سرديات التمثيل وفاعلية الجَنْدر -يتبع-

فئة :  أبحاث محكمة

سرديات التمثيل وفاعلية الجَنْدر -يتبع-

سرديات التمثيل وفاعلية الجَنْدر

-يتبع-

مدخل:

إنَّ إعادة قراءة نصوص التراث السردي العربي من وجهة نظر نسوية، هي محاولة للوقوف إزاء الأنساق المشكّلة لفضاءات الوعي الاجتماعي الثقافي الذي تمظهر بمحتواه الإبداعي في صور شتّى من تفريعات الأنواع الأدبية التي كان السرد واحداً منها.

ولمّا كان السرد من بين أهم الأنواع الأدبية تلك المساهمة في بلورة الأفكار والتصورات والمفاهيم، لما يمتلكه هذا النوع من سلطة تخييلية فاعلة في محاكاة العقلية المجتمعية وسحبها إلى تلك العوالم المشكلة، لبسط هيمنتها الخطابية والتأثيرية، فإنه قد اكتسب أهمية بالغة في ساحة الإبداع العربي منذ قرونه الأولى، وظل شاهداً على فاعلية الوعي الاجتماعي والثقافي السائدين ضمن زمكانية الراهن؛ لأنَّ النص الإبداعي لا ينتج ضمن فراغ مطلقاً، إلا أن يكون كاشفاً ومعبراً وفاضحاً لمكونات الوعي والثقافة والإدراك.

ولهذا، فإنَّ المراجعة الدقيقة بوساطة النقد النسوي ترتكز على فضح التناقضات الجندرية التي تمثّلتها تلك الخطابات السردية بعد أن تأسست مجتمعياً ودينياً وثقافياً وسلوكياً، وأصبحت من المقولات السائدة المكتسبة لفرضيات البداهة والتسليم، واكتسبت صيغتها النهائية، ومرجعيتها الثابتة، وحقيقتها المطلقة، فالقراءة النسوية تُنصت إلى ذلك الصوت السائد والموجهات الخفية، وتتأمل سمات الهويات وصراعاتها الكونية، وتركز على صور الذات المشكلة في سياق الأنظمة الجندرية، وتتطرق إلى طبيعة علاقات القوى الجندرية وسياقاتها الثقافية والتاريخية وتقاطعاتها مع علاقات القوى القائمة على أسس عنصرية أو طبقية أو سلطوية بأي شكل من الأشكال، وتبحث عن موقع الذكورة والأنوثة ضمن تلك المساحات الثقافية والاجتماعية، فضلاً عن فضح المواقف الأيديولوجية المعبَر عن أنساقها من خلال الخطابات السردية، التي تسللت بكل تأكيد إلى مجمل العمليات الإبداعية وطوَّعت لها أشكالاً وهيئات ومسميات وقوالب تجاوزت بها حدود العادي والمألوف والمسلَّم به، لكي تضمن لها صدارة المركز، وفاعلية التعبير، وسيرورة الهيمنة[1].

إنَّ في الرجوع إلى إعادة قراءة التراث السردي العربي يتيح لنا بكل وضوح رؤية المستقبل، والراهن الذي مازال يتغذى بوشائج التواصل وروافد الاكتساب؛ لأنه يستند إليه ويقوم على قوانينه، واشتراطاته الدينية والعقدية والسلوكية والثقافية، وهو فضلاً عن ذلك يشكل جزءاً من ذواتنا نحن؛ لأنَّ الماضي كفيل بخلق الذات المتشكلة عبر مقولات أحرزت موقع الصدارة والتقدم والثبات في تاريخ الأُمة والجماعة، وظلت تمد المستقبل وتناوش الحالي والآني واليومي، حتى غدت حيواتنا عميقة التواشج مع الماضي؛ لأنه قاموس المراجعة، ودليل المعرفة، وكتاب الحياة والعبادة والسلوك والثقافة.

كما أنَّ ذلك التراث الأدبي والفكري والديني والفلسفي...إلخ، يشكَّل قيمة نسقية كبرى أسهمت بشكل فاعل في تحديد سماتنا الجوهرية، وفي رسم ملامح هويتنا الجماعية، وحتى في تشكيل ذواتنا؛ لأنَّ ذلك التراث يتشكَّل فينا عبر أنساقه الظاهرة والمضمرة، ويتسلل إلى معارفنا ومعتقداتنا وسلوكياتنا وطرائق تفكيرنا؛ لأننا ببساطة مازلنا نمد جسور التواصل بين الحاضر والماضي، بين التراث والحداثة، بين المرويات والأخبار، بين العقائد والتصورات والممارسات، وبين المقولات الأولى التي منحتنا مادة الصوغ والتشكيل، ولهذا تكون إعادة المراجعة والقراءة في التراث «من دواعي تشكيل وعي جديد بذواتنا وهويتنا ومستقبلنا»[2] بلا أدنى شك، فهي الأداة الممكنة والفاعلة في سبر الذوات والكشف عن مكوّناتها والأنساق الحاكمة فيها، بل وأسسها وحقيقتها وجدواها وضرورتها، ومن ثم يمكننا الوقوف على مفترق البقاء والسيرورة، وبين الرفض والتقويض.

لكن هذه المراجعة لا تتم مرة واحدة؛ لأن التراث لا يمنح نفسه بصورة كلّية دفعة واحدة، وإنما يستجيب وفق ما نمتلكه نحن من أدوات للكشف والتعرية والتنقيب، ففي كل مراجعة سيتكشّف وجه، وتستبين جوانب، وتمتنع أخرى، وهكذا تكون مراجعاتنا مرتهنة بما نحمله من معرفة على كشف مالم يتم كشفه، وتحليل ما استعصى على مراجعة سابقة تحليله من بنيات وأنساق كامنة، وهذا إنما يكون بالاكتناز المعرفي والتسلح المنهجي الأداتي، أو بما يعبر عنه بتغيير زوايا النظر أو تجديدها، لكي تكون مراجعتنا للتراث، بأدوات جديدة، وبأسئلة جديدة، وبوعي جديد، ولغايات جديدة؛ أي أن تتجدد محاولاتنا للالتفات إلى التراث، وأن نستعين بكافة أنواع المعرفة، وأن نتجنب التكرار والنمذجة والإعادة في كل مرة.

ومن هنا نجد أنَّ محاولتنا هذه في إعادة مراجعة التراث السردي، تندرج تحت مساعينا الجادة للبحث عن أنساق أسهمت في تشكيل هويتنا الجندرية، وأكسبتنا خصائصنا الذكورية أو الأنثوية لنظل مأسورين لهذا التشكل النسقي دون أن نعرف حدود الحقيقي من المتخيل، أو ندرك أسباب ذلك التشكل هل هو طبيعي بيولوجي أم هو حالة ثقافية وصناعة نسقية وحاضنة لا علاقة لها بالعلم أو المعرفة أو الدين أو أي من هذا القبيل.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1] - هالة كمال، النقد الأدبي النسوي، ترجمة وتقديم: هالة كمال، مؤسسة المرأة والذاكرة، مصر، ط1، 2015: 16

[2] - سعيد يقطين، الكلام والخبر، سبق ذكره: 15