صوت "التبادل الديني"
فئة : مقالات
ربما ينقصنا الكثير كي نصاب بالصدمة. كل ما حدث من أهوال في السنوات الخمس الماضية لم يهزّ المجتمعات العربية بجماع يديه بشكل كافٍ، لم يُخلخل الوعي ويُحدِث شرخاً في الثقافة كي تنتبه إلى مازقها البنيوي وحاجتها للتجديد والتجاوز والتنظيف. أقول هذا تعليقاً على اشتعال موقع التواصل "تويتر" بجدل كبير بخصوص ما أثارته، قبل أيام، تغريدة لرئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، يشكر فيها قرار دولة الإمارات، التي زارها، منح أرض لبناء معبد هندوسي في أبوظبي. انقسمت وجهات النظر بين من يرى بناء المعبد حقاً طبيعياً لأكبر جالية موجودة في الإمارات (2.5 مليون أي نحو ربع سكان الإمارات)، ومن يراه "انتكاسة دينية"، وفق بعض التغريدات التي كررت القول بأن هذه الخطوة تسهيل لإدخال معابد أديان غير سماوية في جزيرة العرب. وعلى الرغم من أن أكثرية المغردين اعترضت على الخطوة، فإن ثمة من أيّد ما تحمله من تسامح واحترام للآخر وتعزيز لفكرة أنّ "الحرية قاعدة لا استثناء فيها لدين أو فكر؛ فمساجد المسلمين بُنيتْ في الغرب في مثل هذا المناخ الحر". الجدل والحوار مهم، والاختلاف طبيعي، ومن حق الناس أن تقول رأيها، لكنّ هذا لا يمنع، ونحن نقرأ ونقيّم نتائج هذا السجال على صفحات "تويتر" وغيره، من الاستنتاج باستحكام التقليدية في الوعي العام، والزعم بأننا ما زلنا نفتقد إلى الصدمة، التي تولّد أزمة وعي تدفع إلى تجاوز ثقافي تحت إلحاح سؤال التنوير على مرّ العصور: لماذا حلّ بنا هذا؟. أقول ذلك تحت وطأة قراءة تغريدة تقول، مثلاً" بعد 1400 سنة يعود الشِرك إلى أرضنا"!. هذا كلام شعبوي شائع، لم يخرج عالِمُ دينٍ للردّ عليه، ومضمونه منتشرٌ في الخطب والدروس الدينية والمناهج الدراسية، وهو "جواب تقليداني يفتقد العناصر التي تسمح بوعي اللحظة التاريخية التي يعيشها (القائل)"، بلغة عبد الله العروي.
وفي تعليقها على زيارة رئيس الوزراء الهندي قالت صحيفة "هافينغتون بوست" الأميركية، إنّ "تعداد المسلمين في الهند يصل إلى نحو 180 مليون نسمة معظمهم مسالمون، ولكنّ مناطق شمال الهند تشكل مصدر قلق متزايد لرئيس الوزراء الهندي؛ بسبب وجود عدد كبير من المسلمين الميين الذين لا يحظون بتمثيل كاقٍ في المؤسسات الحكومية؛ ما يجعلهم هدفاً للجماعات المتطرفة، ولذا من المهم الوصول إلى هذه المجموعة السكانية؛ لأنّ انفتاح الهند على الثقافة العربية والإسلامية (وهي الإشارة التي أراد أن يوصلها ناريندرا مودي لدى زيارته مسجد الشيخ زايد في العاصمة الإماراتية أبو ظبي)، وانفتاح العرب على الثقافة الهندية ونشر التسامح بين المسلمين والهندوس وغيرهم هي خطوات ضرورية لضمان الاستقرار في المستقبل". الصحيفة ذاتها تبرز أهمية الدبلوماسية والسياسة المنفتحة في نشر التسامح ومحاربة التعصب والانغلاق والتشدد، وهي تقول في هذا السياق إن (صوت "التبادل الديني" قد يكون مزعجاً لبعضهم؛ بسبب تأثير المتشددين والمتطرفين، ولكن إذا كان الغرض منه الترويج للتسامح وليس التمييز، فقد يلعب دوراً كبيرا في نشر نشر التسامح مع الثقافات الأخرى؛ فالاعتراف بالاختلافات خطوة ضرورية لتحقيق التقدم والتنمية. والعمل على شجب واستنكار أفعال المتطرفين والتعصب والكراهية الدينية سيكون له أثر إيجابي في العلاقات بين دول الشرق الأدنى وجنوب آسيا، وردم الفجوات بينها هو المفتاح لمكافحة الإرهاب وتحقيق الازدهار فيها).[1]
الباحث المغربي الدكتور الصغير جنجار في مداخلته في صالون جدل الثقافي التابع لمؤسسة مؤمنون بلا حدود تحت عنوان "هل أخلف المسلمون الموعد مع الأنوار؟" لفت الأنظار إلى التحول العميق في الوعي الأوروبي تجاه الدين والظواهر الدينية بصفة عامة، والذي جاء كرد فعل على الحروب الدينية كحرب الـ30 سنة وحرب الفلاحين التي مزقت أوروبا، والتي دفعت في لحظة من اللحظات إلى تشكيل نوع من أزمة وعي، من بريطانيا وإلى غاية روسيا، حاملة معها تساؤلاً حقيقياً مفادها "لماذا وصلنا لكل ما وصلنا إليه على امتداد كل هذه الصراعات"، وهو ما أنتج معه، وفق جتجار، نوعاً من الإعجاب بأعلام التحديث والمحدثين، في مقابل الإعجاب الذي كان سائداً بالكنيسة والإغريق وغيرهم، وحلت الثقة في العلم وفي إنجازاته، وبرز الشك كقيمة إيجابية منذ ديكارت، ثم تطور ليصبح في عصر الأنوار سمة إيجابية لا تضعف النفس كما كان يقال، ولكن أصبح الشك فضيلة وقيمة منهجية ومعرفية، ونشأ ذوق جديد، فبعد أن كان الناس يقرأون النص الديني أصبحوا متعلقين بالسرديات والحكايات وأخبار الأسفار، ليظهر موقف جديدة من النصوص المقدسة التي نزعت منها القداسة المعهودة لها، فصارت نصوصا تعرض على الدراسة والتحليل كما باقي النصوص.[2]
أزعم أنّ حادثة المعبد الهندوسي تدلّ على أنّ الوعي الغالب بيننا ما زال "وعي الهوية"، وأن ما حدث في بلداننا من تطرف وتشدد وإرهاب وخراب وفوضى لم يدفع، حتى اللحظة، إلى حراك وتنوير مجتمعي يُساءل ويتشكك وينقد ويشيع معرفة جديدة ذات قدرة على التفكيك والنقد الجذري. ينبغي أن ندرس الأسباب ونحلل هذه الظاهرة، هذا مشروع ثقافي لأجيال المستقبل.
المنتقدون لإرساء التسامح الديني لا يعرفون وفق تصريحات وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، أنّ ثمة معبداً هندوسياً في تركيا، مقر الخلافة، وأن في باكستان قائمة من المعابد الهندوسية، وكذلك في إندونيسيا، البلد الإسلامي الأكثر سكاناً، وكذلك في ماليزيا، "أما المعبد الهندوسي في دبي منذ ١٩٠٢ فيخدم، وفق قرقاش، طائفة "البانيان"، وهم تجار الصاغة الذين انتشروا في الخليج منذ أكثر من قرنين".[3]
التقليد والراديكالية ما زالا راسخين؛ إنها عقائدية متعالية على السياسة، بما هي مصالح وفاعلين مختلفين، أيْ هي عقائدية هاجِرة للعالم وممانعة له، وهذا علامة إخفاق للنخب والثقافة والحكومات العربية في إنتاج بدائل شاملة ومقنعة عن تلك العقائدية المتعالية على السياسة والمصالح والذوق والفنون ومنطق العصر، رغم كل الحديث عن إصلاح تعليمي وبرامج للمناصحة وجهود لتعزيز الوسطية والاعتدال.
الباحثون يلفتون النظر إلى أنه بمقدور الالتزام الأخلاقي المشترك أن يوحّد بين الناس من مختلف الخلفيات الثقافية والسياسية والدينية والفلسفية، بما يسهم في تعزيز الجهود المبذولة من أجل تحسين إدارة شؤون المجتمع العالمي من أجل مواجهة التحديات المعاصرة، كما أن بمقدور المشتركات القيمية أن تساعد الناس على إيجاد حلول فعالة وناجعة للعديد من المشكلات التي تهدد الأمن والسلم العالميين، وأن تساعدهم على أن يتصرفوا في ضوء مصالح متبادلة أوسع وأبعد مدى.[4]
[1] Sarah Elzeini, Lack of Relations Was the Greatest Poverty: Modi's Promising Visit to the UAE,huffingtonpost,20/8/2015, link:
http://www.huffingtonpost.com/sarah-elzeini/uae-usa-indalack-of-relat_b_8008528.html
[2] جنجار: تحولات جوهرية أنشأت الأنوار عند الغرب وغفلها المسلمون فتأخروا، ذوات، الرباط، 17 /1/ 2015، على الرابط:
http://www.thewhatnews.net/post-page.php?post_alias=_جنجار__تحولات_جوهرية_أنشأت_الأنوار_عند_الغرب_وغفلها_المسلمون_فتأخروا&category_alias=مكتبة_الفيديو
[3] المعابد في دبي منذ عام 1902 موقع "24"، أبو ظبي، 20/8/2015، على الرابط:
http://24.ae/article/180435/88/دقرقاش-حاقدون-فشلة-وظفوا-معبد-الهندوس-للنيل-من-الإمارات.aspx
[4] محمد الناصري، استراتيجية المشتركات القيمية واستراتيجية دار الإسلام، مجلة التفاهم، عدد 44، ربيع 2014، ص 19