رؤية في تجديد أصول الفقه
فئة : مقالات
رؤية في تجديد أصول الفقه
تعريف: التجديد (لغةً) مصدر من فعل جَدَّدَ يُجَدِّدُ تجديداً، وتَجَدَّدَ الشَّيءُ صار جديداً، والجديد عكس القديم والخَلِق[1]. والتجديد اصطلاحاً: اسمٌ جامِعٌ لكلِّ ما يُحَقِّقُ الشَّريعَةَ الإسلاميَّةَ في واقِعِها، ويَنْفي عنها ما يُخِلُّ بها[2].
والتجديد قد يكون بإحياء معالم الدين ونشرها، كما حاول مثلاً الإمام (أبو حامد الغزالي)[3] في (إحياء علوم الدين) وقد يكون التجديد بالحذف والإلغاء، مثل نفي البدع التي تطرأ بمرور الزمن على بعض الشعائر التعبدية دون أن يكون لها سند شرعي، وقد يكون التجديد بالإضافة والإثراء لتلبية المستجدات، ومن ذلك مثلاً تقرير نظريات جديدة في الفقه أصبحت الحاجة تدعو لها، على غرار ما فعل الإمام (الشاطبي)[4] حين وضع نظرية المقاصد التي سنأتي على ذكرها لاحقاً، ومن التجديد أيضاً إفراد دراسات فقهية متخصصة بشأن بعض القضايا المعاصرة كالقضايا الطبية المستجدة (مثل: زراعة الأعضاء، طفل الأنابيب، الهندسة الوراثية، الاستنساخ).
والتجديد في الدين أمر مشروع بإجماع علماء الأمة الإسلامية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ يَبْعَثُ إلى هذِهِ الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لها دِينَها)[5] والتجديد المراد من بحثنا هذا يندرج في إطار ما فعله الشاطبي وغيره من علماء الأصول الذين حاولوا تجديد الدين من خلال طرح نظريات وقواعد جديدة تساهم بتجديد علم الأصول، وتطوير طرائق الاجتهاد الفقهي.
[2] دواعي التجديد في علم الأصول:
يتفق الباحثون على أن علم أصول الفقه - خلال العصور التي مضت على تأسيسه - قد بلغ درجة عالية من المتانة والتكامل، وأصبح عُدَّة أساسية لكل فقيه مجتهد، فلم يعد بإمكان أحد أن يخوض بحار النصوص وينظر في مصادر التشريع ويجتهد فيها ما لم يستكمل هذه العُدَّة، بل ظنَّ بعض الفقهاء المتأخرين أنَّ هذا العلم قد بلغ الغاية في الكمال حتى لم يعد عليه من مزيد، إذ يروي أحدهم، فيقول: (لقد سمعتُ من بعض أساتذتي الأفاضل في الأزهر الشريف، أن علم الأصول علم نشأ ونضج ثم انتهى وانطوى، فاستغربت لهذا الأمر، وقلت: ما هي إذاً فائدة دراسة هذا العلم؟ وبعد التحري والتثبت انتهيت إلى أن لهذا العلم فائدة عظمى، حتى سمعت مطالبة قوية من رجال القانون في كلية الحقوق في مصر بالاقتصار فقط على تدريس علم أصول الفقه، والتوسع فيه دون حاجة إلى دراسة غيره من علوم الشريعة الإسلامية، لأن هذا العلم قد نضجت نظرياته، ولمست آثاره وفوائده في دراسة القانون النظرية، وفي مجال تطبيقه في ميدان القضاء والمحاماة، فإذا تكلم الشخص بقاعدة أصولية أذعن له المنازعون؛ لأنه مبني على أدلة علمية من المعقول والمنقول لا مجال للقدح فيها أو الغض من شأنها)[6].
وذهب باحث آخر إلى أن الأمم التي أحرزت تقدماً واسعاً في الحضارة والمدنية في العصور الحديثة قد استلهمت قوانينها وأحكامها من قواعد هذا العلم، كما ورد عن (الطهطاوي)[7] الذي بعد زيارته المشهورة إلى باريس كتب يقول: (ومَنْ زاولَ علم أصول الفقه، وفَقِهَ ما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد، جزم بأنَّ جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدِّنة إليها، وجعلوها أساساً لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم، قلَّ أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات، فما يسمى عندنا بعلم أصول الفقه يسمى ما يشبهه عندهم بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية، وهي عبارة عن قواعد عقلية، تحسيناً وتقبيحاً، يؤسسون عليها أحكامهم المدنية، وما نسميه بفروع الفقه يسمى عندهم بالحقوق والأحكام المدنية، وما نسميه بالعدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية).[8]
وبالفعل، فقد أثبتت قواعد هذا العلم الجليل جدارتها على مدى العصور الماضية، واستلهمها كثير من أهل القانون في أرجاء المعمورة، ويكفي هذا العلم فضلاً أنه حافَظ على وحدة الأمة الإسلامية، وصان هويتها، بمحافظته على أصول الدين، وبيان المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، فبالرغم من تعدد المذاهب الفقهية التي عرفها تاريخنا الإسلامي فإن الأمة الإسلامية ظلت متماسكة، وبقيت الأصول التي تؤمن بها محلَّ إجماع من عامة المسلمين.
غير أن علم أصول الفقه - مهما قيل في كماله - يبقى آخر المطاف منتَجاً بشرياً يحتاج ما بين فترة وأخرى إلى المراجعة والاختبار، للتأكد من كفاءة أدواته، وقدرته على تلبية الأغراض التي تأسَّس من أجلها، وقد بدأت خلال القرون الأولى التي أعقبت تأسيس هذا العلم محاولات جادة لمراجعة القواعد التي وضعها، من أجل استكمالها وتحسينها وتطويرها، نذكر ممن ساهم في تلك المحاولات الرائدة: الباقلاني[9]، والجويني[10]، والشاطبي[11]، وغيرهم ممن سنأتي على ذكر محاولاتهم بالتفصيل لاحقاً.
ثم تجددت هذه المحاولات في العصور اللاحقة، ونشطت بصورة خاصة في العقود القليلة الماضية تحت وطأة التطورات الواسعة التي شهدها عصرنا الراهن في شتى المجالات، فقدَّم نخبة من المجتهدين المعاصرين نظريات عديدة لتطوير وتجديد قواعد هذا العلم، إلا أن معظم المحاولات - القديمة منها والمعاصرة - ظلت تدور في الإطار العام الذي وضعه المؤسسون لهذا العلم، ولم تستطع أن تنتقل به إلى أفق جديد يجعله أقدر على التفاعل مع المتغيرات، وأكثر مسايرة لسنن الله في التغيير، وأقرب إلى تحقيق القاعدة الأصولية التي تنص على عدم إنكار تغير الأحكام بتغير الزمان والأحوال[12].
ونذكر من المحاولات المعاصرة، على سبيل المثال لا الحصر، ما طرحه الباحثان حسن الترابي، وتوفيق الشاوي، اللذان انطلقا في محاولتيهما من مبدأ الإجماع، على أساس أن الإجماع ينعقد بالأكثرية، وهو في الحقيقة قول بعض الفقهاء المتقدِّمين، من أمثال الطبري، والجصَّاص، والخياط، وبعض المعتزلة وأحمد بن حنبل في إحدى روايتين عنه، أو على أساس أن قول الأكثرية ليس بإجماع ولكنه حجة ظنية، أو أن اتباع الأكثرية أولى[13]، إلا أن هذه المحاولات ظلت محاولات جزئية، لم تفِ بالمطلب الملحّ لتطوير علم الأصول ليصبح أقدر على التعامل مع تغيرات الزمان والأحوال، كما ذكرنا.
ناهيك عن أن الآراء التي طرحت مؤخراً لتطوير علم الأصول قد تحلُّ بعض الإشكاليات الأصولية، لكنها في الوقت نفسه تخلق إشكاليات جديدة لا تقل تعقيداً عن الإشكاليات التي حاولت حلها؛ لأننا حتى وإن اعتمدنا (رأي الأكثرية) في الاجتهاد والتشريع، كما جاء في أطروحات الترابي والشاوي مثلاً، فسوف يظل الخلاف قائماً حول من هم الذين يمثلون هذه الأكثرية؟ وهل يحق للأكثرية أن تنقض إجماعاً سابقاً كإجماع الصحابة مثلاً؟ أم ماذا؟
ناهيك عن أن أزمة الفقه الراهنة لا تنحصر في إشكالية (الإجماع) وإنما هي أشمل من ذلك وأكثر تعقيداً، مما يدل على أن المحاولات التي طرحت على الساحة حتى اليوم لا تكفي لتجاوز الأزمة الراهنة التي يمر بها علم الأصول، والتي انتهت به وبالاجتهاد إلى حالة من التقليد والتكرار والجمود.
أضف إلى هذا، أننا إذا ما تتبعنا تاريخ الفقه، عبر العصور الإسلامية الماضية، نجد أن الفقهاء كثيراً ما عمدوا تحت ضغط الظروف التي استجدت في عصورهم إلى اجتهادات استثنائية لمواجهة تلك الظروف، ومن ذلك على سبيل المثال تخليهم عن بعض القواعد التي سبق أن ألزموا أنفسهم بها، أو انتقالهم من رأي في المذهب المعتمَد عندهم إلى رأي مختلف من مذهب آخر، أو الانتقال من رأي راجح إلى رأي مرجوح، سواء في المذهب نفسه أو في غيره من المذاهب، حتى وصلوا في نهاية المطاف إلى مرحلة لم تعد فيها مثل هذه الإجراءات الاستثنائية قادرة على الوفاء بمتطلبات الاجتهاد.
ولإثبات هذه الوقائع الاستثنائية نقتبس هنا من بعض الباحثين المعاصرين خلاصة لأبرز المراحل والتحولات التي شهدها تاريخ الفقه الإسلامي، لنرى بوضوح كيف تكررت هذه الإجراءات الاستثنائية من قبل الأصوليين والفقهاء[14] :
- عصر الاجتهاد والإبداع: وفيه تأسست المذاهب الفقهية الرئيسة، وتأسس علم أصول الفقه، ووضعت ودُوِّنت المصادر الأساسية للفكر الأصولي التي تسمى كتب أركان الفكر الأصولي، وهي: (البرهان في أصول الفقه) لإمام الحرمين الجويني[15]، و(المستصفى في علم الأصول) للإمام أبي حامد لغزالي[16]، و(العمدة) للإمام عبد الجبار[17]، وشرحه (المعتَمَد في أصول الفقه) للإمام أبي الحسين البصري[18]، ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين، هما الإمام فخر الدين الرازي[19] في كتابه (المحصول)، والإمام الآمدي[20] في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام)كما أشار إلى ذلك العلامة الفقيه ابن خلدون[21] في (المقدمة)[22].
- عصر التقليد والتفريع على المذاهب: وقد استمر هذا العصر عدة قرون، غاب فيها الإبداع، ودخل ساحةَ الاجتهاد من يحسن هذا العلم ومن لا يحسنه، وفي هذا العصر وبسبب ضعف التحدِّي الفكري طغى على الفكر الأصولي التكرار والشروح والتعليقات والحواشي والاختصارات، فانصبَّ الاهتمام على كتب الأولين، والاعتماد على ما تركوه من كتب ومعارف، أمثال: روضة ابن قدامة، ومحصول الرازي، وأحكام الآمدي، والمستصفى للغزالي.
- إغلاق باب الاجتهاد: وقد أغلق رسمياً حوالي عام (656 هـ/1255م) في أعقاب غزو (التتار)[23] للبلاد الإسلامية، بحجة أن ما وصل إليه الفقهاء السابقون من النظر والإبداع والاجتهاد لم يَدَعْ استزادة لمستزيد، وأنهم اجتهدوا في دراسة النصِّ من كل جوانبه، واستوعب اجتهادهم جميع مراتب الحكم الشرعي، فانتفت الحاجة للاجتهاد والتجديد في هذا الميدان، سواء على مستوى المنهج وعلم الاستنباط، أو على مستوى المنتَج والحُكْم التشريعي أو العبادي[24].
- اعتماد القياس في المذهب نفسه: ونتيجة للمأزق الذي تمثل بإغلاق باب الاجتهاد، أصبح فقهاء كل مذهب كلما جدَّت لهم مسألة لم يَرِد فيها حكمٌ في الكتب المعتمَدة في مذهبهم قاسوها على مسألة منصوص على حكمها في كتب المذهب نفسه.
- الانتقال من الراجح إلى المرجوح: ولما وجد الفقهاء أن بعض الآراء الراجحة المعتمَدة في مذهبهم لا تحقق في زمانهم المصلحة التي هي غاية التشريع رجعوا عن الرأي الراجح في المذهب إلى رأي آخر مرجوح في المذهب نفسه، وهذا ما حصل مثلاً عند وضع (مجلة الأحكام العدلية)[25] التي اعتمدوا فيها ظاهر الروايات في المذهب الحنفي، وعند الاختلاف كانوا يختارون القول الذي يوافق حاجات العصر، أو يرجحون رأي بعض الفقهاء الأحناف المتأخرين، وهذا ما حصل أيضاً في تشريعات الأحوال الشخصية في مصر سنة 1920 وما تلاه من تعديلات، وكان هذا أول خروج عن قاعدة التقيد بالرأي الراجح في المذهب، ولذلك احتاج هذا الإجراء إلى تبرير من وجهة نظر الأصوليين فقالوا: إن هذه السلطة قاصرة على وليِّ الأمر فقط، وباستعمالها - أي باختيار ولي الأمر لرأي مرجوح - يصبح هذا الرأي راجحاً.
- الخروج عن رأي المذهب: وبعد مدة لجأ الفقهاء إلى خطوة استثنائية أخرى، فأخذوا يخرجون عن بعض الآراء المتعمَدة في مذهبهم ويقتبسون من المذاهب الأخرى، بحجة أنها أكثر تحقيقاً للمصلحة من الرأي المعتمَد في مذهبهم، وفي إطار هذا الاقتباس أخذ التقنين السوري للأحوال الشخصية سنة 1953 برأي المالكية خلافاً للمذهب الحنفي السائد في سوريا حول حقِّ الزوجة بطلب الطلاق للضَّرر، وأخذ التقنين التونسي للأحوال الشخصية سنة 1957 برأي الحنفية خلافاً للمذهب المالكي السائد في تونس حول أهلية البنت لعقد زواجها بنفسها، وكلا التشريعين التونسي والسوري أخذا برأي الحنابلة خلافاً للمذهبين الحنفي والمالكي فيما يخص الشروط التي تشترطها الزوجة على زوجها عند عقد الزواج.
غير أن كل هذه المحاولات والخطوات الاستثنائية التي عمد لها الفقهاء تحت وطأة الظروف التي واجهتهم في العصور الماضية لم تكن كافية لمعالجة المسائل المستجدة التي أفرزتها التطورات الاجتماعية اللاحقة، بل ظلت الفجوة تتسع يوماً بعد يوم، ما بين الحصيلة الفقهية ومقتضيات العصر، حتى وصل الأمر في العصر الراهن إلى لحظة الأزمة التي تكدست فيها جملة واسعة من المسائل على أبواب الفقه والفقهاء بانتظار الحل، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :
- المسائل التي تتعلق بالمعاملات المصرفية والتجارية والاقتصادية المعاصرة.
- قضايا (الأحوال الشخصية) التي نتجت عن مشاركة المرأة في الحياة العامة مشاركة فعالة واسعة في العصر الحديث.
- القضايا التي أفرزتها وسائل الاتصال الحديثة، مثل الزواج والطلاق والبيع والشراء عن بُعد عبر البريد الإلكتروني (E.Mail) أو الهاتف الجوال، أو الفاكس، أو غيره من وسائل الاتصال المعاصرة.
- المسائل الطبية الحديثة، مثل الهندسة الوراثية، وتحسين النسل، وطفل الأنابيب، والاستنساخ البشري (Cloning Human).
- وغير ذلك من القضايا الكثيرة المستجدة التي تباينت الآراء الفقهية حولها، ومازال معظمها بين أخذ ورد، بين الفقهاء من جهة، والمتخصصين في تلك القضايا من جهة أخرى.
[3] إشكاليات التجديد:
واضح مما عرضناه آنفاً، أن الخروج من الأزمة الفقهية الراهنة ينبغي أن يبدأ من تجديد القواعد المعرفية التي وضعها الأصوليون للتعامل مع رسالة السماء، غير أن هذه البداية تعترضها ثلاث إشكاليات أساسية ترجع في رأينا إلى المناهج التي وضعها علماء الأصول، هي :
(1) تقييد الأصوليين للقرآن الكريم بمصادر التشريع الأخرى: فمن المعلوم أن القرآن الكريم هو كتاب الرسالة السماوية الخاتمة، التي سترافق البشرية حتى قيام الساعة، ولكي يلبي القرآن الكريم حاجة البشرية على امتداد هذا الزمن - الذي لا يعلم مداه إلا الله تعالى - فقد أنزله سبحانه في صيغة فريدة، قابلة للتأويل المتجدد، حتى يكون قادراً على الاستجابة لما يطرأ على الحياة البشرية من تطورات عبر العصور، وبهذا كان القرآن الكريم طليقاً عن ظروف الزمان والمكان، إلا أن تقييد الأصوليين للقرآن الكريم بمصادر التشريع الأخرى التي لا تنفكُّ غالباً عن ظروف الزمان والمكان أدى إلى سلب القرآن الكثير من طلاقته التي تعدُّ من أبرز خصائصه.
(2) عدم الوقوف على المنهج التدريجي في التشريع: فقد أسس القرآن الكريم منهجاً تشريعياً فريداً يقوم على التدرج بالتشريع، لمسايرة المستجدات والتغيرات التي هي سمة أساسية من سمات الحياة البشرية، ووضع لنا علامات على هذه الطريق، وترك لنا الباب مفتوحاً على المستقبل، لكي نستأنف التدرج بالتشريع على خطاه، وفي ضوء المقاصد الكلية للشريعة، وذلك من أجل تلبية حاجات الناس المتغيرة في كل عصر، ورفع الحرج عنهم كما ورد في العديد من النصوص، إلا أن علماء الأصول بسبب اعتقادهم أن التدرج بالتشريع قد توقف بانقطاع الوحي وانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى خرجوا من نصوص الوحي بأحكام اعتبروها نهائية، لا يصحُّ تجاوزها مهما تبدَّلت الأحوال والأزمان والبيئات، وبهذا تعطَّلت عملياً القاعدة الأصولية التي وضعها الأصوليون أنفسهم، وهي القاعدة التي تقول: (لا يُنْكَرُ تغيُّر الأحكامِ بتغيُّر الأزمانِ)[26] ومثلها أيضاً القاعدة التي قرروها هم كذلك، وهي أن (الحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُوداً وَعَدَماً)[27]، فمن رحمة الله عزَّ وجلَّ بالعباد أنه جعل لكل حكم من الأحكام علة، وجعل الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا وجدت العلة وجد الحكم، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم، لكن هذه القاعدة لم تأخذ حظها كذلك في اجتهادات الفقهاء، لأنهم نظروا إلى العلل على أنها علل زمنية ثابتة لا علاقة لها بتغير الزمان والأحوال، وهكذا ضاع الكثير من القواعد الفقهية الثمينة التي كانت كفيلة بجعل التشريع الإسلامي أكثر تفاعلاً واستجابة لمقتضيات الواقع الذي من طبيعته التجدُّد والتطوُّر والتغيُّر المستمر.
(3) التقليد والتكرار والجمود: وقد لحقت هذه العلل بمسيرة الفقه نتيجة للإشكاليتين السابقتين اللتين أوصلتا علم الأصول إلى لحظة الأزمة التي تمثلت بالحد من قدرة الرسالة السماوية الخاتمة على الاستجابة لمتطلبات العصور اللاحقة، فتوقف الاجتهاد عند نقطة حرجة لم يعد قادراً على تجاوزها، وبهذا بدأ عصر الجمود والتكرار والتقليد، وبدأت نصوص الفقهاء تحلُّ محلَّ نصوص السماء، وانصبَّت جهود الفقهاء المتأخِّرين على تخريج الأحكام من نصوص الفقهاء السابقين والقياس عليها، وكأنها هي الأصل وليست نصوص الوحي، حتى صار لفظ الإمام ينزل عند مقلِّده منزلة ألفاظ الشارع الحكيم، كما ذكر القاضي عياض[28] في كتابه (ترتيب المدارك) وأصبحت مصادر الأحكام هي نصوص الفقهاء، بدلاً من نصوص السماء، وأقيم بذلك سدٌّ منيع ما بين الأمة ورسالة ربها، بل وصل الأمر ببعض المشتغلين بالفقه حدِّ القول: كلُّ آيةٍ أو حديثٍ يُخَالِفُ ما عليهِ أصْحابُنا فَهُوَ مُؤَوَّلٌ أو مَنْسُوخٌ، كما يُروى مثلاً عن الإمام أبي الحسن الكرخي[29].
ومع تسليمنا أن علم أصول الفقه قد بلغ درجة عالية من النضج والمتانة والإتقان لاستناده إلى قواعد راسخة من المنقول والمعقول، كما ذكرنا سابقاً، فإننا نعتقد في الوقت نفسه أنْ ليس ثمة علم بشري يمكن أن يبلغ الكمال، مهما بذل فيه العلماء من جهود، مصداقاً لقوله تعالى: (وَمَا أوتيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَليلاً) سورة الإسراء 85، وقوله تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذي عِلْمٍ عَليم) سورة يوسف 76، فالحاجة تبقى قائمة - ما بين الحين والآخر - لإعادة النظر في هذا العلم، وفي كل علم، للتأكد من صحة الأسس والقواعد التي قام عليها، واختبار قدرته على أداء المهام التي وُضع من أجلها.
ويخبرنا تاريخ العلوم المختلفة أن الكثير من المفاهيم والقواعد والنظريات العلمية التي ظلت لأحقاب طويلة موضع قبول وتسليم، بل تقديس من قبل أهل العلم، تبين لاحقاً أنها غير دقيقة، أو غير صحيحة على الإطلاق، وهذه الطبيعة المتجددة في العلوم تشهد عليها الثورات الهائلة التي شهدها تاريخ العلوم المختلفة، وعلى سبيل المثال فإن رياضيات العالم البريطاني (نيوتن)[30] ظلت لقرون طويلة موضع تقديس من العلماء، فلما طلع العالم (آينشتاين)[31] بنظريته النسبية (Relativity) تمكن من حلِّ معضلات رياضية معقدة لم تستطع قوانين نيوتن أن تحلَّها، وبهذا حقق عمل آينشتاين قفزة علمية واسعة تجاوز بها من سبقوه!
وهكذا هي حال العلم البشري على مر العصور، فإن الحاجة تظل قائمة لتطويره وتجديده، وإلا وقف العلم عند عتبة محدودة لا يتجاوزها، وفي حالتنا الإسلامية نرى أن هذه الخطوة للتطوير والتجديد ينبغي أن تبدأ من مراجعة علم الأصول الذي يشكل نقطة الانطلاق لتجديد تراث الأمة، كما أسلفنا، ومن ثم تجديد دينها، وانطلاقها في دورة حضارية جديدة.
وقد تصدَّى في الماضي نخبة من أكابر الفقهاء لهذه المهمة الصعبة، وقَدَّموا دراسات ونظريات واقتراحات قيِّمة، في سبيل تطوير علم الأصول وتجديده، وجعله أكثر استجابة للمستجدات التي طرأت في عصورهم، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: ابن حزم[32]، والجويني[33]، وابن تيمية[34]، والشاطبي[35]، والشوكاني[36]، وغيرهم.
وقد تكررت هذه المحاولات على مدى العصور الماضية، فظهر أئمة مجتهدون كثيرون ساهموا بمحاولات جادة لتحقيق هذا الهدف، إلا أن محاولاتهم ظلت تدور في فلك القواعد التي وضعها المؤسسون، وكأن أولئك المؤسسين - بحكم الريادة - قد بلغوا سقف العلم، مع أن من البديهيات التي لا جدال فيها أن سقف العلم لا يمكن أن يبلغه أحد من العالمين كما قدمنا، وقد أشار الإمام (جلال الدين السيوطي)[37] رحمه الله تعالى إلى هذه العلة، فقال: (العلومُ وإنْ كَثُرَ عَدَدُها، وانتشرَ في الخافقين مددُها، فغايتُها بحرٌ قعرُه لا يُدرك، ونهايتُها طودٌ شامخٌ لا يُستطاعُ إلى ذروتهِ أن يُسلك، ولهذا يُفتح لعالِمٍ بعد آخر من الأبوابِ ما لم يَتَطَرَّقْ إليهِ من المتقدمينَ الأسباب)[38].
فالمؤسسون لأيِّ علم من العلوم ليسوا معصومين، وليسوا مصدراً نهائياً للمعرفة، بل هم بشر مثلنا يصيبون ويخطئون، ومن ثم فإن علاقتنا بهم يجب أن تدور في فلك التوجيه القرآني الذي دعانا أن نتقبَّل منهم أحسن ما عملوا، أما ما عداه فنجتهد فيه كما اجتهدوا، لأننا نحن الذين سوف نُسأل عن أعمالنا آخر المطاف، وليس هُم (تلكَ أمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُم، وَلا تُسْألونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلونَ) سورة البقرة 134.
وموقفنا هذا من اجتهادات من سبقونا لا يعني عدم صلاحية اجتهاداتهم، فلا جدال أن الذي جعل اجتهاداتهم موضع تقدير من عامة المسلمين، عبر العصور الماضية، واتباعهم لها، هو الصلة الوثيقة ما بين تلك الاجتهادات وأحوال الناس، وقدرتها على حل مشكلاتهم في تلك العصور، ومن ثم فإن موقفنا من اجتهادات من سبقونا لا يبتغي تفنيد تلك الاجتهادات أو الحط من قدرها، بل هو موقف ينبع من حقيقة لا جدال فيها، هي أن عصورنا لم تعد كعصورهم، وظروفنا تغيرت عن ظروفهم، وهذا ما يحثنا على الاجتهاد لعصرنا كما اجتهدوا لعصورهم، لكي نكون أوفياء لعصرنا، كما كانوا أوفياء لعصورهم.
ومن هنا تأتي دعوتنا لتجديد علم الأصول، ومن ثم تجديد مدوناتنا الفقهية؛ لأن الفقه ينبغي أن يكون على صلة وثيقة بواقع الناس وهمومهم ومشكلاتهم الراهنة، وأن يساهم بكفاءة في إيجاد الحلول المناسبة لها، إلا أن هذه المهمة لن يؤديها علم الأصول على الوجه المطلوب ما لم يتمتع بقدر كبير من المرونة التي تجعله قادراً على مواكبة إيقاع العصر وما يجري فيه من تغيرات.
وقد أدرك علماء الأصول والفقهاء الأوائل طبيعة هذه العلاقة ما بين عملهم وطبيعة الحياة البشرية التي هي عرضة باستمرار للتغير والتحول والتبدل، فكان الاجتهاد ديدنهم جميعاً، وقد عبَّر (الإمام أبو حنيفة)[39] رحمه الله تعالى عن هذه الطبيعة في الاجتهاد البشري بمقولته المشهورة: "هُمْ رجالٌ ونحنُ رجالٌ" أي إن (الاجتهاد - وهو فعل فكري بشري يمارسه العقل في ضوء الشرع - قابل للخطأ والصواب، وهذا يعني أنه دائماً في عصره، وفي سائر العصور، محلٌّ للتقويم والمراجعة والنقد والفحص والاختبار، والتعديل والإلغاء، والإضافة والحذف، وهو محل للفعل الفكري، وهذا بالطبع لا ينال من قدسية القِيَم في الكتاب والسنة وعصمتها، وإنما يؤكد قدسيتها وعصمتها، وأن القيم تبقى هي المرجعية والمعيار الضابط لكل اجتهاد .. ولو كانت صوابية الاجتهاد لعصر تعني الصوابية لكل عصر لما كان هناك حاجة للاجتهاد والتجديد أصلاً، ولاكتفى الناس باجتهاد عصر الصحابة، ولما كانت الشريعة تتمتع بالخلود والتجرد عن قيود الزمان والمكان، ولكان إقفال باب الاجتهاد من خصائص الشريعة ومستلزماتها، ولما كان هناك داعٍ لحضِّ الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابةَ على الاجتهاد، وخطاب القرآن لهم بالنفرة ليتفقهوا في الدين، على الرغم من وجود النصوص في الكتاب والسنة)[40].
ومن المعلوم أن مراجعة ما قال به الأوّلون، ونقده، وتمحيصه، وإعادة النظر فيه، كان دعوة إلهية ملحَّة تكررت في مواضع عديدة من القرآن الكريم[41]، منها قوله تعالى: (وإذا قيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أنزَلَ اللهُ، قالوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألفينا عليهِ آباءَنا، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُونَ) سورة البقرة 170، فاتِّباع الأولين على غير هُدى وتمحيص ومراجعة واجتهاد هو موقف مُدانٌ بنَصِّ القرآن الكريم، لما في هذا الاتِّباع الأعمى من تعطيل للعقل الذي هو مناط التكليف، ولما قد يُسفر عنه هذا الاتِّباع من ضلال وبُعد عن الحق.
ومن ثم، فإن مراجعة ما قال به الأوَّلون، ما بين الحين والآخر، هو أمر مندوب بإلحاح، لأن من طبيعة العلم البشري أنه في تطور مستمر، وكثيراً ما كشف العلماء اللاحقون عن أخطاء وقع بها السابقون فصحَّحوا ونقَّحوا وعدَّلوا وحذفوا وأضافوا، وليس في هذا انتقاص لما أنجزه السابقون، وإنما هي طبيعة العلم البشري؛ أن يظل بحاجة مستمرة للمراجعة والتعديل والتطوير والتجديد والحذف والإضافة.
ونخلص من هذا إلى أنَّ من حقِّ - بل من واجب -كل جيل أن يجتهد لعصره، كما اجتهد المؤسِّسون لعصورهم، وهذا لا يعني القطيعة مع تراث المؤسِّسين كما يتوهَّم بعض الباحثين، لأن النموَّ من غير جذور ضاربة في أعماق التراث ما هو إلا نمو خادع كالسراب، وإنما الذي نعنيه، وندعو إليه، ونؤكد عليه، أن نجعل المؤسِّسين نقطة الانطلاق، لا نقطة النهاية، وأن نستضيء بنورهم، لا أن نَقيل في ظلِّهم، فإن الزمن لا يرحم من يَقيل في الظل!
[4] محاولات التجديد:
أشرنا في ما مضى، إلى أن نخبة من أكابر الفقهاء وعلماء الأصول الذين ظلوا على مدار العصور الخالية يعملون على تجديد وتطوير علم الأصول، وطرحوا لذلك عدة نظريات، ولعل أولى محاولاتهم بدأت في القرن الرابع الهجري من قبل الإمام (الباقلاني)[42] الذي رأى في زمانه استيلاء (علم الكلام)[43] على سائر العلوم، وعاصَر الصراع الفكري الحاد الذي نشب ما بين (المعتزلة)[44]، و(الأشاعرة)[45]، فأدرك أن الأدوات المؤهلة للنظر الاجتهادي التي وضعها الإمام الشافعي باتت بحاجة للتجديد والتطوير، لكي تواكب هذه التغيرات الفكرية الطارئة، وكأن الإمام الباقلاني قد أدرك أن تجاهل الفقيه لهذه التغيرات يعدُّ رفضاً غير مباشر لتحقيق قيومية الدين على المجتمع. ولهذا جعل الباقلاني التبحُّر في علم الكلام، واستخدام أدوات المنطق، شرطان من شروط النظر الاجتهادي، ودعا إلى الاستغناء عن اشتراط معرفة المجتهد للمباحث الجزئية، من العام والخاص، والمطلق والمقيد .. إلخ، والاكتفاء بمعرفة القواعد العامة من أصول الفقه، على أساس أن هذه القواعد تتضمن تلك المعارف الجزئية كلها[46].
ثم جاءت محاولة التجديد الثانية في القرن الخامس الهجري من قبل الإمام (الجويني)[47] الذي طرح نظرية كادت تشكل في حينها منعطفاً تاريخياً فعلياً في أصول الفقه[48]، وقد أقام الجويني نظريته على أساس المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية وهي جملة المعاني والغايات والحِكَم العامَّة والخاصَّة التي ترومها الشريعة من نصوص الوحي، فقد رأى الجويني أن معرفة المقاصد الكلية للشريعة هي العمدة في النظر الاجتهادي، ولهذا دعا إلى تنزيل هذه المقاصد تنزيلاً يراعي مقتضيات العصر ومشكلات الناس الذين هم محلُّ الحكم الشرعي، وبناء على ذلك وضع الجويني مجموعة من القواعد التي بدت في حينها أشبه بعلم جديد في الأصول، له أدلته الخاصة، واستقلاله عن أصول الفقه التقليدية، وعن طرائق المذاهب الفقهية المعروفة في عصره.
ومن أبرز ملامح النظرية التي طرحها الجويني أن مقاصد الشريعة تتجه إجمالاً إلى جلب المصالح ودرء المفاسد في الدارين، الدنيا والآخرة، وأن المصدر النسبي والمؤقت للأحكام يعود إلى مدارك العقول، وبناء على هذين المحورين طرح الجويني ـ بجرأة غير مسبوقة فرضية فحواها أنه قد يأتي على الناس زمان يخلو فيه عن أصول الشريعة جملةً، حيثُ لا يَبْعُدُ في مُطَّرد العُرْفِ انمحاقُ الشَّريعةِ أصْلاً حتى تَدْرُسَ بالكُلِّية، ليصل الجويني من هذه الفرضية المستقبلية إلى نتيجة في غاية الأهمية، وهي ضرورة تدريب العقل البشري على الاجتهاد، في إطار المقاصد الكلية للشريعة، من أجل تأهيله لمواجهة تلك التحولات إن وقعت (!)
ويشهد الواقع اليوم أن ما تنبأ به الجويني قد حصل بالفعل، فإن كثيراً من المجتمعات البشرية اليوم - بما فيها بعض المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة - قد استبعدت الدين من حياتها استبعاداً تاماً، وصارت الدراسات الإنسانية في تلك المجتمعات هي مصدر الصواب والخطأ، وصارت القوانين وسلوكيات المجتمع تقرَّر بناء على نتائج تلك الدراسات ..
من هنا ندرك بُعد النظرة المستقبلية التي ذهب إليها الجويني، فهي تؤكد من جهة على حق العقل البشري بممارسة الوظيفة التي أودعها الخالق عزَّ وجلَّ فيه، إلى أبعد مدى ممكن، وتؤكد من جهة أخرى على ضرورة تأهيل العقل المسلم ليصبح قادراً على السياحة في فلك المقاصد الكلية للشريعة حتى وإن غابت عنه النصوص التفصيلية.
ولم يكتف الجويني بهذه النقلة الواسعة لتطوير العقلية الأصولية، بل دعا كذلك إلى إعادة النظر في المؤهلات التي اشترطها الأصوليون الأوائل في المجتهد، لأنها جعلت مصالح الناس رهناً بوجود فقيه قلَّما يجود الزمان به. ولهذا رأى الجويني أنه يكفي في المجتهد: معرفته بالعربية دون تبحُّر، وتحصيل ما تمسُّ الحاجة إليه من أصول الفقه وقواعده، وأسقط عنه بقية الشروط بما فيها التقوى والورع؛ لأنها لا تطعن بقدرة المجتهد على إدراك الأحكام ومآخذها.
ولا ريب في أن هذه الأطروحات الجريئة من الجويني - سواء وافقناه عليها أم عارضناه - كانت أطروحات حَرِيَّة بالاهتمام، ولو قدِّر لها من يناقشها مناقشة علمية موضوعية، ويساهم بتطويرها والعمل بها، فربما كانت النتيجة تأسيس علم أصول جديد يحلُّ الكثير من الإشكاليات التي لم يعد باستطاعة علم الأصول في العصور اللاحقة أن يحلها، إلا أن الرياح تجري غالباً بما لا تشتهي السفن كما يقولون، ولهذا انتهت محاولة هذا الإمام المجدِّد إلى أرفف التاريخ، ولم يُقَدَّر لها أن تأخذ مكانتها اللائقة في تراثنا الفقهي.
أما المحاولة التالية للتجديد، فقد جاءت في القرن الثامن الهجري على يدي عالم أصول مجتهد بارز آخر هو الإمام (الشاطبي)[49] الذي لا يقلُّ عن سلفه الجويني اهتماماً بالمقاصد الكلية للشريعة، بل قد فاقَهُ في تأصيل نظرية المقاصد وبيان دورها في تفعيل حركة الاجتهاد.
وقد أقام الشاطبي نظريته على استقراء فروع الشريعة واستخلاص مقاصدها العامة التي تستهدف تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، وركَّز على جانب مهم جداً في هذا السياق، هو وجوب مراعاة عادات الواقع، إذْ لا يمكنُ أنْ يكونَ المعنى إلا ما يُصَدِّقُهُ الواقِعُ ويَطَّرِدُ عليه[50]، ولهذا نبَّه الشاطبي إلى ضرورة فهم الفقيه للواقع فهماً دقيقاً وعميقاً، لكي يستطيع تقديم حكم شرعي يحل مشكلات هذا الواقع، حلاً عملياً يتوافق مع مقاصد الشريعة، ولا يوقع الناس في الحرج، وبهذه النظرة إلى الواقع حرَّر الشاطبي الفقه من أسر الألفاظ، وربطه بآفاق المقاصد، ففتح بهذه النقلة المستبصرة مساحة رحبة للعقل والاجتهاد والتجديد.
ولم يكتف الإمام الشاطبي بهذا، بل أكَّد كذلك على أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن تنزيل مقاصد الشريعة على مجاري العادات مشروط بالفَهْم عن الشارع الحكيم، والقدرة على تحقيق مناط الأحكام[51]، ولهذا نبَّه الشاطبي إلى ضَرُورة النَّظَرِ في المَسْأَلاتِ قبلَ الجوابِ عن السؤالاتِ عندَ تحقيقِ المناطِ، إذ لا جدوى للأجوبةِ الفقهيَّةِ المُعَدَّةِ لكلِّ مناسبة؛ وذلك لأن الحكم يختلف من حال إلى حال بحسب ظروف الواقع الذي يُسأل عنه، وبما أن واقع الناس في تغير مستمر فإن طرائق الاجتهاد ينبغي أن تتحلى بالمرونة الكافية التي تجعلها قادرة على التعامل الواقعي مع هذا التغير دون أن تخرج عن دائرة المقاصد الكلية للشريعة.
وقد كانت هذه النظرات الأصولية العميقة التي أسسها الشاطبي، ومن قبله الجويني، كفيلة بأن تشكل نقلة مهمة في تاريخ علم الأصول وتجديده، وأن تفتح نوافذ واسعة لتحرير نصوص الوحي من قراءات الفقهاء الأوائل الذين صرفوا جُلُّ اهتمامهم إلى النصوص على حساب مقاصد النصوص وعللها، إلا أن هذه النقلة التي مهَّد لها الإمامان الجويني والشاطبي لم تجد من يستكملها بالصورة المأمولة، بل تابع الاجتهاد الفقهي بعد ذلك مسيرته الرتيبة دون التفات يذكر إلى هذه النظريات المجدِّدة (!)
فإذا علمنا بعد هذه المقدمات أن معظم نصوص الوحي السماوي ظنية الدلالة؛ أي تحتمل أكثر من معنى، كما يقرر علماء اللغة، ويوافقهم عليه الأصوليون والفقهاء، فإننا ندرك طبيعة الإشكالية التي حاول الشاطبي ـ ومن قبله الجويني ـ تجاوزها، فإن الوقوف على المقاصد الكلية للشريعة بدل الوقوف عند حرفية النصوص، وما تتمتع به النصوص من ظنية في دلالاتها، والوقل بأن الأصل في الأشياء الإباحة، كل ذلك يعطي الفقيه مساحة رحبة للتحرك بالنصوص، ويتيح له في كل عصر توليد أحكام تكون أكثر ملاءمة للواقع الذي من طبيعته التغير والتبدل وعدم الثبات على حال، ولا جدال بأن هذه النقلة كانت نقلة مهمة جدّاً على المستوى العملي؛ لأن الأحكام حين تكون مراعية للواقع، ملائمة لأحوال الناس، يكون الناس أكثر التزاماً بها، ويكونون أكثر تمسُّكاً بشريعة الله عزَّ وجلَّ.
ومن طريف ما حكاه الشاطبي في هذا السياق نقلاً عن الإمام (أبي حامد الغزالي)[52] في كتابه (شفاء الغليل) أن بعض أكابر العلماء دخل على بعض الملوك، فسأله الملك عن الوقاع في نهار رمضان؟ فأجابه العالم أن عليه صيام شهرين متتابعين. فلما خرج العالم من مجلس الملك راجعه بعض أقرانه وتلاميذه بالمسألة فقالوا: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى الصوم، والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيداً غير محصورين؟ فردَّ العالم عليهم قائلاً: لو قلت للملك عليك إعتاق رقبة لاستحقر ذلك وأعتق عبيداً مراراً، فلا يزجره إعتاق الرقبة، ويزجره صوم شهرين متتابعين ! وقد علَّق الإمام الشاطبي على هذه القصة بأن (هذا المعنى مناسب؛ لأنَّ الكفارةَ مقصودُ الشَّرعِ منها الزَّجْرُ، والملكُ لا يَزْجُرُهُ الإعتاقُ، ويزجرُهُ الصِّيامُ)[53]، فقد استحسن الشاطبي هذا المعنى لأنه يحقق مقاصد الشريعة، على الرغم من أنه يخالف جمهور الفقهاء باشتراط الترتيب في الكفارة: تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يجد فإطعام ستين مسكيناً.
وهكذا يبدو جليّاً أن التمسك بحرفية النص قد لا يحقق بالضرورة مقاصد الشريعة، بل قد يهدرها، خذ مثلاً على هذا (تَشَدُّد الذين يرفضون كلَّ الرفض إخراج زكاة الفطر بقيمتها نقداً، بحجة التمسك بالنص الذي ورد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها في أصناف معينة من الطعام: التمر والزبيب والقمح والشعير، ولو تأمل هؤلاء الأخوة الأمر كما ينبغي له لوجدوا أنهم خالفوا النبي صلى الله عليه وسلم في الحقيقة وإن اتبعوه في الظاهر، فالرسول صلى الله عليه وسلم راعى ظروف البيئة والزمن، فأوجب زكاة الفطر مما في أيدي الناس من الأطعمة، وكان ذلك أيسر على المعطي وأنفع للآخذ، فقد كانت النقود عزيزة عند العرب وخصوصاً أهل البوادي، وكان إخراج الطعام ميسوراً لهم، والمساكين محتاجون إليه، لهذا فرض الصدقة من الميسور لهم)[54].
وقد ورد في الأثر كذلك، أن رجلاً سأل الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن حديث: (البَيِّعانِ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُما بالخِيارِ على صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا)[55]؛ أي يمكن لكل من البائع والمشتري أن يتراجعا عن الصفقة التي اتفقا عليها ماداما في المجلس نفسه، فإذا تفرقا انعقد البيع وأصبح ملزماً للطرفين، فَرَدَّ أبو حنيفة على السائل: (أرأيت إن كانا في سفينة؟ أرأيت إن كانا في سجن؟ أرأيت إن كانا في سفر؟)[56]، يريد أبو حنيفة من ذلك أن النص ينبغي أن يفهم في ضوء الظروف التي قيل فيها، والمقاصد التي يرمي إليها، ولا يصح الاكتفاء بحرفية النص؛ لأنها قد توقع الناس في حرج شديد يدفعهم لرفض النص جملة وتفصيلاً !
ولا غرو أن هذه النقلة من النص إلى المقاصد تعدُّ نقلة مهمة جداً في تاريخنا الفقهي، ولكي ندرك أهمية هذه النقلة يكفي أن نطلع على الخلافات الواسعة التي وقعت بين الفقهاء حول دلالات النصوص التي هي عمدة أصول الفقه على حدِّ تعبير الإمام أبي حامد الغزالي[57]، فقد أفضت خلافاتهم حول الدلالات إلى اختلافات واسعة في الأحكام التي انتهى إليها كل فقيه، ونعتقد أن نظرية المقاصد لو أعطيت ما تستحقه من اهتمام الأصوليين والفقهاء لكانت كفيلة بالحد من تلك الخلافات، وتقريب المذاهب الفقهية بعضها من بعض.
وقد تجدَّدت محاولات تطوير علم أصول الفقه في العصور اللاحقة، وتواصلت هذه المحاولات حتى عصرنا الراهن، فقدَّم عدد غير قليل من الفقهاء المجتهدين مجموعة من الدراسات القيمة التي تضمنت اقتراحات عديدة لتحقيق هذا الهدف، نذكر منهم على سبيل المثال: الشوكاني في كتابه (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول) الذي تناول فيه المادة الأصولية على نحو جديد قوامه: التحقيق والتمحيص، ورفض التقليد، والدعوة للاجتهاد، وتجديد مناهج الدراسات الفقهية، ويوسف القرضاوي في كتابه (تجديد الدين في ضوء السنة)، ومحمد الطاهر ابن عاشور في (مقاصد الشريعة الإسلامية)، علال الفاسي في (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها)، عباس حسني محمد في (الفقه الإسلامي، آفاقه وتطوره)، حسن الترابي في (قضايا التجديد، نحو منهج أصولي)، حليمة بوكروشة في (معالم تجديد المنهج الفقهي) وغيرهم كثير.
إلا أن هذه الدراسات الأصولية على كثرتها، وعمق معظمها، ظلت دون الحدِّ المأمول، فلم تستطع أن تقدم منظومة أصولية جديدة متكاملة، قادرة على حل الأزمة، وإعادة الحيوية لحركة الاجتهاد، ولعلَّ أهم ما كان ينقص هذه المحاولات في رأينا مطلبان اثنان :
- الأول: وضع أسس جديدة لتحرير (نصوص الوحي) من بعض القيود التي فرضتها المناهج الأصولية القديمة، وبخاصة منها القيود التي قيدت نصوص الوحي بزمن معين أو بيئة محددة، من خلال ربط هذه النصوص بمصادر التشريع الأخرى، فنزعت عنها بهذه القيود سمة الطلاقة التي هي من أبرز سماتها.
- الثاني: ملاحظة سمة (التدرج بالتشريع) التي أرسى القرآن الكريم مبادئها، وترك للمجتهدين في كل عصر المضي بها إلى غاياتها، لكي تساير الأحكامُ مستجداتِ الواقع في كل عصر.
ونعتقد أن تحقيق هذين المطلبين يمكن أن يشكل منعطفاً حقيقياً في علم أصول الفقه، وأن يبعث الحياة في حركة الاجتهاد؛ لأنه يعيد لنصوص الوحي قدرتها في كل حين على توليد أحكام جديدة، تستجيب لتغيرات الزمان والأحوال والبيئات، وترفع الحرج عن الناس بمراعاتها لأحوالهم وتلبية حاجاتهم المتجددة، ومن ثم تجعلهم أكثر استجابة لأحكام الشريعة (إذ كلَّما كانَ القانونُ معبِّراً عن أوضاعِ النَّاسِ وحاجياتِهم كانَ أقربَ إلى نفوسِهم، وكلَّما كانَ قريباً من نفوسِهم كانتْ مخالفتُهم لهُ أقلَّ، وامتثالُهم لهُ أكثرَ)[58].
والخلاصة، أن هذه الإشكاليات التي عرضنا طرفاً منها فيما قدمناه حتى الآن هي التي تدعونا اليوم لمراجعة علم الأصول الذي نرى ـ كما يرى كثير من الباحثين غيرنا[59] ـ أنه يشكل نقطة الانطلاق الحقيقية لتجديد الدين، وليس في هذه المراجعة لأصول الفقه انتقاص لجهود الأصوليين والفقهاء السابقين، وإنما هي سنة الله في خلقه، أن يؤدي كلُّ جيل ما لديه ويمضي، تاركاً الساحة مفتوحة للأجيال اللاحقة، فليس في العلم احتكار، بل لعل من أبرز خصائص العلم أنه ينمو ويتطور بالتراكم المعرفي، فيضيف فيه اللاحق للسابق، وبهذا تتسع آفاق المعرفة البشرية، ويتحقق المزيد من مصالح العباد والبلاد.
***
[1] - الصحاح للجوهري 2/396، لسان العرب لابن منظور 2/201
[2] - مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، السنة 23، العدد 73، ص 227، جامعة الكويت، مجلس النشر العلمي 2008
[3] - أبو حامد، محمد بن محمد الغزالي (ت 505 هـ / 1112م): ولد في طوس بخراسان، فقيه شافعي أصولي متكلم متصوف، درس الفقه وعلم الكلام على إمام الحرمين، وارتحل إلى بغداد فالحجاز فالشام فمصر طلباً للعلم، ثم عاد إلى طوس وتوفى فيها، له أكثر من أربعين مصنفاً في الفقه والفلسفة والتَّصَوُّف، منها (إحياء علوم الدين) الذي يعدُّ موسوعة جامعة في علوم الدين، وله في الفقه (البسيط) و(الوسيط) و(الوجيز) و(الخلاصة)، وفي الفلسفة (المنقذ من الضلال) و(تهافت الفلاسفة).
[4] - الشاطبي، إبراهيم بن موسى بن محمد الغرناطي (ت 790هـ / 1388م): إمام محقق، ومفسر فقيه محدث، يعد من الأئمة المجددين في الإسلام، له استنباطات جليلة، وبحوث قيمة كثيرة، منها (الموافقات في أصول الشريعة) و(المقاصد) و(الاعتصام) وغيرها.
[5] - سبق تخريجه.
[6] - د. وهبة الزحيلي: أصول الفقه الإسلامي 1/29، دار الفكر المعاصر (بيروت) دار الفكر (دمشق) 1998
[7] - رفاعة رافع الطهطاوي (1801 ـ 1873): شيخ المترجمين المصريين في مطلع النهضة الحديثة، تعلم في الأزهر، وأوفد إماماً لأول بعثة تعليمية إلى فرنسا عام 1826، أتقن الفرنسية واطلع على مؤلفات من مختلف العلوم، وترجم بعضها، واتصل ببعض المستشرقين واستفاد من طريقتهم في البحث العلمي، وبعد عودته عمل مترجماً في المدارس الفنية التي انشأها محمد على باشا، ثم مديراً لمدرسة الترجمة التي أصبحت (دار الألسن)، كان له دور في إنشاء الصحيفة الرسمية (الوقائع المصرية) وقاد مشروعاً لطباعة كتب التراث القديمة، واختير عضواً في (قومسيون المدارس) أي المجلس الأعلى الذي يضع المناهج ويشرف على التعليم والامتحانات، من مصنفاته (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) الذي وصف فيه رحلته ومشاهداته في فرنسا، وشرح فيه النظم السياسية والاجتماعية الحديثة التي كانت سائدة في أوروبا آنذاك، وكان لهذا الكتاب أثر كبير في الثقافة العربية المعاصرة.
[8] - الطهطاوي: المرشد الأمين للنبات والبنين، تحقيق محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت 1973
[9] - الباقلاني، أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر (ت 403هـ / 1013م): فقيه أصولي، ولد بالبصرة وأقام في بغداد وفيها توفي، انتهت إليه رئاسة المذهب المالكي في عصره، وولي القضاء، وكانت له مناظرات كثيرة في الرد على المعتزلة والرافضة والجهمية وغيرهم، أوفده عضد الدولة سفيراً إلى ملك الروم في القسطنطينية فناظر علماء النصرانية هناك وتغلب عليهم، له أكثر من خمسين كتاباً في الفقه والأصول، منها (الأصول الكبير) و(هداية المسترشدين) و(إعجاز القرآن) و(الإنصاف) و(التقريب والإرشاد).
[10] - الجويني، أبو المعالي، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد (ت 487هـ / 1094م): ولد في جوين بنواحي نيسابور، يعد من أعلم أصحاب الشافعي، تفقه على والده الذي كان من كبار فقهاء الشافعية، وأتى على جميع مصنفاته وتصرف فيها وزاد عليها بالتحقيق والتدقيق، جاور بمكة والمدينة يدرِّس ويفتي ويجمع طرق المذهب ولهذا سمي (إمام الحرمين)، من مصنفاته (نهاية المطلب في دراية المذهب) في الفقه الشافعي، و(الشامل)، و(الإرشاد) في أصول الدين، و(البرهان في أصول الفقه).
[11] - سبقت ترجمته.
[12] - انظر: د.أحمد محمد كنعان (أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق).
[13] - انظر: د.جمال الدين عطية (توسيع مجال الاجتهاد، آفاق وعقبات) على موقع www.islamonline.net
[14] - انظر: د.صبحي المحمصاني (الأوضاع التشريعية في البلاد العربية)، وانظر: د.قطب مصطفى سانو (أدوات النظر الاجتهادي المنشود في ضوء الواقع المعاصر).
[15] - سبقت ترجمته.
[16] - سبقت ترجمته.
[17] - عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني، أبو الحسين (ت 415هـ / 1025م): قاضٍ، أصولي، ولي القضاء في الري، ولقب بقاضي القضاة [ تاريخ بغداد 11/113 ]
[18] - أبو الحسين، محمد بن علي بن الطيب البصري.
[19] - فخر الدين الرازي، محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين، يعرف بابن الخطيب (ت 606 هـ/1210م): ولد بالري وإليها نسبته، فقيه أصولي مفسِّر، بنيت له المدارس ليلقي فيها دروسه وعظاته، وكان درسه حافلاً بالأفاضل، كان فريد عصره في التأليف والتصنيف، حتى اشتهرت مؤلفاته وانتشرت بالآفاق، كان أوحد زمانه في المنقول والمعقول وعلوم الأوائل، من مصنفاته (معالم الأصول) و(المحصول) في أصول الفقه، توفي في هراة [ وفيات الأعيان 1/474، والموسوعة الفقهية، الكويت 1/351]
[20] - علي بن محمد بن سالم التغلبي، أبو الحسن، سيف الدين الآمدي (ت 631هـ / 1234م): فقيه أصولي تعلم في بغداد والشام، وعلَّم في القاهرة، من مصنفاته (الإحكام في أصول الأحكام) [ انظر: وفيات الأعيان 1/329 ]
[21] - ابن خلدون، أبو زيد عبد الرحمن بن محمد (ت 808هـ / 1406م): مؤرخ، فقيه، عالم بالتاريخ والاجتماع، ولد في تونس، وتنقل في بلاد المغرب والأندلس، ثم ارتحل إلى مصر فتولى القضاء في عهد السلطان برقوق، من مصنفاته (العبر وديوان المبتدأ والخبر) الذي كان لمقدمته أثر كبير في نقد وفلسفة التاريخ والعمران، وقد اشتهرت المقدمة أكثر من الكتاب نفسه لأنها تعد في تاريخ الفكر الإنساني أول عمل علمي دقيق لتمحيص الأحداث الاجتماعية والتاريخية، ومازالت إلى اليوم مرجعاً مهماً في هذا الباب في مختلف أرجاء العالم، وبها يعد ابن خلدون مؤسساً لفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.
[22] - ابن خلدون: المقدمة، ص 426، تحقيق د.درويش جويدي، المكتبة العصرية، بيروت 2002
[23] - التتار (Tatars): شعوب اكتسحت أجزاء من آسيا وأوروبا بزعامة المغول في القرن الثالث عشر الميلادي، وأقاموا إمبراطورية عظيمة ظلت حتى أواخر القرن الخامس عشر حين تمزقت إلى خانات عديدة مستقلة لم تلبث أن سقطت بأيدي الأتراك العثمانيين والقيصر الروسي إيفان الرابع، وقد دخل معظم التتار فيما بعد في الإسلام من جراء احتكاكهم بالشعوب المسلمة.
[24] - حليمة بوكروشة: معالم تجديد المنهج الفقهي، ص 11
[25] - مجلة الأحكام العدلية: وضعت في ظل الدولة العثمانية التي رأت ضرورة تدوين أحكام القانون المدني، واعتمدت على المذهب الحنفي الذي كان مذهباً رسمياً للدولة، وقد بدأ العمل بإعداد المجلة عام 1869 من قبل لجنة تضم سبعة علماء برئاسة أحمد جودت باشا، وكانت المجلة في حينها فتحاً جديداً في تاريخ تقنين الفقه الإسلامي، وظلت معمولاً بها في جميع البلدان العربية الخاضعة للسيادة العثمانية إلى أواسط القرن العشرين (المحمصاني: الأوضاع التشريعية في البلاد العربية).
[26] - انظر: د.أحمد الزرقا (شرح القواعد الفقهية).
[27] - المصدر السابق.
[28] - أبو الفضل، القاضي عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي (ت 544هـ / 1150م): أصله من الأندلس، كان إماماً حافظاً محدثاً، وفقيهاً متبحراً، يعد أحد عظماء المذهب المالكي، من تصانيفه (التنبيهات المستنبطة في شرح مشكلات المدونة) في فروع الفقه المالكي، و(الإعلام بحدود قواعد الإسلام).
[29] - أبو الحسن الكرخي، عبيد الله بن الحسين (ت 340 هـ / 952م): فقيه حنفي، ولد بالكرخ وتوفي ببغداد، وانتهت إليه رئاسة الحنفية بالعراق، من تصانيفه: رسالة في الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية، وشرح الجامع الصغير، وشرح الجامع الكبير، وكلاهما في الفقه الحنفي. والأقوال التي أوردناها مأخوذة عن حليمة بوكروشة (معالم تجديد المنهج الفقهي) ص 36
[30] - إسحاق نيوتن (1643 ـ 1727): رياضي إنكليزي، اكتشف قانون الجاذبية العام ووضع قوانين الحركة الثلاثة التي ساعدت على فهم حركة الأجسام وفسرت حركات الأجرام السماوية.
[31] - ألبرت آينشتاين (1879 ـ 1955): عالم فيزياء ألماني الأصل، أجرى بحوثاً مستفيضة حول طبيعة الضوء وعلاقته بالكهرباء وصاغها في (النظرية الكهروضوئية) التي نال عليها جائزة نوبل في الفيزياء 1921، أشهر أعماله نظرية (النسبية) التي نشرها عام 1906 وغيرت الكثير من المفاهيم الرياضية القديمة، وهو الذي صاغ المعادلة الشهيرة التي تحكم العلاقة بين الكتلة والطاقة، التي مهدت لتفجير الذرة عام 1945
[32] - ابن حزم، علي بن أحمد بن سعيد القرطبي الأندلسي (ت 456هـ / 1064م): فقيه محدث مؤرخ، تولى الوزارة لعدد من الخلفاء، وشهد له كبار الأئمة بالعلم، اشتهر بمذهبه الظاهري في الفقه، ونزعته النقدية العقلانية التي تتمسك بالنص ولا تغفل دور العقل، ألف كتباً كثيرة في علم الكلام والعقائد والفلسفة، منها (الإحكام في أصول الأحكام)، و(إبطال القياس والرأي والتقليد والتعليل)، و(مسائل أصول الفقه).
[33] - سبقت ترجمته.
[34] - ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد (ت 728هـ / 1328م): ولد في جنوب دمشق، كان فقيهاً محدِّثاً، وناقداً محققاً، ناظر وجادل وأفتى ولمَّا يتجاوز بضع عشرة سنة من عمره، يعد من المجددين في تاريخ الفقه الإسلامي، عرف بالشجاعة في الدفاع عن الحق فصار له خصوم كثيرون أغروا به الحكام فسجنوه أكثر من مرة في مصر ثم في الشام وظل في سجن القلعة حتى مات، من أشهر مصنفاته (الفتاوى) الذي يقع في ثلاثين مجلداً ويدل على مدى تبحره في العلوم المختلفة.
[35] - سبقت ترجمته.
[36] - الشوكاني، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله (ت 1250هـ / 1835م): ولد في هجرة شوكان قرب صنعاء، جدَّ في طلب العلم حتى أصبح إماماً مجتهداً، تولى منصب القضاء لسنوات طويلة مما أهله للاجتهاد في القضايا الاجتماعية، خلف ثروة فقهية قيمة، من أهمها (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول).
[37] - السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن (ت 910هـ / 1505م): مفسر فقيه، ولد وعاش ومات في القاهرة، أحاط بعلوم كثيرة في التفسير والفقه والنحو والبلاغة، واشتغل بالتدريس، ولما بلغ الأربعين انقطع عن الناس وتفرغ للتأليف فأخرج 600 مصنف، وصار له في كل علم كتاب يعد عمدة في ذلك العلم، منها: الإتقان في علوم القرآن، وطبقات المفسرين، وغيره كثير.
[38] - السيوطي: الإتقان في علوم القرآن 1/3
[39] - سبقت ترجمته.
[40] - د.نور الدين بن مختار الخادمي: الاجتهاد المقاصدي، حجيته ضوابطه مجالاته 1/14، كتاب الأمة، العدد 65، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، 1998، والنص مأخوذ من تقديم الأستاذ عمر عبيد حسنة للكتاب.
[41] - انظر على سبيل المثال: الأعراف 28، المائدة 104، يونس 78، لقمان 21
[42] - سبقت ترجمته.
[43] - علم الكلام: علم يقابل علم المنطق في الفلسفة , كان غرضه الانتقال بالعقل المسلم من التقليد إلى اليقين، وإثبات أصول الدين الإسلامي بالأدلة اليقينية، وقد نشأ علم الكلام رداً على التحديات التي فرضها الالتقاء بالديانات القديمة التي كانت موجودة في بلاد الرافدين أساساً (المانوية، والزرادشتية ..) واستهدف التصدي للفرق العديدة التي ظهرت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (المعتزلة، الجهمية، الخوارج، الزنادقة، الأشاعرة، الماتريدية ..) وعليه فإن علم الكلام كان منطلقه الإيمان، على عكس الفلسفة الإغريقية التي قامت على نظرة مادية للعالم، ولهذا استهدف علم الكلام دراسة أصول الدين التي تتمحور حول (الألوهية، النبوة، المَعاد).
[44] - المعتزلة: فرقة كلامية، ظهرت في أخريات القرن الأول الهجري، وبلغت شأوها في العصر العباسي في خلافة المأمون، وقد اكتسبت اسمها من اعتزال إمامها واصل بن عطاء لمجلس الحسن البصري، بعد أن اختلفا حول بعض مسائل العقيدة، اعتمد المعتزلة على المنطق والقياس في مناقشة القضايا الكلامية، وكان من أبرز مقولاتهم: أن مقترف الكبيرة ليس بالكافر ولا بالمؤمن بل هو في منزلة بين المنزلتين، كما ذهبوا إلى أن للإنسان إرادة حرة، وقالوا بخلق القرآن الكريم، وكانت لهم آراء خاصة في التوحيد والعدل والصفات الإلهية.
[45] - الأشاعرة: ينسبون إلى أبي الحسن الأشعري (ت 324هـ / 936م) مؤسس هذا المذهب الكلامي في الإسلام، وهم يرون أن العقل يستطيع إدراك وجود الله، ولكنه لا يوجب شيئاً من المعارف، ولا يقتضي تحسيناً ولا تقبيحاً، ولا يوجب على الله رعاية لمصالح العباد، والواجبات كلها واجبة بالسمع لا بالعقل.
[46] - انظر كتابيه: (الأصول الكبير) و(التقريب والإرشاد).
[47] - سبقت ترجمته.
[48] - انظر كتابه: البرهان في أصول الفقه.
[49] - سبقت ترجمته.
[50] - انظر كتابه: الموافقات.
[51] - انظر كتابه: المقاصد.
[52] - سبقت ترجمته.
[53] - الشاطبي: الاعتصام، تحقيق محمد رشيد رضا، 2/113، مكتبة الرياض الحديثة، د.ت.
[54] - د. يوسف القرضاوي: كيف نتعامل مع السنة النبوية، ص 138، المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1993
[55] - أخرجه مسلم 3930، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والنسائي 4474، وابن ماجة 2267
[56] - انظر: وهبة الزحيلي (الفقه الإسلامي وأدلته) 4/352، دار الفكر، دمشق 1997
[57] - أبو حامد الغزالي: المستصفى من علم الأصول 1/44، ط.مصطفى محمد 1356هـ.
[58] - د.محمد البهي: الإسلام والأنظمة السياسية، ص 75
[59] - انظر عناوين الدراسات التي أشرنا إليها آنفاً، وغيرها من الدراسات التي تزايد نشرها في السنوات الأخيرة.