سؤال الدين...الحاضر في تصريحات كاميرون والأزمة السورية
فئة : مقالات
أُثير في المجتمع البريطاني قبل أسبوعين نقاش وجدل واسع، بشأن إذا ما كانت بريطانيا دولة مسيحية أم لا، وقد انطلق ذاك النقاش على إثر وصف رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، بريطانيا بـ"دولة مسيحية"، حيث قامت أكثر من 50 شخصية عامة في بريطانيا، منهم روائيون ودبلوماسيون ومؤلفو مسرحيات وحائزون على جوائز نوبل، باتهام كاميرون بإشعال جذوة الانقسام في المملكة المتحدة من خلال الحديث عن دولة مسيحية بريطانية، كما أفادت صحيفة "الجارديان" في الحادي والعشرين من شهر إبريل الماضي. ويمكن لنا أن نحدد مضمون اعتراض هذه الشخصيات أو نقدها في النقاط التالية:
أولاً، أشارت تلك الشخصيات البارزة إلى أن الاستفتاءات والدراسات المتكررة تفيد بأن معظم البريطانيين ليسوا، في حقيقة الأمر، مسيحيين في اعتقادهم.
ثانياً، ذكروا في مجمل نقدهم لكلام كاميرون أن بريطانيا مجتمع تعددي، وللبريطانيين وجهات نظر متعددة، تدل في مجملها على أن المجتمع البريطاني يعد مجتمعاً غير متدين، وأن التصريح بغير ذلك يؤدي إلى النفور والانقسام في المجتمع.
ثالثاً، لفتت تلك الشخصيات النظر إلى أن من الصواب في الوقت ذاته الاعتراف بالإسهامات التي قام بها الكثير من المسيحيين والمتدينين البريطانيين في المجال الاجتماعي للبلاد، ولكن في المقابل، فإنّ محاولة إظهار مساهماتهم على أنها استثنائية عند مقارنتها بالبريطانيين على مستويات مختلفة، من شأنه أن يغذي الاختلافات الطائفية، والتي هي غائبة الآن عن حياة معظم البريطانيين، الذين، كما تظهر الاستفتاءات، لا يريدون للأديان أن تكون أولوية حكومتهم المنتَخبة، بحسب تلك الشخصيات.
مثل هذا النقاش، يُظهِر مرة أخرى أن سؤال الدين وموقعه في الحياة العامة ما زال سؤالاً حاضراً بقوة في عالم اليوم، في الغرب كما في الشرق، لكننا في المنطقة العربية، على وجه الخصوص، وفي الدول الإسلامية، بشكل عام، نكاد نفتقد لمثل عمق ووضوح هذا النقاش بشكله الذي يدور في بريطانيا، على سبيل المثال؛ ذلك أن الحوار حول إشكالية الدين والهوية والسياسة في الغرب، يبدو أكثر تنظيماً وقدرة على تحديد نقاط التوافق أو الاختلاف مما هو الحال في العالمين العربي والإسلامي، في ظل الفوضى المفاهيمية حول الهوية والمجال العام وموقع الدين في الحياة العامة ووضعه في سياق شروط الحداثة وتطور الاجتماع الإنساني.
المفترض أن تكون المراحل السياسية والفكرية والاجتماعية الانتقالية التي تمر بها كثير من المجتمعات العربية منذ سنوات حافزاً لإدارة نقاشات فكرية أكثر تحديداً وتنظيماً ووضوحاً وجرأة بشأن منظومة الأفكار السائدة. وإذا أردنا أن ننزل كلامنا هذا على الواقع، فلنا أنْ نتساءل مثلا: هل من تأثير للأزمة السورية في أنماط التدين وموقع الدين في المجال العام ومشاريع النهوض والتجديد والتنوير؟ مثل هذا السؤال يكتسب راهنيته من أنّ اكتشاف عورات الأحزاب الإسلاموية في سورية ولبنان ومصر وليبيا وغيرها، لم يفرز حالة أنضج من التديّن، كما لم يُصعّد جدلاً وحواراً عاميّن حول ضرورات تثقيف التديّن والقطع مع "الجهل المقدس"، بتعبير أوليفييه روا. لكن على الجهة الأخرى من هذه الرؤية غير المتفائلة والمتحفظة، ثمة من يتبنى رؤية ثانية تقول إن تجربة السنوات الثلاث الماضية من عهد الثورات العربية من شأنها أن تخلق بذور وعي ديني أكثر نضجاً واعتدالاً وتسامحا؛ مستفيدة من التجارب التي وضعت الأحزاب السياسية الإسلاموية وغيرها تحت المحك.
الرؤية الأولى المتحفظة، تعتقد أنه لا مؤشرات في الأفق إلى أنّ ثمة مناخاً من التعقل والتحرر يتوطّن حيال النظر في الدين والتدين ومجمل النسق القيمي والثقافي، بل على العكس، يُخشى أنّ استمرار فشل الثورات على الأنظمة الفاسدة الفاشلة من شأنه أنْ يكرّس الحالة القدَرية لدى المجتمعات العربية، ويضعف في وعيها العام أكثر فأكثر التعويل على الإرادة الإنسانية في صناعة الحياة والمصير والمستقبل. هنا تستعاد شعارات "ما إلنا غيرك يا الله" في سياق أجواء أشدّ سلبية وهشاشة، ويغدو الدين كملجأ نفسيّ من ويلات الحروب والنزاعات، ويغيض بالتالي دوره التنويريّ في تحرير الإرادة الإنسانية واستقلالها.
ثورات المنطقة، وعلى رأسها السورية، لا يبدو أنها تتغلب على جمود الهياكل العقلية والاجتماعية والاقتصادية القائمة، والتجربة تقول إن التدين لا ينضج وينتعش ويتحرر ويتعقلن إلا في حالة كسر هذا الجمود. بهذا المعنى، كما يقول عبد الجواد ياسين، تمثّل الحداثة، على الدوام، تهديداً محتملاً للتدين، ولكنها تتحول إلى المواجهة عند نقطة التغيّر الجذري في الهياكل الكلية (العقل ـ اجتماعية)، حيث لا يعود بمقدور النظام الديني إشباع حاجات النظام الاجتماعي، أو لا يعود بإمكان النظام الاجتماعي تحمّل إلزامات النظام الديني.
حالة الانقسام والاستقطاب الحادّتين في مجتمعات الثورات، تعرقل إفراز جدل ثقافي حقيقي يسائل الفكرة الدينية، ويطرح بصراحة ووضوح كيف أن التدين الخشن المغلق المسلّح بالعنف والإقصاء، كان عاملا مانعاً لنجاح الثورة السورية، حيث كان المفروض، أمام ضريبة الدم الباهظة واللجوء والتشريد لعشرات آلاف السوريين، أن تنهض حالة وطنية تتجه، من ضمن ما تتجه إليه، إلى تبني تصوّر جديد لنظام التدين الذي يتم فيه التخلص من المكونات التدينية التي تشكّل منبعاً للهزيمة أمام البطش والاستبداد ومعوّقاً أمام النهوض والتقدّم. هذه الحالة على النقيض من الفهم الشعبي الراسخ والشائع الذي يحيل أسباب الهزائم إلى التقصير بحق الدين.
الرؤية الثانية، يعبّر عنها الأكاديمي المصري نصر عارف من خلال اعتقاده أننا نعيش مرحلة "نهاية محاولات التوظيف السياسي للإسلام"، وأن محاولات جماعة "الإخوان المسلمين" لأن تكون بديلاً عن المجتمع في مصر وغيرها فشلت، وأن ثمة وعياً باسترجاع الدين من ملكية الجماعة إلى مسؤولية أفراد المجتمع، حيث يكون كل إنسان حرّاً في تدينه، وحرّاً في التعبير عن تدينه، متحرراً من حالة النفاق الاجتماعي الذي صاحبت نمط التدين، والذي رعته جماعة "الإخوان"، الأمر الذي من شأنه تحرير الإنسان من الخديعة باسم الدين أو شعاراته، وفي هذا تخفيف من عقلية القطيع في مسألة التصويت الشعبي لكل من يرفع شعار الإسلام.
هاتان الرؤيتان في حاجة إلى النقاش بشأنهما قصد إنتاج نماذج مثقفة وواعية من التدين، ترتكز على ترسيخ العقلانية وحرية الإنسان واستقلال إرادته. مثل هذا الهدف، سيعالج واحداً من العوامل الداخلية الأساسية التي جعلت نتيجة ما يسمى بـ"الثورات العربية" غير مشجعة؛ فعنصر الاستبداد والقمع السلطوي على أهميته الكبرى، لا يختزل تلك النتيجة وسنبقى بحاجة إلى مزيد من النقد للاستفادة مما يجري. وبقدر ما يكون هذا النقد جذرياً وغير ملفق أو رمادياً، بقدر ما يكون تحررياً. ومن شأن هذا النقد الثقافي التحرري أن يشكّل بنية لسياسة أكثر عدالة في مجتمعاتنا وأكثر إصغاء لقيم الحرية والكرامة والمساواة الإنسانية، وترسيخ قيم المواطنة وتهميش الطائفية والمذهبية والاعتراف بدلاً منهما بالحقوق الإنسانية كاملة وبالتنوع والتعدد كمنبع لثراء المجتمعات وتسامحها وتعايشها من غير استعلاء أو إقصاء.