سياسة العلم والتكنولوجيا باعتبارها سياسة اجتماعية
فئة : مقالات
سياسة العلم والتكنولوجيا باعتبارها سياسة اجتماعية
مقدمة:
عادة ما تكون الدراسة المنهجية في "البعد الاجتماعي للعلم والتكنولوجيا" معقدة، لسببين رئيسين؛ أولهما أن المادة التي يغطيها الموضوع غاية في عدم التجانس، كما أنها تغطى حيزاً واسعاً من الاهتمامات تبدأ من الثورة الكوبرنيكية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وحتى مشكلات التكنولوجيا الملائمة في البلدان النامية في الثمانينيات، وثانيهما أن هؤلاء الذين بدأوا يشغلون أنفسهم بهذه المنطقة العامة قد قدموا بخلفيات منهاجية واسعة التفاوت، وبتقويمات متباينة لهذا الذى يشكل العلم الصحيح. ولكيفية تحديد ومواجهة المشكلات. ولماهية اللغة الفنية الأكثر ملائمة لتواصل الأفكار. وهكذا، فإن هذه المنطقة تتميز أساساً "بتداخل المناهج"[1]، وهذا "التداخل المناهجي" يكون من الصعب التعامل معه. من وجهة النظر التعليمية في الأقل الأدنى، ويتمثل في محاولة لتحقيق عنصر تماسك بالتركيز المباشر على مشكلات "سياسة العلم والتكنولوجيا"، عبر التركيز الثلاثي الآتي[2]:
أولا يتم تركيز الضوء على الأهمية الأساسية للتمايز الاقتصادي وللتخصيص الوظيفي، خاصة فيما يتعلق بنشوء إنتاج السلع الرأسمالية في القرن التاسع عشر الذي وفر السياق الاجتماعي الذي حدثت في داخله تغييرات تقنية عديدة مهمة؛
ثانيا التركيز على خاصية عدم الاستقرار للكثير من "الإنتاج الجديد" لإظهار كيف أن التطور التقني يضفى خاصية دينامية متأصلة على النظم الاقتصادية.
ثالثا استكشاف العلاقات المتغيرة بين "العلم" وبين "الإنتاج"، مع توجيه انتباه خاص إلى نشوء أنشطة البحث والتطوير المؤسساتية في داخل القطاع المنتج وفي خارجه على حد سواء.[3]
1-2 منشأ سياسة العلم والتكنولوجيا:
يعد الاهتمام بتحليل سياسة العلم ظاهرة حديثة نسبياً، كما أنه قد نشأ عن أشكال ثلاثة للطلب الاجتماعي متمايزة، وإن كانت على اتصال ببعضها، وهي تلك التي تصدر مباشرة. مباشرة من الدولة، ومن هؤلاء المعنيين بالبحث والاهتمامات الأكاديمية، ومن أولئك المتصلين بالاهتمامات الجماهيرية المتعلقة بالتأثير الكاسح (وغير النافع في أحوال كثيرة) للعلم على حياة الناس العاديين. ويستهدف هذا الجزء تقديم الخطوط العريضة لهذه المصادر.
1-2-1- الدولــة:
من المألوف في الأيام الراهنة المحاججة بأن التغييرات التكنولوجية كان لها، بصورة عامة إلى حد ما، تأثير جوهري على النمو الاقتصادي منذ الثورة الصناعية. ومع ذلك، فإن الصيغة التي أتخذها هذا التأثير والعلاقات الاجتماعية التي أنطـوي عليهـا لا تزال مفهـومة بطريقة غيـر كاملة تماماً حتى الآن. فتأثير الإنفاق الاجتماعي على العـلم (من خلال البحث والتطـوير، والمؤسسات العلميــة... إلخ) يعـد، على وجه الخصوص معضلة. فليس من شك في أنه كانت هنالك طفرات "اقتصادية" مهمة جاءت نتيجة البحث العلمي المنظم، بيـد أن تقدم الإنتاجية قد حدث أيضاً كنتيجة لتغييرات مؤسسية (تنظيمية). وهجرة قوة العمـل الماهرة، والتغييرات التأثيرية، والتعـلم، والحظ، وتنويعات من ميكانيزمات اجتماعية أخـرى، وتشكيلات من كل هؤلاء [4].
وعلى الرغم من هذا، فإن الإنفاق على العلم (المؤسسي) قد ارتفع بصورة مثيرة على امتداد السنوات الخمسين الماضية، أو ما يقارب ذلك، كما أن الكثير من هذا الإنفاق قد تم تمويله بواسطة الحكومات، لكي ينفق "داخل النطاق" من خلال مؤسساتها / وزاراتها، أو خارج النطاق، من خلال كيانات خاصة في الشركات الصناعية أساساً. وهكذا، فإن المستويات العالية للإنفـاق قد ورطت الحكومات في مشكلة تخصيص للموارد. فإذا ما كانت مبالغ هائلة من النقود يجب أن تنفق في "تسخير العلم والتكنولوجيا من أجل المصلحة الوطنية" فإن المعايير المطلوبة، آنئذ، هي التي تسمح بتدبير مثل هذه المبالغ على أسس عقلانية من المأمول أن تكون هي الأنسب (الأمثل) اجتماعيا.[5]
الأسئلة النمطية المتعلقة بالسياسة هي:
- إلى أي مدى يجب على هذه الحكومات تمـويل البحث والتطوير الصناعيين؟
- ما هي الآليات التي يجب على هذه الحكومات اعتمادها لتحقيـق هذه الغـاية (الدعـم المبـاشر، تخفيض الضرائب، الإمــداد بتسهيلات خاصة، المشتريات العامة... على سبيل المثال)؟
- ما هي القطاعات الصناعية التي يلزم إعطاؤها أولوية؟
- ما هي مجالات بحوث العلوم الأساسية التي يجب تمويلها بواسطة - الحكومات، وبأيّ نسب، ومن خلال أي مؤسسات (معاهد)؟
- كيف يجب التنسيق بين التعليم العالي وسياسة العلم؟
- كيف تمول الوزارات القائمة بالإنفاق أبحاثاً داخـل النطاق (أي - من خلال معاملها الذاتية الداخلية)؟
وهذه الأسئلة البالغة التعقيـد، وغيرها من الأسئلة الخاصة بالسياسة، قد يمكن تصنيفها في فئات ثلاث[6]:
(أ) أسئلة تتعلق بتخصيص الموارد، وبالذات في داخل وفيما بين بنود الإنفاق العلمي كيفما تحددت (على سبيل المثال: كم يجب توجيهه الى الفيزياء النووية في مقابل الفلك الإذاعي) وأسئلة. السياسة من هذا النوع تكون وثيقة الصلة بأمور السياسة الأكثر إلحاحاً والمعنية بالدفاع، والطاقة النووية، والجهود المدنية الملقاة على عاتق الدولة. وهكذا، فإنه في السنوات المبكرة لما بعد الحرب اتجهت جهود دول المجموعة الاقتصادية الأوروبية، ابتداء، إلى البحوث النووية وبحوث الفضاء والطيران أكثر منها إلى تطوير الصناعة أو التنمية عبر البحار، مما عكس الأولويات الأكثر عمومية لسياسات الحكومات. وفي وقت أحدث كانت هنالك نقلة إلى البحث والتطوير "الاقتصادي" الأكثر مباشرة خاصة فيما يتعلق بالمنظور الخاص بمشكلات نقص الطاقة، وكذلك بسبب الضغوط التنافسية المتنامية من جانب بعض البلدان النامية (المسماة "بالدول الساعية إلى التصنيع حديثاً").[7]
(ب) والفئة الثانية من الأسئلة معنية بالمحتوى المتنامي من العلم والتكنولوجيا للوظائف العادية للحكومة، حيث انتهت آليه الحكومات الحديثة فيما يتعلق بتوفير السلع والخدمات للجمهور، عن طريق تمويلها من الضرائب ومن غيرها من مصادر الدخل العام. والكثير من هذه الإمدادات يمثل فعلاً إنتاجياً وهو يتطلب بالتالي خدمات التكنولوجيا الحديثة إذا ما كان لابد وأن يؤدى بكفاءة. وحتى عندما لا يكون كذلك (عند اتخاذ سياسة للتدخل في القطاع الخاص على سبيل المثال) فإنه تبقى هنالك حاجة إلى المشورة الفنية الملائمة. وتوظف "الوزارات المنفقة" في بعض الدول، مؤسسات البحث والتطوير الحكومية الخاصة بها للوفاء بهذا النوع من الاحتياجات، ومن الطبيعي تماماً أن يصـاحب ذلك إثارة كافة صنوف أسئلة السياسية المتعلقة بنوعية الدور الذي يجب أن تلعبه هذه الكيانات، وبالكيفية التي يجب أن تخصص بها مواردها، وهلم جراً.
(ج) وهنالك أخيراً الأسئلة المعنية "بإدارة" أو "توجيه" العلم، حيث يبدو جلياً أن هناك حاجة إلى استكشاف الآليات الأكثر ملاءمة للحصول على المشورة، واتخاذ القرارات، ومراقبة صرف الاعتمادات المالية. وهناك جدلاً متواصلاً بشأن هذه المسائل منذ الحرب العالمية الثانية. وأحد الأمثلة الشهيرة ذلك الخاص بقاعدة "العميل ـ المقاول" التي دافع عنها تقرير روتشيلد في أوائل السبعينيات، والتي فجرت كافة الصنوف من الأسئلة المتعلقة بسياسة العلم.
قاعدة "العميل- المقـاول" وإثارة الأسئلة المتعلقة بالمحتـوى "الاقتصادي" لقرارات سياسة العـلم
قد كانت قاعدة "العميل- المقـاول" مقصودة أساساً باعتبارها وسيلة لإقامة "سوق" من نوع ما للاتفاق الخاص بالعلم والتكنولوجيا يلزم على "العميـل" فيه؛ أي الإدارة الحكومية (الوزارة) المنفقة، أن يحدد الاحتياجات البحثية القائمة، أو التي يحتمل أن تنشأ عن أنشطته العادية، وأن يطلب من "المقاول" (الذي يمكن أن يكون في الغالب، وأن لم يكن بالضرورة أحد معامل العميل الخاصة) أن ينفذ البحوث المتصلة بالأمر. وقد نشأ هذا التعديل، إلى درجة كبيرة، عن الإحساس بأن هذا النمو الضخم للبنية الأساسية (التحتية) لعلم وتكنولوجيا الدولة كان ينمو إلى متابعة أنشطة بحثية ذاتية لم تكن تميل إلى التوافق مع مسئوليات الدولة الرسمية، ومثلت بالتالي صورة للقصور الاجتماعي، وقد كان الأمل من وراء إقامة شكل من "آلية السوق". إن معامل الحكومة لا بد وأن "تنتظم" في دائرة الاهتمامات الاجتماعية، أو أن الأمور لا بد وأن تتحرك في هذا الاتجاه على الأقل.
ومن الجلي تماماً أن إصلاحات روتشيلد، وكذلك نمط التفكير الذي تقوم عليه، قد أثارت كافة الأسئلة الشيقة المتعلقة بالمحتـوى "الاقتصادي" لقرارات سياسة العـلم. فهي قد أظهرت، على وجـه الخصوص، كيف أن مثل هذه القرارات قرارات "اقتصادية "؛ بمعنى أنها تكون معنية عادة بالتساؤلات الخاصة بتخصيص الموارد في ظروف وهذه تساؤلات مهمة طالما أن تخصيص (س) من الدولارات للوظيفة (أ1) يعنى أن هذا المبلغ (س) لم يعـد بعد متاحاً لتمويل الوظائف (أ 2 ... أن)؛ بمعنى أن الوظيفة (أ1) قد حازت "تكلفة الفرصة"، وهو الأمر الذي يعني تحديداً أن لا تمويـل لأي وظائف أو مشروعات محتملة أخـرى.
وأحد سبل رؤية الأشياء يتمثل في الزعم بأن وقف الموارد على مشروعات العلم والتكنولوجيا يمثل صيغة للاستثمار الاجتماعي؛ بمعنى "الإضافة إلى رصيد رأس المال المتاح". وإذ يكون الأمر كذلك، فإن هذا الإنفاق يمكن معاملته تحليلياً، من ناحية المبدأ على الأقل، وبدرجة كبيرة، بذات الطريفة المستخدمة مع أي أشكال أخرى لتقييم الاستثمارات؛ أي باعتباره مشكله تحل في إطار عملية أمثله مقيدة.
تعريف سياسة العلم والتكنولوجيا
وهكذا، فإننا قد نعرف سياسة العلم والتكنولوجيا بكونها معنية باتخاذ القرارات الأمثل (الأنسب) المتعلقة بتخصيص وحشد الموارد المكرسة من أجل العلم والتكنولوجيا. والأمثلية (Optimality) قد تعرف بمعايير التكامل الاجتماعي - الاقتصادي التقليدي، ومن ثم بمعايير توزيع الموارد القابلة للاستثمار، بما يؤدي إلى تعظيم المكاسب الاجتماعية الصافية للمجتمع. وإذ يعد ذلك جوهر مشكلة (اتخاذ) القرار، فإنه يستتبعه احتمال تصنيف الوظيفة الأساسية لسياسة العـلم، باعتبارها حلاًّ لتعقيدات مشكلة تخصيص (للموارد) محـددة، وبما يؤدي إلى كون "القرار" النهائي متبصراً إلى أقصى قدر مستطاع.
ما هي العوامل الرئيسة التي تجعل من قرار الاستثمار في العلم قراراً متميزاً في تعقيده؟. يأتي في المقام الأول كون التكاليف والمكاسب ليس من السهل تقديرها، حيث إنها تنطوي على حساب لتـدفقات للموارد، وكذلك لأسعار، تختص بالمستقبل (غالباً ما يكون الاستثمار في العلم نشاطاً طويل الأجل). ومن الطبيعي أن مشكلات مشابهة تتم مواجهتها مع جميع أنشطة التخطيط. فقرار إقامة مصنع للصلب، وفقاً لمنظومة محددة من المواصفات، هو أيضاً نشـاط طويل الأجـل، ويلزم معه الأخذ بفروض تتعلق بالمستويات المستقبلية الخاصة بطلبات السوق، ومدخلات المواد، والأسعار، وهلم جراً، والذي يخلع تعقيداً خاصاً على قرار الاستثمار في العلم إنما هو عامل ثان، وهو تحديد عدم اليقين الذى يعلق بالبحث (العلمي)، باعتباره نشاطاً. ويستقيم هذا، مع تعريف (العلم)، خاصة عندما يتحرك المرء عن طرف "التطوير" من التوزع طيف للبحث (العلمي) في اتجاه بعيد عن عوالم البحوث الأساسية. فاغلب مشروعات البحوث التطبيقية لا يمكن تقويمها بدقة بمعايير تكاليفها وعوائدها المستقبلية المحتملة، وعدم اليقين يعد مسألة ذات طرفين (حدين) أولهما يتعلق بعدم اليقين التكنولوجي، وثانيهما يتعلق بعدم اليقين التجاري.
والمشكلة الثالثة أنه ليس من السهل الفصل بين الغايات وبين الوسائل، بطريقة واضحة وقاطعة، في النشاط العلمي العام أو الحكومي (وفي أغلب الأنشطة البحثية في الواقع). وهكذا، فإنه على النقيض من حالة مصنع الصلب يوجد تبـادل حتمي ومتواصل بين "المخرجات" وبين "المدخلات"؛ ففي الكثير جداً تتكشف عملية البحث عن نتائج جديدة وغير متوقعة تفتح الباب لاحتمالات تجـارية جديدة وتغير (بطريقة جذرية في بعض الأحيان) من طبيعة المشكلة الأصلية. ويتصل بهـذا مسالة مفادها أن طبيعة الكثير من النشاط ذي التمويل العام (الحكومي) ينطوي على وجود عدد من الخطوات المحتملة التي تسبق التدبير الكامل للخدمات المطلوبة، حيث تكون كل قضية يلزم اتخاذ قرار بشأنها عرضة لأنواع / صيغ عديدة من النشاط البحثي. ومن هنا، فإن واحدة من المشكلات التي تنشأ عن ترتيبات مشابهة لترتيبات روتشيلد أن "المقاول" غالباً ما يلزم منه أن يوصي "العميل" بنوع البحث الذي يجب عمله، أو يلزم أن يكون، في أضعف الإيمان، على صلة وثيقة بقرار السياسة الأخير، ومن الجلي الذي يمكن رصده إن الضغوط من أجل السيطرة الذاتية العلمية لا تزال قائمة، كما أن إحدى صور النقد الرئيسة لقاعدة العميل - المقاول، والموجودة فعلاً، أنها لم تغير كثيراً في المجال البیئي لعملية الإنتاج، ولكنها أضافت مجرد طبقات من البيروقراطية إلى الطبقات الأقدم؛ أي إضافة المزيد من ترتيبات السيطرة الذاتية.[8]
والمشكلة الأخيرة أن العديد من أهــداف العلم والتكنولوجيـا المعاصرين غير معنى مباشرة بالناتج الاقتصادي وعند هذا الحـد (وعلى النقيض من حالة مصنع الصلب) فإن الاستثمار في العـلم والتكنولوجيا لا يمكن إخضاعه للتحليل التقويمي التقليدي للمشروعات· وعلى سبيل المثال، فإن تخصيص موارد بحث من أجل مستهدفات دفاعية، أو صحية، أو تعليمية، لا يمكن الحكم عليها بمقاييس الإنتاجية، اللهم إلا بالمعنى الضيق للغاية، حيث تعطى هذه المستهدفات أوزاناً تقويمية مقارنة (تعكس أهمية كل منها) بمعرفة بعض السلطات المختصة بالسياسة (العلمية)
ومن أجل كل من الأسباب المذكورة عالية (وغيرها)، فإن توصيف مشكلات سياسة العلم والتكنولوجيا، باعتبارها مشكلات "اقتصادية" بحتة وبسيطة، إنما هو تبسيط مخل وبطريقة مثيرة، لمثل هـذه المشكلات، ورغم كل هذا، ومع أن أدوات التحليل التي يمكن أن توفرها الاقتصاديات تساعدنا فقط بدرجة محدودة، إلا أن مشكلات (اتخاذ) القرار لا تزال قائمة، غير ان الكثير من المناقشات النظرية والمفاهيمية التي تؤسس عليها سياسة العـلم والتكنولوجيا لها مضمون "اقتصادي" مهم، وعلى مستويات متفاوتة ومتنوعة.
1 - 2 - 2 الاهتمام الأكاديمي:
بينا أن مجموعة مهمة من الطلبات الاجتماعية من أجل تحليل سياسة العلم والتكنولوجيا قد نشأت عن الحاجات "العملية"، للدولة. ويمكن تصنيف مجمـوعة ثانية من الاهتمامات (المصالح) التي تقوم على الجانب المفاهيمي الذي يمثله أساساً المجتمع الأكاديمي الذي حاول على امتداد الثلاثة عقود الأخيرة، أو ما يقارب هذا، أن يوفر وضوحاً مفاهيمياً لتأثير العـلم على المجتمع، وبمدلول يختلف كثيراً عما كان عليه الحـال من قبل.
حاولت دراسات اقتصادية تصنيف مجمـوعة من اهتمامات المجتمع الأكاديمي لتوفير وضوحاً مفاهيمياً لتأثير العـلم على المجتمع، وبمدلول يختلف كثيراً عما كان عليه الحـال من قبل.
لقد كانت دراسة "العلم "، باعتبارها نشاطاً اجتماعيا / ثقافياً يهيمن عليها تقليدياً، "بقوة" التاريخ والفلسفة، كما أنها كانت تعامل باعتبارها منظومة فرعية لهذه المجالات المعرفية. وهكذا، فإن تاريخ العلم قد وصف نشوء العلم، باعتباره نشاطاً ثقافياً، من خـلال التسجيل (الزمنى) التفصيلي لاكتشافاته وإنجازاته المتنوعة، وعن طريق وصف حياة مشاهير العلماء، ورسم كيفية تحويله إلى حرفة من خلال نشـوء أهم المعاهد الخاصة به، وكانت المعالجة في مجموعها منهاجية ومتخصصة.
وكان الحال مشابهاً مع فلسفة العلم التي انتقلت من اهتمامها الأصلي بطبيعة المادة (دراسة الفلسفة الطبيعية) إلى اهتمامات أكثر تخصصاً تتعلق بطبيعة الفروض العلمية والقواعد التي تحكم قابليتها للتطبيق والقبول، بما فيها تلك القواعد المتصلة بالدليل (البرهان) العلمي. ولم يكن هناك إدراك عميق يمكن من خلاله توقع أن يبدى الفلاسفة رأياً بخصوص مسائل تتعلق بسياسة العلم. وعلى عكس ذلك، كانت هذه المسائل تتحدد بالرجوع المباشر إلى المجتمع العلمي من خلال المعاهد الممثلة له أو من خلال مراكز النشاط المهني الخاصة به (الجامعات على سبيل المثال).
وكان لابد لعدد من التطورات أن يبدل هذه الأحوال؛ وأولهـا، التكاليف المتنامية للإنفاق على العـلم، والحاجة إلى "سياسة عـلم" أكثر صراحة من جانب منظمات الحكومة المتناثرة في داخل المجتمع الأكاديمي، والتي وجدت نفسها والطلب يتزايد عليها لكي تعطى المشورة بشأن كافة صنوف قضايا السياسة، وهي المشورة التي لا يمكن بحكم طبيعة الأشياء، أن تكون لا مبالية، طالما أنها تصدر عن "متخصصين"، وثانيها، أنه قد حدث رغم ذلك عدد من التطورات الفكرية (الثقافية) التي وفرت دافعاً لصلاحية دراسة "العلم" بطريقة تتسم بتداخل المناهج.
وكان نشر مؤلف توماس كون "بنية الثـورة العلمية"[9] والشيء الأكثر أهمية بين هذه التطورات. ففي إطار هذا التناول التاريخي والتجريبي لتطور العلم واجه کون "الاحتراف" بنقد تفصیلي، وإن غلب عليه أن يكون ضمنياً، لبعض الرؤى التي شــاع التمسك بها بشأن طبيعة وتقدم المعرفة العلمية. فهو، على وجــه الخصوص، قد ناقش كيف أن العلم باعتباره عملية اجتماعية - فكرية لم يكن دائماً عقلانياً كما يود له ممارسـوه أن يكون. وهكذا، فإن كون قد بين أن البحث والتطوير العلميين لم يكونا، حين الممارسة کشفاً متواصلاً "للحقائق" المتعلقة بالطبيعـة، من خلال الاستخدام المتعاظم للتجربة وللسببية المنطقية. وأنهما كانا، على الأحرى، ذوي: خصيصة ثورية ودورية، وأنه كانت تأتي عليهمـا فترات طويلة تسـتقر فيها تقاليد علميـة بعينها، حيث تتم صيانتها غالباً في مواجهة الأدلة التي تبدو وكأنها تنقض الأسس النظرية لهذه التقاليد. وقد ناقش توماس كون في إطار الجدل الشهير بينه وبين كارل بوبر[10] كيف أن العلمـاء لا يتصرفون بالأساليب التي يشعر بوبر أن عليهـم اتباعها (أي برعاية معايير العلم الصحيح)، ولكنهم في الحقيقة يؤدون وظائفهم، باعتبارهم مجموعات اجتماعية غالباً ما تعمل وهي معرضة للتأثيرات النمطية لأساليب العمل والمستحدثات، وللإغواء السياسي، وبعدئذ، وإن يكن بدرجة أقل، للعوامل الذهنية والحقيقة أن كون اقترب في بعض الأحيان من التأكيد أن التطور الحقيقي للعلم إنما كان، ولا يزال إلى حد كبير، دالة لعلم اجتماع المجتمع العلمي، مثلما كان دالة للطريقة التجريبية. وبغض النظر عما يكون الفلاسفة قد قالوه، فمن المؤكد أنه (أي العلم) لم يكن يلتزم بقواعد بسيطة للمنطق.
وقد فجر مؤلف كون فيض بحوث يختص بالعلم كما يؤدى في الواقع، وكيفية تحوله إلى احتراف، وكيفية تأثير السلوك المؤسساتي للعلماء على المسائل الخاصة بالسياسة العامة. وحيث إن المجتمع العلمي لم يعد بعد يعدّ مصدراً متجانساً للخبرة النزيهة، فإنه من الأهمية بمكان تقويم الكيفية التي يتصرف بها هذا المجتمع فعلاً، على الأقل من أجل تعيين المدى والحدود التي يمكن فيها قبول مشورة الممارسين للعلم. ورات دراسات أن الملمح المهـم للكم الأكبر من هذا العمل أنـه تداخلي المناهج وموجه سياسياً، وبمدلول لم يسبق أن بلغتـه معظـم البحوث الأسبق. وقد عاون هذا الاهتمام الأكاديمي في تحويل سياسة العلم الى أمر يحظى بالاحترام.
وكان التطور "الأكاديمي" الثاني أن الاقتصاديين قد أعـادوا اكتشاف "التغيير التكنولوجي"، وكان للأسلوب الذي تمت به إعـادة الاكتشاف هذه تأثيرات مهمة ومحددة؛ فمن المهم الاعتراف بأن "مهنة" الاقتصاديات قد ظلت لما يناهز المائة عام تعامل التكنولوجيا، باعتبارها مستوى البداية لخطواتها (إجراءاتها) التحليلية؛ وذلك على الرغم من أن العديد من "الاقتصاديين الكلاسيكيين" (سميث، وريكاردو على سبيل المثال) قد تناولوا التغييرات التكنولوجية بالفعل بجدية شديدة. ومع ذلك، فإن الاقتصاديين قد صاروا منذ 1870 فصاعداً معنيين أساساً بالمسائل المتعلقة بكيفية تخصيص الموارد المحدودة في المدى النصير (أي حين يكون رصيد رأس المال غير متغير) وفي المدى الطويل (أي حين يسمح لرصيد رأس المال أن يتغير بطرائق محـددة). وهكذا، فإن الاقتصاديين، في مجموعهم، كانوا مهتمين بأسئلة من قبيل: كيف تصرفت الأسواق وكيف يمكن تصنيفها؟ ما الذى حدد أسعار الموارد وكيف كانت الأسعار ترتبط بالكفاءة الاقتصادية؟ كيف تم توزيع الدخل؟ كيف عملت النقود (والمؤسسات النقدية)؟ ما الذي حدد أنماط التجارة الخارجية؟ وهكذا دواليك. لقد كانت الاهتمامات وظيفية وتحليلية في داخل حدود معينة سلفاً، وبطريقة متقنة. وطالما أن الحكومة والسياسة الحكومية كانت مشمولة، فإن الوصفات كانت دائماً تنحو إلى التركيز على حيز ضيق من الآليات (الأدوات) النقدية والمالية أن إحدى أهم القواعد المقررة للتحليل الاقتصادي هي تلك الخاصة بـ "سكونيات المقارنة"، والتي تعني تحديداً مقارنة "حالتين" لنظام معين موضوعا قيد الفحص مع تثبيت عدد من المتغيرات التي يحتمل أن تكون ذات أهمية لهذا النظام (أو متصلة به)، إلى حد أن الانتقال من وضع اتزان إلى وضع اتزان آخر يمكن أن يتم عن طريق تغيير المتغير المستقل. وقد تم بناء العديد من الفروض الاقتصادية المعروفة جيـداً (مثل تلك التي تختص بأسعار السلع في السوق، تحت ظروف متغيرة للعرض والطلب) باستخدام هذا الأسلوب، كما أن الطريقة قـد حـازت في الواقع، على قدر عال من التقييم باعتبارها أداة تحليلية، وبما يعني توضيحها للتفكير في منطقة للبحث غاية في التعقيد.
وعلى الرغم من هذا، فإن هنالك أشياء بعينها لا يعمل التحليل الاقتصادي معها بطريقة جيدة، وأحدها أن يتم إلقاء المزيد من الضوء على عملية النمو الاقتصادي. والسبب الرئيس وراء هذا أن التحليل الاقتصادي مصمم للتعامل عدد محدود للغاية من المتغيرات، في فترات زمنية متقطعة، وتحت افتراضات مقيدة (أو تحكمية) تتعلق بالسلوك الاجتماعي، وتتعلق أيضاً (وبطريقة أكثر أهمية) بالشروط الفنيـة (التقنيـة)، والحقيقة أن أحد المعوقات الرئيسة للتحليـل الاقتصادي أنه غالباً ما تكون مقدرته التجريبية ضعيفة؛ بمعنى مقدرته على توليد فروض جادة (غير عادية) يمكن اختبارها، ويمكن بالتالي إثراء معرفتنا بالبيئة الاقتصادية.
لقد تركز الكثير من الاهتمام المبكر، بقضية النمو الاقتصادي، حول تتبع كيفية نمو النظم الاقتصادية مع الزمن، عن طريق دراســة جزئياتها الفرعية المهمة (الاستهلاك، الاستثمار، الدخـول، التجارة الخارجيـة .. إلخ، وتحت ظروف مقيـدة (أو تحكميـة) تتعـلق بالتكنولوجيا (هل توفر العمالة، أم توفر رأس المال، أم إنها محايدة؟)[11] غير أن مثل هذه التحليلات تنبئنا بالقليل، أو اللاشيء، فيمـا يتـعـلق بأسباب النمو. إضافة إلى أنها لا تستهدف أنباءنا بهذا. وأقصى الذي كان يعنى أغلب الاقتصاديين هـو مجـرد أن يحـدث النمو الاقتصادي، وإذا ما كان ولابد من قياسه بشيء ما، فهذا الشيء كان هو معـدل الاستثمار؛ أي معدل الإضافة إلى مخزون (رصيد) رأس المال في داخل النظام الاقتصادي موضع الاعتبار. ومن المنطقي بما فيه الكفاية أن هذا قد مكن الاقتصاديين من معالجة الظروف (التقنية) باعتبارها متغيرات خارجية، أي كأنها متغيرات لا تتحدد بالنظام الموضوع قيد الدراسة، وقد أدى هذا إلى اعتبارها أشياء لا تحتاج لأن يوليهـا الاقتصاديون المحترفون اهتمامهم.
وقد وضع هذا (النهج) موضع تساؤل في الدراسة المتميزة التي نفذها روبرت سولو في 1956.[12] وقد حاول سولو باستخدام الأساليب التقليدية "للسكونيات المقارنة: "أن يوفر تفسيراً إحصائياً لأسباب النمو الصناعي في الولايات المتحدة على امتداد الفترة 1911 - 1956. وقد خلص إلى أن 12، 5 ٪ فقط من النمو المسجل لإنتاجية العمل (الإنتاج للعامل) على امتداد هـذه الفترة يمكن "تفسيره" بزيادات في مخزون رأس المال، في حين أن الـ 87.5 ٪ المكملة يمكن أن تكون مجرد "بقايا" أو أن تكون نشئت عن "تغيير تكنولوجي" أو عن "تحسن في الإنتاجية" غير واضحين، والذي كانت له دلالة في هذه الدراسة هو أن قيمة اقتصادية رئيسة (معدل النمو) لا يمكن تفسيرها بطريقة واضحة باستخدام المتغير الاقتصادي المستقر. فمعـدل الاستثمار لم تكن له تلك الأهمية المبالغ فيها، ولكن إنتاجية الاستثمار كانت هي الأخرى مهمة- وتبقى تلك الأخيرة غير واضحة.
ومرة أخرى، ومثلما حدث مع دراسة كون، تبع ذلك فيض من البحوث التي صممت من أجل اختبار نتائج سولو، ومن أجل تحديد مكونات النسبة المتبقية، ومن أجل استكشاف العوامل التي تؤثر على التغييرات التكنولوجية في داخل الشركات وفي داخل الصناعة، وبطريقة أكثر تحديداً. ومرة أخرى، أثبت الكم الأكبر من هذا العمل أنه تداخلي المنهج، وأنه موجه بالسياسات. ورغم أن قدراً كبيراً قد تم إنجازه، فإننا لا نزال بعيدين عن امتلاك الفهم الكامل لهذه العملية الاجتماعية المعقدة.
1-2-3 اهتمامات أكثر عمومية:
وأخيراً، فإنه إضافة الى الدولة والهيئة الأكاديمية، هناك تصنيف صورة أخرى للتعبير عن الطلب الاجتماعي ـ وهي تلك التي تخص الاهتمامات الجماهيرية "بالخسائر" الناجمة عن العلم والتكنولوجيا المعاصرين، والتي صار البعض منها قضايا سياسية أكثر عمومية، مثل الاهتمامات الخاصة بالتلوث البيئي على سبيل المثال.
1- 3 سياسة العلم باعتبارها سياسة اجتماعية
تقوم دراسات بتعريف تحليل سياسة العلم والتكنولوجيا، باعتباره معنياً بكيف ولماذا تحول الوحدات الاجتماعية موارد محدودة إلى العلم والتكنولوجيا، وما هي صفوف المشكلات التي تنشأ عن أداء كهذا. وما هي صفوف التحسينات التي يلزم إدخالها. وإذا ما عرف التحليل بهذه الطريقة، فإنه لابد وأن يكون واضحاً أن الموضوع معنى أساساً بالخيارات الاجتماعية وبالسياق الاجتماعي الذي تنفذ في إطاره هذه الخيارات.[13]
وأنا أؤكد على هذا بسبب ما يتم الإيحاء به في بعض الأحيان من أن حلول مسائل سياسة العلم "واضحة"، أو أنها يمكن أن تتقرر بواسطة رجال عظام، (يغلب كبار علماء أو مهندسين من الذين كونوا لأنفسهم صيتاً في مجالاتهم المهنية)، والذي آمله أن يظهر هذا الكتاب أن مثل هذه الحلول ليست واضحة كلها. وأنها سوف تتطلب في أغلب الأحوال خبرة قائمة على تداخل المناهج من أجل صياغتها – عادة ما سوف ينطوي هذا على مدخلات من العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية. وبالمثل، ومهما تكن الإسهامات الممكنة من قبل كبار العلماء (وهؤلاء كثيرون)، إلا أن مثل هؤلاء الناس غالباً ما يكونون غير مدربين على التعامل مع الأسئلة الصعبة المتعلقة بالخيار الاجتماعي، والحادث أن واحدة من المشكلات التي يغلب أن يواجهها العلماء الطبيعيون أنهم لا يفهمون تماماً كيف تعمل العلوم الاجتماعية.
وأحد أفضل المواقع التي يمكن أن نبدأ منها ما يتعلق بتلك المناقشة الشيقة التي قدمها برين إيزليا عن "موضوعية" العلوم الاجتماعية[14]. فقد جادل أيزليا بأن هناك تمييزاً جوهرياً يجب أن يقوم بين الطبيعية وبين العلوم الاجتماعية؛ بمعنى أن تلك الأخيرة يمكن اعتبارها محاكية للعلوم الطبيعية "التطبيقية" فقط. وبالتالي يصبح التمييز المألوف بين الأعمال "البحتة" وبين الأعمال "التطبيقية" غير وارد في هذا السياق. وقد عالج أيوليا المسألة بالطريقة التالية: يبدأ العلماء الطبيعيون بتحديد العلاقات بين حالات الطبيعة (States of Nature) ويخلعون على هذه الحالات مفاهيمها بالرجوع إلى كيان (جسم) يتصف بمعرفة "نظرية" مقبولة، ويختبرونها باستخدام الطريقة التجريبية، وهكذا فإنهم يعرفون أنه تحت ظروف سياقية محددة فإن حالة ما، ولتكن ط1، سوف تتحول إلى الحالة ط2، حيث إن هذا ما سوف تظهر الطبيعة أنه حقيقي، أو أنه على الأقل ليس مزيفاً بعد. وإذا ما كانت الحالة ط2 غير مرغوبة، إذا ما قورنت بحالة أخرى ولتكن ط1 فحينئذ يجب أن يتم تغيير أي من الحالة الابتدائية ط1، أو الظروف السياقية المصاحبة بطريقة ملائمة. ووظيفة العالم التطبيقي أو المهندس أن يبين كيف يمكن تنفيذ هذا مع حالات محددة.
والآن يبدو التناقض مع العلوم الاجتماعية أمراً مثيراً، بمعنى أنه لا توجد حالات غير عادية (وأن وجدت فهي على الأقل نادرة جداً) يمكننا معها القول عن ثقة إن الطبيعة سوف تؤدى ألياً إلى تحويل حالة محددة ح1 إلى حالة ثانية ح2. وعلى النقيض من ذلك، فإن العلماء الاجتماعيين يعدون تطبيقيين بالمعنى ذاته الذى يستخدم به العلماء الطبيعيون هذا المصطلح عادة. ويعنى هذا أنهم يحددون (يعرفون) المشكلات الاجتماعية ثم يوصون بالكيفية التي يجب تغيير الأشياء بها بما يسمح بالتعامل مع هذه المشكلات، يطلق على هذا النشاط تحليل السياسة، رغم أنه لا يمت بصلة إلى "النظرية" كما قد يفهمها العلماء الطبيعيون. يضاف الى هذا أن تحويل "حالات الطبيعة"، (مثل حالتنا ح1) ليس بالأمر المسموح لمحللي السياسة بالتورط فيه لأن هذا الأمر يتعلق عادة بالقرارات السياسية، ومن ثم يندرج، بالتعريف، تحت ولاية أناس مختلفين ومؤسسات مختلفة.
وهكذا، فإن جوهر العلم الاجتماعي، وبحوث علم السياسة بالتبعية، يتمثل في كونه ممارسة تشخيصية. والعالم الاجتماعي المتمرس هو شخص ما قد كون فهماً معيناً لجزء محدد من "الكون الاجتماعي"، وهو الذي يحدد (يعرف) المشكلات التي يعتقد أنها مهمة (أو الذي يكلف بتحليل المشكلات التي يعتبرها ممولوه مهمة)، وهو الذي يحاول بعدئذ تحليل القوى الاجتماعية المتنوعة التي تفاعلت مع بعضها لخلق هذه المشكلات، كما يحاول تحديد العوامل السببية الأساسية، وهو سوف يستخدم التحليل، فيما بعد، من أجل توصيف السياسات العلاجية الممكنة، ومن أجل اقتراح ما يجب أن تكون عليه متضمنات هذه السياسات، ومع ذلك، وطالما أن العالم (الكون) مكان بالغ التعقيد، وطالما أنه أي العلم الاجتماعي، لن يكون مسؤولاً عن تنفيذ السياسات في أي الأحوال، فإنه يجب عليه عموماً ألا يكون مبلغاً في حرفية التصنيفات عند تقديمه "المشورة"، كما يجب عليه قدر ما يستطيع توقع التداعيات المترتبة على المسارات المحددة لإجراءات السياسية.
ما الذى ينطوي عليه إذن هذا التصنيف من النشاط؟.
ترى تحليلات أنه من الجلي أن أحد المتضمنات المهمة أنه لا يوجد سبيل مباشر إلى "نظرية" موحدة تدل المحلل على كيفية مباشرة عمله، ويعود هذا جزئياً إلى الطبيعة المتأصلة في تحليل السياسة الاجتماعية مثلما وصفت من قبل، بيد أنه يعود أيضاً إلى حقيقة كون أغلب المشكلات الاجتماعية، بحكم تعريفها، تداخلية المناهج، وإلى كون تلك المشكلات التي تخص سياسة العلم والتكنولوجيا هي على التحديد كذلك [15]، وهكذا فإن تحليل تلك المشكلات يتطلب بعض عناصر فهم اجتماعي؛ لأنه من المهم، على سبيل المثال، فهم قسمات محددة من سلوك المجتمع العلمي، وهي؛ أي المشكلات تتطلب تمرساً على ذات المستوى بعلوم السياسة بسبب وجود أبعاد مهمة سلطوية \ مؤسسية للقرارات الخاصة بسياسة العلم والتكنولوجيا. ومثلما أوضحنا من قبل، فإن تمرساً مماثلاً بالاقتصاديات يكون مطلوباً، ويغلب كثيراً أن يتطلب الأمر، على الأقل، بعض المعرفة التفصيلية بالعلوم الطبيعية أو الهندسية، حيث تقوم الحاجة إلى الإلمام بالنشاط العلمي المطلوب أو بطبيعة النشاط الإنتاجي الذي هو قيد الفحص. وعلى سبيل المثال، فإنه قد تنهض بعض القضايا أثناء دراسة تأثير الوحدات الدقيقة لمعالجة البيانات Microprocessors إذا ما كان المرء غير راغب في أن يتعلم أموراً تتعلق بماهية هذه الأداة، وبالأشكال التي تتخذها، وبالكيفية التي تستخدم باعتبارها وحدات تركيبية في نظم أكثر تعقيداً.
وحيث إن المحلل مضطر للأخذ من حيز واسع من المفاهيم ومن العلاقات المسلم بها. وحيث إن العمل أن العمل الأكاديمي يقوم تقليدياً وفق خطوط منهجية محددة، فها هنا تنشأ إحدى الصعوبات الأساسية. لقد تطورت الأمور في هذا الاتجاه (المنهجي)؛ لأنه قد ثبت أن هذه هي الطريقة الأكثر كفاءة (بالمعنى الأكاديمي) لتوسعة حدود المعرفة (مهمة البحث). ولتوصيل كيان متماسك من الأفكار إلى الطلاب (مهمة التعليم). وهكذا، فإن "المنهج" يحدد الطريقة التي يفكر بها العلماء، والمشكلات التي يعتبرونها مهمة، و"اللغة" التي يتواصلون بها، وأساليب (تقنيات) البحث التي يعتمدونها، وفي نهاية المطاف المعايير التي يستخدمونها للحكم على أداء نظرائهم ولتحديد المقبولية "الخالية من المراهنة" للمشروعات البحثية. وهذه الملامح سرعان ما يتم تغليفها بأشكال أكثر عمومية تنطوي على إجراءات بيروقراطية ومستويات لاتخاذ القرار في داخل مؤسسات أكاديمية وكيانات لمنح الجوائز، وهياكل مهنية للأفراد (الكفاءات).
ومن هنا، فإن المعرفة "بالعالم" تتواصل وتنتشر بطرائق غير متناغمة. في عمومها مع المشكلات العلمية التي يواجهها الناس والمؤسسات التي يجب عليها اتخاذ القرارات بشأن مسائل السياسة العامة، أو الناس الذين يجب عليها اتخاذ القرارات بشأن مسائل السياسة العامة، أو الناس الذين هم في الواقع معنيون بالإنتاج الاقتصادي. وهكذا، فإن هناك - بالمعنى العام للغاية - مشكلة "اغتراب أكاديمي"، كما أن محلل سياسة العلم غالباً ما يواجه بصعوبة امتلاك المعرفة الكافية بالمناهج المختلفة، وبما يوفر له القدرة على استخدامها في تقويم قضية مطروحة.
وعلاوة على المصاعب ذات الطابع النظري أو التداخل منهاجياً، فغالباً ما تكون هناك مشكلات حادة تتعلق بحيازة، ومعالجة، وتفسير البيانات. وعموماً، فإن المرء يكون في حاجة إلى دليل لمجرد إثبات (أو نفى) صلاحية الفروض التي يصطنعها بخصوص قضية مطروحة للاستقصاء. وهناك المشكلة الجوهرية، والتي لا فكاك منها، حيث يكون المحللين الاجتماعيين، مثلهم كمثل سائر البشر أنساق القيم والأحكام والمعتقدات الخاصة بهم، والتي سوف يستدعونها للتأثير على القضية التي بين أيديهم، والتي سوف تضفى عنصراً ذاتياً على عملهم. وسوف يكون مدى ضخامة هذا العنصر دالة في قدرة هؤلاء على التخلي عن المواقف الصلبة التي يكونون قد سبقوا إلى التمسك بها أو في استعدادهم للتراجع عن مثل هذا الموقف الذي يثبت خطؤه عند مواجهة الدليل. وعلى المرء أن يلاحظ أن هذه المشكلة تسبب وهنا أكثر شدة في العلوم الاجتماعية عنها في العلوم الطبيعية؛ وذلك لأن تعقيد النظام الاجتماعي والقصور النسبي في إخضاعه للطريقة التجريبية ييسران "إعادة تفسير" الدليل بطرائق مقبولة أيديولوجيا، في العلوم الاجتماعية عنها مع حالة البحث في العلوم الطبيعية.
خلاصة القول
قد بات جلياً الآن أن تحليل السياسة الاجتماعية على وجه العموم، وبالتالي تحليل سياسة العلم على وجه الخصوص، إنما هو "فن" بقدر ما هو "علم"، ويجب على الممارس أن يكون مهيئاً للتركيز على المشكلات وللقبول بقصور التوجيه النظري المباشر، وللقبول أيضاً بالحاجة لأن يكون تداخلي المناهج في مقارباته وأن يلتزم بالخضوع للدليل التجريبي مع استخدامه في حرص زائد، وأن يكون قادراً على تقييم وصفات العلاج (الحلول) على ألا يكون نمطياً وأن يحاول، ما وسعه الجهد، أن يتجرد من المواضعات القيمية حين أصدر أحكامه، وهذه كلها مهارات عالية تصعب تنميتها.
[1] Christopher Freeman, The Economics of industrial innovation, Penguin, 1974, pp 3-21
[2] Keith Pavitt, and M, Worboys, Science, Technology and the Modern Industrial State, London, butterworth,SISCON,,1977
[3] Christopher Freeman, The Economics of industrial innovation, Penguin, 1974, pp 3-9
[4] David Collingridge., The Social Control of Technology, New York: St. Martin's Press, 1980,p34
[5] David Collingridge. , The Social Control of Technology, New York: St. Martin's Press, 1980, p36
[6] c. Freeman and M. Jahoda (eds) World futures: The Great Debate ,London Martin Robertson,1978
[7] I. Spiegel, Rosing and. Price (eds) Science, Technology and Society, London ,Sage,1977,p67
[8] للنظر في تلخيص جيد لمناظرات روتشيلد وكذلك مناقشة تطبيق أفكار روتشيلد في سياق معين انظر
M. Kogan and Henkel, Government and Research, London, Heincman,1983
[9] توماس كون , بنية الثورة العلمية , ترجمة شوقي جلال , الكويت , عالم المعرفة , ديسمبر 1992
[10] ستيف فولر ,كون ضد بوبر – الصراع من أجل روح العلم , ترجمة نجيب الحصادي، المركز القومي للترجمة ,2012
[11] Nathan Rosenberg, perspectives on technology, Cambridge, Cambridge University Press,1976
[12] للتفصيل انظر
Robert M. Solow, Feb.ntribution to the Theory of Economic Growth, The Quarterly Journal of Economics ,Vol. 70, No. 1 (Feb., 1956), pp. 65-94
[13] Christopher Freeman, The Economics of industrial innovation, Penguin, 1974, pp 12
[14] Brian Easlea , Liberation and the aims of science, London: Chatto and Windus for the Sussex University Press, 1973. P 370-379
[15] Christopher Freeman, The Economics of industrial innovation, Penguin, 1974, pp 3-21