"صوت الإمام: الخطاب الديني من السياق إلى التلقّي" لأحمد زايد
فئة : قراءات في كتب
في كتاب أحمد زايد[1] الجديد (صوت الإمام ...الخطاب الدينى من السياق إلى التلقي)[2] - وفى ثمانية فصول - يعالج أحمد زايد باقتدار شديد قضية تجديد الخطاب الديني من منظور سوسيولوجي، وذلك في كتابه السالف موظفا كلّ منتجات العلوم الإنسانية من مفاهيم ومناهج لمعالجة قضيّته.
ففى الفصل الأول (حول السؤال ... والمنهج)، يقدّم زايد مجموعة من التساؤلات يحاول أن يجيب عنها، وهي: كيف يتشكّل السياق المنتج للخطاب الديني؟ ما دور التعليم الديني في اتساع المنصّات الخطابية، وفى توسيع نفوذ الحقل الدينى في الحياة؟ وكيف تتشكّل النخب الدينية، ومادورها التاريخي في صناعة الإطار الديني الأكثرسيطرة وهيمنة؟ ولماذا يرتبط الخطاب الديني بالآخرة أكثر من ارتباطه بالدنيا؟ وكيف يتم تلقّي الخطاب الديني من قبل الجمهور؟ هل المتلقي الديني يخضع للنصوص على نحو سلبي أم يستقبلها فاهماً وناقدا وقبولا؟ (ص16-17) أسئلة كثيرة وعميقة حاول الكتاب أن يجيب عنها؟
في البداية، يرى أحمد زايد أنّ الخطاب الديني لاينفصل عن سياق تخلّقه، ولكن ليس معنى ذلك أنّ السياق ينتج الخطاب ميكانيكيا، كما أنّ الخطاب لاينفصل عن الذات التي أنتجته، ولا الذات التي تنقله، ولا الذات التي تتلقاه، ولذا فالخطاب الديني متعدّد ومعقّد عبر الزمن، فالخطاب الديني هو جزء من نظام الهيمنة والضبط والرقابة، ولذلك فهو قد لاينشغل بقضية التنمية والتقدم قدر إنشغاله بتثبيت الوضع القائم. (ص22-25). ويبني زايد استراتيجية منهجية لكتابه تعتمد على دراسة بعد تكوين التعليم الديني في مصر، ويسعى إلى تحليل الخطب المنبرية وخطب المساجد، وتحليل القيم الحاكمة في هذا الخطاب، وفيما يخص عملية تلقّي الخطاب: فهو يسعى إلى التعرف على "الهابتوس" (Habitus) الديني عند المتلقّين (ص26-30).
وفي الفصل الثانى (الدين والمجتمع: حلول المقدّس في العالم)، قام زايد في كتابه بما يعجز عنه المتخصّصون في علوم الدين، حين وظّف نظريات العلم الإنساني في معالجة قضية تجديد الخطاب الديني، فعالج مشكلة علاقة الدين بالمجتمع، وكيف يحلّ المقدس في العالم، وما هو الدور المنوط به للدين في مسار حركة الاجتماعي، وكيف أنّ الدين يمنح الحياة معنى لممارسيه، وأنّ الحياة يجب أن تعاش من أجل هدف، ومدى أهمية دور الدين في تحقيق الوحدة بين البشر، وعلى الرغم من تراجع دور الدين في الحياة الحديثة في العالم الغربى، فإنّ زايد قد عرض لدور الدين في تطور الرأسمالية، وبزوغ العالم الحديث، ودور البروتساتنتية في ذلك، مستعينا بآراء ماكس فيبر.
يتساءل أحمد زايد: ماذا يحدث عندما يحلّ المقدس في العالم ليحكم سلوك الأفراد وتوجّهاتهم؟ وما الدور الذي يلعبه المقدّس في حياة الناس؟ يرى زايد أنّ الدين يلعب دورا مهمّا في الحياة الاجتماعية، وهو يعد المصدر الرئيس للقيم التي توجّه السلوك، كما أنّ المعتقد الديني يعمل على خلق صلة طبيعية بين الإنسان وبين عالم الدنيا من ناحية وعالم الطبيعة من ناحية أخرى، ومن هنا فالدين يمنح الحياة معنى لدى ممارسيه، ويجعل البشر على يقين أنّ ثمة هدفا في ماوراء هذه الحياة، وأن الحياة يجب أن تعاش لأجل هذا الهدف، ومن ثمّ فالدين لا يعدّ فقط مصدرا للقيم، بل هو وجود، فمنه يستمد الناس هويّتهم وتبريرهم لوجودهم، ولهدف هذا الوجود(ص35).
لذا، يرى دعاة النظرة الوظيفية أنّ الدين هو مصدر التضامن الاجتماعي، وهو المعبّر عن هويّة الأفراد في المجتمع، وهو الذي يقدّم المعايير التي تحكم سلوك الأفراد، ويرى دوركهايم أنّ دور الدين في المجتمع يقوم على التضامن العضوي، ليصبح مكوّناَ من مكوّنات الضمير الفردي والجمعي ينصاع إليه الأفراد بإرادتهم الخاصة (ص37-38) ومع ذلك، لم يعد الدين في المجتمع الحديث هو المؤسسة الوحيدة المحقّقة للترابط والوحدة، بل أصبح مؤسسة مثل كلّ المؤسسات.
ويرى زايد أنّ بزوغ المجتمع العلمانى الحديث أدى إلى انتصار العقل والعلم، ونزّل الدين إلى المرتبة الشخصية، ويمحو دوره من الحياة العامة للمجتمعات؛ فالدين في المجتمعات الحديثة لا شأن له بما هو عام، وله أن يلعب دوره على النطاق الفردي، وعبر الوعي الذاتي للأفراد، ومدى فهمهم للدين ووعيهم بدوره كمصدر أساسي للقيم الحياتية، وتحقيق الاستقرار لهم في الحياة الشخصية (ص40).
ويرى زايد أنّ هناك اتجاهات ترى أنّ الدين معيق للتنمية، وأنّ أنماط التدين تؤثّر سلبا على عملية التنمية، ولكنه بالمقابل يرى أنّ ثمة اتجاها آخر يرى أنّ المعتقدات الدينية هي التي تحرّك الناس إلى العمل، وأنّ التعاليم الروحية لا تنفصل عن الدفع الإيجابي بالعمل المادي (ص44-45).
وقد رأى هابرماس أنّ العقلانية والتكنولوجيا والنزعة العلمية كانت لها تأثيرات سلبية على المعتقدات الدينية وعلى الممارسات التقليدية، ولكن الدولة لاتستطيع أن تحقّق شرعيتها بعيدا عن الرابطة العقدية، والأخلاقية، والدينية السابقة على وجود الدولة، وبذلك تصبح الدولة في حاجة للدين قدر حاجتها إلى العلمانية، ولذا يعيد هابرماس للدين وجوده في المجال العام (ص47-49).
وفى الفصل الثالث (التعليم الدينى: بناء المنصّات الدينية)، يسعى زايد إلى بيان كيف يبني التعليم الديني المنصّات الخطابية؛ فالتعليم الدينى يسعى كوعاء لتكوين ناقلي الخطاب الديني وحُماته، وذلك من خال تخريج أعداد متزايدة من النخب الدينية والدعاة الذين يطلق عليهم رجال دين، كما أنه يسعى إلى توجيه التعليم الديني إلى وجهة تتّفق والإطار الديني المسيطر في فهم النصوص الدينية، وأنماط التديّن السائد (ص62).
ويرى زايد أنّ ماليزيا نجحت في ربط التعليم الديني بأهداف التنمية، حيث إنّ التجربة الماليزية قدّمت نموذجاً يقوم على التوفيق بين القيم الرأسمالية والتوجّهات الدينية، وبالمقابل فقد سعت تونس إلى تقييد التعليم الديني، واتجهت باكستان إلى التوسّع في التعليم الديني، وليس معنى ذلك وجود علاقة بين الإرهاب وانتشار التعليم الديني هناك. وفى مصر رأى زايد أنّ التعليم الديني لا يتجاوز 12% في مرحلة ما قبل الجامعة، على الرغم من التوسع في التعليم الديني، وأنّ جامعة الأزهر بها تسعة وخمسون كلية معظمها مُرَكَّز في القاهرة، ومعظم الكليات كليات شرعية ودينية، ويلاحظ زايد كثافة إقبال الإناث على التعليم الأزهري، ويرى زايد أنّ هناك منصّات خطابية أخرى تسهم في التعليم الدينى في المنازل، ووسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي (ص70-80).
وفى الفصل الرابع (النخب الدينية: تشكيل الإطار المهيمن وبناء الهوية الدينية) يرى زايد أنّ الدولة الوطنية الحديثة في الوطن العربى لم تنفكّ عن الماضي، ولم تبتعد عن الدين، بل ظلّت تستخدمه في طلب الشرعية والحفاظ عليها، ولذا فقد أصبحت المؤسسة الدينية جزء لايتجزأ من تكوين هذه الدولة (ص82) وعلى الرغم من دخول المجتمعات العربية في أتون الحداثة بقوة إلاّ أنّ هذا لم ينزع عنها هويتها الدينية كما لم يبعد الدين عن دائرة التفاعل في المجال العام، بل والمشاركة الفعلية في إطار الحكم وتسيير أمور المجتمع (ص ص 82-83)
ويرى زايد بأنّه ظهرت في المجتمع العربى عبر تاريخه شريحة اجتماعية متميزة أُطلق عليها اسم رجال الدين، ظلّت هذه الشريحة تلعب دورا مهما في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية (...) كما أنّ هذه النخب المسيطرة داخل الفضاء أو الحقل الديني هي التي تصنع السياق الذي يتشكّل فيه الخطاب الديني بمساراته المختلفة، وهي التي يعمل على إعادة انتاج الخطاب المسيطر داخله، وعلى استبعاد الخطابات الأخرى وتهمشيها (ص83).
يبرز زايد في هذا الفصل أهم سمات النخب الدينية القائمة على الخطاب الديني في أنها تتسم بالتعدّد، وأنها توظّف ثقافة الاستهلاك، مثل توظيف القنوات والأشرطة ووسائل التواصل الاجتماعي، وتوظيف كلّ الأوعية الاتصالية، كما اندمجت النخب الدينية داخل ثقافة الاستهلاك فتحولوا إلى نجوم إعلامية، وصارت النخب الدينية هي الأكثر سيطرة على عملية الإنتاج الثقافى فخطابها هو الأكثر تأثيرا، وهذه النخب هي جزء من الطبقة الوسطى، وأصبح هؤلاء الدعاة جزءا من الرأسمال الثقافي والرمزي لهذه الطبقة(ص90).
وقد سعت تلك النخب إلى بناء حقل ديني لنفسها هو الحقل المهيمن الذي تدور في فلكه كافة الحقول، ولايمكن تجاهله، حيث يصير الحقل الديني حقل ضبط ومراقبة وتحكّم، وهنا لعب رجال الدين دورا بارزا في تبرير السلطة السياسية والدفاع عنها.
ولايميل الإطار الديني المسيطر أن يكون أكثر تنوّعا، وأكثر تكيّفا مع مستجدات العصر، وأكثر قبولا للآخر، بل يميل أن يكون أكثر تشددا وأكثر ميلا إلى الاستبعاد، ويوسّع دائرة التحريم والفتوى، وذلك من أجل توسيع دائرة التحكّم والسيطرة. وقد صارت الفتوى هي أداة المراقبة، والتى يستعين بها الحقل الديني في تسييج ذاته، واكتساب حصانة عبر الزمن. ولكن فوضى الفتوى قد أدّت إلى حالة من الشلل الاجتماعى، أو حالة من التوقّف وعدم القدرة على المبادأة، وخوف من الفعل (ص95-100).
ويرى زايد أنّ الدين يلعب دورا محوريا في تشكيل الهوية من خلال حضور الدين في الحياة العامة، والخاصة، فلم تنزع التغيرات الحديثة الدين من الحياة، ولم ترفعه من المجال العام وتنزله إلى المجال الشخصي، بل ظلّ حاضرا في كل المستويات في الحياة السياسية، وفى الخطب السياسي، ولم يبعد الدين حتّى عن المشاركة في الحكم، وفى تسيير أمور المجتمع، ولذلك أصبح الدين أحد المقوّمات الأساسية في تشكيل هوية المجتمع أو الجماعة..وثمة أمور ترتبط بهوية الدولة الإسلامية لايمكن تمريرها من دون كلمة المؤسسة الدينية مثل فوائد البنوك، ونقل الأعضاء، وزراعة الأجنة، والاستنساخ وغيرها من المستجدات (ص115).
وعمد زايد في الفصل الخامس المعنون بـــــ(موضوعات الخطاب الديني بين العيش على النصّ والانعكاسات الماضوية) إلى تحليل الخطاب الديني، فرأى زايد أنّ الخطاب الديني السائد له توجّه أخروي وماضوي، ويرى زايد أنّ نسبة 77% من الخطب الدينية لها توجّه أخروي، حيث تنصبّ على قضايا العلاقة مع الله، والدار الآخرة، والعبادات الأحكام والفتاوى، والقرآن والنبى وصفاته، ، في حين أنّ التوجه الدنيوي لتلك الخطب لايتجاوز 23%، حيث تشمل موضوعات دينية وسياسية واجتماعية، مثل الحقوق 23%، والعلاقة بالنفس والآخرين، والقيم والمثل العليا 47%، وقضايا علمية عامة، والاتجاه نحو المستقبل هو الاتجاه الغائب في الخطاب الديني، لأنّ تخلّف الحاضر يرجع إلى أنّ الأمة انحرفت في عقيدتها وفي تعبّدها وفي أخلاقها(ص123-125).
ويرى زايد أنّه تُلاحَظ على الخطاب الديني مجموعة من النقاط أهمها النخبوية ومجافاة التلقّي: فيبدو الخطاب كأنه هابط من أعلى بشكل دائم أو من يمتلكه كأنهم نخبة مختارة، ولذلك فإنّ الثقل النخبوي في الخطاب يحوّله إلى أن يكون خطابا صادرا من كهنوت مستحدث في عالم التديّن المعاصر، وأعنى بذلك وجود فئة ممن يطلقون عليهم الدعاة أو رجال الدين ينصّبون أنفسهم سَدَنة للمعرفة بالدين، وخباياه الغامضة التي لا يستطيع أحد أن يفكّ رموزها (ص168-169).
ويسيطر على الخطاب الديني جدل الاستحواذ والاستبعاد، حيث يشير الإمام دائما إلى الثوابت الدينية، وهي القرآن والسنّة، وما طرح حولهما من إجماع الصحابة، وإجماع السلف، وبالمقابل يؤكّد الإمام حُرْمة البدع، ويهيل التراب في وجه المخالفين والضالين، فمن يخرج عن الثوابت فهو خارج عن الملّة، ويتمّ النظر إلى العالم الذي ينتج الخطاب على أنه العالم الأنقى والأقرب للإيمان في مقابل العالم الذى يلقى عليه الخطاب، وهو عالم يميل إلى الابتعاد عن الدين. لذا يميل الخطاب إلى إضفاء طابع القداسة على ذاته، فيكرّس ابتعاده عن الدنيوي الذي أصابه الدنس (ص170).
ويدين زايد الخطاب الديني الحالي بما يكرّسه من تأسيس الخوف، حيث نجد الخطاب الديني يزخر بعبارات الزجر والتحريم من ناحية، والحديث عن عذاب القبر وظلمته من ناحية ثانية، ومحاولة تصوير أحوال العباد على أنّها سيئة، وأنّ البشر عليهم أن يبذلوا جهدا إيمانياً كبيرا، لكي يصلوا إلى حالة من الاطمئنان من ناحية ثالثة، وكل ذلك يعمل أن يصبح الخوف لصيقاً بقلب المؤمن وعقله.
ويرى زايد أنّ الخطاب الدينى يقيم علاقة متوتّرة مع الآخر، حيث يقوم بنقد حال المسلمين، ونقد عقل الغرب وإنجازاته، فحاضر المسلمين يبعث على الأسى والحزن، ويكشف عن نزوع نحو الغفلة والجاهلية، ومن ناحية أخرى فإنّ الآخر المتمثل في الحضارة الغربية لا يعبّر إلاّ عن إنجازات فارغة وأفكار متهافتة وعقل ضالّ (ص ص 173-174).
كما يعبّر الخطاب الديني عن ذات قلقة، فيكشف عن شقاء للوعي الديني مشتقّ بين التاريخ والواقع المعاصر بمافيه الآخر المختلف، تتنازع الوعي هذه المكوّنات الثلاثة (الواقع المتردّي - الآخر المهيمن - التاريخ الضائع) فيصير وعياً شقيّاً باحثاً عن أمن وأمان، وهو ماينتج ذاتا قلقة.
وفى الفصل السادس المعنون بـــ (قيم التنمية في الخطاب الديني: غياب الحياة الدنيا ونضالاتها) يتساءل زايد هل يبثّ الخطاب الدينى رسائل تحث الأفراد والجماعات على تحقيق نهوض اجتماعي واقتصادي؟ وهل ثمّة قصدية في الخطاب نحو توجيه المستمعين إلى بناء أنفسهم كأفراد، وبناء مجتمعهم كوطن؟ وهي قيم العمل والقيم السياسية كالعدالة والحريّة والانتماء والمشاركة والمواطنة، وقيم اجتماعية كقيم الاحترام وحسن التعامل ويليها التكامل، والحب والصداقة والتسامح، ثم القيم الشخصية مثل محاسبة النفس، وحسن الخُلُق، والتفاؤل والأمل، والصدق والأمانة. (ص180-190)
ويصل زايد من خلال تحليله للقيم السابقة إلى أنّ الحديث عن قيم التقدم والتنمية في الخطاب الديني هو حديث قليل ولا نقول ضعيفا، وهو يختلط بالخطاب الديني الخالص، ومن ثمّ، فإن عملية اشتقاق القيم من الخطاب الديني هي عملية صعبة، وتأتي مرتبطة بالنزعة الدينية والأخروية والماضوية، لأنّ الخطاب لا يشكّل الحاضر فيه أهمية كبيرة إلاّ بقدر علاقته بالماضي (ص225).
كما يفتقد الخطاب الديني إلى قصدية في تناول أمور الدنيا، فالتناول يأتي على نحو غير مباشر، كما أنّ سياق التناول ووجهته يرمي إلى تأكيد الإيمان، والتمييز بين الحلال والحرام، والاقتداء بالكتاب والسنّة، والاقتداء بالسلف الصالح، كما يميل الخطاب الديني إلى عدم الاهتمام بالقضايا الكبرى، ويهتم بالقضايا الصغرى، فالحديث عن الظلم وفقدان العدل لاينصرف إلى نقد النظم الفاسدة أو نقد سلوكيات كبرى غير عادلة من اتخاذ الواسطة والمحسوبية في تحقيق الهدف، ونجد الإمام يتحدّث عن أمور بسيطة مثل الإيذاء الذى يتعرّض له الناس من تدخين السجائر أو عوادم السيارات، والحسد والحقد والكراهية(ص226).
يختص الخطاب في رسالته بمجتمع المسلمين، ولا ينتبه إلى أنّ هذا المجتمع يضمّ من يدينون بدين آخر، كما يسعى الخطاب إلى تجسيد مفهوم الأخوّة كأنه عقيدة راسخة تستمرّ عبر التاريخ، ويبرز الخطاب أنّ العالم لا يحتاج إلى قيم جديدة فقط، ولكنّه يحتاج إلى أن يهدم العالم رأسا على عقبا لأنه عالم للرذيلة، ويتربع الشر بين جنباته كما أنّ الخطاب الديني كان انتقائيا، فركّز عن مجموعة من القيم وتجاهل تماما الحديث عن قيم أخرى، مثل المواطنة وغيرها من القيمة الرئيسة.
في الفصل السابع المعنون (تلقّي الخطاب الديني: انصهار الآفاق الخطابية) يتناول زايد في كتابه آفاق تلقي الخطاب الديني، لأنّ التلقي هو حصيلة للتفاعل بين العمل أو النصّ، وبين فعل الفهم أو الاستيعاب، فالمعنى كامن في النص وفعل الفهم القادم من اتجاه المتلقي هو الذى يشكّل المعنى، وتقوم عملية التلقّي على التفاعل بين النص والمتلقي، حيث يحاول المتلقّي أن يكشف ما فيه من معانٍ ودلالات، ولذا يرى زايد أنّ الخطاب الديني يدخل أثناء نزوله إلى المتلقين في عملية تأويلية متعددة الأبعاد لا تسير في خط واحد بين أفق إنتاج الخطاب ومتلقيه، ولكنها تسير في خطوط مختلفة تتباين بتباين العديد من العوامل التى يتم فيها تلقّي الخطاب(ص231-232).
والخطاب الديني ليس كلّه شفاهيا لأنّ هناك نصوصا موجودة في شكل كتب ومقالات وهناك عِظات وخطب دينية تلقى عبر شاشات التلفزيون، وقد أكدت دراسة حديثة أولوية التلفاز على المسجد في تلقي الخطب. يمثّل التلفاز نسبة 35 %مقابل المسجد 26% وجاءت مواقع التواصل الاجتماعي بنسبة 7%. ومن أيّة جهة صدر الخطاب الديني، فإنه يُبَثّ من سلطة عليا تؤكّد على أنّها الأعرف والأكثر قدرة على الفهم، كل ذلك يخلق علاقة يبدو فيها المتلقي وكأنه مسيطَر عليه وكل ما عليه فعله أن يستمع ويعمل بما يسمع، ولكنّ المتلقّي ليس بهذه البساطة لأنّ الصمت الذي يصاحب عملية التلقي المباشر ما يلبث أن يتحوّل إلى موقف واضح يعبّر فيه الناس عن رأيهم فيما استمعوا إليه نقدا وشجبا وإعجابا وتأويلا. ولذلك، فالمتلقّون يختلفون حول قبول الخطاب الديني عند المتلقّين، كما أنّ الخطاب الذى ينزل من أعلى متّسقاً وهادفاً إلى تحقيق قصدية معيّنة يتفرّق عند المتلقين إلى معانٍ مختلفة وصور ذهنية مختلفة. حيث نجد أنّ هناك نزوعا نقديّا لدى الشباب في تلقي الخطاب الديني ويميلون إلى الدعاة الجدد، في حين أنّ الكبار لا يميلون إلى الدعاة الجدد ولكن إلى كبار الدعاة القدماء كالشيخ كشك والشعراوي وعطية صقر، كما يميل الكبار إلى إكمال معرفتهم الدينية من مصادر أخرى غير الوعظ الذي يستمعون إليه من خلال الكتب والصحف (230-240).
وفي الفصل الآخير المعنون (نحو سياسة لدمج الخطاب الديني في قضايا التنمية) يشخّص زايد الحالة الراهنة للخطاب الديني والآفاق المستقبلية له، فيرى زايد أنّ محنة الخطاب الديني أنّه يتشكّل في إطار سياق خاصّ يتداخل فيه الديني بالسياسي، بما يوجّه الديني لخدمة مصالح السياسي، وهذا يشي باستقلالية الديني عن السياسي والثقافي، كما أنّ الخطاب الديني يتشكّل في فلك إطار فهم معيّن للدين، وهو الفهم المرتبط بالمنحنى السنّي التقليدي، ويبدو هذا الإطار هوالإطار المسيطر والمستمرّ عبر الزمن، ويعمل على استبعاد أيّ أطر أخرى(ص259-260).
على الرغم من نفي البعض بأنّه لا كهنوت في الإسلام، فإنّ زايد يرى أنّ إنتاج الخطاب يتمّ من خلال نخبة دعوية تحافظ على هيبتها بالاستمداد بأنّ الدعوة لها ولرجالها، والتمكّن من اللغة والحفظ، وتجهيل المتلقّي، كما يعمل الخطاب الديني على نوع من الترفّع والوصاية من جانب النخب الدينية، وهي تتربّع على عرشها، وهو ما يكسبها سلطة وقدسيّة، وبهذه الطريقة تتحوّل عملية حراسة الإطار المسيطر إلى صناعة نوع من الكهنوت الديني، كما يعمل التعليم الديني على دعم الإطار السائد وعلى تمدّده أفقيا عبر المنصّات الخطابية المنتشرة في النوادي والمساجد وأماكن العمل(ص261-262).
ويتمّ إنتاج الخطاب الديني وتداوله عبر أدوات الثقافة الاستهلاكية في استخدام كلّ وسائل التكنولوجيا والتمسرح وصورة الجسد وحركاته، كما أنّ الخطاب الديني ينشغل بالحياة الأخرى بنسبة 77%فى حين أنّ نسبة 23% ينشغل بالأمور الدنيوية، كما أنّ تناول قيم التنمية فيه جاء ضعيفا، ولمّا كان الخطاب يخلو من التوجّه نحو المستقبل في عوالم متجددة، فإنّ النزعة الماضوية للخطاب الديني تجعله يتجه نحو الماضي، لأنه في تصوّره أفضل من الحاضر بكلّ ما فيه. ويرى الخطاب أنّ تخلّف المسلمين نابع من تركهم لدينهم وبعدهم عنه.
ويدعو زايد إلى ضرورة وجود أسس عامة لتجديد الخطاب الديني، وهي تفكيك التاريخ الإسلامي حتى نكشف عن جذور الإطار المسيطر في فهم الدين، وكذلك تفكيك النصوص الخطابية لبيان مدى تحيّزاتها السياسية والاجتماعية، والكشف عن ميلها الأصولي المتطرف، ومن المهم تفكيك وظيفة الدين ونطاق تأثيره في الحياة، أي ضرورة تطوير الخطاب الديني على إطار من الفهم المحدّد لدور الدين في الحياة من حيث علاقته بالدولة، وذلك من خلال تحديد علاقة الدين بمدنية الدولة، وذلك لأنّ طريقة تداول الدين في الحياة العامة وفى الحياة اليومية تدلّ على أنه لا يستقلّ على نحو كامل، وكذلك تحديد علاقة الدين بالمجال العام، وذلك لأنّ علاقة الدين بالمجال الخاص أقرب، ومع ذلك فالدين له حضوره الطاغي في المجال العام، ولذا يدعو زايد إلى أن يكون تدخّل الدين في المجال العام تدخّلا رشيدا عقلانيا لا اختزاليا ولا استبعاديا(ص266).
ويعتقد زايد أنّ الأسس العامة لتجديد الخطاب الديني، لابد أن تنبع من تجديد العقل والثقافة، لأنه إذا كان ثمة ضرورة لدمج الخطاب الديني في قضية التنمية والتقدم، فإنّ قضية التنمية والتقدم نفسها تحتاج إلى تجديد أو تحديث شامل للخطاب الثقافي والقيمي وتجديد العقل والثقافة يكون عبر:
1- المجال التعليمي: في تطوير المناهج بعيدا عن التعصب وضرورة العقلانية.
2- المجال الإعلامي: الحدّ من القنوات التي تحثّ على التطرّف، وعدم استخدام الدين لتحقيق أرباح، وإخراج الدين من عالم الاستهلاك وعالم التجارة.
3- المجال الثقافي العام: ضرورة الاهتمام بالفنون والآداب ونشرها على نطاق واسع، وتنمية الوعي الجمالي (ص270).
ويرى زايد أنّ ثمة سياسات لتجديد الخطاب الديني وأهمها:
1- تطوير المحتوى: تطوير الرسائل الكامنة في الخطاب، حيث يتجه الخطاب إلى دفع عجلة التنمية، وتخليق طاقة للعمل ولاتخاذ قيم العمل والمواطنة والمشاركة السياسية، ونشر خطب منبرية تعالج قضايا الحياة ونشر كتب عن التنمية والتقدّم توزّع في المساجد.
2- تكوين الدعاة: ضرورة تطوير الدعاة لجعلهم أكثر انفتاحا في رؤية دور الدين في الحياة، أي دوره في تحقيق التقدم وبناء الحضارة، وعقد دورات تدريبية لهم.
3- ضرورة توحيد الرؤية، وتحييد المؤثرات الأخرى على المتلقّين، وتحييد ثقافة البطالة، وتحييد تأثير المدرّسين السلبى، ووسائل الإعلام والفضائيات.
4- دور المؤسسات ذات الصلة: تطوير دور وزارة الأوقاف، والأزهر، ودار الإفتاء، والكنيسة في تجديد الخطاب الديني من خلال تأكيد مبدأ حرية المؤمن في اختيار عقيدته، والتأكيد على بشرية رجال الدين وبشرية خطابهم، وتوجيه الفتوى في التعامل مع الأمور المستمدة من روح العصر(ص272).
5- الحدّ من استخدام وسائل الاتصال الحديثة في المساجد عن طريق الاكتفاء بها داخل المساجد، وذلك احتراما للشعائر المقدّسة.
إنّ كتاب زايد "صوت الإمام...." يشكل دستورا مهما في معالجة قضية تجديد الفكر الديني، فليس في المكتبة العربية كتابا في هذا المجال قد عالج بشكل شامل هذه القضية مثل هذا الكتاب، حيث اهتم بكيفية تخلّق الخطاب الديني عبر سياقه المؤسّس، ودور التعليم الديني في تخلّق هذا الخطاب عبر تأسيس الإطار الديني المهيمن الحاكم للكتاب، وعالج كيفية تشكّل النخب الدينية وخطابها، ثم قام المؤلّف بتحليل مضمونيّ لأهم القضايا التى يهتم بها الخطاب الديني: الأخروية منها والدنيوية، ثم الاتجاه نحو طريق تلقي الجمهور لرسائل الخطاب الديني، ومدى تنوعّ فئة المتلقين، ثم انتهى زايد بتشخيص ملامح الأزمة في الخطاب الديني السائد، وكيف يمكن تأسيس لخطاب ديني جديد، وكيف يمكن الحفاظ على هذا الخطاب الجديد.
[1] ـ أحمد عبد الله زايد، أستاذ علم الاجتماع السياسي بكلية الآداب، جامعة القاهرة، وعميد كلية الآداب جامعة القاهرة السابق، حاصل على جائزة الدولة للتفوّق في العلوم الاجتماعية، وجائزة الدولة التقديرية، ومن أهم مؤلفاته 1- البناء السياسي في الريف المصري، 2- الدولة بين نظريتي التحديث والتبعية، 3- تناقضات الحداثة في مصر، 4- خطاب الحياة اليومية في المجتمع المصري، 5- الأسرة العربية في عالم متغير، العنف في الحياة اليومية في المجتمع المصري، وله العديد من الكتب المترجمة عن الإنجليزية.
[2] ـ أحمد زايد، صوت الإمام .....الخطاب الديني من السياق إلى التلقي، دار العين، القاهرة ط1 2017، ويقع الكتاب في (285) صفحة من القطع الكبير، وهو مكوّن من ثمانية فصول.