سوريا: بين خياري الاستبداد والرشد

فئة :  مقالات

سوريا: بين خياري الاستبداد والرشد

سوريا: بين خياري الاستبداد والرشد[1]

نشرت على صفحتي قبل يومين، قصة حوار دار بين الكاتبة والمفكرة السورية صاحبة التوجهات اللاعنفية، الأستاذة نوال السباعي، وعن شاب من الجيش الحر في 2014، حيث كان يظهر على صفحتها ويجادلها على مدى أوقات طويلة عن عدم جدوى اللاعنف وما تطرحه من أفكار سياسية وطروحات فكرية بناءة، حتى تمادى في المشاغبات، فكادت أن تطرده من الصفحة، فقال لها يا خالة يا خالة أصلا أنا أشعر أني سأستشهد؛ وفعلا بعد فترة علمت بنبأ استشهاده.

هذه القصة مهمة؛ لأنها تختزل ليس مأساة الثورة السورية فحسب، ولكن مأساة المنطقة مع كل الطيف السياسي وما مر به الشباب المناضلون خلال حقب عديدة بما فيها الحقبة اليسارية والفدائيين وخطف الطائرات، ومؤخرًا الهجوم الشنيع في 7 أكتوبر والعقاب الأشنع والإبادة التي تتعرض لها غزة الآن. وطبعاً رأينا ما قدمه السوريون والسوريات من تضحيات خيالية يكاد يشيب له الولدان، (بل شابوا من العذاب والاختفاءات القسرية والقصف بالبراميل على مدن بأكملها). مع النظر لهذه التضاريس الشائكة والوعرة، نرى شباب المنطقة تنغلق الأبواب في وجوههم، فيلجؤون لأدوات تورطهم أكثر وأكثر في متاهات عسكرية ومتطرفة وبأثمان باهظة، لا تقدر الشعوب على دفعها ولا تطيق ولا يتحملها العقل والقلب. في العقود القليلة الأخيرة كان الإسلام السياسي هو الطاقية الجديدة بعد الطاقية اليسارية التي اختارها الشباب المناضل، وكانت أيضا بأثمان باهظة. لهذا، علينا التساؤل حقًّا كيف نخرج من هذه العذابات، وكيف يمكن لنا أن نتوجه من صراع الأجساد والبارود إلى صراع الأفكار وصناديق الانتخاب.

ولكن أريد أن أرجع إلى الوراء قليلا، لماذا كان الإسلام السياسي الخيار عند الشباب بعد فشل الخيارات الأخرى؟

هناك شعور بخيانة المسؤولية أو الخذلان للعدالة في طبقات عميقة في أركيولوجيا المخيلة الإسلامية، بأننا نقضنا أهم عرى الإسلام، عندما صار انقلاب على الخلافة الراشدة التي كانت تؤسس لنموذج تبادلي تشاركي بدون حكم العائلة وبدون حكم السيف. وأننا أعدناها هرقلية لنعود ونقع تماما في المنظومة نفسها التي أرادت فيها المسلمون التأسيس لنوع مختلف من الحكم الرشيد، وخاصة بعد تعدد الشعوب والانتماءات التي صارت ضمن هذا الحكم. ولكن مع انقلاب معاوية، رجعنا لحكم الوراثة والعائلة بغلبة السيف والعنف. وحتى العالم الإسلامي بشقيه السني والشيعي، كان مشروع صراع عائلي قبلي بين بني أمية وبني هاشم، والذي سبق صراعهما القبلي ولادة الرسول (ص)، وتواصل بعد وفاته على شكل صراع مذهبي إلى وقتنا. وهذا الشعور بفقد الحكم الراشد، هو شعور ثقيل وعميق ضمن اللاوعي الجمعي الإسلامي، ولا يمكن تجاهله. وحتى الحديث المعروف يسجل هذا الرعب الدفين بفقدان العدالة وهذا النموذج من الحكم. ونقرأه في حديث أبي أمامة الذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة." وعلى فكرة، فإن هذا المشاعر ليست حكرًا فقط على المسلمين، وإنما هي مبثوثة بأشكال مختلفة في الأديان السماوية وغيرها من أديان الكوكب كله، هذا الهوى الدفين في أعماق الإنسان نحو العدالة والإحسان. فعندما قال المسيح: "لقد ضيعتم أقدس شيء في الناموس، العدل والمحبة والرحمة"، فإنه كان يشير تماماً إلى هذا التوق لمساحات التراحم، وليس فقط التوقف عند استعمال الفقه الخشبي لمزاولة الدين. ولهذا، فإن هذا الحديث في التراث الإسلامي، ومقولة المسيح، كلاهما يشي أيضا بكيف تمسك المسلمون بفزع بتفاصيل فقهية خشبية، عندما خافوا من ضياع كل شيء. وفي حالة المسلمين الهوس الفقهي بعد أن فقد المسلمون الخلافة الراشدة، والتي لم يعين فيها خليفة ابنا أو يقم بانقلاب عسكري. ورغم قصرها لكنها تمثل واحة كثيفة في مواجهة زخم صحراء مليء بالعنف والغزوات، إن اردنا استعمال مصطلحات المفكرة الأمريكية الألمانية حنة أرندت. وإن أردنا أن نستعمل أفكار خالي جودت سعيد هنا، فهو أيضا قال إن المسلمين لم يسمّوا أحدًا بعدهم الخلفاء الراشدين حاكماً راشدًا. (حتى لو لقب هارون الرشيد نفسه بهذا أو المعتصم بأمر الله أو المتوكل على الله).

هذا التوق لمفاهيم العدالة ولفترة الخلافة الراشدة هو ما يدغدغ مشاعر المسلمين والمسلمات، حتى عند غير المتدينين منهم، إذا أردنا أن ندخل في المخيال العاطفي الجمعي في منطقتنا؛ لأنه يخلق نوعاً من الفانتازيا السياسية الجمعية، فكلنا نعرف عن عدل عمر وعن تواضعه وعن مسكنه البسيط، وكيف وجده رسول كسرى نائماً عند شجرة، فأجابه عمر لمّا استغرب المشهد، "عدلت فأمنت فنمت." أو عندما قال لامرأة عارضته على ملأ من جمهور غفير، فقال أخطأ عمر وأصابت امرأة، وأيضا تعيينه لنساء وشخصيات بعيدة عن عائلته، وتعيينه لإمامات وقت القادسية إسوة برسول الله (ص) الذي كان عين أم ورقة في المدينة، أو وضعه بلالا الحبشي مؤذناً له. هذه القصص والمفاهيم لها دلالات خفية من المهم إعادة إعرابها بطرائق جديدة. ولكن مهم أن ندرك أيضا أن عبارة الخلافة الراشدة فيها شقين: شق الخلافة وشق الرشد. فأيّهما يريد الناس حالياً في منطقتنا، وخاصة تلك التي تتجلى في تطلعات الشباب في حركات الإسلام السياسي؟ الخلافة أم الرشد؟ هذا سؤال لم نطرحه بجرأة على أنفسنا. ولعل من الفوائد الإيجابية التي ظهرت بعد الظلال القاتمة التي ألقتها قوات داعش على تضاريس المنطقة أن الناس بدأوا يعرفون ماذا يريدون؛ لأن الأكثرية قالت توبة، توبة! لا نريد خلافة! ولكن هل يمكن أن يُنتزع منهم/أو منهن التوق إلى الرشد؟ أظن هنا مربط الفرس؛ لأن هذا التوق إن دققنا فيه، فهو توق لسلطة تُؤسس مبادئها على التبادلية والتشاركية، وعلى قيم العدالة والإحسان والأمان. وهذه الموارد الأخلاقية في المخيلة الجمعية هي أيضا موارد معنوية سياسية هائلة من الممكن أن تُسخر لتخدم بناء الدولة الحديثة، الدولة الجديدة، على أسس المواطنة المتساوية تحت سيادة القانون في السياق السوري الحالي. وقد تتنج أجواء وقيم لتصبح عناصر فكرية تساعد الجيران في المنطقة في تحولات ديمقراطية أكثر إنسانية؛ أي بدون خسائر لأي طرف- بدون تضحيات خيالية من الشعوب وبدون انتهاكات فظيعة من الحكام. بدون أن يتحول الناس لضحايا والحكام لمجرمين؛ أي النجاة لنا جميعا.

السياق السوري درس كبير!

ومبادئ الحكيم الرشيد الذي يراود الأغلبية السكانية في المنطقة، لا يدرك فيها الشباب الثائر أنها ترتكز في مضمونها السياسي على مفاهيم التبادلية والتشاركية في السلطة (رغم أنهم تغنوا بعمر لما دخلوا حلب مؤخرا)، ولكن ما يقلقني أيضا السكر والدوخة مع رموز الدولة الأموية. لهذا مهم أيضاً أن ندرك أن منظومة الرشد في المقام الأول إطار فكري وسياسي يحتاج لفهم وتفكيك لفهم عناصر الرشد فيه، وليس فقط خلفاء تتطاير رؤوس أعدائهم في البلاط المستبد. وهذه العناصر إن دققنا فيها ترتكز بنظري على قيمة تحييد السلاح كأداة للفصل في الخيارات السياسية، وأن الرشد الذي عرفه المسلمون الأوائل ولو لفترة وجيزة أسس نحو تكريس هذا المفهوم لوضع السيف تحت امرة الدولة، وبالتالي أن من استعمل السيف خارج الدولة سُمي بـ"الخوارج." تماما كما أكد المسيح هذه القيم النبوية لما أراد أحد حوارييه الدفاع عنه، فقال له: "أعد السيف لغمده، فمن أخذ بالسيف، بالسيف يهلك".

وكم نحن محظوظون الآن! فرغم تضاريسنا الصعبة لكن يمكن أن نرى بوضوح أيضا أن سقوط النظام كان أقرب إلى تهاوي الاستبداد بعد تفاصيل وتعرجات كثيرة وفي النهاية بطريقه حرص فيها الداخلون المحرّرون على حقن الدماء. هذا الحدث أيضا يحتاج لإعادة تأويل؛ لأنه يمكن أن يصير مدخلاً لتأسيس مفاهيم سياسية جديدة تبعدنا عن منطق السيف، وتدخلنا في منطق العقد الاجتماعي والتحرير بالتراضي والتحرك نحو إعادة بناء على أساس سيادة القانون والمواطنة المتساوية.

هذه القيم المفصلية في المنظومة الراشدية التبادلية والتشاركية تعني ضمنيًّا وحتمياً مشاركة المرأة في السلطة. ولهذا، فإن دور المرأة مفصلي في الحوار والتفاوض مع الإسلام السياسي الحالي، ليس لتكون صمدية أو مشاركِة هامشية، بل كشريكة ومحاورة ندية وناقدة للممارسات الاستبدادية والإقصائية من أي طرف كانت. وأريد أن أركز أن هذا الدور ليس من قبيل أخذ حقوقها من طرف ما، أو من موقع المطالبة بالتضمين لها من جهة معينة، وإنما من قبيل المسؤولية المدنية (civic duty) التي تأخذها على عاتقها؛ أي الواجبات السياسية التي تهم المواطن والمواطنة اللذين يدخلان الآن في عقد سياسي جديد مبني على التراضي من قبل الأطراف كلها.

ولهذا، فإن هناك أهمية خاصة نحتاج أن ننتبه إليها بالنسبة إلى الطريقة التي ستشارك فيه المرأة في إعادة إحياء مجتمع مدمر كما في السياق السوري. وهذا يأتي برأيي ليس فقط من مبدأ المطالبة بالحقوق والحريات كما أشرت، وإنما بمبادرة المرأة نفسها في ممارسة واجباتها لبناء السياق السياسي الذي سيمهد لإحياء الثقافة التي ستكون فيها المرأة مشاركا بشكل عفوي وندي؛ لأنها أصلا متواجدة في كل السياقات وخاصة بزخم اكثر بعد الحرب واضطرار النساء لدعم عائلاتهم مادياً ومعنوياً. فالمرأة السورية تحديدًا حملت مسؤوليات وواجبات كبيرة، وتراكمت عندها معرفة وخبرة في ظل ظروف صعبة. وهذه المعارف والخبرات والصلابة النفسية موارد حقيقية في هذه اللحظات المفصلية.

وهنا سأستشهد بمقولة لخالي جودت سعيد، عن الحرية التي عادة ما يُعبر عنها (والتي صارت مثل البرمجة في العقلية الجمعية) أن "الحرية لا تُعطى، وإنما تؤخذ" (وتكاد تشعر أن المعنى في بطن الشاعر يقول إن "الحرية تُنتزع عنوة أو حتى تُسرق خلسة"). ولكن خالي كان يقول: "الحرية لا تؤخذ ولا تُعطى! وإنما تُمارس! ونقف نحن مسؤولين ومسؤولات عن هذه الممارسات، ونكون مستعدين لدفع ما يترتب عليها".

وانطلاقاً من هذا الانقلاب في مفهوم الحرية كممارسة للحق والواجب، وليس كمطالبة للحقوق، فإن ممارسة المرأة لحريتها ومكانتها وواجباتها يكون امتدادًا طبيعيًّا ليقظة السيادة الذاتية، التي تحدثت عنها الدكتورة نعمت قبل قليل وكذلك الدكتورة أسماء، والتي هي متاحة لكل بني وبنات آدم وحواء. فهذا قانون كوني كما أشار إليه القرآن "ولقد كرمنا بني آدم"؛ لآنه عندما تستيقظ روح الله في الإنسان (أو المرأة في سياق نقاشنا)، فإنها لا تنتظر من إنسان آخر أن يمنحها كرامتها، ولا تنتظر الإذن أو السماح لقول الكلم الطيب أو ممارسة العمل الصالح. فكما نقرأ في القرآن "مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ." وبرأيي، فإن فتح الحوار المجتمعي على قضايا المرأة سيكون أحد أهم المفاتح المهمة في حلّ مشكلة التشنج بين الدين والسياسة أيضا؛ لأن المفهوم السطحي للعلمانية أن الدين أمر شخصي والسياسة أمر عام، ولكن النسوية الغربية قلبت هذه المفاهيم، عندما أدخل النساء عبارة "الشخصي هو سياسي" في نهاية الستينيات مع حركات الطلاب والموجة النسوية الثانية، والتي أدخلتها الكاتبة كارول هانيش إلى الحوار الجمعي بمقالة لها بهذا العنوان (The Personal is Political)؛ أي إن كل العلاقات التي بين الناس بما فيها ما يحدث داخل الأسرة هي أيضا نوع من إدارة علاقات القوة، ولذا فهي سياسية وليست هامشية أو خارجة عن الهم السياسي في المجال العام؛ لأن كرامة الإنسان لا تظهر في الشارع، ثم تختفي فجأة في البيت كما يحدث مثلا في حالات العنف الأسري أو حرمان النساء من التعليم والنمو المعرفي أو استعمال القدرات والخبرات في المجال العام. وربما من المفاجئ إذن أن نجد أن هذا المفهوم الشخصي للسياسة يخلق تقاطعاً بين الإسلام السياسي الذي يرفض أن يكون الدين أمرًا خاصًّا في البيت، محصورًا بين الإنسان وربه، مع مفهوم النسوية أن الخاص أيضا سياسي؛ لأنه إن نظرنا في كل الأديان، فإننا نجد أن من مركزية الكود الوراثي فيها أن العلاقة مع المقدس تتجلى في العلاقات مع "الآخر"، وليس في المنزل فقط، بل في الشارع أو حتى قول الحق في وجه سلطان جائر في بلاط الحكم. وهذا يعني أن الدين ليس حقًّا أو امتيازًا شخصيًّا بقدر ما هو أيضا مسؤولية أخلاقية أمام الخالق يتم امتحان صلاحها بصلاح الطريقة التي نتعامل بها مع المخلوق.

وبنظرة سريعة على السياق السوري، ندرك كم أن السياسي هو شخصي، بل شخصي بحت. فبيوت العزاء ودموع الأمهات والأرامل الآن هي أمور شخصية حميمية لا يمكن فصلها عن الشأن السياسي العام؛ لأن الشخصي في سوريا صار سياسيًّا، والسياسي صاغ كل جوانب الحياة الشخصية عند الناس، وصاغ كل أنواع الفقد والرثاء والتضحيات وقصص النضال. فسوريا أظهرت بكل وضوح أن السياسة تصيغ الشخصي، كما يصيغ الشخصي السياسة.

هذا لا يعني أن الإسلام السياسي رهين لنموذج استبدادي بشكل حتمي، أو أنه مصمم لاختطاف الشخصي تحت مسوغ الشريعة، رغم أنه عرضة بشكل كبير، لأن يكون كذلك في السياق السوري، وأن يعود الحكم أمويًّا وتحت سلطة أبوية احتكارية. (فهناك لحظتان في تاريخنا، عندما أبعدت التفكير النخبوي الإنسان العادي من المشاركة في صناعة القرار السياسي. فقد أسقطت المرأة من دورها السياسي) عندما رمى المجتمعون أم سلمة من هودجها، لما حاولت أن تفرق الجموع التي تظاهرت عند بيت الخليفة عثمان بن عفان، ورمزيًّا لم تعد بعدها أم سلمة إلى هودجها وصوتها بعد تلك اللحظة. وأيضا هناك اللحظة التي سقط فيها الرجل من دوره، لما رفع معاوية السيف، وقال مشيرًا لابنه يزيد من لن يقبل بهذا، فله هذا ورفع سيفه عالياً.

ولهذا، فإن المشكلة ليست دينية، بل هي مشكلة تقديس الإكراه وأدواته، ولأن مشكلة العنف هذه تمثل أيضا مخاضاً عامًّا في المنطقة كلها، وتشكل تحدّياً أوسع من ضيق أي منظومة فكرية، مما يضع السلطة الجديدة أمام خطر الوقوع مرة أخرى في منظومة القمع، كما حدث مع الاشتراكية أو الليبرالية في المنطقة، والتي وقعت في فخ النماذج الأمنية القمعية، أو كما في الحالة السورية تحت النظام السابق، والتي قدمت أقصى التطرف في نموذج دولة الإبادة والتوحش. وفي النهاية، كان الإسلام السياسي من اقتلعها من جذورها بعد أن خرج متمرساً في هذه التضاريس الوعرة الجلفة. ولهذا، فإن التحدي الحقيقي أمام هذه الجهات الإسلامية في سوريا والشباب المعاصر بشكل عام في المنطقة هي القدرة على استعادة المنظور النقدي والخروج من منظومة العنف والتعويل على أدوات الإكراه التي تقود لاحتكار المجال السياسي. ومن هنا، فإن العودة لنموذج الرشد والقيم التبادلية والتشاركية قادرة أن تقدم صدى من التاريخ لبناء نموذج مستقبلي جديد، له وقع في ذاكرتنا الجمعية، ولكن له أيضا اتصال بنماذج الحكم الرشيد المعاصر وممارسات وتجارب الديمقراطية في بقية العالم في آخر 300 سنة.

هذه اللحظة هي فرصة تاريخية حقيقية لإعادة تفعيل قيم أصيلة في تاريخنا ومنطقتنا لصياغة المجال السياسي بطرائق تسخر الموارد الدينية وكل التراكمات والمعارف الإنسانية كمصادر لتأسيس دولة تكافلية حديثة؛ أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين. هذه القيم يمكن أن تصبح أدوات خلاقة لتوسيع مساحات فيها مودة وعدالة في المجال العام، وأيضا في المجال الشخصي. وهذه معادلة لا يمكن حلها بدون حضور المرأة بشكل فعال وحقيقي.

وبالمناسبة أحبّ أن أنهي كلمتي هذا بخبر مفرح؛ فلقد أقامت الحركة السياسية النسوية السورية مؤتمرها الأول قبل يومين، في 8 كانون الثاني في العاصمة دمشق في الذكرى الشهرية الأولى لانتصار الثورة، (بعد مؤتمرات أخرى في المهجر سابقا)، وكان مؤتمرًا ناجحاً ومزدحماً بالنساء والرجال!

والسلام عليكم وعليكن جميعا!

[1]- ورقة ساهمت بها الباحثة في الندوة الأولى التي عقدتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود، يوم الجمعة 10 يناير 2025، بعنوان: "الإسلام السياسي وأوضاع المرأة في سوريا والعالم العربي الحاضر والمستقبل".