سرديات التأطير المُهادِنة -يتبع-

فئة :  أبحاث محكمة

سرديات التأطير المُهادِنة  -يتبع-

سرديات التأطير المُهادِنة[1]

-يتبع-

مدخل:

من أهم الأحداث الكبرى التي مرّت على البشرية منذ عصورها الأولى، هو ظهور الأديان السماوية الثلاثة الأخيرة (الموسوية، والعيسوية، والمحمدية) ومن المعروف ما لهذه الأديان من أثر كبير على مجرى الحياة في مختلف المجتمعات التي توجهت إليها تلك الأديان أو اقتربت منها.

وكان من بين أهم التحولات التي برزت على مجتمع شبه الجزيرة العربية هو ظهور الإسلام، فقد كان الصرخة المدوية التي هزت أركان المجتمع العربي بكامله، وأثَّر بشكل كبير في جميع شؤون المجتمع العربي، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والثقافية على حد سواء؛ فالمجتمع أصبح تحت قيادة الرسول محمد المرسل من الله، والدين أصبح الإسلام التوحيدي، والمجتمع أصبح مسلماً، والدستور هو القرآن، والمرجعية الثقافية والدينية المحايثة للإسلام هو الرسول محمد، والاقتصاد أصبح على وفق ما تقتضيه الشريعة الإسلامية، يشجع على التجارة والبيع، ويحرم أشكال الربح أو المعاملات التجارية الداخلة تحت بنود التحريم كالمراباة والاتجار بالمواد المحرمة كافة.

وعلى هذا الأساس، سار المجتمع العربي وفق الشريعة الإسلامية التي حددت له كل سلوكياته وعاداته وتقاليده ومعاملاته وعباداته وغيرها كثير، فلم يبق شيء لم تركز عليه الشريعة الإسلامية من خلال الآيات القرآنية أو من خلال أحاديث الرسول، حتى أصبحت الجزيرة العربية هي جزيرة الإسلام والدين الإلهي المحمدي الجديد.

ولمّا كان القرآن هو الدستور الجديد الذي يحكم النواميس الاجتماعية والدينية والسياسية... إلخ، فإنه أخذ المكانة الأولى في الحياة الإسلامية، بل في عقلية الإنسان العربي المسلم، فهو النص الإلهي الذي أنزله الله تعالى على نبيه ليبلغ به البشرية ويهديهم إلى طريق الصواب وإنقاذهم من الضلال والحيرة والضياع، فكل ما جاء به القرآن هو الحقيقة المطلقة والأمر النهائي والوسيلة الناجعة والصواب.

وهو بهذا حلَّ محل الاعتقادات القديمة أو السلطة السابقة للأسطورة، فإذا كانت الأسطورة في المجتمع العربي قبل الإسلام هي مصدر التشريع والتفسير والسيرورة الحياتية، فإنَّ القرآن أصبح هو كذلك، مصدراً للحياة العربية بأكملها، بل هو الذي يمتلك السلطة العليا كونه كتاباً منزلاً من الخالق تعالى.

ولهذا نجد أنَّ القرآن فصّل الأحاديث في كل ما له علاقة بحياة البشر، وخاصة ما يتعلق بالجزيرة العربية على وجه الخصوص، فهذّب من أخلاقهم وألغى بعض ممارساتهم، وصحح سلوكياتهم ورفض عقائدهم الوثنية، وأدخل بعض الأحكام والشرائع والممارسات التي لم يكن للعربي معرفة سابقة بها، وعلى سبيل الذكر، لم يتجه القرآن لإلغاء مناسك الحج السائدة عند عرب ما قبل الإسلام، بل أبقاها ولكنه أزاح الأساطير الداعمة لها كافة، وصحح مسارها، فغدت ممارسة عبادية إسلامية لا تمت بأية صلة لعادات العرب ما قبل الإسلام.

ولهذا وجد العرب أنفسهم على ميزان النص القرآني، يزِنون عليه كل ما ورثوه عن تلك الحقبة الماضية، فكل ما جاء به القرآن هو المطلق والنافذ والشرعي، وكل ما عداه فهو من بقايا الجاهلية والتخلف وعصور الانحطاط؛ وفي الوقت نفسه كل ما لم يذكره القرآن في أوائل نزوله كان العرب يتجهون به إلى الرسول ويضعون التساؤلات أمامه، حتى شكلت حوارية تلازمية بين ثلاثة أطراف الله والعرب والوسيط الرسول، وكانت النتيجة أن يجيبهم الله عن كل ما يسألون، وأحياناً تكون الإجابة صريحة وواضحة، وأخرى تكون مضمَّنة أو رمزية أو يرد الله عليهم ذلك التساؤل.

ولكن القرآن كان يراعي الوضع الاجتماعي في حينه، وعقلية الإنسان العربي، وقاموسه اللغوي، وموسوعته الثقافية الموروثة، فكان كثيراً ما يتجاوز الحديث عن التفاصيل التي تؤثر على سيرورة الدعوة الإسلامية وبقائها، بما يضمن عدم انقلاب المجتمع على الإسلام، منها ما جاء في قصص الأنبياء، فالقرآن لم يحدثنا بالتفصيل الكافي عن قصة إبراهيم ورحلته من أور الكلدانيين إلى كنعان، ومن فلسطين إلى أرض الفراعنة في مصر، ومكوثه عندهم، ومن ثم رجوعه إلى أرض كنعان، ورحيله آخر المطاف إلى الجزيرة العربية.

فقد اكتفى القرآن بذكر رحلة إبراهيم إلى الجزيرة العربية ونزوله وإسكانه من ذريته في واد غير ذي زرع، وبنائه للبيت العتيق؛ لأنَّ ذلك هو فقط ما يخص الدعوة الإسلامية وتوفير المعلومات اللازمة للعربي عن أصل الكعبة وبنائها وارتباطهم بإبراهيم.

وعلى هذه الشاكلة جاءت العديد من قصص الأنبياء مبتسرة وملخِصة لأدوارهم الجوهرية في حركة تدعيم الإيمان عند الشعوب، وبما يعزز قيم التمسك بالعقيدة وتقديم الوعظ الممكن من خلال ما يمكن أن يقدمه هذا القصص، وهي الوظيفة التي حددها القرآن للرسول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هَذا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ} [يُوسُف: 3].

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1] - البحث مقتطف من كتاب "جينالوجيا الاختلاف أنساق الجندر في سرديات الثقافة العربية"، سامي كريم موشي، مؤسسة مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع.