سؤالا الدين: أولان مع آدم الأول أخيران مع آدم الأخير
فئة : مقالات
سؤالا الدين
أولان مع آدم الأول أخيران مع آدم الأخير*
الدين ظاهرة تتصل عضوياً بالروح والقلب والعقل والجسد، الدين ظاهرة مركّبة متنوعة الأبعاد والتعبيرات، أيُّ فهمٍ يختزل الدينَ ببعد واحد هو فهم تبسيطي ساذج، الكائنُ البشري كينونتُه متعددة الأبعاد، وتبعا لذلك تتعدد أبعاد دين هذا الكائن بتعدد أبعاد كينونته.
الدين من جهة هو فهم لما هو الإله، ومحاولة تأويل وتفسير لحقيقة الإلهي، وما يتصف به من صفات لا تكرر ما هو بشري، ونمط الصلة الأنطولوجية للبشري بالإله، وكيفية تمثّل البشري للإلهي، وحضور المطلق الكامل الغني - الذي لا يحدّه شئ، ولا يشبهه شئ، ولا ينقصه شئ، ولا يفتقر لشئ - في وجود وحياة الكائن البشري، هذا الكائن الفقير المحدود غير الكامل بطبيعته.
الدين من جهة أخرى هو أيضا تفسير لحقيقة الإنسان، وماهيته، وحدوده، ومتطلبات حياته المتنوعة، والمعايير والقيم التي تنتظم في سياقها تلك المتطلبات، بما تنشده حياتُه من قيم الإيمان والحب والجمال، وما ينجز فيها من الخير والحق والعدل.
أزمات الإنسان تعود إلى أن العلم الحديث ينتج على الدوام إنساناً ذا بعد واحد، في حين أن لكينونة الإنسان طبيعة النسيج المتجانس، اختصارها في الجسد يفضي إلى قلق وجودي يمزّق الروح، ويحرق القلب.كما أن اختصارها في الروح أو القلب يفضي إلى إنتاج كائن يعيش خارجَ الواقع المعيش.كذلك يفضي اختصار هذا الكائن في العقل إلى محو طاقات الروح، واطفاء ما يفيضه القلب، وإهدار قدرات الجسد. وقتئذ لا يعود هذا الكائن أرضياً بشرياً، بل يصير موجوداً يمكن أن يشبه كل شيء إلاّ الإنسان، بعد شطب أبعاد وجوده الأخرى المقوّمة لكينونته؛ ذلك أن محو أي بُعد من أبعاد وجوده يمحو معه عنصراً محورياً في ماهيته، ويخلق إعاقة وانكساراً يمزّقان عالمه الجواني.
الدين يسعى لتأمين توازن لحاجات الروح والقلب والعقل والجسد، كلٌّ بحسبه، وطبقاً لحدود إمكاناته وسعته الوجودية. نعم، تمثلات الأديان الأرضية لبثت تحكي روايةَ أنماط الاجتماع البشري، وطرائق عيش الإنسان، وما يسود في الأرض من مختلف مواطن ضعفه وقوته، وحربه وسلمه، وهزيمته وانتصاره، وحزنه وفرحه، وفشله ونجاحه، وقبحه وجماله، وشره وخيره، وشقائه وسعادته، وجهله وعلمه... فأمسى الدين قناعاً يخلعه الإنسان على قرارته ومواقفه المتضادة، إذ يمكن أن يكون تبريراً للحرب، في الوقت الذي يكون فيه تبريراً للسلم، وهكذا يمكن أن يكون تبريراً للفرح، في الوقت الذي يكون فيه تبريراً للحزن .. إلخ. تبعاً لمطامح الاستحواذ على المال والسلطة، أو حاجته للأمن والسلام والطمأنينة والسعادة.
ما يهمني الإشارة اليه هنا ليس حضور الدين في مؤسسات المجتمع، والتوكؤ عليه في الاستحواذ على الثروة والسلطة، بل الفاعليات الجوانية للدين، أي الدين بوصفه تجربة باطنية معيشة، وآثاره في بناء ذات الكائن البشري، وكيف يرتقي هذا الكائن بالايمان فيتحقق بطور وجودي أغنى، يثري كينونته، ويكرس وجوده، وكأن كينونته تتوالد عبر سلسلة ولادات، تتطور فيها طبقاً لتطور ايمانه وتكامله.
أما الإلحاد فهو ضرب من تنكّرٍ لأشواق الروح وتعطش القلب، رغم الكدح الشاق للملحد في الظلام، الذي ينهك روحَه، ويستنزف قلبَه، ويستهلك عقلَه. إنه تجلّ لقلق وجودي يجتاح كينونة الكائن البشري، للعقول التي لا تكفّ عن البحث عن الإله وعوالم الغيب، غير أنها لا تصل الى ما ترمي اليه، ذلك أنها تخطئ الطريق، ومن يخطئ الطريق لن يصل، إذ إنها تسافر كل مرة اليه بما لا يوصلها إليه، إنها كمن يحاول السفرَ إلى مدينة وسط الصحراء عبر سفينة. لا يشفي داء الروح إلاّ دواء من جنس الداء. الالحاد محاولة سفر للحق على غير الطريق، وتجلّ لقلق وجودي عميق، يمزق الروح، ويعبث بالقلب.
الإنسان كائن ليس بوسعه العيش بلا حياة روحية، وقيم أخلاقية، حتى وان كان لا يؤمن بالأديان كلها. وإن كان يصرّ البعض على قمع أشواق طفل الروح في باطنه، واسكات صوت طفل القلب في وجدانه، واهمال طفل المعنى في كينونته، وعدم الاصغاء لصوت الله في ضميره، مواصلاً قلقه الوجودي، معانداً كل نداء أصيل يصرخ في ذاته. وهو كلما كبر وتقدم عمره تكبر معه أصوات طفل عالمه الجواني، وهي لا تني كل يوم تلح على بعثه من سباته، وايقاظه من نومه، وغالبا ما يفزع مذعوراً، محتمياً بأفياء المتصوفة والعرفاء نهاية حياته.
لا طريق للحق إلاّ الحق، الحق هو الطريق. لا طريق للايمان إلاّ الايمان، الايمان هو الطريق[1]. لا طريق للروح إلاّ الروح، الروح هي الطريق. لا طريق للقلب إلاّ القلب، القلب هو الطريق، لا طريق للعقل إلاّ العقل، العقل هو الطريق.
أفهم سحر الاديان، وسطوتها على روح الإنسان. من هنا تجئ النبوات لتحمي الإنسان من الضياع في التشوهات الحادة للاديان، وإنقاذه من عبثها بحياته، ووضع الشخصيات الدينية البشرية في سياقها الواقعي وزمانها الأرضي.
التمثلات البشرية للأديان لا تقتصر على التعاطي مع تلك الشخصيات في اطار بشري تاريخي، بل تحاول أن تتخطى ذلك لتخرجها من عالمها الأرضي، وخصائصها البشرية، كما يفعل بعض مريدي المتصوفة، الذين يغالون بشيوخهم فيخرجونهم من الزمان البشري الأرضي إلى زمان مقدس لا بشري.
إن خطورة أي شخصية دينية تكمن في عبورها من الواقعي الى المثيولوجي، بل انقلابها من كونها حقيقة الى متخيل محض، لا حضور له في الواقع. وقتئذ يصير الرمز منوماً بعد أن كان ملهماً، مخدراً بعد أن كان موقظاً. فتنقلب الاديان وتهرب الى عالم غير عالمها، تخسر معه رسالتها. نعم، في كل ديانة غطاء مثيولوجي، لكن حين يستهلك الغطاء المضمون، تخسر معه الأديان مقاصدها وأهدافها.
ينشغل الدينُ بسؤالين محوريين، هما سؤالا الأسئلة، عنهما تتفرع، واليهما ترتدّ الأسئلة الكبرى في الوعي البشري. سؤالان كانا ومازالا وسيلبثان يغذيان وعيَ الإنسان، ويوقدان عقلَه على الدوام، حيثما وأنّى كان. سؤالان جائعان لا يكفّان عن التلهف للإجابات، ولا يرتويان من النقاش، ولا يتوقفان عند تخوم إجابات العقل الأداتي، ويستفزّهما العلمُ الوضعي، الذي لا يتخطى أسرار المحسوس، وينحبس في عوالمه، ويختنق في مجالاته الضيقة. ذلك العلم الذي يتسيّد فيه العقلُ، ويجري فيه توثينه بالمعنى الوضعي المادي، ومحو ماسواه، من: روح وقلب وشعور ولاشعور ومخيلة ورمز. لا يمكن اختزال الإنسان بالعقل. الإنسان كائن حقيقته مركبة من: الروح والقلب والعقل والجسد، محو أي عنصر منها يفضي الى انشطار الكائن البشري وتبديد ماهيته.
سؤالا الدين يتكرسان ويتراكمان ويتطوران بتكرس وتراكم وتطور وعي الإنسان، وتراكم تجاربه الروحية، وتعزيز خبراته العاطفية، وتوهج مشاعره وانفعالاته وأحاسيسه وأشواقه. سؤالا الدين كانا وما زالا وسيلبثان سؤالي الأسئلة في وعي الإنسان، حتى آخر كائن بشري يمتلك وعياً يعيش في الأرض. سؤالا الدين أولان منذ آدم الأول، أخيران مع آدم الأخير. سؤالا الدين، هما:
أولا: سؤال (ما الاله)، ما حقيقته، ما المبدأ، وكيف، ولماذا، وأين، ومتى؟
ثانيا: سؤال (ما الإنسان)، ما حياته، ما معناها، ولماذا.. ما موته، ولماذا، ما مصيره، ولماذا.. ما الذي يحيط به، ما طبيعة صلته بما حوله، كيف يتمكن من تطبيع علاقته بما يحيط به، ما حقيقة الصلة بين الإله والإنسان من جهة، والإنسان والعالم من جهة أخرى؟
هذان السؤالان تنبثق عنهما، وتتفرع منهما، وتعود اليهما كافة أسئلة الإنسان في: العلوم والمعارف، سواء في مجال اللاهوت والميتافيزيقا، أو الأخلاق، أو العلوم الإنسانية. بل حتى العلوم الطبيعية، تتمحور حول سؤال (ما الإنسان)، وما يتفرع عنه. ذلك أن العلوم الطبيعية ليست سوى إجابات عن أسئلة تنشد اكتشاف ما هو مجهول من أبعاد حسية، في الإنسان أولا، وما يحيط به ثانيا.
الإنسان بطبيعته كائن مسكون بتفسير وفهم ذاته، وكل شئ فيما حوله، من أجل الخلاص من قلقه الناجم عن غموض وخفاء ما حوله. الغموض والخفاء ينتج الخوف، المعرفة ضرب من الأمن، بالمعرفة واكتشاف قوانين الطبيعة يستطيع الإنسان تطبيع صلته بالطبيعة، والخلاص من الوجل والقلق، الذي تثيره طبقاتها الخفية، وعوالمها المجهولة. مضافاً إلى أن اكتشافه للمزيد من القوانين المتحكمة في الطبيعة يمنحه إمكانات واسعة للتحكم فيها وتسخيرها، بدلا من أن تكون هي متحكمة فيه، وهو عاجز حيالها.
وفي هذا المقام أود الاشارة إلى أن لغة الدين غير لغة العلم، لغة العلم مهمتها الكشف والتفسير بأجلى العبارات، وأصرح الكلمات، وأبسط التركيبات، تبتعد عن التلميح والإشارة والكناية والمجاز، تشدّد على ما هو صريح، تحذّر مما هو مضمر، تنفر من الغموض، تسعى لأن تتسع فيها الألفاظ للمفاهيم بنحو لا تقبل الانصراف لمفهوم بديل. لغة العلم تنشد التطابق على الدوام بين الدالّ والمدلول، بين اللفظ والمعنى، كما تتداولها الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها، في معادلاتها وأرقامها وقوانينها، والتي لفرط وضوحها يوازي فهمُها التصديقَ بها، ذلك أن مدلولاتها وموضوعاتها ليست مفارقةً للمادة وعوالمها.
أما لغة الدين فهي حكاية عن عوالم الغيب، أي إن مدلولاتها ومعانيها تحكي موضوعات مفارقة للمادة، عابرة لعوالمها، انها تنشد تمثّل المطلق في النسبي، وتعبير المحدود عن اللامحدود، وتجلي الالهي في البشري، وحضور عالم الغيب في عالم الشهادة، وتجسيد المقدس في الدنيوي، واستيعاب اللامحسوس في المحسوس، واتساع ما هو مادي لما هو لامادي، وتصور ما لا صورة له، واستكناه ما لا يكتنه. وتلك وظيفة تعجز عن النهوض بها أيةُ لغة بشرية، لذلك لا تنشد لغةُ الدين التطابقَ بين الدال والمدلول، وبين اللفظ والمعنى، لضيق الدالّ وعجزه وقصوره، إذ يفتقر اللفظ لأن يتسع لما لا يمكنه الاتساع له، ويستوعب ما لا يمكنه استيعابه، ويتمثل ما لا يمكنه تمثله، ويفشل في نقل ما يضيق به ظرفه، وتوصيل ما يعجز عن حمله.
لغة الدين ضرب من الترجمة لإشارات الغيب ورموزه، ومحاولة تمثيل الغيب في قوالب ألفاظ لغتنا البشرية، وتجل لكلمة الله عبر لغة البشر. والترجمة لا تطابق الأصل، ولا تبوح بما يبوح به، إنها نسخة تشي بشئ من ملامح الأصل. ولعل فيما قاله الشيخ محيي الدين بن عربي ما يشير إلى هذا المفهوم، إذ جاء في فصوص الحكم: "وسألت الله تعالى أن يجعلني فيه وفي جميع أحوالي من عباده، الذين ليس للشيطان عليهم سلطان, وأن يخصّني ما يرقمه بناني، وينطق به لساني، وينطوي عليه جناني، بالإلقاء السّبُوحي، والنّفث الروحي في الروع النفسي بالتأييد الاعتصامي, حتى أكون مترجماً لا متحكماً، ليتحقق من يقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب، أنه من مقام التقديس المنزّه عن الأغراض النفسية التي يدخلها التلبيس"[2].
الترجمة في مفهوم ابن عربي هنا لا تعني النقل من لغة إلى لغة أخرى، كما يتم التعريب من الإنجليزية إلى العربية، بل انها تعني تنزل المعنى من نشأة أعلى إلى نشأة أدنى، ذلك أن اللغة البشرية من شؤون العالم المادي، وليست من شؤون عوالم الغيب، وظرفها لا يتسع لمعاني تلك العوالم، إذ أن السعة الوجودية للغيب يضيق بها كل ما ينتمي للعالم المادي، أي أن هذه اللغة لا يتجلى فيها المعنى إلاّ بكيفية تماثل حقيقتها البشرية، وهو نحو تنزل حسب نشأتها. كلمة الله حين تتجسد في لغة بشرية تلتبس بما هو بشري، فلا تحكيها هذه اللغة كما هي، وإنما تشير إليها بما يتناسب مع وعائها وخصائها البشرية.
يحكي محيي الدين ابن عربي عن أبي طالب المكي أنه قال: "لايرى مَنْ ليس كمثله شيء، إلاّ مَنْ لَيسَ كَمثلِه شيء"[3]. كما أورد ابن عربي: "لا يعرف الله إلا الله"[4]. كلمة الله كما الله، سر الكلمة كلمة السر. ليس كل شئ يكون أجمل حين يسفر عن وجهه. السر في جمال عوالم الربوبية يكمن فيما تتلفع به من سر. الله وعوالم الغيب لا صورة لها. الله صورة من يتصوره. صورة الله أول ممارسة تأويلية خلقها البشر. خلق آدمُ صورة لله على صورته، ثم بقي آدمُ يصوّر اللهَ على صوره. آدمُ لا صورة نهائية يصل إليها، لذا فإن الله بلا صورة نهائية. اللاتناهي هو لاتناهي وعي آدم وتأويله.
لغة الدين لا يقتصر نداؤها على العقل، بل يتخطاه لإيقاد طاقات الروح، وإيقاظ أشواق القلب، وإثارة المشاعر والعواطف والأحاسيس، وإحياء الضمير.
كلما ضاقت دلالة العبارة اتسعت دلالة الاشارة. ما تضيق به العبارة لا تتسع له إلاّ الإشارة. أعمق المعاني هي تلك التي نتذوقها، لكن تضيق كلماتنا عن استيعابها، ويتعذر على قوالب ألفاظنا البوح بها. لغة الدين لا تشي إلاّ بالإشارة عندما تتعذر العبارة، والتلميح عندما يتعذر التصريح، وهي في كل ذلك تتوسل بالرمز والمجاز والكناية والاستعارة والإيحاء.
أما كتابي: (الدين والظمأ الأنطولوجي) فهو رسالة في الايمان، وليس كتاباً أكاديمياً علمياً صارماً، لا صلة له بالروح والقلب والشعور. ميزة (رسالة الايمان) أنها خطاب للروح والقلب والشعور من خلال العقل. إنها ليست نصاً يابساً بارداً، وإنما هي مثل كلمات الشعر الرؤيوي التي يتحول معها كلُّ شئ تلامسه شعراً.
المهم أن تصل هذه الرسالة للكل، يتفاعل معها الكل، يتذوقها الكل، نفياً أو اثباتاً، النقاش فيما أثارته من آراء يعني أن (الدين والظمأ الأنطولوجي) أنجز شيئاً من وعوده، في تجديد الحوار الحرّ في أعمق وأهم سؤالين في الوعي البشري، سؤال الاله وسؤال الإنسان، السؤالان اللذان يتمحور هذا الكتاب على التماس أجوبة ليست مبتذلة لهما، عبر التشديد على أن الدين هو ما يخلع المعنى على حياة الإنسان، ومن دونه يواصل هذا الكائن حيرته المزمنة، وقلقه الوجودي المتواصل، ويلبث على الدوام يبدأ من حيث انتهى، وينتهي من حيث بدأ.
ما دام هناك إنسان على الأرض هناك موت، الموت هو الحقيقة الوجودية العميقة الصادقة، التي يكفّ معها الكائن البشري عن الكذب. مادام هناك موت هناك دين. الدين هو الجواب الوحيد لتحدي الموت. الموت هو نهاية الحياة الدنيا، وذوبان وجود الكائن البشري، الذي له وجودٌ هو الأغنى، مقارنة بسواه من الموجودات الممكنة، ولا يمكن أن ينصاع هذا الوجود لنهاية ينعدم فيها، ذلك أن هذا النوع من الوجود لا يطلب إلاّ الأبدية.
كينونة الكائن البشري أكثف وأعمق وأغنى مما نظن. لا يعني الموت حالة سكون، أو توقف، أو تعطيل، أو نهاية، بل أن ما بعد الموت مسعى تكاملي، يغادر فيه هذا الكائن نمط وجود، ويدخل نمطاً مختلفاً من الوجود. الحياة حركة، الموت أيضاً حركة، يتواصل فيها اثراء كينونة الإنسان وتطورها، لذلك فان جماعة من فلاسفة الاسلام، يقولون بعدم الخلود الأبدي في النار، وهو قول متصوفة وعرفاء الاسلام.
الدين يقدّم تفسيراً وتبريراً لتأبيد الحياة، واستمرار وجود هذا الكائن على الدوام. يشرح الدينُ الموتَ بالشكل الذي يغدو فيه مجرد تحوّل من طور وجودي إلى طور وجودي آخر، أو تبدّل من نمط وجود إلى نمط وجود آخر، أو من نشأة إلى نشأة أخرى. صحيح أن الطور الثاني يكتنفه إبهام وغموض، غير أن الدين يقدّمه كمعطى نهائي ناجز لا نقاش فيه، ويصوّره بنحو يتبدى فيه مقنعاً لمعتنقيه، بوصفه شكلاً من أشكال التطور والصعود والتجرد والتسامي في رحلة تكامل الكائن البشري[5].
الكتاب مرافعة للدفاع عن الدين، كما أفهمه وأعيشه، ومحاولة بناء الحياة الروحية الأخلاقية العقلية، ونقد تحليلي لأدبيات الجماعات الاسلامية. رسالتي تتلخص في إحياء الحياة الروحية الأخلاقية العقلية، عبر تكريس حب الله والإنسان، وبناء قيم الحق والخير والعدل والجمال والثقة والسلام.
الناس قلقون على فقدان تدينهم، لكنهم يكرهون معظم الجماعات الاسلامية، وبعض رجال الدين يبحثون عن خارطة طريق تنقذ أرواحهم، وتهبهم الخلاص، وترشدهم إلى دروب النجاة، وتحمي إيمانهم، ذلك أن الإيمان أثمن الممتلكات القدسية للإنسان.كتابات الهجاء والازدراء والتوبيخ تجرح الضمير الديني، ويخسر معها الناس طاقة أرواحهم ومنابع أخلاقهم، لأنها لا ترسم لهم خارطة طريق تنجيهم من تمزق أرواحهم، تلك الكتابات بمثابة غثيان وزفرات أرواح معذبة، وصراخ مراهقين يقاربون الدين مقاربة تبسيطية.
أنا لا أكتب للأكاديميين، أكتب أشواق روحي، وسيرة قلبي، وأسئلة عقلي. أنشد إحياء إيمان المحبة والرحمة والجمال والثقة والسلام. تتلخص مهمتي في بناء الحب إيمانا، الإيمان حباً، واكتشاف صورة الله الرحمن الرحيم، وتطهيرها مما تراكم عليها من توحش وظلام، فرحمة الله وطن حيث تفتقد الأوطان.
لا طريق لنجاة مجتمعاتنا إلاّ بإحياء صورة الله المقترنة بالحب والحرية والحق والجمال والخير والعدالة والسلام. اقتران صورة الله بالكراهية والإكراه والقبح والتمييز والقتل، هو ما يغذي كل أشكال التدين القاتل في مجتمعاتنا.
تحرير صورة الله يبدأ بتحرير الإنسان. تمجيد الله وحمده والثناء عليه لا يساوي تبخيس مكانة الإنسان، والحط من كرامته وإهانته. مقاصد دين الله تنشد تحرير الإنسان من كافة عبودياته القاتلة. عبوديات الإنسان أسقطها على صورة الله، كي يخلع مشروعية مقدسة على تسلطه واستبداده وعدوانه وعبودياته في الأرض.
وهذا ما تشدّد عليه أدبيات الجماعات السلفية المقاتلة، التي ترسم صورة متوحشة لله، تفتقر لمنطق المحبة والرحمة الالهية. بينما يلتمس الله أية مناسبة ليمطر الناس برحمته، ويعلن أنه يحبهم قبل أن يحبوه. الشباب الذين يُلقنون تلك الأدبيات ينصبون أنفسهم بوليساً إلهياً، وأوصياء على البشرية، يراقبون حركات الناس وسكناتهم، وينتهكون خصوصياتهم، ويستبيحون دماءهم، وكأنهم لا يعلمون أن الله غني عن العالمين، وليس فقيراً أو عاجزاً كي يمنحونه احتياجاته. المحزن أن هؤلاء الشباب لا يعلمون أن صوت الله لا نسمعه إلا بصوت الإنسان. فلو مات صوت الله في ضمير الإنسان، لن نسمع صوته في آياته التكوينية والتدوينية، وأن الطريق الى الله لا يمر الا عبر الإنسان، ورحمة الله لا تتجلى الا برحمة الإنسان، ونور الله لا نقتبسه الا بإشراقه في قلب الإنسان، وكرم الله لا يظهر الا بيد الإنسان. حين نلتقي عاشقاً لله فإنه أجمل عاشق للانسان.
(رسالة الايمان) وثيقة لإحياء الإيمان، وليست كتاباً أكاديمياً. الكتب من هذا النمط تخاطب الروح، والقلب، والضمير، عبر العقل. الكتابة الأصيلة ضرب من الالهام. الكاتب الأصيل يكتب ذاته. أعمق تجلّ للكائن العميق أن تكون كتابته هو، ويكون هو كتابته. هذا هو الكتاب الذي يمثلني، ويعبّر عن مفهومي للدين والايمان.كل كاتب يكتب كتاباً واحداً، ما قبله تمارين، وما بعده تنويعات.
* تحية إلى الصديق العزيز د. محمد جمعة عباس، استشاري الطب النفسي في لندن، الذي حفزني لكتابة هذا المقال، بعد أن تكرم بتدوين مجموعة هوامش نقدية على كتابي: الدين والظمأ الأنطولوجي. بيروت: دار التنوير، 2016
[1] (برهان الصديقين) يضئ هذه الاشارة، ففي ضوء هذا البرهان الواجب هو ما يدل على ذاته بذاته، من دون توسط مخلوقاته، وكان ابن سينا أول من قال بهذا البرهان، ثم تطورت صياغاته لدى من تأخر عنه، مثل: صدر الدين الشيرازي، ومحمد حسين الطباطبائي.
[2] ابن عربي، محيي الدين. فصوص الحكم. تعليق: أبو العلا عفيفي. بيروت: دار الكتاب العربي، مقدمة عفيفي: ص 47
[3] محيي الدين بن عربي. الفتوحات المكية. بيروت: دار صادر، ج 1: ص 602
[4] وردت هذه العبارة في عدة مصادر، منها: مجموعة رسائل الإمام الغزالي. ص 341. الفتوحات المكية - طبعة الميمنية الأولى، ج1، ص 16
[5] الرفاعي، عبدالجبار. الدين والظمأ الأنطولوجي. بيروت: دار التنوير ومركز دراسات فلسفة الدين، 2006، ص ص 6 – 7