاقاً، وله حق متابعته الوفاء بجميع الوسائل. وبذلك لم يكن للشّعب يوماً سيادة من دون فريق مؤمنين يعهد إليه عقد بيع لحقّ الحكم، ويوثّق وفاءه به، ويتابعه فيما يحكم ويأمر.
أمّا في بلداننا العربية والإسلامية فليس هناك أصلاً مفهوم سيادة الشّعب، حينما نقرأ عن أنّ دساتير هذه البلاد هي الشّريعة الإسلامية، وبذلك الإعلان يكرِه واضع الدّستور الشّعب ويفرّق في الدّين، وبالإكراه لا تبقى للمكرِه سيادة. بل إنّ الكثير من هذه الدّساتير ما تزال ترى في الشّعب أنّه "جمْعٌ للمجرمين"، بإسقاطها حقوقه في الحياة الدّنيا "الحقوق المدنية".
يظهر من هذا الرّبط بين شرعة الحكم (دستور أو نظام) وما يسمّونه بالشّريعة الإسلامية جهلٌ بالجدليات النّاظمة للكون، وشِرْك لمفاهيم متناقضة، كما يظهر في جمعهم لكتب "الصّحيح" مع حديث كتاب اللَّه، وشِرْك لشريعة ابن تيميّة مع ما سنّه الحاكم الرّسول أو النّبيّ "محمّد" من شرع معروف في "الصحيفة". وخلاصة هذا الأمر أنّ المؤمنين في كتاب الله ليسوا من عامّة الشّعب، بل هم خاصّته، وهم عنوان لكلّ من ألف النّظر، والبحث والتأمّل، والحنف مع الدليل. أمّا رافعو لواء الشّريعة الإسلامية فهم لا يعلمون أنّهم برفعهم لهذا الشّعار يجهّلون الله بقوله أنّ أموراً كثيرة لم يبيّنها في كتابه. فكتاب اللَّه يتلى عليهم مبيّنًا لهم كلَّ شىء بلسانهم الأميّ. ومع ذلك يقولون إنّ ما ورثوه من حديث يشرح ويفسّر ويبيّن، ولا يمكنهم ترك شرحه وتفسيره وبيانه والوثوق ببيان كتاب اللَّه. ويقولون إنّ ما ورثوه من حديث ءابائهم صحيح، وهو ما تبعته "أمّة المسلمين" فيما تحكم منذ عهد طويل (ص139).
امتدّ التّحريف أيضاً حسب الكاتب إلى مفهوم السُنّة، فحادت عن حقيقتها، ولم يعد يعرفها النّاس إلا من خلال مجموعة من الروايات المذكورة هنا وهناك، صحّحت بقواعد وتأصيلات قعّد لها مجموعة من المحدّثين والفقهاء والأصوليين. فلكلمة "سُنّة" دليل ومفهوم من الفعل سَنَّ يَسُنُّ، ومنه القول "من حمإٍ مَسنُون"، وهو وصف لماءٍ يفجّر ويندفع ويجري. وهذا على الضدّ من ماء راكد آسن، ومنه سنّ الأمر والشرع، وهو لجريان فعله بوضعه في منسك للعمل به. وسنّة اللَّه هي شرع السَّلام المسنون في السّمَٰوتِ والأرض. وسنّة النّبيّ هي شرع السلم الذي سنّه في "يثرب". وحكومة المَدينة عنه مسؤولة، وهو عليها ميثاق ودَين. وسُنّة أيّة سلطة هي شرع قيامها لتحكم وتأمر به.
فما الذي سنّه النبيّ وجعله نبراساً يهتدي به كلّ من أراد الإسلام؟
هنا تختفي الحادثة من كلّ الكتب الصّحاح إلا لماماً، بل سمّوها كتاب موادعة لليهود ليضلّل به كاتبه مفهوم السنّة وشرع المعروف من الدّين. "كتب رسول اللَّه النّبيّ الحاكم "محمّد" كتاباً في صحيفة، " سنَّ فيها شرعاً معروفاً من الدين. قام به حكم صالح في بلد أهله في تثريب. ولهم ميراث يتنازعون فيه على السلطة وميراثها. فجعل الأمر في سنّته بيد مَن يرأس المسجد من المؤمنين. وبقي ملك يثرب من دون حكم وأمر كما هو الأمر في المملكة المتحدة. وجعل كتابه عهداً وميثاقاً بين "مؤمنين" هم الطرف الشاري من بين المتنازعين، و"مسلمين" هم الطرف الذي بايع على الحكم والوفاء بالعهد. وبسنّته قامت حكومة اتحاد مدينة للسنّة في مسجد "يثرب". وأبقى الميراث ملكاً لا نزاع عليه"(ص167).
عود على بدء:
إنّ كتاب دين الحكومة هو دعوة لقراءة القرآن من منظور آخر، وإطلالة على خبايا ما وقع من تحريف لبعض المفاهيم، وخلط للأوراق من جديد من أجل الاطّلاع على ما يحويه القرآن الكريم من مفاهيم الهداية والرشد. هذا الاضطلاع بالمسؤولية رهين بأن يعرف الإنسان دوره الرّيادي، ويدرك الجدليات النّاظمة للكون والنّفس، والخروج من بوتقة البشرية إلى آفاق الإنسانية.
كما أنّ الكتاب هو قراءة لمفاهيم سياسية انطلت على تاريخنا، فأعدنا إنتاجها واستهلاكها دون وعيٍ منّا بخلفياتها الثّقافية والفكرية، حيث تحوّلت الدّيمقراطية إلى ديكتاتورية الشّعب، والسكيولاريزم إلى علمانية، وسيادة الشّعب إلى تجريده من كلّ حقوقه المدنية بمسمّى الشريعة الإسلامية. إنّ دِين الحكومة هو دِين المؤمنين، وهو شرعة الحكم (قانون/ دستور)، وليس شرعة الفقهاء أو الكهنوت أو الجاثمين على قلوبنا بمفاهيم الدولة الإسلامية.