سيكولوجية الانصياع للطغاة التاريخ يكرر نفسه بسبب طبيعة البشر
فئة : ترجمات
سيكولوجية الانصياع للطغاة
التاريخ يكرر نفسه بسبب طبيعة البشر[1]
على مر التاريخ وحتى يومنا هذا، ما انفك شخصاً بعينه يتبوأ مركز السلطة ألا وهو الحاكم الطاغية. والملاحظ أن صفات بعينها تجمع دائماً بين الطغاة مثل القسوة والاستغلال والشخصية الساحرة ذات الطبع الكاريزمي. إنهم يمتلكون مزيجاً من سمات الشخصية النرجسية والشخصية المعادية للمجتمع مثل عدم التعاطف مع الغير، وهوس العظمة، والتعطش للسلطة والسيطرة، والكذب والخداع، وتجاهل الأعراف أو القوانين أو القيم الأخلاقية، وغيرها. ويطلق المحلل النفسي الشهير (أوتو كيرنبيرج) وآخرون على هذه الشخصية اسم "النرجسي الخبيث" malignant narcissist.
إن تاريخ الطغاة وسلوكهم الخبيث وسجلاتهم السادية معروفة بشكل واسع، غير أن صعودهم إلى السلطة لم يأت من فراغ، بل بتسلقهم ظهور الشعوب التي يحتقرونها وينبذونها. ونحن بحاجة إلى التطرق إلى هؤلاء الذين يتبعون الطغاة المتنمرين ومحاولة فهمهم. لماذا يعبد الناس أمثال هؤلاء القادة ويمهدون لهم السبيل؟ ما الذي يجعل طبيعتنا البشرية خاضعة لهذه الدائرة المغلقة من القسوة والخطورة؟
يركز هذا المقال على بعض الأسباب التي تدفع بالناس إلى اتباع الطغاة، الذين رغم براعتهم في الانتهاك والاستغلال اللاإرادي وإكراه الناس على تحقيق أهدافهم الشخصية، عن طريق الابتزاز والتهديدات المباشرة، والتلاعب العقلي والسطوة والهيمنة عبر الأصدقاء والأقارب، يعبدهم الناس بسهولة تثير الدهشة، ويتبعونهم بمحض إرادتهم.
1. النزوع إلى الشخصيات الأبوية القوية
أحد أهم شواغل الطبيعة البشرية التي تجذبها نحو فكرة السلطة أو القوى العليا، هي الحاجة إلى شخصية أبوية مثالية. ويعزو ذلك بشكل جزئي إلى أنه في مرحلة الطفولة، يحتل الآباء وعينا بصفتهم مراقبين. وفي المقابل، يتسبب غيابهم أو قسوتهم في تدميرنا. إنهم يمثلون الأساس الوطيد لبقائنا أحياء خلال فترة الطفولة. وعندما يرتكب الآباء، أو الشخصيات الأبوية، أخطاء ويحيدون عن المسار الصحيح، تزداد الرغبة الشديدة في الحصول على الدعم من "أب" حازم مثالي قوي، غير أن هذا التحرق ربما يحجب حقيقة أن هذه الشخصية المثالية غير موجودة؛ وعليه يمكن للقائد المستبد بسهولة استغلال هذه العبادة المطلقة والنجاح من خلالها.
2. الإيمان بالخير في الآخرين/ المثالية الساذجة
أحيانا تفضي بنا نوايانا الطيبة والإيمان بالخير في البشر إلى الوقوع في فخ الاستغلال. إن الثقة المتبادلة تعتبر ركيزة من ركائز المجتمع الصحي، مقابل الالتزام بالقواعد الأخلاقية ومراعاتها من أجل الارتقاء بهذا المجتمع، غير أن هذا الاعتقاد يعرضنا أحياناً إلى استغلال من لا يشاطروننا هذا الرأي. فيتراءى لنا أن أيّ شخص سيقدّر أو يبادلنا الاحترام والكرم والتعاطف والعدالة التي يكافح معظمنا من أجلها. لكننا بذلك الاعتقاد نقلل من شأن مكائد المعتلين اجتماعياً ممن يستغلون هذه النوايا الحسنة بينما في قرارة أنفسهم لا يكترثون لنا. وربما نظن أن الجميع يحملون الخير في قلوبهم، ويفلح هذا الشعور في أحايين كثيرة، لكنه أيضاً بمثابة كعب أخيل الذي يتيح للمعتلين اجتماعياً استغلالنا بشكل بارد.
وما يزيد الأمور تعقيداً أن هذا السلوك ليس واضحاً أو يمكن إدراكه بسهولة. على سبيل المثال، نستطيع تمييز المشاغبين أو القتلة المتسلسلين بشكل واضح، ولكن ماذا عن أولئك الذين ينصاعون ظاهرياً لبعض القواعد الاجتماعية، بينما يخفون مصالحهم الشخصية؟ ما هو الخط الفاصل بين الارتياب المذعور والسذاجة الغافلة؟ هذه المنطقة الرمادية من الثقة يزدهر فيها المعتلون اجتماعياً.
3. الرغبة في القيام بالسلوك العدواني والإعجاب به
ربما ننظر بعين الإعجاب إلى أسماك القرش أو نحسدها، وسواء أكنا سمكة قرش ننتظر اقتناص الفرصة لانتهاك القواعد يوماً، أو نحسد ما يحققه هؤلاء الأشخاص من ثقة أو سلطة أو أموال؛ إذ إنها في نظرنا أهداف يستحيل تحقيقها، نتوحد بذلك مع سلوك المفترس ويروقنا إلى حد ما. ولعل الجانب المظلم الذي نحاول كبحه داخل أنفسنا يثير إعجابنا أو نعجز عن إتباعه بسبب موانع أخرى، بينما تثير إعجابنا الحرية الظاهرة التي يخرق بها هؤلاء الأفراد القواعد ويحققون المجد.
4. الانجذاب إلى السمات الظاهرية (المال والمظهر والمكانة)
يتميز البشر بالاهتمام بالمكانة والتركيز على الوضع الاجتماعي، ويرجع أحد أسباب ذلك إلى السلوك التطوري؛ فالحيوان الذي يكسوه الريش اللامع، أو يضرب على صدره بأعلى صوت، أو يظهر بعض السمات الجسمانية المقبولة، أو يظهر بصورة استثنائية أو خارقة، يستأثر بشكل أكبر على انتباه الجنس الآخر، بل إن الرضع والأطفال ينجذبون إلى وجوه "جذابة" بعينها. وفي مجتمعنا الرأسمالي الحديث، يجتاحنا الهوس بالسمات الملموسة للنجاح الظاهري، مثل الملابس، والسيارات، والعلامات التجارية، والألقاب، والشهرة، وغيرها. وفي أغلب الأحيان، لا تكون لهذه السمات علاقة بالأخلاق أو العطف أو قوة الطبيعة الإنسانية. إنها مؤشرات استعراض ليس أمامنا إلا أن نشيد بها ونمدحها.
5. الشعور بالضعف أو الشك في حياتنا
عندما يشعر الناس بفقدان السيطرة على حياتهم، يتجهون إلى شخصيات خيالية أو مخارج هروبية لاستعادة حس السطوة وقوة الأنا. فتجدهم تارة يقبلون على الدين وشخصياته المثالية القوية، وتارة أخرى يتجهون نحو الرموز في حياتهم، سواء أكانت شخصيات شهيرة أو أبطال أو من يمتلكون كاريزما ونفوذ. هذه الشخصيات الجذابة بارعة في إظهار الثقة الخارجية، والثقة بالنفس، فتتسلل هذه المشاعر إلى من ينتابهم الإحساس بعدم الاستقرار أو عدم الأمان. حينما تبدو علاقاتنا أو وضعنا الاقتصادي أو سعادتنا على شفا الانهيار، ننجذب تلقائياً إلى الشخص الذي يمتلك كل هذه الأشياء، بل ونأمل في الحصول على الأشياء ذاتها، حتى وإن كانت زائفة.
6. الجُبن/ السلبية/ الأمان الزائف/ النجاة
يفضل بعض الناس الوقوف على الحياد ويلوذون بالأمان الظاهري للبقاء في الهامش، ويتركون شخصاً آخر يدير دفة الأمور. ولعل ذلك يعود إلى الخوف من المسؤولية أو الجزاء، وربما تنجح هذه السلبية في حالة الاختباء من جذب الانتباه أو الصراع، لكنها في الوقت ذاته طريقة خطيرة تمكن الطغاة من الارتقاء والصعود دون رادع. هذا المسلك يسمح للفرد بالبقاء في طور الطفل، وتجنب التعامل مع مشاكله الشخصية، وترك شخص آخر يتولاها. إنه شكل من أشكال المراوغة والتملص الذي يمنح المستبد المزيد من القوة والسلطة، حيث لا يوجد شخص قادر على مجابهته أو إيقاف انتهاكه.
7. الانحياز لصفوف الجماهير
ثمة جاذبية كبيرة في الانحياز إلى صفوف الآخرين، ممن يتبعون أوامر الجماعة المسؤولة. ويلعب تأثير الأقران دوراً كبيراً خلال سنوات المدرسة، فيحاول الطفل تجنب أن يكون "المختلف" أو "غريب الأطوار" الذي لا يبدو لطيفاً أو واثقاً من نفسه. وبشكل ما، لا يتغير هذا النمط الاجتماعي، حتى في مجتمع البالغين، رغم تنوع نطاق الثقة المقبولة وطرائق تحقيق الذات، غير أن بعض المهن أو المسارات الاجتماعية تظل مقصورة على فئة معينة، والأشخاص الذين يوفقون بينها وبين "المعايير" السائدة يحققون المزيد من السلطة والأتباع. ويفضل هؤلاء الأتباع البقاء في كنف القائد الناجح والعيش تحت مظلة القبول الجماعي، حتى عندما تنقلب أهواء القائد إلى أهواء ضارة مؤذية أو يعتمد على قمع الآخرين.
8. الافتقار إلى التفكير النقدي/ المنطق/ التعليم
من السهل على الطغاة استغلالنا، ولاسيما حينما لا تعترينا الشكوك في دوافعهم أو لا ننظر إلى كلامهم بعين ناقدة متفحصة، غير أن العديد من الناس لا يجدون غضاضة في التكيف مع الحالة الراهنة، فلا يطّلعون على القضايا المهمة أو يتحققون من العناصر التي تبدو غير منطقية. كما لا تساورهم الشكوك أو يشعرون بالقلق إزاء تركز السلطة في يد شخص واحد، والنتائج المترتبة على ذلك. أو العكس، فربما يتصفون بالدوغمائية والإفراط في التعميم، ما يؤدي إلى إلقاء اللوم على الآخرين والتحيز الذي يمكن للمستبد استغلاله بسهولة.
بشكل عام، هناك اتجاهات بشرية مفهومة، مثل نقاط الضعف، أو مشاعر عدم الأمان، أو الطموح، تجذبنا إلى جرأة الطغاة وجسارتهم، لكنها تعرضنا في الوقت ذاته لقسوتهم ووحشيتهم ولامبالاتهم واستغلالهم. إننا بحاجة إلى الإبقاء على شك صحي نحو كل شخص يتصرف بشكل رائع لا يُصدق، لا تداخله الريبة والشك فيما يفعل؛ لأننا، في نهاية المطاف، لسنا مبرئين من الهفوات والعيوب، ومن الطبيعي أن نرتكب بعض الأخطاء، ويعترينا بعض الاضطراب في خضم كفاحنا في الحياة. إن الثقة المفرطة شَرَكٌ فاتن، لكنها في النهاية تظل وسيلة خطيرة تكشف لنا أن الناس يتبعون الطغاة أحياناً بمحض إرادتهم.
[1]- Why Do People Follow Tyrants? History repeats itself because of human nature. Posted February 2, 2017 | Reviewed by Abigail Fagan https: //www.psychologytoday.com/us/blog/culture-shrink/201702/why-do-people-follow-tyrants