عائشة ابنة أبي بكر الصديق في موسوعة المعارف القرآنيَّة
فئة : ترجمات
عائشة ابنة أبي بكر الصديق
في موسوعة المعارف القرآنيَّة
مقدمة المترجم
نُشرت هذه المقالة في دائرة المعارف القرآنيَّة Encyclopaedia of the Qur'ān، والصادرة عام 2006، من الصفحة 55-60، من المجلد الأول، عن دار بريل.
دائرة المعارف القرآنيَّة هي موسوعةٌ مكونةٌ من خمسة مجلداتٍ وملحقٍ. تحتوي الدائرة على مجموعةٍ من المقالات الأكاديميَّة باللغة الإنجليزيَّة، والتي تهتم بكل المواضيع التي تخص القرآن، بالاعتماد على التراث العلميّ الغنيّ؛ فهي أشبه بقاموسٍ موسوعيٍّ للمصطلحات القرآنيَّة والمفاهيم والشخصيات وأسماء الأماكن، والتأريخ الثقافيّ، والتفسير؛ معروضةٌ بشكلٍ موسعٍ، مع مقالات عن أبرز المحاور والمواضيع في الدراسات القرآنَّية. وهنا أُقدم لكم ترجمة لمقالة عن أم المؤمنين عائشة ابنة أبي بكر الصديق؛ كتبتها دينيس أ. سبيلبرغ Denise A. Spellberg.
دينيس أ. سبيلبرغ، هي باحثةٌ أمريكيَّة في التأريخ الإسلاميّ، وهي أستاذة التأريخ ودراسات الشرق الأوسط في جامعة تكساس University of Texas في أوستن. حصلت سبيلبرغ على درجة البكالوريوس في التأريخ من كلية سميث Smith College (1980) ودرجة الماجستير والدكتوراه (1989) في تأريخ الشرق الأوسط من جامعة كولومبيا Columbia University. سبيلبرغ هي مؤلفة كتاب السياسة والجنس والماضي الإسلاميّ: إرث عائشة ابنة أبي بكر Politics, Gender, and the Islamic Past: The Legacy of 'A'isha Bint Abi Bakr (1994)، وهو عمل يُستشهد به على نطاقٍ واسعٍ حول تصوير عائشة في الأعمال والأدبيات الإسلاميَّة. وعلى وجه الخصوص، تُظهر سبيلبرغ كيف أعاد المفسِّرون اللاحقون تفسير دور عائشة في معركة الجمل، حيث ركبت جملها في المعركة ضد عَلِيّ، لكنها بقيت داخل الهودج على ظهره والستائر مغلقة، كحجة مفادها أنه لا ينبغي للنساء أبدًا المشاركة في الشؤون العامة.
هي عَائشة ابنة أبي بكر (المُتوفاة 58هـ/678م)؛ المرأة التي يَعتقد غالبيَّة المسلمين أنها الزوجة المُفضلة للنَّبِيّ مُحَمَّد. ورغم أنه لم يُذكر اسمها بدقةٍ في القُرآن، فقد عُرِّفتْها باستمرارٍ بالإشارة إلى النص المُقدس في تشكيل مكانتها التأريخيَّة والرمزيَّة في التأريخ الإسلاميّ. وفي سياق عَائشة، ناضل العلماء المسلمون، الذين كانوا في الماضي من الرجال، تقريبًا، في التعامل مع التساؤلات المركزيَّة لتشكيل الهويَّة المجتمعيَّة وأدوار الجنسين. وقد ركزت شخصيتها على النقاش وحددتْ الفروق الدقيقة للهويَّة الإسلاميَّة في نشأتها. وقد سمحت هذه التبادلات النصيَّة، وخاصةً في العصور المُبكرة والكلاسيكيَّة من التأريخ الإسلاميّ، للعلماء بتحديد معالم سلوك المرأة المُسلمة الاجتماعيّ ومُشاركتها السياسيَّة والنماذج النسائيَّة التي اُعتمِدتْ كمُثلٍ عُليا. وفي هذه العمليَّة، عملت عَائشة كمنشورٍ لتركيز وكسر التفسيرات الإسلاميَّة المُشتركة والمُنقسمة بشكلٍ حاد. وفي لبّ هذه المناقشات المهمة - التي أثارتها أفعالها كشخصيَّةٍ مُوثقَة تأريخيًّا - كان القُرآن، الذي ستُستخدم آياته للدفاع عنها، وكذلك انتقادها في الوقت ذاته.
وقد استندتْ ثلاثة موضوعاتٍ محوريَّةٍ سوابقَ مُقدسةٍ مُهمةٍ في تصوير عَائشة: براءتها من الزنى؛ ومُشاركتها في الحرب الأهليَّة الأولى؛ ومحاولة إضفاء المثاليَّة عليها كأنثى مثاليَّةٍ في ما يتصل بمريم، أم عيسى المسيح. وقد منح دورُ عَائشة كزوجةٍ للنَّبِيّ مُحَمَّدٍ لها ولزوجاته مكانةً رفيعةً، ولكن أيضًا رؤيةً مُتزايدةً في عالم المُمارسة والرمز المُقدس. وقد حُدِدَ هذه المسؤوليات الإضافيَّة في القُرآن، الذي عَرَّف عَائشة ضمنًا كواحدةٍ من أمهات المؤمنين: )وَأَزْوَاجُهُ [مُحَمَّد] أُمَّهَاتُهُمْ [المؤمنين]( [سورة الأحزاب: 6]، وهن نُخبةٌ نسائيَّةٌ فريدة على نقيض النساء الأخريات [سورة الأحزاب: 32]. وقد طُبِقتْ شروطٌ خاصة حصريًا على زوجات النَّبِيّ، بما في ذلك الأمر في سورة الأحزاب: 53، بأن يبقين خلف حجاب أو ستار ()مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ(). وقد أُمرت كل النساء، بما في ذلك زوجات النَّبِيّ، بارتداء العباءات [سورة الأحزاب: 59]، وتغطية صدورهن والتصرف بحياءٍ في الأماكن العامة [سورة النور: 31]، بيد أن القُرآن يُوضح بدقةٍ أن زوجات النَّبِيّ كن يتمتعن بمعايير أخلاقيَّةٍ أعلى من النساء الأُخريات؛ لأن العِقاب والثواب على أفعالهن في هذه الحياة سيتضاعف في الآخرة [سورة الأحزاب: 30-31]. وفي سورة الأحزاب: 33، أُمرت زوجات النَّبِيّ، على وجه التحديد، بالبقاء في منازلهن، وهو القيد الذي فسَّره العلماء في نهاية المطاف ليشمل كل النساء المُسلمات. وقد طُبِقتْ هذه الآية القُرآنيَّة على عَائشة في غزوتها السياسية الوحيدة في عام 11هـ/632م، وهو العام الذي تلا وفاة النَّبِيّ، ووُسِّعتْ في نهاية المطاف لتشمل كل النساء المُسلمات بمرور الوقت من أجل ضمان عزلهن عن مجالات النشاط العام للذكور.
الاتهام بالزنى
إن الانقسام المذهبيّ داخل العالم الإسلاميّ الكلاسيكيّ لا يتجلى في أي مكانٍ أكثر من تفسير القُرآن بالنظر إلى اتهام عَائشة بالزنى في عام 5هـ/627م. إن الارتباط الأكثر مُباشرةً بين عَائشة والقُرآن، الموجود في سورة النور: 11-20، لا يُشير إليها مُباشرةً بالاسم أو إلى اتهامٍ الزنى المُوجه إليها، والذي يُشار إليه تأريخيًّا مِن قِبل المسلمين السُّنَّة باسم حديث الإفك. وبدلًا من ذلك؛ فإن الوحي يتعلق بدقةٍ بالعقوبات الشديدة لأولئك الذين ينشرون الإفك دون وجود أربعة شهداءٍ من الذكور المطلوبين في سورة النور: 13.
لقد أُحتفي بحادثة الإفك كمثالٍ على البراءة الإلهيَّة لعَائشة من تُهمة الزنى. فوفقًا لأقدم الروايات الإسلاميَّة المكتوبة، رافقت عَائشةُ النَّبِيَّ في غارةٍ على قبيلة تُسمى بني المُصطلق. وأثناء توقفها للراحة في رحلة العودة إلى الوطن؛ اكتشفت أنها فقدت قلادتها؛ فغادرت المُخيم لاستعادتها. وافترض من في المُخيم أنها ظلت قاعدةً في هودجها المُغطى. لذا، رفعوا الهودج على ظهر ناقتها وغادروا به. وبعد أن تقطعت بها السبل وحيدةً في الصحراء، عثر عليها في النهاية شابٌّ مُسلم يُدعى صفوان بن المُعطَل السُلميّ، وأعادها سالمةً إلى معسكر النَّبِيّ. فزعم أعداء النَّبِيّ أن عَائشة خانت زوجها مع مُنقذها قبل أن يعودا إلى المُعسكر، رغم عدم وجود شهود على ذلك (ابن إسحاق-غيوم، Ibn Ishāq-Guillaume, 493-499). وتُمثل هذه الرواية ـ التي سُجِّلت لأول مرّةٍ في صورة مكتوبٍ بعد مائةٍ وخمسين إلى مائتي عام من الأحداث الموصوفة ـ الإطار السرديّ لتفسير الآيات 11-20 من سورة النور، والتي يُعدّها أغلب المسلمين داعمةً لبراءة عَائشة من تُهمة الزنى.
وقد أعلن المُفسِّر السُّنِّيّ الشهير الطبريّ (ت. 310هـ/923م) في تفسيره على هذه الآيات أن أهل الإسلام كأمةٍ دينيَّةٍ كانوا مُجمُعيَّن على براءة عَائشة (التفسير، 18/96). وحتى عندما كُتبتْ كلماتٌ غير مُؤهلة، مثل هذه، حول هذا الموقف في تفسيره، كان يُعلم لا محالة أن المُفسِّرين الشِّيعَة، مثل مُعاصره (عاش في القرن الرابع الهجريّ/العاشر الميلاديّ) القُميّ، قد فسروا الآيات نفسها بشكلٍ مُختلفٍ تمامًا. ولم يأت القُميّ على ذكِر عَائشة مُطلقا، بل أشار إلى حادثة الإفك بماريا جارية النَّبِيّ المصريَّة، وهي الحادثة التي يُرجعها المؤلف إلى خمس سنوات بعد ذلك (التفسير، 2/99؛ راجع: المجلسيّ، بِحار الأنوار، 22، 153-155؛ ومائير ميخائيل بار آشر، القُرآن، M.M. Bar-Asher, Scripture, 42-43). وتعكس هذه التفسيرات المُتناقضة ظهور الهويات الدينيَّة والسياسيَّة المتنازع عليها وأهميَّة التفسير في إعادة خلق الماضي الإسلاميّ. وقد يُؤدي الوحي ذاته، في سياق التفسير المذهبيّ، إلى قراءتين مُختلفتين تمامًا. فقد أيّدت الأغلبيَّة السُّنِّيَّة أن عَائشة، ليست بوصفها الزوجة المفضلة للنَّبِيّ فحسب، بل بوصفها ابنة أبي بكر (حكم 11هـ/632م-13هـ/634م)، وهو أحد أقرب الصحابة وخليفته في زعامة المجتمع الإسلاميّ.
ومُقابل ذلك، رفض المسلمون الشِّيعَة عَائشةَ وسبّوها بوصفها عدوّةً لزعيمهم السياسيّ والروحيّ، عَلِيّ بن أبي طَالب (حكم 35هـ/656م-40هـ/661م)، في خطابٍ يتفق مع رؤيتهم الخاصة للأحداث الماضية. وفي حقيقة الأمر، فتح التفسير الشِّيعيّ لهذه الآيات القُرآنيَّة الطريق لوصف عَائشة بأنها زانية، في تناقضٍ صارخ مع تبرئة الأغلبيَّة من مسلمي السُّنَّة وإشادتهم المُطلقة بعفّتها.
لقد نشأت الاختلافات المذهبيَّة بين السُّنَّة والشِّيعَة في سياق التفسيرات المُتنازع عليها للقُرآن، والتي استحوذتْ على رُؤى مُتناقضةٍ لماضٍ مُشترك كما انعكس في سياق شخصياتٍ تأريخيَّةٍ أنثويَّةٍ وذكوريَّةٍ. وتعمل التفسيرات المزدوجة جزئيًّا؛ لأن عَائشة لم تُذكر بدقةٍ في القُرآن في الآيات المعنيَّة وكذلك اسم ماريا القبطيَّة. وفي التفسير، حاول المُفسِّرون توضيح من تُشير إليه هذه الآيات، وظل التفسير مجالًا للقراءات البشريَّة المُتناقضة للوحي الإلهيّ واستيراده الجنسانيّ. إن إضفاء الطابع التأريخيّ على مثل هذه المناقشات الداخليَّة قوَّض ادعاء الإسلام، الذي عبر عنه علماء المسلمين، بأنه حقيقةٌ مُتجانسةٌ وثابتةٌ. قد تفترض تفسيراتهم الدينيَّة المُتباينة والمُتعايشة الحق الحصري في توضيح الإسلام الأبديّ والخالد، ولكن هذه التأكيدات نفسها على الحصريَّة تُقوضها ارتباطها بنضالٍ بشريٍّ مُرتبطٍ بالزمن من أجل السيطرة التعريفيَّة على الإيمان المُشترك وتطبيقاته السياسيَّة. وتُشير مثل هذه الشقوق، بمجرد العثور عليها، والى إمكانيَّة أن يكشف تأريخ الخطاب الدينيّ ظاهريًّا عن سوابق لتعدد التفسيرات الإيديولوجيَّة للإسلام في الوقت الحاضر مِن قِبل النساء المُسلمات وكذلك الرجال.
وقد سجلت عالمة الأنثروبولوجيا([1]) إيريكا فريدل Erika Friedl مؤخرًا صوت امرأةٍ شِّيعيَّةٍ من قريةٍ جبليَّةٍ إيرانيَّةٍ تحكي قصةً اتهام إحدى زوجات النَّبِيّ بالزنى. ولكن الرواية لم تذكر اسم عَائشة، ورغم أن منقذها في الرواية العربيَّة المُبكرة، صفوان بن المُعطَل السُلميّ، اُستُبدِلَ بمالك قافلةٍ مجهول الهويَّة، فإن تفاصيل هذا الاتهام يكشف عن قراءةٍ مذهبيَّة بديلةٍ، تُلغي وجود البطلة السُّنِّيَّة ومركزيَّة الوحي الإلهيّ. وبدلًا من ذلك، تقترح هذه المُفسِّرة الشِّيعيَّة، الأميَّة على الأرجح، نتيجةً إنسانيَّةً ومنطقيَّةً مُميِّزة للقصة، والتي تُؤكد على قوة الشائعات والتهديد الدائم بالطلاق في حياة النساء، اللواتي تُعَد عفتهن موضوعًا للثرثرة المجتمعيَّة.
وعلى الرغم أن عمل فريدل الأنثروبولوجيّ يُعد أنموذجيًّا، إلا أن الآثار الأوسع للسرد الأنثويّ المُعاصر في هذه الحالة تظل مُندرجةً ضمن الإثنوغرافيا([2]). إن عالمة الأنثروبولوجيا، في سياق تفضيل صوت مصدرها الشِّيعيّ، لم تقم بإرساء الروابط السياقيَّة الحاسمة التي تُميز هذا التفسير المُعاصر بوصفه النتيجة المُميِّزة لتفسيرٍ مُقدسٍ سُّنِّيٍّ وشِّيعيٍّ كلاسيكيٍّ مُثيرٍ للجدل، ذكوريٍّ حصريًا. ويُشير العرض غير التأريخيّ إلى الخلود الضمنيّ الذي يُقوض التمييز بين الجنسين للمصدر في تأريخ الدين. إنها ليست مجرد حكايةٍ شعبيَّةٍ إيرانيَّةٍ تُروى لعالم أنثروبولوجيا أجنبيٍّ، بل هي تفسيرٌ شفويّ مُعاصر للقُرآن الكريم، عبرتْ عنه امرأةٌ مُسلمةٌ شِّيعيَّةٌ في استمراريَّةٍ واضحة المعالم للتفسير الإسلاميّ للمُقدس.
معركة الجَمل
حدثت معركة الجَمل في عام 36هـ/656م، وكانت أول صراعٍ عسكريٍّ في أول حربٍ أهليَّةٍ إسلاميَّةٍ (الطبريّ، التاريخ، 16/122-123). لقد اُستخدم القُرآن والحديث النبويّ، اللذين سجلا أقوال وأفعال النَّبِيّ، بواسطة الكُتَّاب والذين كانوا، بعد مئات السنين من الصراع الدامي، لا يزالون يُحاولون فهم هذا الحدث. وكان على جميع الروايات التأريخيَّة، سواءً أكانت سنيَّةً أم شِّيعيَّةً، أن تأخذ بعين العدّ الوجود المركزي لعَائشة ابنة أبي بكر في هذا الصراع. وكان معارضتها لعَلِيّ بن أبي طَالب وأنصاره (الشِّيعَة) شخصيَّةً وسياسيَّةً وعسكريَّةً في نهاية المطاف. وقد هزم عَلِيٌّ قواتها، والتي كانت بقيادة حليفيْها، في محاولته الناجحة للدفاع عن منصبه بوصفه الزعيم الرابع للمجتمع الإسلاميّ بعد وفاة النَّبِيّ مُحَمَّدٍ.
ولم يفلت الوجود المركزيّ للمرأة في الصراع على الخلافة السياسيَّة من اللوم مِن قِبل المجتمع الإسلاميّ السُّنِّيّ أو الشِّيعيّ. وفي واقع الأمر، على الرغم من أن كلا المجتمُعيْن قد يَقرأ هذا الحدث بشكلٍ مُختلفٍ في الماضي؛ إلا أن كليهما يشتركان في تكتيكاتٍ مُشتركةٍ في إدانتهما لعَائشة. لقد استخدمت المصادر السُّنِّيَّة والشِّيعيَّة، على حدٍ سواء: القُرآنيَّة والأحاديث النبويَّة نفسها لدعم انتقاداتهم. والآية المركزيَّة لحججهم المُشتركة تأتي في سورة الأحزاب: 33، وهي مُوجهةٌ على وجه التحديد إلى زوجات النَّبِيّ بصيغة الجمع، حيث تأمرهن: )وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ(. ولا توجد مصادرٌ مكتوبةٌ مُتزامنة باقيةٌ عن الحرب الأهليَّة الأولى، ولكن يأتي ذِكر عَائشة في سِّيرةٍ لاحقةٍ في أنها لو بقيتْ في منزلها، لما حدثت مذبحة معركة الجَمل. ويذكر ابن سَعد (ت. 230هـ/845م)، وهو من أوائل مؤرخي السُّنَّة للسِّير، أن عَائشة عندما تلت هذه الآيات القُرآنيَّة بعد سنواتٍ من الحادثة، بكت حتى تبل خمارها (الطبقات، 8/81). ويسمح المؤرخ الشِّيعيّ المسعوديّ (ت. 354هـ/956م) لعَلِيّ، بطله الشِّيعيّ والمنتصر، بتوبيخ عَائشة بشكل مُباشر بتذكيرها أن النَّبِيّ قد أوحى لها ذات مرةٍ أن تبقى في بيتها، في إشارةٍ إلى سورة الأحزاب: 33 (المروج، 4/102-119، الأرقام 1628-1657، وخاصةً رقم 1644). وفي حقيقة الأمر، يُؤكد القُرآن أن كل زوجات النَّبِيّ يجب أن يبقين في بيوتهن، باستخدام صيغة الجمع، لكن المسعوديّ لا يبدو مُنزعجًا من الدقة النحويَّة للآية المُقدسة. وتَستخدم المصادر الشِّيعيَّة اللاحقة الآية القُرآنيَّة نفسها بشكلٍ أكثر وضوحًا لإدانة الدواعي السياسيَّة لعَائشة (مائير ميخائيل بار آشر، القُرآن، M.M. Bar-Asher, Scripture, 40-41).
لقد أثار حضورها الرمزيّ في المعركة الأولى من الحرب الأهليَّة نقطة اتفاقٍ عالميَّةٍ سلبيَّةٍ بين الكُتَّاب المسلمين السُّنَّة والشِّيعَة. ففي سياق مثال عَائشة؛ حُذِرتْ كل النساء المُسلمات من مغادرة منازلهن أو إشراك أنفسهن في الأمور السياسيَّة. لقد أثبتت الدروس التقليديَّة المُستمدة من الحرب الأهليَّة الأولى ومثال زوج النَّبِيّ، عَائشة، أنها تحذيرٌ لا يُنسى ضد المُشاركة المُستقبليَّة لأي امرأةٍ مُسلمةٍ في السياسة. ولم يكن بإمكان المرجعيات الدينيَّة الذكوريَّة أن تربط مثل هذه السابقة القويَّة بأفعال عَائشة لولا الاستشهاد المُشترك بالقُرآن.
تعريف المُثل العليا النسائيَّة الإسلاميَّة
إن مريم، والدة عيسى، التي يُعدّها المسلمون نَّبِيَّةً([3])، هي الشخصيَّة الأنثويَّة الوحيدة التي ورد ذكرها بدقةٍ في القُرآن. وقد أشاد بها القُرآن بشدّةٍ في سورة آل عِمران: 42، بوصفها مُختارةً وطاهرًة ومُفضلة على نساء الخلق. وفي سورة التحريم: 11-12، تُمثل مريم وزوجة فِرعون، التي تُدعى آسية في الأعمال والأدبيات الإسلاميَّة، نماذج سلوكيَّةٍ لكل المؤمنين المسلمين. إذ يمتدح القُرآن، بشكلٍ خاص، عفة مريم وطاعتها . وفي الحديث والتفسير القُرآنيّ، غالبًا ما ارتبطتْ عَائشة بمريم، ولكن لم ترُبطْ، قط، بالاختيار الإلهيّ لها وطاعتها وعفتها. والحقيقة، أن الإشارات إليها كانت تميل إلى التأكيد على الجوانب المُزعجة بشكلٍ خاصٍ في شخصيتها التأريخيَّة، وخاصةً تلك المُرتبطة باتهامها بالزنى والحرب الأهليَّة الأولى. ورغم تبرئتها في نهاية المطاف وفق التفسير السُّنِّيّ لحادثة الإفك؛ ظلت عفة عَائشة نقطة مواجهةٍ مذهبيَّة. وفي هذا الجدل الحاسم في شأن الجنس الأنثوي، فإن مقارنة عَائشة بمريم كانت تعني ضمنًا اتهام أم عيسى بالفساد الجنسيّ الوارد أيضًا في القُرآن في سورة مريم: 27-28. وقد أسس هذا التشابه سابقةً سلبيَّةً لإضفاء المثاليَّة على عَائشة. كما سمح عصيانها الملحوظ في الحرب الأهليَّة الأولى للعلماء بإدانة سلوكها بالإشارة إلى الآية 33 من سورة الأحزاب، كما وردت عند كل المذاهب السُّنِّيَّة والشِّيعيَّة. وقد استبعدتٍ هذه السابقة السياسيَّة بشكلٍ قاطعٍ عَائشة كمثالٍ أنثويٍّ مُسلمٍ مُحتملٍ للطاعة التي مُجِدتْ في القُرآن في قصة مريم. وأخيرًا، يُمكن مقارنة عَائشة وحدها بأكثر الشخصيات النسائيَّة سلبيَّةً في القُرآن، زوجتي النَّبِيّين لوط ونوح، اللتين وُصِفتا في سورة التحريم: 10 كمثالٍ على الكفار. لقد أصبح رفضهما طاعة أزواجهما نقدًا شيعيًّا مُوجهًا إلى عَائشة، وهو ما يُعادلهما في العصيان في رفضها اتباع تعليمات سورة الأحزاب: 33.
وفي نهاية المطاف، يكشف تحليل إرث عَائشة، على نقيض إرث النساء اللاتي اختِرنَ كأعظم نساء المجتمع الإسلاميّ الأول، أن تصويرها أثارَ باستمرارٍ ردود أفعالٍ مُتضاربةٍ داخل المجتمع الإسلاميّ. ففي الدعم السُّنِّيّ أو النقد الشِّيعيّ، طُبِقتْ السوابق القُرآنيَّة للشخصيات النسائيَّة الإيجابيَّة والسلبيَّة على عَائشة وحدها. ورغم الثناء الذي حظيت به مِن قِبل السُّنَّة؛ فقد تحدتْ عَائشة التصنيف على أنها إيجابيَّة أو سلبيَّة تمامًا في البحث الإسلاميّ عن معناها. وكشف تفسير حياتها النشطة المُثيرة للجدل أن عمليَّة المثاليَّة في التأريخ الإسلاميّ لن تسمح لها أبدًا بدخول عالم الكمال. وبالتالي، في حين أكدت الأعمال والأدبيات الإسلاميَّة أنه لا توجد نساءٌ كاملاتٌ باستثناء مريم وزوجة فِرعون في سورة آل عِمران: 42؛ فإن هاتين المرأتيْن في التفسير القُرآنيّ سوف تنضم إليهما في النهاية الزوجة الأولى النَّبِيّ، خديجة ابنة خُويلد (المُتوفاة619م) وابنتهما فَاطِمَة (المُتوفاة11هـ/632م). وقد أثبتت الصور الإيجابيَّة التوفيقيَّة وغير المتنازع عليها لهذه النساء، في سياق التوازي المُباشر مع مريم القُرآنيَّة، مركزيتهما كنماذجَ نسائيَّةٍ إسلاميَّةٍ. لقد مثلتْ كلٌ من خديجة وفَاطِمَة رؤيةً مثاليَّةً للأنثى، اتفق عليها المسلمون السُّنَّة والشِّيعَة في نهاية المطاف.
وكما عُزِزتْ المثاليَّة على هذه الشخصيَّة في النصوص الشعريَّة، فقد تجاوزت فَاطِمَةُ مريم في النهاية سابقة مريم في القُرآن، وتحدتْ الأغلبيَّة السُّنِّيَّة مهمة الدفاع عن عَائشة، ليس بوصفها شخصيَّةً أنثويَّةً مثاليَّةً، بل بوصفها شخصيَّةً تضاءلتْ سُمعتها جراء المقارنة. إن تأثير التناقض بين عَائشة وفَاطِمَة يُثير في نهاية المطاف تساؤلاتٍ حول رد فعل النساء المُسلمات تجاه التفسيرات الذكوريَّة للقُرآن. وحتى وقتٍ قريبٍ، كان رد فعل النساء المُسلمات تجاه هذه الإناث المثاليات التي صنعها الرجال غائبًا عن السجل المكتوب. ولكن بعضهم قد زعم أن النساء الشِّيعيّات الحقيقيات لا يُمكنهن أن يأملن في محاكاة تجاوز فَاطِمَة المُقدس لجنسانيتها في أمور اللياقة والأمومة؛ فإنه ليس من المُؤكد أن سابقة شخصيَّة عَائشة سوف تُسفر في النهاية عن إرثٍ أكثر عمليَّةً للنساء السَّنِّيات. ولكن عَائشة ابنة أبي بكر تظل نموذجًا للأغلبيَّة السَّنّيِة وخاصةً في ما يتصل بذكائها وذاكرتها الضخمة في نقل الروايات عن حياة زوجها؛ فإن سيرتها الذاتيَّة تظل مُرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالسابقة القُرآنيَّة. وسوف تظل السيطرة على مثل هذه التفسيرات المُقدسة تُشكل تحدّيًا لأولئك المسلمين، سواءً كانوا من الذكور أو الإناث، الذين يُحاولون تعريف شخصيَّة عَائشة بوصفها قوةً إيجابيَّةً في الوقت الحاضر.
المصادر والمراجع:
*- الأساسيَّة: البخاريّ، الصحيح؛ وابن حَنبل، المُسند؛ وابن إسحاق، السِّيرة؛ وابن ماجة، السُّنن؛ وابن سَعد، الطبقات، تحقيق: إحسان عَباس؛ والمجلسيّ، مُحَمَّد باقر، بِحار الأنوار، بيروت، 1403هـ/1983م؛ والمسعوديّ، المروج، تحقيق: بيلّا؛ ومسلم، الصحيح؛ والنسائي، السُّنن؛ والقُميّ، التفسير؛ والطبريّ، التفسير؛ والمؤلف نفسه، التاريخ، id., Taārīkh, A. Brockett (trans.), The history of al-Tabarī, xvi. The community divided, Albany 1985-1999؛ والترمذيّ، الصحيح.
*- الثانويَّة: عَائشة عَبد الرحمَن، نساء النَّبِيّ، بيروت، 1983م؛ ونبيهه عبود، عَائشة حبيبة مُحَمَّد، N. Abbott, ʿĀāisha the beloved of Mohammed, Chicago 1942؛ وغسان آشا، الوضع الأدنى للمرأة في الإسلام، G. Ascha, Le statut inférieur de la femme en Islam, Paris 1981؛ مائير ميخائيل بار آشر، القُرآن والتفسير لدى أوائل الشِّيعَة الإماميَّة، M.M. Bar-Asher, Scripture and exegesis in early Imāmī Shiism, Leiden 1999؛ وإليزابيث وارنوك فيرنيا وباسمة قطان بزركان (المحررتان) وسوزان سبيكتورسكي (المترجمة)، "عَائشة ابنة أبي بكر: زوج النَّبِيّ مُحَمَّدٍ"، E.W. Fernea and B.W. Bezirgan (eds.) and S. Spectorsky (trans.), ʿĀāisha bint Abī Bakr, wife of the Prophet Muhammad, in E. Fernea and B. Bezirgen (eds.), The Middle Eastern Muslim women speak, Austin 1977؛ وجين دامين مكأوليف، "المُختارات من بين كل النساء: مريم وفَاطِمَة في تفسير القُرآن الكريم"، J.D. McAuliffe, Chosen of all women. Mary and Fātima in qur'ānic exegesis, in Islamochristiana 7 (1981), 19-28؛ وإيريكا فريدل، نساء ديه كوه: العيش في قرية إيرانيَّة، E. Friedl, Women of Deh Koh. Lives in an Iranian village, Washington, D.C. 1989؛ والصدة، "الهدى: سِّير النساء والحميَّة الثقافية: نموذج عائشة بنت أبي بكر"، في هدى الصدة وآخرون (المحررون)، زمن النساء والذاكرة البديلة: مجموعة أبحاث، القاهرة، 1997؛ وغريغور شولر، شخصيَّة مُحَمَّدٍ وأصالة الأعمال والأدبيات الإسلاميَّة حول حياته، G. Schoeler, Charakter und Authentie der muslimischen Überlieferung über das Leben Mohammeds, Berlin 1996, 113-163؛ ود.أ. سبيلبرغ، السياسة والجنس والماضي الإسلاميّ: إرث عَائشة ابنة أبي بكر، D.A. Spellberg, Politics, gender and the Islamic past. The legacy of ʿĀ'isha bint Abī Bakr, New York 1994؛ وباربرا فرير ستواسر، المرأة في القُرآن والحديث والتفسير، B.F. Stowasser, Women in the Qur'ān, traditions, and interpretation, New York 1994.
([1]) الأنثروبولوجيا، أو علم الإنسان، وهي الدراسة التي تعني بدراسة الإنسان. (المترجم).
([2]) الإثنوغرافيا، وصف الأنماط والتقاليد البشريَّة، وهي الدراسة المنهجيَّة للناس والثقافات. (المترجم).
([3]) هكذا جاءت في الأصل، وهي معلومة غريبة؛ ربما استندت إلى من اعتمد مجيئ وجي الله إياها عند نفخ روح عيسى المسيح دلالة على نبوتها من حيث تعريف النبوة. (المترجم).