رأس المال الاجتماعي وتأثيره في الاقتصاد


فئة :  قراءات في كتب

رأس المال الاجتماعي وتأثيره في الاقتصاد

 رأس المال الاجتماعي وتأثيره في الاقتصاد

قراءة في كتاب "الثقة الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي" لفرانسيس فوكوياما


 

كتاب "الثقة الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرفاه الاقتصادي" لفرنسيس فوكوياما، المترجم إلى العربية من طرف معين الإمام ومجاب الإمام سنة 2015، الذي ألّفه بعد كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، أتى في إطار ازدياد الاهتمام والنقاش حول الاقتصاد، بعد انهيار المعسكر الشرقي، وسعي الدول المتحوّلة إلى الليبرالية إلى بناء أنظمة مستقرّة، حيث دارت مختلف الأسئلة السياسية والمشكلات الأمنية حول منابعها الاقتصادية، كما أتى في إطار محاولة المؤلّف الإجابة عن ملاحظاته حول وضع المجتمع الأمريكي، الذي يشهد منذ الستينيات من القرن الماضي، تراجعًا في رأس المال الاجتماعي وانهيارًا تدريجيًّا في منسوب الثقة؛ من أهم مظاهره ارتفاع معدّلات الجريمة، واستخدام العقاقير المخدّرة، وتزايد نسب الانتحار، وتراجع العائلة النووية وبداية تفككها وظهور عائلة أحادية الأب أو أحادية الأم، إذ بلغت نسبة هذا النمط الأسري لدى السكان البيض في منتصف السبعينيات حوالي 30% ونسبة 70% لدى السكان السود في بعض الأحيان.

أوّلاً: أهمّية الكتاب

إذا استحضرنا التخصّصات المتنوّعة التي ينهل منها المؤلّف أفكاره، حيث يعود إلى مؤلفات في الاقتصاد السياسي، والفكر الاقتصادي، وعلم السياسة، والتاريخ، والأنتروبولوجيا، والتنظير المعلوماتي، ويعتمد على مراجع الآباء وكبار المنظرين في هذه التخصصات، وينهج مقارنة زمنية ومكانية متعددة، ومقارنة كمية ونوعية غنية، حيث يعود بكثير من الحرفية والاطلاع إلى ماضي البلدان المقارنة وحاضرها؛ الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، وانجلترا، وفرنسا، وإيطاليا، ودول أوروبا الشرقية سابقًا، واليابان، والصين، وتايوان، وسنغافورة، وهونغ كونغ، وجمهورية كوريا، وينفتح في طرح الفرضيات ومساءلة العديد من الأفكار حول المجتمعات المدروسة.. أمكن التسليم بأهمية هذا المؤلف الضخم المتكوّن من 640 صفحة.

ثانيًا: قصور المدرسة الاقتصادية الجديدة: ليس من المنطقي إسقاط

دور الثقافة

يعتبر فوكوياما تحليلات المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة قاصرةً ومحدودةً في الوصول إلى حقيقة النشاط الاقتصادي لأنّها تسقط من مجال اهتماماتها العوامل الثقافية، فبالرغم من اعترافه بصحة تفسيرها للسلوك الإنساني في المجال الاقتصادي بنسبة80%، إلا أنّه يعتبرها عاجزةً عن تفسير 20% المتبقية.

وينتقد بشدة تلك النقاشات التي سادت في الولايات المتحدة بين اقتصاديي السوق والميركانتيلية الجديدة، حول تفسير أسباب النموّ الذي عرفته الدول الآسيوية؛ المركّزة إما على تدخل الدولة المباشر في الاقتصاد، أو على وجود مؤسسات اقتصادية مختلفة وخاصة بها.

إنّ تقديم المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة لأدواتها الفكرية والمنهجية واعتبارها قوانين الاقتصاد مطلقة، يمكن تطبيقها في كل زمان ومكان، ولا تتأثر بالفروقات الثقافية، وإيمانها الدوغمائي بأفكارها حول الطبيعة البشرية والسلوك البشري، لاسيما العقلانية وأنانية الأفراد.. تعد مبررات نسبية ومحدودة، حيث الواقع يدحض ذلك، ويكشف أنّ الأفراد يسعون إلى تحقيق أهداف "لانفعية" بطرق "لاعقلانية" في كثير من الأحيان.

يعود فوكوياما إلى أفكار الاقتصاد الكلاسيكي الأول، خاصة آدم سميت (AdamSmith)، في كتابه "نظرية العواطف الأخلاقية" الذي ذهب فيه إلى تعقد الدافع الاقتصادي وتجذّره في العادات الاجتماعية، واستحالة فصله عن القيم السائدة في المجتمع، ليؤكد أنّ الخطاب الاقتصادي العام يحتاج إلى استعادة بعض هذه الأفكار وأخذ الثقافة ودورها في السلوك الإنساني بعين الاعتبار، لاسيما السلوك الاقتصادي.

ثالثًا: تحديدات مفاهيميّة

يعتمد فوكوياما عددًا من المفاهيم الأساسية لمناقشة أطروحته حول تأثير العوامل الثقافية في البنية الاقتصادية، يمكن إجمالها في خمسة، وهي:

- الثقة:

إنّ المجتمعات الإنسانية تعتمد على الثقة المتبادلة وظهرت إلى الوجود تلقائيًّا بفضلها. والثقة تعد من القيم التي تتحدد ثقافيًّا، ويرتبط انبثاقها "بمجتمع يتميّز سلوك أعضائه بالنزاهة والانتظام والتعاون، اعتمادًا على مجموعة من المعاير المشتركة التي يؤمنون كلهم بها".[1]

وهذه المعايير، قد تتركّز على قيم غيبية، كطبيعية الله ومفهوم العدالة، كما قد تتركز على قيم دنيوية مثل المعايير الحرفية والمهنية وآداب السلوك.

- رأس المال الاجتماعي:

يحدد فوكوياما رأس المال الاجتماعي في "قدرة تنبثق جراء تغلغل الثقة في المجتمع، أو في بعض قطاعاته على أقل تقدير. وقد يتجسد في العائلة، البنية الأساسية للمجتمع وأصغر جماعاته حجمًا، أو في الأمة، أكبر هذه الجماعات، أو في الفئات الوسيطة القائمة بينهما".[2] ويمكن اعتباره "طائفة راهنة من القيم أو المعايير غير الرسمية والمشتركة بين أبناء جماعة ما، وتهيئ لهم بذلك إمكانية التعاون مع بعضهم البعض".[3]

وينتقل رأس المال الاجتماعي عبر آليات ثقافية متعددة، مثل الدين والتقاليد، والأعراف، والعادات التاريخية، ومن ثمّ، لايمكن اكتسابه بطرائق اكتساب رأس المال البشري نفسها، وهو الذي يتم في الغالب عبر العقود الرسمية. فإذا كان هذا الأخير يمكن اكتسابه عن طريق قرار استثماري عقلاني، كاتخاذ قرار بالدراسة في إحدى الكليات، أو التخصص في الكمبيوتر، الذي يتحقق بمجرد الذهاب إلى المكان المناسب لتنفيذ هذا القرار، فإنّ اكتساب رأس المال الاجتماعي، يتم عبر الترويض والتعود على الالتزام بالمعايير الأخلاقية للمجتمع، كما يتطلب اكتساب جملة من الفضائل الأخلاقية مثل الإخلاص والأمانة والجدارة بالثقة. إضافة إلى ذلك، يتطلب الأمر تبني الجماعة لجملة من المعاير المشتركة قبل تعميم الثقة بين أعضائها. فتقاسم القيم والمعايير غير كاف لنشوء رأس المال الاجتماعي، إذ يتطلب الأمر تضمّن هذه المعايير فضائل اجتماعية، كالصدق والوفاء بالعهد.[4]

إنّ رأس المال الاجتماعي بهذا المعنى يختلف من مجتمعات إلى أخرى؛ أي أنّه غير موزع بصورة متساوية بين الأمم، ويتميز بالنسبية من حيث الزمن، حيث يمكن للمجتمع أن ينجح في اكتساب رأس المال الاجتماعي مع مرور الوقت، كما يمكن أن يفقده، وتتدهور قدرته على الحفاظ عليه.

- النزعة الاجتماعية العفوية:

تشير إلى مجموعة من القيم الفرعية لرأس المال الاجتماعي، كما قد تدل أيضًا على المجموعة الواسعة من التجمعات والمجتمعات الوسيطة، المتميزة عن الأسرة أو عن تلك التي أقامتها الحكومة عمدًا.

- الثقافة:

بعد التذكير بصعوبة تحديد تعريف لهذا المفهوم، نظرًا لتعدد التعاريف حيث ذهب أحد المؤلفين إلى جرد أزيد من 160 تعريفًا رائجًا يستخدمه علماء الاجتماع وعلماء النفس والأنتروبولوجيا وغيرهم. وبعد تذكيره بتمييز علماء الأنتروبولوجيا الثقافية وعلماء الاجتماع بين الثقافة والبنية الاجتماعية، باعتبار الثقافة تتمثل في الدلالات والرموز والقيم والأفكار، وتتضمن ظواهر مثل الدين والأيديلوجيا، واعتبار البنية الاجتماعية تتعلق بالمؤسسات الاجتماعية المتعينة والمحددة كالعائلة والعشيرة والأمة والنظام القانوني. ونظرًا لصعوبة التمييز بينهما، فإنّ فوكوياما يستبعد اعتماده، ويوظف مفهومًا قريبًا من الثقافة والبنية الاجتماعية معًا، وقريبًا من المعنى الرائج للثقافة، ويعتبرها الطباع والعادات الأخلاقية الموروثة.

وهذه العادات الأخلاقية قد تتألف من فكرة أو قيمة مثل البقرة مقدسة، أو الخنزير نجس، أو قد تتألف من علاقات اجتماعية فعلية واقعية مثل نزعة توريث الابن البكر جميع ممتلكات أبيه. فالثقافة تتضمن الأفكار والقيم والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بالعادات الأخلاقية الموروثة.

وتنتقل مكونات الثقافة من جيل إلى آخر، عبر التعود واعتناقها باعتبارها عادات وتقاليد، ولا يتم ذلك عبر تفكير عقلاني مليّ، أو وسائل عقلانية. غير أنّ ذلك لا يعني نفي أي خيارات عقلانية عن العادات الأخلاقية، فهذه الأخيرة، يمكن أن تتضمن قواعد عقلانية، قد تكون اقتصادية (المنفعة)، كما قد تكون دينية (روحية معنوية)، وحتى تلك القواعد الأخلاقية المفتقرة إلى العقلانية يمكن أن تكون مفيدة في تدعيم نزعة تحقيق المنفعة الذاتية.

وما دامت الثقافة متعلقة بالطبيعة الأخلاقية، فإنّها تتغير ببطء شديد أبطأ من تغير الأفكار، فعلى سبيل المثال، عادات الاتكال المفرط على الدولة، وعدم قبول التسويات والحلول الوسطى، والنفور من التعاون الطوعي ضمن شركات أو أحزاب سياسية، التي عرفتها المجتمعات الشيوعية السابقة أبطأت عملية إرساء الديمقراطية واقتصاد السوق.

لكن هذا لا يعني أنّ الثقافة لا تتغير، بل فقط تغيرها بطيء زمنيًّا؛ فتغير الثقافة الكاثوليكية من معاداة الديمقراطية إلى المصالحة معها ابتداءً من النصف الثاني من القرن العشرين، تطلب الكثير من الوقت قبل ظهور ملامحه.

- الفضائل الاجتماعية:

تتشكل من العادات والتقاليد الثقافية، وتتضمن قيمًا عديدةً مثل، الأمانة، والاستقامة، وروح التعاون، والشعور بالواجب تجاه الآخرين... تساهم-ليس كلها- في تكوين رأس المال الاجتماعي.

ولم تلق هذه الفضائل اهتمامًا كبيرًا على مستوى علاقتها بالاقتصاد، إذ إنّ أغلب الدراسات الاقتصادية تركز على عمل واحد، هو عمل ماكس فيبر "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" المنشور عام 1905. ويذهب فوكوياما إلى أنّ "روح الرأسمالية" التي تحدث عنها ماكس فيبر لا تدل على أخلاقيات العمل بمعناها المجرد، بل تشير أساسًا إلى تلك الفضائل المرتبطة بها، وهي جملة من القيم النوعية المرتبطة بالتجارة ورجال الأعمال، المتمثلة أساسًا في بذل الجهد في العمل، والادخار، والعقلانية، والابتكار، وقبول المخاطرة، وهي فضائل فردية أساسية للقيام بالمشروع التجاري.

غير أنّ ماكس فيبر أثار كذلك الفضائل الاجتماعية في مقالة منفصلة وأقل شهرة، هي "الطوائف البروتستانتية وروح الرأسمالية" التي خلص فيها إلى أنّ "للطوائف البروتستانتية الموجودة في الولايات المتحدة وفي أجزاء من إنجلترا وألمانيا، تأثيرًا آخر مهمًّا زاد من قدرة أتباعها على التلاحم والتماسك في مجتمعات جديدة"[5]، حيث ارتبط أفراد هذه الطوائف فيما بينهم بعدة قيم مشتركة مثل الأمانة والمساعدة، شكّلت أساس تماسكهم الاجتماعي، الذي كان لهم عونًا في المجال التجاري والصناعي.

يعتبر فوكوياما أنّ الفضائل الاجتماعية تشكل شروطًا مسبقة لتطور العديد من الفضائل الفردية وأخلاقيات العمل، لأنّ هذه الفضائل الفردية يمكن صقلها وتطويرها في سياق الجماعات والمؤسسات الاجتماعية المتماسكة.

رابعًا: المقولة النظرية الأساسية للكتاب

يؤكد فوكوياما في كتابه الارتباط القوي والوثيق بين التقاليد والقيم والثقافة والهيكلة الصناعية والأداء الاقتصادي، حيث إنّ غني رأس المال الاجتماعي، وانتشار التواصل الاجتماعي، وسيادة الثقة بين أفراد المجتمع وتخطيها للمجال المحدّد للجماعات، أو ما يسميه "بالبعد الإيجابي للثقة".[6] يساهم مساهمة محددة وجوهرية في خلق المؤسسات الاقتصادية الضخمة القائمة على التنظيم والتراتبية الإدارية، المؤسسة للرخاء الاقتصادي والقدرة التنافسية في السوق الاقتصادي.

فلكون النشاط الاقتصادي يُعَدّ جانبًا محوريًّا من المجتمع، فإنّه يتأثر بجملة من القيم والمعاير والالتزامات الأخلاقية المنتشرة في المجتمع.

وانطلاقًا من مقارنته بين عدة مجتمعات تنتمي إلى أمريكا الشمالية، وأوربا وآسيا، وبناءً على مستوى الثقة، يقسّم هذه المجتمعات إلى نوعين أساسيين:

- النوع الأول: مجتمعات متميزة بتواصل اجتماعي قوي، ودرجة مرتفعة من الثقة، تجسدها تلك المجتمعات التي تعرف انتشارًا كبيرًا للمؤسسات الجماعية الوسيطة التلقائية الواقعة بين العائلة والدولة، والمساهمة في خلق نموّ سريع للمؤسسات الاقتصادية الكبرى وذات تراتبية عالية، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وألمانيا، التي كانت سباقة إلى إقامة مؤسساتها الاقتصادية الكبيرة، ونجاح القطاع الخاص في تطوير البنية الاقتصادية فيها.

فبالرغم من أنّ إقامة شركات ضخمة ذات بُنى تراتبية، ساهمت فيه العوامل التقنية وحجم الأسواق وحرص الموزّعين على تحقيق الكفاءة الاقتصادية، إلا أنّ وجود أرضية ثقافية مسبقة تميل تلقائيًّا نحو التنظيم الاجتماعي والتواصل الاجتماعي، وتعرف انتشار معدّلات مرتفعة من الثقة ساعد بشكل كبير على قيام هذه المؤسسات الاقتصادية الضخمة.

- النوع الثاني: مجتمعات متميّزة بتواصل اجتماعي ضعيف، تتمثل في تلك المجتمعات التي تعرف مؤسسات وسيطة طوعية قليلة وضعيفة، والمتميزة تبعًا لذلك، بمستوى ثقة متدنّ خارج نطاق الأسرة، وبهيمنة الشركات الاقتصادية الصغيرة الحجم، وصعوبة ظهور الشركات الكبرى وبطء نموها، حيث يعتمد ظهورها أساسًا على الدور الذي تلعبه الدولة أو الاستثمارات الأجنبية.

وتتجلى في المجتمعات الاشتراكية؛ الاتحاد السوفياتي وأوربا الشرقية، والبلدان الكاثوليكية كفرنسا وإسبانيا، وعدد من البلدان في أمريكا اللاتينية، والمجتمعات الصينية؛ تايوان، وهونغ كونغ، وسنغافورة، والصين.[7]

خامسًا: ضعف قيام المؤسّسات الاقتصادية الكبيرة: تدني الثقة في المجتمع عامل محدّد

تعرف المجتمعات ثلاثة سبل مؤدية إلى التواصل الاجتماعي، وهي؛ العائلة وصلات القربى، والجمعيات الطوعية كالمدارس والأندية والمنظمات الحرفية، والدولة. وفي علاقتها بالتنظيمات الاقتصادية يؤكد فوكوياما وجود ثلاثة أشكال من التنظيمات الاقتصادية تتصل بهذه السبل، وهي: المؤسسات التجارية العائلية، والشركات المسيّرة من طرف إدارات محترفة، والمشروعات المملوكة أو المكفولة من طرف الدولة.

إنّ السبيلين الأول والثالث مرتبطان ارتباطًا قويًّا، حيث الثقافات التي تشكل فيها العائلات وروابط القربى الوسيلة الأساسية للتواصل الاجتماعي للأفراد، واجهت صعوبات في خلق مؤسسات اقتصادية كبيرة واستمرارها، وهو ما جعلها تدق باب الدولة من أجل إقامتها ودعمها. في حين، إنّ الثقافات التي تعرف جمعيات طوعية قوية ونشيطة، استطاعت إنشاء منظمات اقتصادية كبرى دون الاعتماد على وساطة الدولة ودعمها.

فالمجتمعات التي تعرف تدني مستوى الثقة، وسيطرة العائلة على مقدراتها، وضعف مؤسساتها الوسيطة، تتميز -نتيجة لذلك- بهيمنة المشروعات الاقتصادية الصغيرة المملوكة للعائلات، والتي تشكل قطب اقتصادياتها، وبقلّةالشركات الكبرى. ومن ثم، فإقامة هذه الأخيرة، يظل مرهونًا بتدخل الدولة المباشر.

هذه الصورة النظرية يؤكدها واقع المجتمعات التي تشترك في تدني مستوى الثقة وضعف رأس المال الاجتماعي، ويؤكد الكاتب على أربعة مجتمعات، وهي:

1- المجتمعات الصينية:

بالرغم من انتشار الصينيين في العالم وتنوع المناخ السياسي الذي ينتمون إليه، وبالرغم من تنوعهم العرقي واللغوي والثقافي، إلا أنّه يمكن الحديث عن ثقافة اقتصادية صينية متجانسة نسبيًّا، تظهرجلياًّ لدى الصينيين في تايوان وهونغ كونغ وسنغافورا، حيث يشكلون أغلبية إثنية، وفي ماليزيا وتايلاند وإندونيسيا والفلبين لدى الأقليات الصينية، ولدى الصينيين في الولايات المتحدة.

إنّ البنية الصناعية لدى المجتمعات الصينية التي تجد جذورها في الثقافة الصينية تتميز بجملة من الخصائص لا تتوفر في المجتمعات الأخرى، يمكن الإشارة إلى أهمها:

- الحجم الصغير للمشروعات التجارية والاقتصادية مقارنة بمثيلاتها في اليابان وكوريا وأمريكا.

- هيمنة المركزية على المؤسسات الاقتصادية، حيث تبقى الشركة تعمل وفقًا لنظام مركزي يدور في فلك المدير المؤسس أو أبنائه، وهو ما ينتج عنه أوتوقراطية في التسيير، وسيادة التسيير المباشر.

- محاباة الأقارب والزبونية العائلية، إذ بالرغم من النمو الاقتصادي الذي تخصصه المجتمعات الصينية، إلا أنّ الأفضلية تعطى دائمًا لأفراد العائلة لإدارة مؤسساتها الاقتصادية.

ومَرَدّ هذه الخصائص أساسًا إلى "الأسروية" الصينية المتميزة بنزعة قوية للثقة في الأقارب فقط، والحذر من دوافع الآخرين، والافتقار إلى الثقة بين الناس خارج إطار العائلة. وهو ما يجعل أمر إقامة جماعات ومنظمات كبرى بما فيها الاقتصادية أمرًا بالغ الصعوبة، ذلك أنّ المؤسسات الاقتصادية العائلية عند قيامها بعملية العبور من البنية العائلية إلى البنية الإدارية المحترفة تواجه قيود الروابط العائلية وصعوبة ملاءمتها لتطور المشاريع الاقتصادية وتوسعها، الشيء الذي ينتج عنه إما تضعضع هذه الشركات العائلية وإفلاسها وتفككها، أو انكماشها وتوقّفها في حدود البنية العائلية. ومن ثم، فإنّ نجاح المؤسسات الاقتصادية الكبرى في المجتمعات الصينية مرهون بتدخّل الدولة ودعمها.

يجد النظام الأسري الصيني جذوره في المبادئ التي حددتها الكونفوشيوسية الصينية على مستوى علاقة الابن بالأب والمتمثلة أساسًا في ما يلي:

- تمجيد العائلة، بوصفها نمطًا من العلاقة الاجتماعية تخضع جميع العلاقات الأخرى.

- أسبقية الواجب تجاه العائلة، قبل أي واجبات أخرى بما فيها تلك التي تكون تجاه الإمبراطور أو الرب أو سواهما من مصادر السلطة، وعلى رأسها أولوية العائلة على الدولة.

- الخضوع المقدّس للسلطة الأبوية، حيث طاعة الوالدين تبلغ في الثقافة الصينية درجة استثنائية، ذلك أنّ الأبناء ملزمون بمساعدة آبائهم اقتصاديًّا حتى الموت، وعبادة أرواحهم بعد وفاتهم والحفاظ على شجرة العائلة.

وبما أنّ العائلة الكونفوشيوسية التي تختلف تمامًا عن العائلة الغربية تتميز بإعطاء أهمية قصوى للأبناء الذكور، وباعتبار العائلة آلية للدفاع ضد المحيط والغرباء، فإنّها أدت واقعيًّا إلى تقلص الرأسمال وتبدده من جيل إلى آخر بسبب تقسيم التركات بين الأبناء الذكور وتفكك العائلة مع الوقت، أو بسبب الإكراهات الواقعية، وهو ما سيؤدي إلى حلول رابطة النسب باعتبارها صلة تربط جماعة متحدة تؤمن بشعائر موحدة، وتعتمد على سلالة ثابتة تنحدر من جد أكبر مشترك، باعتباره معطًى أساسيًّا لزيادة عدد الأفراد الذين يكونون محل ثقة في المشروعات الاقتصادية وتقوية الالتزام.

غير أنّه بالرغم من التحوّلات التي عرفتها المجتمعات الصينية، إلا أنّ أنموذج العائلة الصينية مازال قائمًا ولم يصبه التآكل، واستطاع الصمود أمام سياسة الدولة الشيوعية التي سعت إلى القضاء عليه، وخرج أكثر قوّةً وتماسكًا.

هذه الأسروية ومكانتها في الثقافة الصينية، هي المفسّرة لبنية المؤسسات التجارية في المجتمعات الصينية.

2- وسط إيطاليا:

انطلاقًا من عودته إلى مجموعة من الدراسات حول إيطاليا، ومن خلال دراسته للمجتمع الإيطالي، ومقارنته بالمجتمع الصيني يذهب فوكوياما إلى وجود قواسم مشتركة بين المناطق الوسطى لإيطاليا والمجتمعات الصينية في تايوان وهونغ كونغ والصين. حيث تتميز هذه المناطق الإيطالية بقوة الروابط العائلية بشكل أكبر من العلاقات الاجتماعية التي لا تقوم على صلات القرابة، وضعف نسبي على مستوى عدد الجمعيات الوسيطة الواقعة ما بين الفرد والدولة وقوتها، والذي يدل على افتقار الثقة خارج إطار العائلة.

هذه البنية العائلية تؤثّر في طبيعة القطاع الخاص المتميز عمومًا بصغر حجم المشروعات الاقتصادية وخضوعها لسيطرة العائلات، وبساطة الأجهزة المسؤولة عن عملية صناعة القرار، والمتميز كذلك باعتماد هذه المؤسسات العائلية الصغيرة على شبكات من الشركات الأخرى لتعزيز أدائها الاقتصادي، ولتحقيق ما يوازي أداء اقتصاديات الحجم الكبير، مثله مثل القطاع الخاص في الصين. حيث تواجه الشركات العائلية في المجتمعين الإيطالي والصيني صعوبة في التحول إلى مؤسسات اقتصادية كبرى ومنظمة، وتبني أساليب إدارية فعالة، كما تواجه صعوبات للوصول إلى أسواق جديدة والاستفادة من مزايا الحجم الكبير. لذلك تحتل هذه الشركات المنتمية إلى البلدين مواقع متشابهة في الاقتصاد العالمي وتواجه تحديات متشابهة.

إنّ البنية الصناعية في المناطق الإيطالية الوسطى هي كونفوشيوسية في طبيعتها الجوهرية، وهناك تشابه بين الصين وإيطاليا على مستوى رأس المال الاجتماعي.

3- فرنسا:

بالرغم من الاختلافات الكبيرة بين فرنسا والصين ووسط إيطاليا، إلا أنّ فوكوياما يذهب إلى أنّ فرنسا على مستوى رأس المال الاجتماعي تتشابه مع إيطاليا وتايوان أكثر مما تتشابه مع ألمانيا والولايات المتحدة.

ففرنسا تتميز بمستوى متدنّ للثقة بين الفرنسيين، ووجود صعوبات تقليدية تحد من التواصل الاجتماعي العفوي بين الجماعات، حيث ينتشر في الثقافة الفرنسية نفور متجذر من العلاقات المباشرة وغير الرسمية، ونفور من علاقات التشارك والتعاون المباشر. وهو ما أدى إلى الافتقار إلى الجمعيات الوسيطة القائمة بين العائلة والدولة، وضعفها، وتفضيل كبير للسلطة المركزية التراتبية التي يحددها القانون، وأثّر بالتالي في صعوبة قيام قطاع خاص عماده المؤسسات الاقتصادية الكبيرة. وتركز القطاع الاقتصادي الفرنسي حول مؤسسات تجارية واقتصادية عائلية، تواجه في الغالب صعوبات للتحول من الشكل العائلي الأقل تنظيمًا إلى الشكل التراتبي المحترف.

لذلك، تم هذا العبور في فرنسا بفضل تدخل الدولة الذي ظل تقليدًا مستمرًّا في فرنسا حتى وقتنا الحاضر، من خلال تأميم مؤسسات تجارية خاصة عديدة تملكها العائلات بعد بلوغها حجمًا معينًا ومواجهتها لصعوبات في التحول إلى الأنموذج التراتبي المحترف، وكذلك، من خلال إقامة مشروعات حكومية كبيرة الحجم. هذه السمات المميزة للاقتصاد الفرنسي تعود أساسًا إلى الأسروية الفرنسية، إذ إنّه بالرغم من اختلافها عن الأسروية الصينية أو حتى عن الأسروية وسط إيطاليا، إلا أنّ العائلة الفرنسية المتميزة بتماسكها، تشكل دعامة رئيسية من دعائم اللحمة الاجتماعية بسبب قلة الجماعات الوسيطة وضعفها، وهي التي يمكن أن تستقطب ولاء الأفراد وضعف، وتؤثر في البنية الاقتصادية الفرنسية.

4- جمهورية كوريا:

بالرغم من وجود تنافر بين الأنموذج الأسروي الصيني وثقافته، وبين انتشار الشركات الكبرى في جمهورية كوريا، إلا أنّ تدخل الدولة لخلق إقامة شركات ضخمة ومنظمة ومدارةً احترافيًّا ودعمها، يجعل الأنموذج الكوري متوافقًا مع المقولة الرئيسية التي قدّمها فوكوياما.

إنّ تركيبة العائلة في كوريا قريبة من مثيلاتها في الصين، فهي أبوية النسب، وتعرف انتشار المبادئ الكونفوشيوسية، وأولوية العائلة على السلطات السياسية، وتدنيًا نسبيًّا للثقة خارج المحيط الأسروي، وهو ما يؤدي إلى قلة المنظمات الوسيطة التي لا تعتمد على صلات القربى. وحسب المقولة النظرية للمؤلف، فإنّ هذه التركيبة يجب أن تؤدي إلى هيمنة مؤسسات تجارية عائلية صغيرة الحجم. لكن جمهورية كوريا تعرف انتشار شركات كبرى، والأمر يرجع إلى الدور الكبير الذي لعبته الدولة الكورية، حيث اتبعت سياسة تدخلية مدروسة لتشجيع التكتلات الاقتصادية العملاقة في الستينيات والسبعينيات، تغلبت بفضلها على ما يمكن أن يشكل نزعة ثقافية نحو إقامة المشروعات الصغيرة والمتوسطة الحجم؛ سياسة قوامها تقديم مساعدات وفوائد ضخمة للشركات الكورية على مدار عدة سنوات بهدف منافسة الشركات اليابانية في السوق العالمية.

فالدولة التي تملك الإرادة والكفاءة بإمكانها أن تشكّل بنية صناعية مختلفة عن تلك التي يمكن أن ترسمها النزوعات الثقافية المتأصلة وتتغلب عليها. لكن الأنموذج الكوري يصعب تكراره في مكان آخر لاعتبارات شتى.

إنّ العوامل الثقافية، خاصة رأس المال الاجتماعي والتواصل الاجتماعي العفوي تبقى دائمًا مؤثرة في البنية الصناعية للدولة، لكن تدخل هذه الأخيرة يمكن أن يساهم في تجاوز العقبات الاقتصادية التي يطرحها.

سادسًا: غنى رأس المال الاجتماعي والمنظمات الاقتصادية الكبرى

تعد اليابان وأمريكا وألمانيا في مقدمة الدول التي خلقت وطورت نمط الشركات الضخمة التراتبية، المتميزة بالعقلانية في التنظيم والحرفية في الإدارة والتسيير.

ولعل الأمر يعود إلى وجود رأس مال اجتماعي غني، وانتشار درجة كبيرة ومرتفعة من الثقة بين الأفراد خارج مؤسسة العائلة، وميول قوية نحو التواصل الاجتماعي العفوي، من مجسداته وجود شبكة متعددة وقوية ومتنوعة من المؤسسات الطوعية الوسيطة، التي تنشط خارج إطار العائلة بسرعة، مكنت من بروز منظمات كبيرة الحجم، تتميز بالتلاحم والقوة، تطورت انطلاقًا من القطاع الخاص، كما تطورت شركات كبرى محترفة ممأسسة إداريًّا، ومنافسة على الصعيد العالمي دون الاعتماد على دعم الدولة أو تدخلها.

إنّ رأس المال الاجتماعي الغني، المتمثل في ارتفاع منسوب الثقة خارج الإطار العائلي، وتعدد المنظمات الوسيطة الواقعة بين العائلة والدولة، وارتفاع مستوى التواصل الاجتماعي العفوي، كانت عوامل حاسمة لتشكيل البنية الاقتصادية في هذه المجتمعات التي عرفت بروز مؤسسات اقتصادية وتجارية كبرى في وقت مبكر.

1- اليابان:

تمكنت اليابان منذ وقت مبكر من إنجاح عملية المرور من الشركة العائلية إلى الشركة الاحترافية المنظمة، القائمة على التراتبية في البنية والأقسام، ومن تأسيس قطاع خاص حيوي وقوي منافس، وشركات كبرى على الصعيد العالمي محتلة لمواقع ريادية في العالم بعد الشركات الأمريكية.

وسهولة هذا المرور ونجاحه، يعودان أساسًا إلى طبيعة المجتمع الياباني المتميز بنزعة عفوية للتواصل الاجتماعي، حيث الثقة تتجاوز محيط العائلة والنسب لتشمل قطاعات متنوعة وكبيرة من الفئات الاجتماعية التي لا تجمعها روابط القرابة، ولتسود في الجمعيات الطوعية، بشكل ساهم في المجال الاقتصادي في ظهور سلوكيات وممارسات وقيم مدعمة للتطور الاقتصادي، كنظام تأمين العمل مدى الحياة للعمال داخل شركاتهم (نينكو)، وانتشار الثقة بين الشركات المرتبطة في ما بينها بشبكات عمودية أو أفقية، تجعل اليابان أنموذجاً متميزًا في الدول الآسيوية، أقرب من الولايات المتحدة منه إلى الصين في هذا الإطار.

إنّ الدرجة العالية من الثقة المتبادلة المنتشرة في المجتمع الياباني تعود أساسًا إلى عوامل ثقافية، قوامها أعراف وتقاليد متجذرة في المجتمع الياباني، يمكن الإشارة من بينها إلى ما يلي:

- غياب الأسروية في المجتمع الياباني، حيث العائلة أصغر حجمًا، وأقل تماسكًا، وضعيفة الروابط الجامعة لأفرادها.

- عدم التمسك بالنسب الأبوي بشكل صارم داخل العائلة.

- الحذر من محاباة الأقارب، ومن كسل الأبناء وعدم أهليتهم.

- تطوير نظام لتوريث الابن البكر قائم على انتقال جميع أملاك العائلة إلى الابن البكر أو أي وارث تتبناه الأسرة وتعتبره كذلك، وهو ما ساهم في عدم تلاشي الثروة العائلية وعدم تبديدها من جيل إلى آخر.

- تعديل المبادئ الكونفوشيوسية، وعلى رأسها سيادة مفهوم مغاير للولاء، حيث المجتمع الياباني يمنح الأولوية للسلطات السياسية على العائلة، وهو ما أدى إلى انتشار ثقافة المواطنة والقومية، القائمة على اعتبار الأمة اليابانية بأسرها، وعلى رأسها الإمبراطور في قمة السلطة؛ عائلة العائلات كلها.

هذه المبادئ الثقافية سمحت بنمو روابط اجتماعية وجمعيات خارج الإطار العائلي، وانتشار درجة من الثقة في تنظيمات المجتمع الياباني، ومنها على الخصوص التنظيمات والمؤسسات الاقتصادية والتجارية، حيث انتشار تضامن اجتماعي كبير داخل الشركات اليابانية، وسيادة نظام الاستخدام مدى الحياة المعتمد على عقد شفوي عرفي والتزام أخلاقي بين الشركة والعامل، تضمن الشركة بموجبه استمراره في العمل مقابل ألا يتركها بحثًا عن وظيفة أفضل أو أجر أعلى في مكان آخر.

2- ألمانيا:

تتميز ألمانيا ببنية اقتصادية مشابهة لمثيلتها في اليابان، فإضافةً إلى تجمعات صناعية، وقطاع كبير وحيوي تحتله الشركات الألمانية الصغيرة، تعرف ألمانيا شركات عملاقة وضخمة لها مكانة كبيرة على المستوى العالمي، يعود السبب الأساسي في قيامها إلى تمكن ألمانيا ونجاحها بسرعة في الانتقال من المؤسسات الاقتصادية العائلية إلى الشركات العقلانية الحديثة بهيكلتها التراتبية، المنظمة والمتخصصة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتأسيس شركات ضخمة ومتعددة الجنسيات في بضعة عقود، بالرغم من أنّ ألمانيا تتميز بتدخل الدولة ووجود قطاع عام حيوي، استمر حتى بعد الحرب العالمية الثانية.

ولعل الأمر يعود إلى وجود إرث ثقافي، متمثل في انتشار حسّ التضامن الاجتماعي، والانضباط والتنظيم، وحب العمل، والجدية، وحب الكمال في الأنشطة الاقتصادية، والإعلاء من القومية؛ إرث وتقاليد ثقافية امتدت إلى المجال الاقتصادي، حيث تتميز المؤسسات الصناعية الألمانية بدرجة عالية من الثقة والإحساس بالمصالح المشتركة تتجسد من خلال المميزات التالية:

- علاقات نِدّية حميمية مباشرة بين العامل المسؤول وفريق العمل.

- علاقات الثقة المتبادلة بين العمال والإدارة.

- سيادة المصالح المشتركة بين الإدارة والعمال، وإعطاء العمال حق المشاركة في اتخاذ قرارات داخل المعامل.

- تعزيز انتماء العمال إلى صناعاتهم وشركاتهم وأجهزتهم الإدارية.

- الاعتزاز بقيمة العمل والتفوّق الحِرَفي.

- انتشار حدود معقولة من المرونة في الاستفادة من القوى العاملة وعدم المبالغة في التخصص.

- نظام رواتب ومكافآت تتيح انخفاض نسبة التفاوت بين العمال.

- مضاعفة المصنع من مهارات عامليه والثقة في قدرتهم على تحمل جزء أكبر من المسؤولية في إدارة خط الإنتاج بأنفسهم تحت حد أدنى من الرقابة والإشراف الإداري والتقني، من خلال التأهيل المهني المطبق في جميع المعامل الألمانية، والذي يعتبر تقليدًا ألمانيًّا قديمًا، وتم تحديثه، حيث يقع التركيز على التأهيل التقني والتعليم والتدريب المهنيين.

- إضافة إلى وجود ما يسمى بالإدارة المشتركة التي تسمح للعمّال بالمشاركة في مجالس إدارة شركاتهم، وسيادة قوانين الضمان الاجتماعي الشامل الذي يعطي للعمال تعويضات البطالة والعلاج والسلامة.

إنّ المجتمع الألماني يتميز بانتشار درجة عالية من الثقة المتبادلة بين مختلف فئاته، وهو ما يسهّل إقامة علاقات عفوية ومباشرة دون تدخل أطراف أخرى. وهذا رأس المال الاجتماعي القوي مصدره الأساسي، تقاليد ثقافية، حافظت عليها المنظمات التقليدية الجماعية الألمانية.

3- الولايات المتحدة:

إنّ المجتمع الأمريكي يتوفّر على إرث ثقافي مزدوج؛ فردي وجماعي، إذ إلى جانب النزعة الفردية التي كانت دائمًا مصدر الإبداع والابتكار والمبادرة والنجاح في إدارة الأعمال، ومصدر مقاومة الأمريكيين لجميع السلطات، تنتشر نزعة جماعية في شكل ميل ثقافي واضح لتشكيل الجمعيات والمشاركة في التنظيمات، ومختلف أشكال الفعاليات الاجتماعية، حيث أسس الأمريكيون بشكل عفوي منظمات اجتماعية راسخة وطويلة الأمد على أسس طوعية، ومنظمات في مختلف المجالات الاجتماعية، [8] كالكنائس والمدارس والجمعيات والمجتمعات المحلية، والمعامل ونقابات العمال، والطوائف الدينية، وكذا ميل كبير للتكافل الاجتماعي، حيث يساهم الأمريكيون بمبالغ كبيرة لصالح المؤسسات الخيرية، بالرغم من التعدد الثقافي والإثني والعرقي الذي يتشكل منه المجتمع الأمريكي، إذ لم تشكل التعددية العرقية حاجزًا أمام التفاعل الاجتماعي.

هذه النزعة الجماعية تعمل على التخفيف من النزعة الفردانية المتأصلة في الإيديلوجية الأمريكية ونظامها الدستوري والقضائي.

إنّ التفاعل الإيجابي والخلاق بين هاتين النزعتين يعد المصدر الأساسي لتفوق الديمقراطية الأمريكية، والاقتصاد الأمريكي الذي نجح في إقامة شركات كبرى ذات البنى التراتبية منذ القرن التاسع عشر بفضل سيادة نزعة اجتماعية تلقائية، وانتشار درجة عالية من الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع الأمريكي التي تعود أساسًا إلى تقاليد دينية متميزة، متمثلة في الطبيعة الطائفية والانفصالية للبروتستانتية في أمريكا، باعتبارها حاضنة لحياة اجتماعية بالغة الحيوية أساسها الثقة والتواصل الاجتماعي. كما تعود أيضًا وفي مرتبة ثانية إلى الإثنية، حيث حافظ المهاجرون إلى أمريكا على تقاليدهم وبناهم الاجتماعية الراسخة، فشكلت التجمعات الإثنية مجالاً خصبًا للتلاحم والتفاعل الاجتماعي.

هذا التوازن الخلاّق بين النزعتين الفردية والجماعية بدأ يعرف اختلالات لمصلحة النزعة الفردية منذ الستينيات من القرن العشرين، حيث تدنّى مستوى الثقة الاجتماعية، وتزايد تفكك الأسرة، وانخفض عدد الأعضاء في مختلف أشكال الجمعيات الطوعية، وارتفعت معدّلات الجريمة والدعاوى المدنية في المحاكم الأمريكية، وهو ما يؤشر على بداية انخفاض رأس المال الاجتماعي في أمريكا، بالرغم من استمرار الازدهار الاقتصادي. وهو ما يطرح تحديات مستقبلية أمام المجتمع الأمريكي، يمكن تجاوزها من خلال إيجاد توازن أفضل بين النزعتين الفردية والجماعية.

سابعًا: أكثر من الاقتصاد: الترابط بين رأس المال الاجتماعي واقتصاد

السوق والديمقراطية الليبرالية

إنّ رأس المال الاجتماعي الذي يتجسد من خلال مجموعة من العادات العفوية المستمدة في الواقع من ظواهر "لاعقلانية" كالدين والقيم الأخلاقية التقليدية، لا يؤثر في الاقتصاد فحسب، بل يمتد تأثيره إلى المجال السياسي، حيث يعتبر ضرورياًّ لعمل كافة المؤسسات العقلانية الاقتصادية والسياسية الحديثة بالشكل المناسب.

ذلك أنّ ارتفاع رأس المال الاجتماعي وتوافره، يؤدي إلى ازدهار الأسواق الاقتصادية والسياسات الديمقراطية على حد سواء، حيث يتحوّل السوق إلى مدرسة اجتماعية تدعم المؤسسات الديمقراطية، لاسيما في الدول حديثة التصنيع. فالرأسمال الاجتماعي يبين الارتباط الوثيق بين الرأسمالية والديمقراطية، ذلك أنّ التنظيم الذاتي التلقائي المحدد لإقامة قطاع خاص قوي وشركات ضخمة، مهم لعمل المؤسسات السياسية الديمقراطية، حيث إنّ تجميع المصالح والتعبير عنها، وقيام أحزاب سياسية، وجمعيات مدنية ثابتة ومستقرة، يتطلب تمتع الأفراد والمصالح المشتركة بقدرة على التجمع والتعاون لتحقيق هذه الأهداف المشتركة. وهذه القدرة تعتمد في النهاية على توفر رأس المال الاجتماعي.

إنّ التواصل الاجتماعي والنزعة العفوية الاجتماعية مثلما هي ضرورية لإقامة شركات اقتصادية قوية وقادرة على الاستمرار، فهي كذلك ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها لإقامة تنظيمات سياسية فعّالة. ذلك أنّه أمام غياب أحزاب قوية، تتكون تنظيمات سياسية قائمة على الشخصية، وشخصيات فردية متقلبة، أو علاقات زبونية متغيرة؛ تنظيمات هشة في الغالب، وغير قادرة على العمل المشترك لتحقيق الأهداف المشتركة. والمقارنة بين الدول عالية الثقة والدول ذات الثقة المتدنية، تثبت هذه المقولة. كما تثبتها العديد من الدراسات في هذا المجال، فعلى سبيل المثال أكد روبرت بوتنام (Robert Putnam) في كتابه "تفعيل الديمقراطية" (Making Democracy Work) العلاقة القوية والهامة بين رأس المال الاجتماعي ومعايير التواصل والتبادل ونجاح الديمقراطية. وذهب تشارلز تيللي (Charles Tilly) إلى أنّ وجود مستوى معين من الثقة يُعَدّ شرطًا ضروريًّا لقيام الديمقراطية.[9]

فضلاً عن أنّ الأحزاب السياسية والشركات الخاصة ضعيفة جدًّا في المجتمعات ما بعد الشيوعية، كروسيا وأوكرانيا، بالرغم من إيمانها بالديمقراطية وبالسوق الاقتصادي الحرّ على المستوى الفكري، إلا أنّ هذه المجتمعات تفتقد العادات والتقاليد الاجتماعية الضرورية لخلق تنظيمات سياسية موحّدة.

ثامنًا: نهاية التاريخ مرّة أخرى

المقارنة بين الدول الديمقراطية تثبت "كما أنّ الديمقراطية الليبرالية كنظام سياسي تعمل بالشكل الأمثل عندما تخفف الروح الجماعية من حدة النزعة الفردية، كذلك تنجح الرأسمالية عندما تتوازن النزعة الفردية مع الاستعداد للاجتماع والتواصل".[10]

فالرأسمالية والديمقراطية تعملان بشكل أفضل عندما تمتزجان بالعوامل الثقافية التقليدية التي لا تنشأ من أصول ليبرالية، لذلك، فإنّ "الحداثة والتراث قادران على التعايش معًا في كيان متوازن ومستقر لفترات طويلة من الزمن"[11]، حيث المؤسسات السياسية والاقتصادية الليبرالية الحديثة تتعايشان مع الأديان والعناصر الثقافية التقليدية.

وتبين المقارنة أنّ الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية مازالتا تشكلان الإطار الأساسي والوحيد للتنظيم السياسي والاقتصادي للمجتمعات الحديثة في العالم، والتحديث الاقتصادي السريع يضيق الهوة بين الدول الصناعية وبين العديد من دول العالم الثالث سابقًا، بحيث إنّ الفروقات الأساسية بين مجتمعات العالم لم تعد إيديولوجية أو سياسية أو مؤسساتية بل أصبحت في جوهرها ثقافية، فأغلب دول العالم تلتقي في صيغة اقتصادية وسياسية واحدة هي الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق. وهو ما يعبر حقًّا عن بلوغ العالم "نهاية التاريخ" التي يمثلها المجتمع البورجوازي الديمقراطي الليبرالي.

تاسعًا: ملاحظات

إنّ مثل هذه المؤلفات النظرية أثارت وستثير دون شك الكثير من النقاشات والانتقادات، بالرغم من أنّ تأثيرها في مجال المقاربات النظرية والدراسات المقارنة يصعب تجاوزه. ومن الملاحظات التي يمكن تسجيلها على أطروحة فرانسيس فوكوياما يمكن الإشارة إلى ما يلي:

- إغفاله للتجربة الهندية المتميزة اقتصاديًّا وسياسيًّا، حيث تعرف الهند تقدمًا اقتصاديًّا، وتزايدًا للشركات الكبرى، كما تعرف انقسامات إثنية وطبقية ولغوية ودينية متعددة. فمن الأساسي دراسة مدى الارتباط القائم بين رأس المال الاجتماعي والثقة والاختلافات الإثنية والدينية والعرقية، ومدى تأثير القيم الهندوسية في الاقتصاد الهندي، حيث إنّ أزيد من 80% من السكان هم من الهندوس. فهل كان هذا التجاهل مقصودًا لأنّ هذا الأنموذج يقوّض الأطروحة المركزية للكاتب، لاسيما أنّه تطرّق لنماذج آسيوية أقلّ قوةً اقتصاديًّا من الأنموذج الهندي؟

- تجاهله للمجتمعات الإسلامية والقيم الإسلامية في تحليله، وهو إغفال لا يقدّم الكاتب أيّ مبرّر مقنع بشأنه، لاسيما أنّ المجتمعات المسلمة تشكل نسبة مهمة من سكّان الكرة الأرضية، إضافةً إلى أنّ العادات والقيم الإسلامية تركّز بشكل كبير على الفضائل الاجتماعية كالصدق والنزاهة وعدم الغش والاجتهاد والعمل.

حقيقة إنّ أغلب الدول الإسلامية لم تحقق نموًّا اقتصاديًّا لافتًا باستثناء بعض الدول الآسيوية، لذلك كان من الأجدر تناول فشل هذه الدول في بناء أنظمة ديمقراطية، واقتصاد رأسمالي قويّ، بالرغم من وجود هذه الفضائل الاجتماعية على مستوى الخطاب. فهل تشكل هذه الدول استثناءً يناقض أطروحة فرانسيس فوكوياما؛ بمعنى إنّ انتشار الثقة لا يؤدي دائمًا إلى قيام شركات كبرى وممأسسة، أم إنّ هناك أسبابًا أخرى كبّلت هذه الفضائل الاجتماعية في تحقيق فوائد اقتصادية، كالاستعمار والاستغلال الرأسمالي، والتبعية السياسية والاقتصادية، والانفصام بين الخطاب والممارسة، وتسلط الدكتاتوريين.

وكذا إغفال المجتمعات الإفريقية التي فشلت في تحقيق تنمية اقتصادية، وتغيب فيها الشركات الاقتصادية الكبرى، فهل هذه المجتمعات يغيب فيها رأس المال الاجتماعي والثقة بين أفراد المجتمع الواسع؟

- صعوبة قياس رأس المال الاجتماعي باعتراف أغلب الكُتّاب الذين بحثوا في هذا الموضوع، لاسيما أنّه لا يمكن الإحاطة به بالاعتماد على الإحصائيات والمسوح الاجتماعية لأنّ له بُعْدًا كيفيًّا مهمًّا.

- إنّ المؤلّف يعتمد في تأسيس أطروحته على جملة من المؤلفات الكبرى التي أثارت العلاقة بين القيم والعادات الثقافية والتطور الاقتصادي، ومن بينها على الخصوص كتاب "نظرية العواطف الأخلاقية" لآدم سميث، ومؤلف ماكس فيبر "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، ودراسة إدوارد بانفليد (Edward Banfield) حول جزء من المجتمع الإيطالي تحت عنوان: "الأسس الأخلاقية لمجتمع متخلف"،[12] ودراسة جودسون هانيفال (Lyda Judson Hanifan) حول مراكز المدارس الريفية في المجتمع المحلي، وكتاب جين جيكوب (Jane Jacobs) بعنوان: "موت المدن الأمريكية الكبرى وحياتها"، ودراسات الاقتصادي جلين لوري (Glenn Loury) وعالم الاجتماع إيفان لايت (Evan light) حول تحليل مشكلة التطور الاقتصادي في المدن الداخلية الأمريكية، وعالم الاجتماع جيمس كولمان (James Coleman)، وتحليلات عالم السياسة روبرت بوتنام حول دور رأس المال الاجتماعي والمجتمع المدني في إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية.[13] فهل يعني هذا أنّ فوكوياما مجرّد مستثمر جيّد لاستنتاجات المفكرين الآخرين وأفكارهم، أمثال هيغل وماركس في كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير، وماكس فيبر وآخرين في كتابه الثقة.

- تبعًا لذلك هل يمكن اعتبار أطروحته تعبيرًا عن الرأي المحافظ الجديد بشأن علاقة الثقة بالديمقراطية؟ باعتباره يذهب إلى أنّ الطريقة الوحيدة للتخفيف من معضلة الثقة والديمقراطية هي "الإقلال من عدد القرارات الجماعية التي تتخذها المؤسسات السياسية، والإكثار من تلك التي تكمن حيث يوجد سابقًا نوع أو آخر من الثقة: الجماعات الطبيعية والأسواق".[14]


[1] فرانسيس فوكوياما، الثقة الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي، ترجمة معين الإمام ومجاب الإمام، نشر منتدى العلاقات العربية الدولية، قطر، مطبعة كركي، بيروت، الطبعة الأولى، 2015، ص 59

[2] نفسه.

[3] فرانسيس فوكوياما، رأس المال الاجتماعي، في: لورانس إ. هاريزون وصمويل ب هنتغتون، ترجمة شوقي جلال، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الثانية، 2009، ص 193

[4] نفسه، ص 194

[5] فرانسيس فوكوياما، الثقة الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي، مرجع سابق، ص 91

[6] فرانسيس فوكوياما، رأس المال الاجتماعي، مرجع سابق، ص 198

[7] إضافة إلى النوعين يشير المؤلف في آخر الكتاب إلى وجود أنموذج ثالث من المجتمعات لا يمنح له اهتمامًا يذكر في تحليله، متمثل في المجتمعات التي تفتقد للروابط العائلية القوية، ولوجود مؤسسات اجتماعية خارج نطاق الأسرة والقرابة؛ أي مجتمعات تنقصها كافة صيغ الرساميل الاجتماعية وأشكالها، كمجتمع جنوب إيطاليا، وطبقة الفقراء السود في الأحياء الداخلية للمدن الأمريكية، والمجتمع الريفي الروسي، حيث لا وجود لحياة اجتماعية غنية خارج نطاق العائلة الصغيرة، وكذا في العديد من المدن الإفريقية المعاصرة، هذه الوضعية لا توفر أرضية خصبة لقيام النشاطات الاقتصادية، سواء كانت في شكل شركات عائلية صغيرة أو مؤسسات صناعية كبيرة.

[8] بشأن المجتمع المدني في أمريكا يمكن مراجعة:

- جون إهرنبرغ، المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة، ترجمة حاكم صالح وحسن ناظم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2008، ص ص 306- 323

- دون إيبرلي، نهوض المجتمع المدني العالمي، بناء المجتمعات والدول من أسفل إلى أعلى، ترجمة لميس فؤاد اليحيى، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، 2011، ص ص 33-53

[9] تشالرز تيللي، الديمقراطية، ترجمة محمد فاضل طباخ، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2010، ص ص 161- 163

[10] فرانسيس فوكوياما، الثقة الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي، مرجع سابق، ص 586

[11] نفسه.

[12] وردت الدراسات المذكورة في صفحات مختلفة من الكتاب، خاصة الصفحات: 91 و121 و176

[13] انظر في هذا الإطار: فرانسيس فوكوياما، رأس المال الاجتماعي، مرجع سابق، ص 196

[14] تشالرز تيللي، الديمقراطية، مرجع سابق، ص 164