شهرزاد معلمة الرجال: عن المرأة الأندلسية وفاعليتها الثقافية
فئة : مقالات
شهرزاد معلمة الرجال:
عن المرأة الأندلسية وفاعليتها الثقافية[1]
في الوقت الذي كان أبو حامد الغزالي (505هـ) يؤكد في مشرق العالم الإسلامي على ضرورة أن يعلم الرجل علم الحيض وأحكامه، ويقوم بتعليمه زوجته، كي لا تخرج كل مرة إلى العلماء للسؤال عن أحكامه، إن قصر علم زوجها عنه([2])، كان أبو الوليد بن رشد في مغرب العالم الإسلامي لا يجد حرجا وغضاضة في مخالفة أساتذته الإغريق ـ الذين لطالما بالغ في تقديس آرائهم ـ عند تطرقه لموضوع المرأة، التي أكد أرسطو في غير ما موضع عدم قدرتها على ممارسة الفضائل الأخلاقية المختلفة على نحو ما يفعل الرجل، وعدم مقدرتها على شغل أي منصب تسوس فيه المدينة، حتى بما في ذلك قيادة المنزل، إذا إن مهمتها تقتصر فقط على الإنجاب([3]).
لم يجد أبو الوليد بن رشد بداً من أن ينكر أي فروق طبيعية قد تكون بين الرجل والمرأة، إذ يساويها مع الرجل في الكفاءات الذهنية والعلمية؛ فالرجال والنساء نوع واحد من جهة الغاية الإنسانية، فإن كان الرجل أكثر كدّاً في بعض الأعمال، فلا ينفي ذلك أن المرأة أكثر حذقا منه في بعض الأعمال الأخرى، كما في الأعمال الموسيقية، التي تبلغ ألحانها الكمال إن أنشأها الرجل وعملتها النساء([4])، ويذهب في أمر مساواتها حدّاً بعيداً، حينما يرى أن وصولهن إلى رئاسة الدولة هو من الأمور الطبيعية الممكنة جدا، وأن الذي أبطل أفعالهن هو فقط ما جرت به العادة من اتخاد بعض المدن لهن وسائل للإنجاب والرضاعة والتربية وللقيام بأزواجهن، لما رسخ عند البعض من كونهن غير مهيئات للقيام بمهمات الأفعال على نحو من الفضائل الإنسانية.
إن موقف ابن رشد من المرأة تدخل فيه وبشكل ميكانيكي الجو الأندلسي – المغربي المميز لموقع المرأة، والذي تبوأت فيه المرأة الأندلسية مكاناً سامياً في حياة الرجل الاجتماعية والسياسية، لما أتيح لها من فرص في ميدان التعلم والتثقيف، الشيء الذي مكنها من النفوذ إلى المناصب المرموقة إلى حد صارت بعضهن الحاكمات الفعليات للإمارة الإسلامية، ففي العصر المرابطي، اشتهرت زينب النفزاوية التي يقول عنها الناصري وعن علاقتها بيوسف بن تاشفين "وكانت عنوان سعده، والقائمة بملكه، والمدبرة لأمره، والفاتحة عليه بحسن سياستها لأكثر بلاد المغرب"، وعنها يقول ابن الأثير في الكامل: "كانت من أحسن النساء ولها الحكم في بلاد زوجها ابن تاشفين"، حتى كان من أبرز ما عابته الحركة الموحدية على المرابطين هو سطوة النساء وخروجهن السافر إلى الشارع العام، ومداخلتهن في سياسة البلاد.
إن دور المرأة الأندلسية تجاوز ما أنيط بها من أدوار جرت بها العادة وقعدت لتقاليدها، لتكون محط أدوار فوق العادة، في تجارب مكررة ومتعددة تنفي وجود الحالات القليلة الشاذة التي تحاط بسياج قاعدة الاستثناء أو الشاذ الذي لا حكم له، من حيث فاعليتها في ساحة الفعل الثقافي في مجالها، من أداء دور لا التلقي فقط، ودور المتعلم، بل أدائها لدور المعلم والملقن، لتتحقق على يديها المشيخة العلمية أمام شيوخ المعرفة والعلم فيما بعد، فابن عربي الحاتمي بدأ تكوينه الصوفي في الطريق إلى الله تحت إشراف مجموعة من النساء الصالحات اللائي عدهن في فتوحاته المكية وفي رسائله المختلسة هنا وهناك، كشمس أم الفقراء التي يقول عنها: "اختلفت إليها مرارا ما لقيت في الرجال مثلها في الحمل على نفسها (...) اختبرتها مرارا في باب الكشف فوجدتها متمكنة، الغالب عليها الخوف والرضى، وتحصيل هذين المقامين في وقت واحد عندنا عجيب يكاد لا يتصور"([5]).
كما كان تتلمذه على فاطمة بنت ابن المثنى التي يقول عنها بأنها: "كانت رحمة للعالمين"([6])، وصحبها سنتين متتاليتين، مريدا وخادما، وعاش معها كما يحكي عيشة طاهرة في كوخ من القصب بناه هو بنفسه في أرباض إشبيلية، فما يزال يخدمها بنفسه، وبنى لها بيتا من قصب بيده على قدر قامتها، فما زالت فيه حتى درجت، وكانت تقول له: "أنا أمك الإلهية، ونور أمك الترابية". وإذا جاءت والدته إلى زيارتها تقول لها: "يا نور! هذا ولدي، وهو أبوك، فبريه ولا تعقيه"([7]).
أما ابن حزم الفقيه الظاهري وهو خريج آخر لمدرسة النساء باعترافه حين يقول: "وهن علمنني القرآن، وروينني الكثير من الأشعار ودربنني في الخط"([8]) يؤكد بقوله هذا أن البيت الأندلسي كان مكان درس وتعلم، يكرر دور شهرزاد الحكائي المبدع الذي غير حياة شهريار وعوائده السيئة، ففقيه الأندلس ابن حزم الذي ترعرع ونشأ في قصر والده الوزير الذي أوكل أمر تربيته لحريم القصر، فكانت النساء أستاذاته اللطيفات ومربياته الخجلاوات ومجالساته كثيرات الأخبار والحكايا([9])، فتعلم الكتابة وحفظ القرآن والحديث ورواية الشعر على أيديهن، الشيء الذي ولَّد عنده شعورا كالذي وجدناه عند ابن رشد عن أهمية أدائها لدورها التربوي الاجتماعي الذي يجب الإقرار به.
يؤكد الظاهري ابن حزم بدوره وفي طرح فقهي يمثل في غرابته بالمقارنة مع السياقات الفقهية الأخرى، أقصى أنواع المساواة والإنصاف للمرأة في باب حقوق الزوجين بذهابه إلى كون المرأة لا يلزمها "أن تخدم زوجها في شيء أصلا، لا في عجين، ولا طبخ، ولا فراش، ولا كنس، ولا غزل، ولا نسج، ولا غير ذلك أصلا (...) وعلى الزوج أن يأتيها بكسوتها مخيطة تامة، وبالطعام مطبوخا تاما"، ويرى أن المرأة ليس المنزل هو قَدَرُها ما دام يرى جواز "أن تلي (...) الحكم، والقضاء أيضا"([10])، بعد أن تشددت سائر المذاهب في منعها عنه، في الوقت الذي كان أبو حامد الغزالي يرى في الإحياء "أن الزواج نوع من الرق فهي (أي الزوجة) رقيقة له (أي للزوج)، وبما أنه نوع من الرق، فطاعة الزوج عليها مطلقة في كل ما طلب منها في نفسها مما لا معصية فيه"([11]).
واشتهرت إلى جانب هذا، نساء كثيرات ممن كان يتتلمذ عليهن طلبة العلم لما نلنه من تعليم وتكوين عميقين في مختلف العلوم، ففاطمة بنت أبي القاسم عبد الرحمن تلت على أبيها القرآن بحرف نافع، واستظهرت عليه "تنبيه" مكي، و"شهاب" القطاعي، و"مختصر" الطليطلي، وقابلت معه صحيح مسلم، والسير و"تهذيب ابن هشام" و"كامل المبرد"، و"أمالي القالي" قرأته على أبو محمد عبد الله الأندرشي، الزاهد وحَدَّث عنها ابنها أبو القاسم بن الطليسان، وتلا عليها القرآن بالقراءة والرسم، وقرأ عليها مما عرضت على أبيها من الكتب، وسمع عنها الكثير، وأجازت له بخطها، كما يروي ابن عبد الملك؛ لتلعب المرأة الأندلسية في تنمية الحركة الثقافية دورا مهما. لهذا غالبا ما يأتي أصحاب التراجم والطبقات الأندلسية على ذكر عالمات بالفقه، وبمختلف العلوم، فيذكر لسان الدين بن الخطيب في "الإحاطة" مثلا أن زوجة أحد قضاة غرناطة في القرن الثامن الهجري كانت مشهورة بمعرفتها العميقة بالفقه، حتى أنها فاقت زوجها في معرفة الأحكام([12])، وأخرى كانت تفهم الطب وتقوم بتطبيب النساء([13])، فالنساء الأندلسيات الحرائر منهن والإماء كن يعتبرن أن التعلم لازم من لوازم الحياة البيتية، لذا فكان من الضرورة تَعَلُمُهن للشعر والموسيقى، ولطائف الفن الإيروسي، وفنون الباه، والفقهيات، ونوادر الأخبار والحكايا، وذلك لأجل السيطرة على قلب رب منزلها مادام العشق في حقيقته هو "داء يصيب الروح ويشتمل على الجسم بالمجاورة"([14])، وذلك في أبهى صور إغراء العقل.
إن تدخل المرأة وأداءها لأدوار مهمة في نشر الثقافة والمعرفة إلى جانب عملها السياسي والاجتماعي، هو الذي جعل أصحاب التراجم والطبقات في الغرب الإسلامي بالتأكيد يُفردون لها أجزاء خاصة للحديث عن أخبار النساء ومشاهيرهن، فالحميدي عَقَدَ في آخر "جذوة المقتبس" باباً للنساء وأخبارهن، وصاحب "كتاب الصلة" أيضا خصص القسم الأخير لهم، وقبلهم كان صاحب أول موسوعة أندلسية الموسومة بـ "العقد الفريد" لابن عبد ربه الذي كرس الجزء الحادي والعشرين من كتابه للنساء فقط، وكذلك الأمر عند ابن عبد البر القرطبي كرس فصولا من كتابه "بهجة المجالس" لأخبار النساء وسِيرهن.
[1]- نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، العدد 16، 2015
[2]- الغزالي، الإحياء، دار الريان للتراث، القاهرة، 1978، ج2، ص 54
[3]- إمام عبد الفتاح إمام، الفيلسوف والمرأة، أرسطو والمرأة، مكتبة مدبولي، ط1، 1996، ص 8
[4]- أبو الوليد بن رشد، الضروري في السياسة (مختصر كتاب السياسة لأفلاطون)، ترجمة أحمد شحلان، مركز دراسات الوحدة العربية، 1998، ص 124
[5]- Ibn Arabi De murcia, Risalah AL-quds, Editicion de Miguel Asin palacios, Madrid, Grauada, 1939, p. 64
[6]- ibid, p. 65
[7]- أسين بلاثيوس، ابن عربي حياته ومذهبه، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مكتبة الانجلو المصرية، 1965، ص 68
[8]- ابن حزم، طوق الحمامة، نشر الطاهر أحمد مكي، ط2، القاهرة
[9]- ابن حزم، طوق الحمامة، نشر الطاهر أحمد مكي، ط2، القاهرة، 1977، ص 79
[10]- ابن حزم، المحلي، دار الآفاق الجديدة، ج9، ص 492
[11]- الغزالي، الإحياء، ص 64
[12]- لسان الدين ابن الخطيب، الإحاطة، ج1، ص 439
[13]- المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج4، ص 294
[14]- الجاحظ، كتاب القيان، الرسائل، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1964، ج 2، ص 13