سؤال الإنسان في الفلسفة الوجودية
فئة : مقالات
على سبيل التقديم
في الواقع يدرك كل إنسان جيّدا بأنه مخلوق فريد، وأنه لا يشبه شيئا آخر في العالم، وأنه ما من مصادفة غريبة سيمكنها أن تجمع لمرة ثانية في وحدة، مثل؛ هذا التنوع الملون الرائع كما هو.[1]
وما يزيد الإنسان تفردا، هو وعيه بقيمة وجوده داخل العالم المعيش؛ ما يدفعنا إلى أن نتحمل مسؤوليتنا عن وجودنا وندافع عنه تجاه أنفسنا. ولهذا نريد أن نكون أيضا سادة حقيقيين في هذا الوجود ولا نسمح أن يشبه وجودنا مصادفة طائشة. الإنسان مجبر أن يعيش حياته بجرأة وخطر؛ وخاصة لأن الإنسان سيفقدها في كل الأحوال دائما.[2] ولا يمكننا فهم هذه المسؤولية، ما لم نحدد طريقنا بكدنا وبأيدينا تجاه المستقبل المؤلم لأنه مجهول، لكن حتى إذا لم يمنحنا المستقبل باعثا للأمل، إلا أن الحقيقة الرائعة، أننا نعيش هنا والآن، ستمنحنا الشجاعة كي نعيش طبقا لقوانينا ومقاييسنا الخاصة، إن ما يتعذر تفسيره؛ بكوننا نعيش اليوم بالذات، رغم أنه كان لدينا وقت لا محدود لنظهر فيه إلى الوجود؛ هو أننا لا نملك شيئا آخر سوى فترة قصيرة فقط، لكي نبين فيها لماذا ولأي هدف جئنا إلى الوجود حاليا، وليس في أي وقت آخر.[3] لهذا لا يجب أن نقدم ذواتنا على هيئة؛ الذات الهيغلية؛ مسكونة برغبات ميتافيزيقية، وهي لهذا ميالة إلى الخيال القصصي، إلى أن تردد على نفسها الأكاذيب التي تحتاجها لتعيش. إنها أقرب إلى "دون كيخوته"؛ هوية مستحيلة تلاحق الواقع ملاحقة يلازمها السقوط في الخطأ على نحو منتظم، [4] بل يجب أن نقدم ذواتنا بطريقة جمالية، كإنسان بودلير؛ داندي صعلوك نبيل، يكره الوعظ والإرشاد. ويمقت أخلاق "أغبياء البورجوازية"، التي ترتدى في المجالس والصالونات، مثل؛ الحلي والملابس. والتي تعني غالبا؛ النفاق والدجل والندالة المقنعة. يلزم نفسه بقواعد خاصة به، منهجية أخلاقية شخصية صارمة، من شأنها أن تجعله قديسا في نظر نفسه، نظيفا، مترفعا عن الصغائر والأوحال.[5]
إنا وجودنا باعتبارنا أناسا يحملنا مسؤولية، تفسير العالم واكتشاف جوهر أو معنى الأشياء[6]. فننتقل حينها إلى الشعور بالشخصية، وبالتالي؛ من الطبيعي أن نتساءل بصدد الإنسان عما إذا كانت الشخصية (...) مصاحبة للشعور بالضرورة، وعما إذا لم يكن في الإمكان تصور شعور لا شخصي على الإطلاق.[7] لكن وجودنا وقيمته داخل العالم سيثبت لنا أن الشعور شخصي، وبه نوجد في المستقبل، وتوجد معنا بسببه؛ القيم.
في هذا السياق، تظهر قيمة فلسفة جان بول سارتر الوجودية، باعتبارها تحليلا لهذا الشعور، وإعلاء له، باعتباره-أي الشعور- كل ما يوجد، أو المحدد الرئيس؛ للتركيبة الجمالية بين الإنسان والعالم.
إذن؛ كيف تصور جان بول سارتر "الإنسان" على غرار هذه التركيبة الجمالية؟
و إلى أي حد تتحكم محددات الشعور الوجودي في تسويغ معنى للإنسان؟
الإنسان من وجهة نظر وجودية
إن الإنسان من وجهة نظر وجودية، سؤال محرج وموقف مزود بالمعنى، ضد كل أشكال القهر والاستبداد، والاستلاب. لهذا، فالوجودية هي صرخة إنسانية هدفها الأول هو العدم؛ أي الحرية.
لما كانت الوجودية؛ فلسفة للإنسان بما هو كذلك، فلا بد من أنها تبدأ عندما تنتهي الأنطولوجيا. فبعد النظر في الشروط العامة التي تهتم بالوجود العام للإنسان، تأخذنا الوجودية في رحلة استكشافية، هدفها التعرف على ما يكتنفه الشعور الإنساني الخاص، أنها ضرب من التحليل النفسي للوجود الظاهري المشخص، والخاص.
وتوصف وجودية سارتر من حيث العمق الفلسفي "بالإعدامية"، نظرا لنقدها كل النزعات العدمية في الفلسفة الميتافيزيقية، التي حاولت أن تجعل من الماهية سابقة على الوجود، مغيبة بذلك حق الإنسان الطبيعي في تقرير مصيره، وأن يجعل ماهيته حقيقة مستقبلية، تنتمي فقط لعالم الشهادة (لأنه لا يوجد عالم غيبي).
إن الوجودية تنطلق من نظرة فردانية تصور الإنسان ما توجد به القيم، وليس ما يوجد بالقيم. وهذا ضرب مباشر لكل ما هو مسبق، أي ضرب للحتميات الدينية والأخلاقية والسياسية؛ التي تشكل العدم المحيط بالإنسان خارجيا.
فالإنسان؛ هو الموجد (بضم الميم) للعالم الذي يعيش فيه، فرغم أن العالم شرط موضوعي لانبثاق الشعور والحضور الإنساني، إلا أنه يوجد (أي العالم) بالإنسان-الباني للعالم- من حيث نموذجه المستقبلي.
والإنسان في كل الحالات داخل العالم، هو؛ حضور دائم "دازين" أو "آنية"، يعدم (بفتح الدال) من طرف كل ما هو موضوعي عندما يصير في ذاته، ويعدم (بكسر الدال) عندما يريد-من إرادة بالمعنى الوجودي- تحرير ما هو من أجل ذاته.
ولقد اهتمت الوجودية بـ"الذات" باعتبارها "حاضرا"؛ لتبين عن واقعيتها؛ أي عن تمكين الإنسان من حقه في تحديد معالم الوجود، وهذا اشتغال معاكس للتصورات الدينية والأخلاقية الارتكاسية، التي لا تفتح أي آفاق للإمكانات الإنسانية، من حيث هي أفعال للتحرر. ولن يؤسس (بفتح السين المشددة) الوجود الإنساني المتحرر في المستقبل حسب جان بول سارتر، إلا من خلال الوعي التام، أولا؛ بقيمتي النقص والعدم؛ بما هما المحركان الأساسيان للشعور الخاص، وثانيا؛ الوعي بالإرادة، بما هي؛ المظهر الأنطولوجي؛ لفعل "التجاوز"، هذا الأخير الذي يقصد به الإعدام المستمر لما هو موجود نحو ما هو ممكن.
هكذا تصير التركيبة بين الإنسان والعالم تفعل بسيرورة وجودية قحة، تمثل كل ما هو إنتاج للوجود من أجل ذاته، لا غريبة عن الإنسان، يفترض أنها أتت إلينا من عالم آخر، أو من صنع العالم الموضوعي المشهود.
اهتمت الوجودية بـ"الذات" باعتبارها "حاضرا"؛ لتبين عن واقعيتها؛ أي عن تمكين الإنسان من حقه في تحديد معالم الوجود
الإنسان بالعدم والنقص
"لقد انطلقنا للبحث عن الوجود، وبدا لنا أننا اقتدنا إلى حضن الوجود، لسلسلة من مساءلاتنا.
وإذا بنظرة إلى المساءلة نفسها، في اللحظة التي خيل إلينا فيها أننا بلغنا الغرض، قد كشف لنا فجأة أننا مشمولون بالعدم. هذا الإمكان المتواصل للاوجود، خارجنا وفينا، هو الشرط في أسئلتنا عن الوجود.
واللاوجود هو أيضا ما سيحدد الجواب: فما سيكونه الوجود، سيبرز ضرورة على أساس ما ليس هو إياه.
وأيا ما كان الجواب، فإن من الممكن أن يصاغ هكذا: الوجود هو هذا، وخارج هذا لا شيء.[8]
إن فهم قيمة السؤال الوجودي حول الوجود نفسه، لا يمكن أن يتم إلا داخل قلقنا المستمر من العدم. وفي هذا السياق؛ لدى سارتر فهم اثنيني "للعدم"؛ إما باعتباره مؤسس الاستلاب، أو مؤسس الحرية. فإذا كان خارجنا؛ شكل مصدرا لإفراغ الإنسان من معناه، وتغييب إرادته، وللقيام بهذه المسألة يتشكل العدم في مجموعة من البنيات والحتميات التي تستحوذ الوجود الخاص. -والعدم في الأصل يتضمن في جوفه علامة النفي "لا" التي تحيط بالوجود من أجل ذاته، لتطوعه إلى ما هو في ذاته.-
أما العدم، إذا كان داخليا؛ فهو يعني حركة شعورية نقوم بها نفسيا لا واقعيا، لتحرير الشعور ذاته.
كأننا نصدر حكما بالسلب تجاه إنسان في لحظة نعتبره وجودا في ذاته، أو الشعور موضوعا لذاته. والعلاقة بين العدم الداخلي والخارجي هي علاقة نفي متبادلةـ، تتم عن طريق الوعي خصوصا فيما يتعلق بصياغة الإمكانات. هكذا يغدو العدم شبيها بلاواقعي، محصور بين واقعين مليئين، الأول براني والثاني جواني.
من ثم، فالواقع لا يتألف من الإنسان والعالم، بل كذلك من اللاوجود، باعتباره عنصرا أساسيا لقيام التركيبة بين الإنسان والعالم. لكن مادام الإنسان محكوم عليه بالحرية، فهو مطالب بسلب ما يسلبه، للحفاظ على إنسانية العالم.
ويقر سارتر، أنه لا يمكن أن نكشف عن العدم على نحو ما نجد الوجود؛ يقول: "إننا لا نجد ولا نكتشف العدم على نحو ما نجد الوجود ونكتشفه، فالعدم دائما في مكان آخر، وهو التزام ما من أجل ذاته كي لا يوجد أبدا على شكل مكان آخر Ailleurs بالنسبة إلى ذاته، وإن يوجد كوجود يتأثر دائما بعدم تماسك الوجود[9]. وعدم التماسك هذا لا يحيل إلى وجود آخر. إنه ليس إلا إحالة مستمرة من الذات إلى الذات.
"والعدم هو وضع وجود الوجود موضع تساؤل؛ أي الشعور أو ما هو من أجل ذاته. إنه حادث مطلق يأتي إلى الوجود بالوجود، وهو يستند دائما إلى الوجود دون أن يملك الوجود...[10]
فقوة السلب هذه، والتي يتأسس بها الإنسان، هي ما تميزه باعتباره "كائنا"، رغم وجود الكثير من العقبات التي تهدف إلى تحطيم فعل الإنسان "بالسلب"، لكي يسقط.
و الإنسان؛ هو كائن من حيث إنه مقذوف به في العالم، ومتروك في موقف، وهو كائن من حيث إنه إمكان محض، ومن حيث إنه بالنسبة إليه، وإلى أمور العالم، مثل هذا الجدار، وهذه الشجرة، وهذا الفنجال، يمكن أن يوضع السؤال الأصيل بشأنها. لماذا هذا الموجود، هكذا وليس غير هذا؟ وهو كائن حيث إن فيه شيئا ليس هو الأساس فيه؛ حضوره في العالم.[11] هذا الحضور الذي حكم عليه بالسقوط، لكن يجب أن يقوض سقوطه نحو العدم.
إن في هذا الخطاب؛ ما يدل على العدمية، حتى فيما يخص الوجود ذاته، والذي يخرج من هذه العدمية عبر السؤال المقعد للآنية من حيث هي كيان حر. فالآنية وجب حسب سارتر أن تكون وحدة انبثاقية في الوجود، لأنها في الأصل ليست أساس ذاتها، مادام الإنسان مقذوف به في العالم، غير آتٍ به بشكل إرادي وحر. إن سارتر هنا يدعو إلى إعادة تأصيل الآنية.
إذن ليس للإنسان حلّ في هذا العالم سوى أن يكون بنفسه لا بعلة خارجة عليه، لكي يشكل العالم؛ بالانتقال المستمر من الكائن إلى الممكن على غرار سلسلة من الإعدامات. هذا بالضبط ما يفيده قول سارتر: "فإذا كان الوجود هو الأساس في العدم، من حيث إنه إعدام لوجوده هو، فليس معنى هذا أنه أساس وجوده.
فلتأسيس وجوده الذاتي، يجب أن يوجد على مسافة من ذاته، وهذا يتضمن نوعا من الإعدام للوجود المؤسس وكذلك المؤسس....وبالجملة، فإن كل جهد لتصور فكرة موجود يكون أساس وجود ذاته يؤدي على الرغم منه، إلى تكوين فكرة موجود ممكن من حيث إنه وجود في ذاته، ولكنه سيكون أساس عدم ذاته.[12]
بهذه الطريقة تستعيد الذات ذاتها، من العدم، المؤسس لها في الحالة الأولية، وذلك بإعكاس الحالة الأولية على مستقبل الإنسان؛ أي الممكن فيه يكون الكائن من أجل ذاته بشكل أصيل وضروري؛ أي الله.
هكذا، يضع الإنسان ذاته في الأفق، أي مشروع يفرض ذاته باستمرار نحو وجود ممكن، مستغرق في الشعور، وفي الفهم التام لوجودية الذات، بما هي؛ متجاوزة للعدم الخارجي.
في هذه السياق، تحضر قيمة وجودية أساسية، تقوم بتحريك الذات نحو الممكن والقيام بالإعدام، ألا وهي قيمة النقص. فالإنسان لكي يطور ذاته وجب عليه أولا وقبل كل شيء، تقديم ذاته لذاته باعتباره نقصا. "إن ما هو من أجل ذاته لا يمكن أن يحتمل الإعدام دون أن يحدد نفسه كنقص في الوجود، ومعنى هذا الإعدام أن لا يتطابق مع مجرد إدخال الخلاء في الشعور، والموجود الخارجي لم يطرد ما هو في ذاته من الشعور، بل ما هو من أجل ذاته يتحدد دائما بأن يكون ما هو في ذاته. وهذا معناه أنه لا يمكن أن يؤسس ذاته إلا ابتداء مما هو في ذاته، وضد ما هو في ذاته[13]".
فالنقص هو القيمة التي تجعل الإعدام ممكنا، ومن ثم يكون تجاوز الذات ممكنا. بهذا يظهر النزوع إلى الأمام كدرجة من درجات الوعي الوجودي بمشروعية الإنسان في المستقبل كإله ذاته. "فالموجود الناقص يتجاوز نفسه إلى الوجود الكامل والموجود الذي ليس أساسا إلا لعدمه، بتجاوز نفسه إلى الموجود الذي هو أساس وجوده[14]".
إننا بهذا الشكل، قيمة؛ نبحث عن الله فينا؛ أي النحن الله، أو الحرية. قيمة تلاحق الوجود الفرد، لا من حيث هو فرد، بل باعتباره تحرّرا ممكنا، علة ذاته. بالتالي تصير القيمة المجسدة خصوصا في النقص والتجاوز وجودا أساسا لعدم وجود الإنسان إلا كإله.
فأنا المن أجل ذاته الناقص، على نحو أن أكون المن من أجل ذاته، الذي لست أنا إياه، لكي أتحدد إياه في وحدة الذات، هكذا نجد أن العالية الأصيلة لما هو من أجل ذاته مع الذات تخطط دائما ما هو بمثابة مشروع توحيد، بينما هو من أجل ذاته وما هو من أجل ذاته غائب هو هو؛ وهو يعزوه[15]".
إذن؛ إن الإنسان ليس ممكنا في إطار الوعي المستقبلي، إلا بقيمتي العدم والنقص، اللذين يحرران، أولا؛ الإنسان من عدمية السقوط العشوائي في هذا العالم، وثانيا؛ يخرجانه من عدمية الاستسلام للواقع إلى إعادة صياغة هذا الواقع مستقبلا.
الإنسان الحر بالفعل والإرادة
لا يحصل الإنسان على الاعتراف، باعتباره مشروعا في مستقبل؛ إلا بوعي شخصي يقوم على العدم، والتجاوز الدائم للنقص.
إن هذا ما يجعل وجودنا في المستقبل لا يبنى إلا بقيمتي؛ الفعل والاختيار (أي الإرادة)؛ أي أن نختار وجودنا وما سنكون، لأن الاختيار ضرورة لا مفر منها. "إن الممكن اختيار يتعلق بالواقع، وإذا صح أن الممكن لا يمكن أن يأتي للعالم إلا بواسطة موجود هو إمكانه الخاص، فإن هذا يتضمن بالنسبة إلى الواقع الإنساني (الآنية) ضرورة أن يكون هو وجوده على شكل اختيار يتعلق بوجوده". فلا يمكنني أن أوجد إلا إذا آمنت بروح الفعل كوجود من أجل ذاته، هو علة ذاته، حينها يصير فعليا هو النشاط الأكثر إنسانية لأنه يجسد الحرية. لأن هذه الأخيرة هي التي تجعلني من حيث الوجود فاعلا، ومن حيث الفاعلية أوجد بشكل حر، لأنه في الأصل محكوم علينا بالحرية.
ومادام بالفعل يغير العالم، ويصير ممكنا كذلك، فلابد للفعل إذن أن يحمل في ذاته قصدا، أي
"أن الفعل يتضمن بالضرورة كشرط له، الإقرار بأمر منشود؛ أي بنقص موضوعي[16]".
والقصد هنا؛ ذاتي وجودي، يجب تمييزه عن القصد الوهمي، فهناك من الناس؛ من يظنون أن أفعالهم موجهة بقصد ذاتي، لكنهم لا يعون تضمن فعلهم للقصد الجماعي المؤسس للاستلاب؛ أي القصد المتكلم في الأصل بضمير "نحن" لا بضمير "أنا. فعندما يصير الفعل، سواء؛ كان عن وعي أو غير وعي مسيج بضمير الجماعة، فلابد حينها أن تكون الحرية هي الضحية الأول، لصالح الطبقة أو الجماعة، أو ما هو موضوعي خارجي، بصفة عامة.
أي نكون حينها منتمون إلى العالم باعتبارنا فراغا؛ لأن العالم هو الذي يعلن لنا انتسابنا إلى جماعة- ذات، خصوصا الوجود في عالم الموضوعات المصنوعة، هذه الموضوعات التي صنعت بواسطة أناس من أجل أنفسهم[17]".
فتوجيهنا للفعل الذاتي من داخل القصد الجماعي هو؛ تكريس للمسبق أي ما صنعه السلف. وهذا ما يجعل، لا الأحياء أمواتا، بل الأموات أحياء كما قال ابن خلدون.
ونتعلم من سارتر أن نكون جزءا من النحن أو الجماعة بواسطة العالم، في سياق محدد، باعتبار النحن غير مستقرة، نظرا لما يشوب العالم من تغيير دائم، ففي أي لحظة يمكن للنحن أن تتلاشى بتلاشي تنظيماتها المؤسسة لها، من العالم. في هذه النقطة يؤكد سارتر على دور الوجود الفاعل، الذي يعي حريته بشكل كلي، ويجعلها المصدر أو الشرط الأساسي لكل أفعاله عن طريق وضع غاية للقصد في الفعل، وهذا هو الإعدام أو تجاوز العالم تجاه من أجل ذاته بشكل صحيح، لأنه حركة لبناء مستقبلي متحرر.
إن الفلسفة الوجودية هي أخلاق تتحمل مسؤوليتها اتجاه حاضر الإنسان ومستقبله
فالحرية، إذن؛ تغييب لضمير "النحن" وتجسيد لضمير "الأنا"، كما أن الحرية؛ لا ماهية لها ولا تخضع لأي ضرورة منطقية، ونقول عنها ما قاله هيدجر عن الآنية Dasein "بوجه عام: "فيها الوجود يسبق الماهية ويحكمها"، "و الحرية تصير فعلا، ونبلغها عادة من خلال الفعل الذي ننظمه مع البواعث والدوافع والغايات التي يتضمنها هذا الفعل[18]". فالحرية لا علة لها، بل هي العلة الأولى. إنها غير قابلة لا للتحديد ولا للتسمية، لأنها مشروع مستمر أو إمكانات لا متناهية.
وتشكل الحرية العالم، من خلال تأسيسها لماهياته أو مستقبلياته عن طريق الإنسان؛ يقول جان بول سارتر في هذا السياق: "الحرية هي الأساس في كل الماهيات، لأنه بتجاوز العالم إلى ممكناته الخاصة يكشف الإنسان عن الماهيات في داخل العالم[19]". إذن؛ من داخل هذا العالم يتعلم الإنسان التحرر عن طريق أفعاله، باعتباره الموجود الأوحد الذي يشعر بالحرية كشعور لا وضعي، هذا الشعور الذي يغدو وضعيا بفعل "المن أجل ذاته" في المستقبل. هكذا فالحرية ليست وجودا ما؛ إنها وجود الإنسان
... والإنسان لا يمكن أن يكون حينا حرا وحينا آخر عبدا؛ إنه بأسره ودائما حرا أو ليس شيئا[20]".
وبما أن الإنسان إما حرا أو لا شيء، فهو بالضرورة كائن ذو إرادة، وهذه الأخيرة، "هي بالضرورة سلبية وقوة إعدام إذا كان ينبغي أن تكون حرية". و"الإرادة تضع نفسها كقرار تأملي بالنسبة إلى بعض الغايات، لكنها لا تخلق هذه الغايات[21]".
"والقصد العميق للإرادة يتعلق بالأحرى بطريقة بلوغ هذه الغاية الموضوعة من قبل. وما هو لذاته الذي يوجد على النحو الإرادي يريد أن يسير نفسه من حيث إنه يقرر ويفعل[22]".
بالتالي؛ إن الفعل والإرادة؛ هما المؤسسان الرئيسان للاختيار أو العمل، الذي يتغيا تحقيق ممكنات ما هو من أجل ذاته الأصيلة. هذا يجعلنا نقول بأن الحرية والاختيار والقوة الإعدامية والتجاوز، هي؛ مفاهيم ذات معنى واحد، مطلبها الأساس أن تظهر تشرع الإنسان في العالم من حيث هو علة ذاته. "وهكذا نستطيع أن نقول إن ما يجعل المشروع الأساسي للآنية متصورا على خير نحو، هو أن الإنسان، هو الموجود الذي يتشرعprojette أن يكون الله[23]".
إذن؛ تأخذ الحرية طبيعتها الحقيقة من الفعل والإرادة؛ باعتبارهما شهوة دائمة في الوجود، أو أخلاق للمشروعات بما هي إزاحة للمقدسات الموضوعية، وتحصيل للمقدس الحقيقي؛ الذي هو "الإنسان الإله".
على سبيل الختم
حاصل القول، إن الفلسفة الوجودية أولا وقبل كل شيء، هي؛ أخلاق تتحمل مسؤوليتها اتجاه حاضر الإنسان ومستقبله، من خلال؛ إعطاء العدم قيمة ترنسندنتالية، والكشف عن قيمة النقص، باعتبارها المؤسس الحقيقي للتجاوز شعوريا.
وتتجلى قيمة العدم والنقص في تحريك فعل الإرادة، بما هي علة ذاتها. هذا ما يمنح الإرادة طبيعة أخلاقية وجودية، تعطي المعنى لجميع المشروعات الإنسانية، في مصيرها التحرري من السلط الوهمية المقعدة أساسا على ما يسمى المقدسات الغيبية والموضوعية.
"إن الإنسان يجعل نفسه إنسانا ليكون الله[24]"، لأن الإنسان هو المقدس الحقيقي. فالإنسان فاعل أخلاقي؛ "أو الموجود الذي به توجد القيم[25]"، لأنه التعبير التام عن الماهية؛ أي الحرية.
بهذه الصيغة تشعر الحرية بذاتها "وتكشف نفسها في القلق، أنها الينبوع الوحيد للقيمة والعدم، الذي به يوجد العالم[26]". ففي الأصل هناك فقط هذا العالم، وليس سواه، فيجب إذن أن نقرر موقعنا فيه.
لائحة المصادر والمراجع
1- سارتر جان بول: الوجود والعدم، ترجمة: عبد الرحمان بدوي، منشورات دار الآداب-بيروت، الطبعة الأولى، غشت 1966
2- سارتر جان بول؛ تعالي الأنا موجود، ترجمة وتقديم وتعليق؛ حسن حنفي، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2005
3- بودلير شارل؛ اليوميات، ترجمة؛ آدم فتحي، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، الطبعة الأولى، 1999
4- باديو آلان؛ في مديح الحب، ترجمة؛ غادة الحلواني، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2014
5- بتلر جوديت؛ الذات تصف نفسها، ترجمة؛ فلاح رحيم، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2014
6- نيتشه فريدريك، شوبنهاور مربيا، ترجمة؛ قحطان جاسم، منشورات الإختلاف، الطبعة الأولى، 2016
[1] نيتشه فريدريك، شوبنهاور مربيا، ترجمة؛ قحطان جاسم، منشورات الاختلاف، الطبعة الأولى، 2016. ص17
[2] المرجع نفسه، ص20
[3] المرجع نفسه، ص19
[4] بتلر جوديت؛ الذات تصف نفسها، ترجمة؛ فلاح رحيم، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2014. ص16
[5] بودلير شارل؛ اليوميات، ترجمة؛ آدم فتحي، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، الطبعة الأولى، 1999. ص34
[6] باديو آلان؛ في مديح الحب، ترجمة؛ غادة الحلواني، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2014. ص16
[7] سارتر جان بول؛ تعالي الأنا موجود، ترجمة وتقديم وتعليق؛ حسن حنفي، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2005. ص52
[8] سارتر جان بول: الوجود والعدم، ترجمة: عبد الرحمان بدوي، منشورات دار الآداب-بيروت، الطبعة الأولى، غشت 1966. ص54
[9] سارتر جان بول: الوجود والعدم، ترجمة: عبد الرحمان بدوي، منشورات دار الآداب-بيروت، الطبعة الأولى، غشت 1966. ص159
[10] المصدر نفسه. ص160
[11] المصدر نفسه. ص161
[12] المصدر نفسه. ص162
[13] المصدر نفسه. ص170
[14] المصدر نفسه. ص176
[15] المصدر نفسه. ص186
[16] المصدر نفسه. ص694
[17] المصدر نفسه. ص676
[18] المصدر نفسه. ص700
[19] المصدر نفسه. ص701
[20] المصدر نفسه. ص704
[21] المصدر نفسه. ص708
[22] المصدر نفسه. ص720
[23] المصدر نفسه. ص894
[24] المصدر نفسه. ص987
[25] المصدر نفسه. ص988
[26] المصدر نفسه. ص988