عبد الكبير الخطيبي واستراتيجية النقد المزدوج


فئة :  مقالات

عبد الكبير الخطيبي واستراتيجية النقد المزدوج

عبد الكبير الخطيبي واستراتيجية النقد المزدوج

 محمد أمين بشيبة

"إن فعل الكتابة لا يتم دون أن يصمت الكاتب؛ فعل الكتابة كأن يكون الكاتب "خافت الصوت كالميت" أن يصير الإنسان الذي رفض له الإجابة الأخيرة. وأن يكتب يعني أن يهب منذ اللحظة الأولى، الإجابة الأخيرة للآخر".

رولان بارث

"كلّ كاتب يجعل من الكتابة مشكلته، ومن هذه المشكلة موضوع قرار يمكن أن يغيره".

موريس بلانشو

 

مدخل:

ظل فعل الكتابة هاجسا حاضرا بشكل متواصل عند عبد الكبير الخطيبي، بفن وإبداع كبيرين. عبر عنهما داخل نصوصه الكثيرة والكثيفة؛ هاته النصوص التي ظلت طوال عقود طويلة تعبر عن صاحبها بهواجسه وأفكاره وبأطروحاته التي كثفها وأصل لها وقام بتجذيرها داخل استراتيجيته التي أطلق عليها "النقد المزدوج". ضمن هذا السياق، سنستعرض أفكار الخطيبي حول النقد المزدوج ارتباطا بما كتب في النقد المزدوج، ثم في كتاب الاسم العربي الجريح؛ وذلك وفق تصورين أو مرحلتين تكملان بعضهما البعض، وفيهما حضرت الاستراتيجية النقدية والتفكيكية لعبد الكبير الخطيبي؛ الأولى ترتبط بالأسس الفلسفية المبنية على فكر الاختلاف التي من خلالها فكك الثنائيات والمفاهيم والتصورات الميتافيزيقية في المعرفة العربية/الإسلامية أولا، ثم في المعرفة الغربية، ولاسيما في مركزيتها اليونانية ثانيا، كل ذلك من خلال استعانته بمفكرين غربيين أبرزهم (دريدا، بلانشو، بارث..). أما الثانية، فترتبط بطروحاته السوسيولوجية التي بنيت على أساسها الفلسفي بما تم ذكره سابقا، والتي من خلالها استمر في ممارسة هوايته المفضلة "التفكيك، والنقد، والتقويض"، حيث كان الخطيبي على علم "بأن الفلسفة قضية جدية والسوسيولوجيا علم الوصف والفحص والتحليل النفسي، فن التأويل الصعب. وكان يمارس لعبه بين هذا وذاك".[1] وبناء على ذلك، سيخلف الخطيبي منجزات غاية في الدقة والتحليل، بصرامتها العلمية والمنهجية المرتكزة على اختيارات واضحة ظهرت وتجلت في كتاباته، خصوصا ما جاء في "النقد المزدوج" و"الاسم العربي الجريح"، بأطروحتهم الناظمة والمركزية التي تتجلى في "النقد المزدوج".

1- من الوحدة إلى التعدد: أو في الاختلاف والتغاير

يتحدث عبد السلام بنعبد العالي عن طريقتين لتأريخ الأفكار في قراءته لتيارات الفكر المغربي: "الطريقة الأولى تصدر عن مفهوم معين عن المعرفة، وتعتبر أن قيام المعارف عملية نمو وتراكم، وأن تاريخ الأفكار عملية بناء تحاول أن تلاحق ميلاد الحقائق، ونمو الحقيقة. أما الطريقة الثانية، فتصدر عن مفهوم مغاير بل مفهوم مضاد، يعتبر نشأة المعارف قضاء على الأخطاء وتاريخ الأفكار عملية تقويض وتراجع وحفر".[2] يفتح هذا التصنيف مدخلا لوضع خانة انتماء عبد الكبير الخطيبي وفهم التجليات التي يحضر فيها هذا الانتماء والتصنيف كما وضح ذلك عبد السلام بنعبد العالي، فإدراج الخطيبي تم داخل الطريقة الثانية في ارتباطها بمسار المعرفة المغربية "طريقة تقوم دائما حسب نفس الباحث على مفاهيم التفكيك والتقويض والانفصال والخطأ، وعلى مسألة التحولات التي تعمل كتأسيس وتجديد للتأسيس".[3]

تأسيس يرتكز على نقد جذري وراديكالي لموضوعات الميتافيزيقا بكل أشكالها وأنواعها للوحدة والكلية والإطلاقية التي تشكل جوهر وكيان العالم العربي خصوصا. يطرح ذلك عبد الكبير الخطيبي في مقدمة كتابه النقد المزدوج بشكل مكثف، مبرزا طبيعة هذه الإشكالات، وكيفيات حضورها وتجسدها في هذا المجال، يقول بخصوص ذلك: إن العالم العربي قد اهتز في نظامه وتصدع في كيانه الحضري، فأصبح يعاني من تعددية شاملة، تتجلى في جميع أشكال المثاقفة والاضمحلال، وليس هذا المسلسل في حد ذاته خيرا ولا شرا، إنه مسلسل تاريخي ينبغي أن نقوم بتحليله وتطعيمه عن طريق فكر قادر على تحليل الأوضاع المتعددة التي يجتازها العالم العربي، فالعالم العربي إذا تعدد، وهو لا يشكل ولا يمكن أن يشكل في حد ذاته وحدة أو كلا متماسكا، يمكننا أن نحصره داخل منظومة واحدة (عبد الكبير الخطيبي، 2009، ص 5).[4]

لذلك يدعونا الخطيبي إلى نقد مزدوج ينصب علينا كما ينصب على الغرب، ويأخذ طريقه بيننا وبينه، فيرمي إلى تفكيك مفهوم الوحدة التي تثقل كاهلنا والكلية التي تجثم علينا، وهو يهدف إلى تقويض اللاهوت والقضاء على الإيديولوجية التي تقول بالأصل والوحدة المطلقة (ص 5-6). نقدا يتجاوز المطلقات والكليات (غربا وشرقا) اعتمادا على فكر التغاير والاختلاف، فوحده الخارج الذي أعيد فيه التأمل وأزيح عن مركزه، وخرب، وحول عن تحديداته المهيمنة، هو الذي يمكن أن يبعدنا عن الهوية العمياء والاختلاف الوحشي، "وحده الخارج الذي أعيد النظر فيه، يقدر أن يمزق حنينا إلى الأب، ويقتلعه من التربة الميتافيزيقية، أو على الأقل يوجهه نحو مثل هذا الاقتلاع، نحو فكر سيد، يتيم في غاية ذلك هو المنحدر الآخر من الاختلاف الذي تصعب معالجته وتلك هي علاقتنا بفكر اختلاف كهذا" (ص 23-24). يهم هذا الأمر خلخلة الميتافيزيقا الغربية من جهة أولى، ومن جهة ثانية، فخلخلة ميتافيزيقا المعرفة العربية، تدعونا لاستحضار الأسس التي تكبلها وتجعلها في حضن اللاهوت، والمطلقات الدينية، ومن ثم تقويضها وتفجيرها من الداخل عبر آليات ووسائل جذرية، تنطلق من فكر يقظ قائم على التعدد والتمايز والاختلاف ويقطع مع الكليات بشتى أنواعها. يقول عبد السلام بنعبد العالي في هذا الإطار: "إن المعرفة العربية لا تستطيع أن تتنصل من أسسها اللاهوتية والتيوقراط إلا بفضل قطيعة لن تكون كذلك ما لم تكن مزدوجة لتقابل المنظومة المعرفية الغربية بخارجها اللامفكر فيه، وتعمل في الوقت ذاته، على تجذير الهامش، ليس فقط عن طريق فكر يستعمل اللغة العربية كأداة، وإنما بالاتجاه نحو فكر مغاير يتكلم عدة لغات، ويصغي لأي كلام كان مصدره".[5]

ومن ثمة يدفع هذا الأمر إلى تجذير فعل الاختلاف، باعتباره فعلا تأسيسيا لتفكيك ما يكبلنا ويربطنا بالمركزية "الحمقاء"، ويبعدنا عما يسميها الخطيبي بالحركة الانكفائية التي تستند إلى ماض لم يعد مدعوما من قبل الواقع الراهن، بل تستند على نموذج يتمثل في وحدة لاهوتية بين مدينة الله ومدينة الإنسان، وهما مدينتان توجدان على نفس المسافة "من قوة الموت وقوة الحياة".[6] وما يلزمنا والحالة هاته، هو أن نتجاوز من الجوانب جميعا الصورة الضيقة التي نملكها عن أنفسنا وعن الآخرين، وأن ندخل في المعرفة فسحة ذات محاور استراتيجية متعددة، وأن نفرغ الكتابة التاريخية من كل المطلقات (اللاهوت، المركزية..) التي تقيد الزمان والمكان، وتقيد جسم الشعب، وأن نخلخل نظام المعرفة السائد (من حيث أتى)، بما هو إدخال النظرية في الصراع الاجتماعي والسياسي. (النقد المزدوج، ص 18). عبر فكر تغاير واختلاف يبسطه الخطيبي في أربعة مجالات أساسية؛ أول هذه المجالات: اختلاف اجتماعي، حيث يرمي الفكر إلى تقويض البناء النظري الذي يقوم عليه التفاوت الاجتماعي وأسسه الأخلاقية، ثانيها: اختلاف ثقافي، يسعى الفكر إلى تقويم الثقافات التي نبذها العالم العربي وهجرها، ثالثها: اختلاف سياسي، يعيد النظر في دعائم التغيير وأسس الانفصال، رابعها: اختلاف الوجود العربي لا من حيث هو وجود تغلفه إيديولوجية الكلية والوحدة، بل على أنه وجود يتجاوز التراثية والسلفية آخذا بعين الاعتبار مسألة العلم والتقنية ( ص 6-7). باعتبار هاته الأخيرة ليست الشر في ذاته ولا الخير في ذاته، بل إنها كما يقول الخطيبي: "المصير الكوني للعالم وانتشارها لا يقاومه أي مجتمع: فهل يمكن إيقاف مصير العالم؟ يتساءل الخطيبي. فحيث يقيم الإنسان، تكون التقنية مقيمة كأرض ثابتة" (ص 21). رغم ذلك، وأمام وضوح كهذا ينبغي دائما استحضار جوهر التقنية كما يذكرنا الخطيبي دائما: كونها تمثل بالنسبة إلينا، إرادة قوة مهيمنة واستعمارية. إنها بمعنى ما خاتمة المعرفة المطلقة.

2- نقد العروي في ضوء نقد اللاهوت المتقدم

يرتكز تحليل الخطيبي على ثلاثة خطوط كبرى في ضوء نقدها وتقويضها وتجاوزها، باعتبارها حضورا يؤثث المغرب كأفق للفكر عند الباحث. تبرز هاته الخطوط (التراثوية، السلفية، ثم العقلانية) على شاكلتها التالية كما تحدث عنها الخطيبي تباعا:

-   التراثوية: هي الميتافيزيقا التي تحولت إلى لاهوت تراثوية، ويشير اللاهوت هنا إلى فكر الواحد الأحد، الموجود كوجود أول، كعلة أولى.

-   السلفية: وهي الميتافيزيقا التي تحولت إلى مذهب سلفية، ويشير المذهب هنا إلى أخلاق سلوك سياسي، إلى تربة اجتماعية

-   العقلانية: (السياسية، الثقافوية، التاريخانية...)، وهي الميتافيزيقا التي تحولت إلى تقنية عقلانية، وتشير العقلانية هنا إلى تنظيم العالم بإرادة قوة جديدة تقوم على الوضعية العلمية ( ص 15).

على ضوء التحول الأخير، سيوجه الخطيبي نقده لأحد ممثلي هذا التوجه أو التيار. ودائما في إطار نقده الراديكالي لرموز الخطوط الكبرى، والتي تسم ميتافيزيقا المعرفة الغربية وكذا العربية على حد سواء. سيكون هذا الشخص هو المفكر الذي سيطلق عليه عبد الكبير الخطيبي "الأيديولوجي" إنه عبد الله العروي، لن يسلم هذا الأخير من تفكيك خطاب "اللاهوت المتقدم"، من طرف صاحب النقد المزدوج. يعتبر الخطيبي أن تصنيفات العروي تدخل في خانة ما نعته "بالتحليل النفسي الأيديولوجي"، حيث يقول: إن الأيديولوجيا العربية المعاصرة، هي مجرد تراجع وانحدار قائم نحو الغرب. إنه انتقاد للتاريخانية ورؤيتها الميتافيزيقية. فحينما يعتبر العروي "أن مجتمع الحداثة هو مجتمع القانون والحرية والعلم والنظام"، فإن الخطيبي يسائله وأين هو الاختلاف؟ أين التغاير؟ أو لسنا نكون بهذا قد أذبنا آنها في هوية ميتافيزيقية ولاهوتية متعالية؟ وماذا فعلت الحداثة غير استبدال مفاهيم التراث اللاهوتية والدينية (الله، السنة، الجنة) بمفاهيم دنيوية سليلة أصل لاهوتي (الحرية، النظام..). هذا ولم يبد العروي إخفاء إعجابه بفكر الغرب من حيث هو "تقدم تاريخي" غير مطابق لواقعه. إن هذا الخطاب الذي يتبناه العروي ليس مادحا للغرب بشكل مطلق، بل يتخذ صفة "المحاسبة المثناة" أو المزدوجة، نقد الذات ونقد الغرب معا، وبالتالي فهو يتبنى خطابا ينتقد الغرب، لكن باسم قيم كونية. يشكك الخطيبي في أمر "كونية" هذه القيم ولا يرى فيها إلا قيما ميتافيزيقية قادت إلى "استكمان المركزية" و"إرادة القوة" و"طلب الهيمنة".[7]

إن العروي يرد التاريخ إلى شمولية ميتافيزيقية نسيجها الاستمرارية والعقلانية والميل إلى النظام والإرادة، كما لو أن "عامل التاريخ" عقل مطلق، قادر أن يسيطر على المصير. من جهة أخرى، يتيح العروي، من حيث إنه يريد أن يغير التاريخ، أساسيا، بقانون الاستمرارية، يتيح للحركة الأخرى أن تتسرب بين الأصابع، حركة الفرق، واللاستمرارية والفوضى واللاتماثل. "هناك دائما خسارة لا تعوض في عنف الكائن (التاريخي) (النقد المزدوج، ص 17). "لقد حدث تغيير إيديولوجي، لكن التربة الميتافيزيقية بقيت هي إياها". فلسنا ملزمين باتباع المسيرة ذاتها، بأن نجتاز من جديد المراحل التي اجتازها الغرب، بل يقول الخطيبي "يجب أن ننطلق رأسا من الموجود، من القائم هنا كمسألة" (ص 17). وهو ما لا يفعله العروي، الشيء الذي يهدم تاريخانيته، كما يقول الخطيبي، وما يهدمها أيضا حسب نفس الباحث دائما، هو أمانتها للهوية الوحشية؛ أي لمسألة ساذجة من مسائل الوجود. ومن هنا يخلط العروي بين "الآخر" و"الغير". والآخرين"، بين الأنثروبولوجيا الثقافية، وفكر الاختلاف، بين التاريخي والتأريخي، زد على ذلك أن آراء العروي المختلفة حول الوجود العربي تسقط من تلقائها: فلسنا في حاجة إلى الالحاح على هشاشتها يضيف الخطيبي، ولتبيان ذلك يستشهد بأحد نصوص ع. العروي التي يكتب فيها: "منذ ثلاثة أرباع القرن، يطرح العرب على أنفسهم سؤالا وحيدا واحدا: من الآخر، ومن أنا؟ (الأيديولوجية العربية المعاصرة، ص 15) كما لو أن هذا السؤال ليس السؤال الجوهري لفكر الوجود والموجود المؤتلف والمختلف، كما طرحت في الفلسفة اليونانية والفلسفة العربية"، ليخلص الخطيبي بعد عرضه لكل هاته المعطيات إلى أن "إيديولوجية العروي منهارة في أساسها" (ص 18). وبهذا، فنحن لا نسائل الأهم متمثلا في الوجود، والموجود والاختلاف، ونتابع الثرثرة بلا حياء حول استعادة الهوية، والولادة العربية الثانية. نحن تراثويون بنسيان التراث، مذهبيون بنسيان فكر الكائن، وتقنيون بالعبودية. يقول الخطيبي: "من دجننا هكذا حتى يصبح مثل هذا النسيان شأنا يتكرر جيلا بعد جيل؟ (ص 16).لقد شكل نقد الخطيبي للعروي، نقدا على مجموعة من الأصعدة والمستويات ارتباطا بالتصورات التي يحملها مؤرخ وكاتب الأيديولوجية العربية المعاصرة، والخطيبي كذلك، والتي تظهر اختلافا جذريا، حول موضوعات الوجود بالنسبة لكل واحد منهما. اختلاف عرضنا طبيعته، انطلاقا مما كتبه عبد الكبير الخطيبي في سياق مقالنا الذي يتحدث عنه.

3- في التراث

يعتبر الخطيبي التراث بما هو (الذاكرة، الأرض، اللغة) لا يضيء الانسان إلا بمقدار ما يستحق موته، بين الموتى؛ صحيح أن التراث هو عودة المنسي. ولا بد لهذه العودة من أن نستوقفها ونطرح عليها الأسئلة لكي تدلنا على طريق الموتى الذين يتكلمون، الذين يتحدثون معنا. بماذا ينطق التراث، كل تراث؟ إنه ينطق بإقامة الإلهي في قلوب البشر وعقولهم. وقد احتضنت الميتافيزيقا هذه الإقامة منذ نشأة الفكر. فالميتافيزيقا هي، بمعنى ما، سماء التراث الروحية (ص9). ولتجاوز هاته الطبيعة الميتافيزيقية للتراث عند الخطيبي، ينبغي تملك التراث ثم بعدها تجاوزه، إلا أن هذا التجاوز لا يعني التخلي والإهمال. إنه على العكس من ذلك تقويض مستمر للمفاهيم وليس معارضة موقف بآخر. "وتفكيك المفاهيم استراتيجية وليس نقدا بالمعنى المعروف، ومع ذلك فهذه الاستراتيجية تسمي نفسها نقدا ونقدا مزدوجا".[8]

تجد هاته الاستراتيجية حضورها وتجلياتها بقوة داخل مقاربة التراث، وفق نفس المفاهيم (قطيعة، انفصال، تقويض..) واستنادا على نفس الطروحات الفلسفية المشار إليها سلفا. تجد هاته الفكرة وضوحها المكثف والمركز ضمن أحد مقاطع الخطيبي في النقد المزدوج، يقول بخصوص ذلك "لكي نقطع الصلة نوعا ما مع التراث، يجب أن نعرفه جيدا كما يجب أن نكون قد أحببناه وتشبعنا به، لا أتصور أية قطيعة أو أي تغيير دون مسؤولية، ودون نقد حقيقي للتراث. يجب النظر إلى الكائن في حركته كلها". يضيف الخطيبي لنأخذ الإنسان العربي، وعلى وجه التحديد الإنسان المغربي، فإننا نلاحظ أنه يحمل في أعماقه كل ماضيه قبل الإسلامي والإسلامي والبربري والعربي. أهم شيء إذن هو ألا نغفل هذه الهوية المتعددة التي تكون الكائن، ومن ناحية أخرى يجب أن نفكر في الوحدة الممكنة بين هذه العناصر جميعها، لكنها وحدة غير لاهوتية تترك لكل عنصره نصيبه من التميز، وتتيح بالنسبة إلى المجموع حرية الحركة. (ص30-31).

قول الخطيبي هذا حول التراث، يطرح بجانبه قضايا متشابكة، ومترابطة فيما بينها. بعضها تحدثنا عنها مسبقا والبعض الآخر لا يمكن الوقوف عنده في هاته الورقة، لكون هذا الأمر يحتاج إلى تفصيل في مقال منفصل، ورغم ذلك فإن ما تم ذكره لحدود اللحظة يبين بشكل مكثف ومركز "مستويات الاستراتيجية" النقدية والتفكيكية لعبد الكبير الخطيبي، في ارتباطها بما أثرناه ضمن هذا المحور، على اعتبار أن ذلك هو ما يسم فكر التغاير والاختلاف الذي قمنا بوضعه كمدخل لفكر الخطيبي، ومن جهة ثانية؛ لأن تقويضها يأتي بمنهاج وآليات العلوم الاجتماعية والإنسانية (الفلسفة أولا والسوسيولوجيا ثانيا)، وهما المرحلتان اللتان تكملان بعضهما البعض عند عبد الكبير الخطيبي. إن هاته السمات تبقى في اعتقادنا أهم ما ميز اشتغال عبد الكبير الخطيبي وفق استراتيجية النقد المزدوج، تبعا للأسس الفلسفية التي وسمت نصوصه وكتاباته، وجعلته يخلخل المركزية اللاهوتية للتراثين الغربي والعربي معا. مفككا مفاهيم الوحدة، التراث، والهوية، داعيا للاختلاف والتقويض، وتفجير المفاهيم من الداخل، معتمدا على عدة منهجية ومفاهيمية استقاها من دعاة الاختلاف والتغاير. طروحات بدأت عند الخطيبي فلسفيا واكتملت سوسيولوجيا، فكيف بنى استراتيجيته النقدية ارتباطا بما كتبه سوسيولوجيا؟

4- النقد المزدوج وبناء المعرفة السوسيولوجية

لقد كان الرهان الأساسي لعلماء الاجتماع المغاربة شبابا في ذلك الوقت، وهم قادمون من جامعات مختلفة مسنودين بخلفيات نظرية متمايزة، وأمام فجوة معرفية كبرى، هو تحرير المعرفة العلمية من نزعتها الاستعمارية. سيجد هؤلاء الباحثون والعلماء أنفسهم مضطرين للتعامل مع إرث ضخم وكبير، يتعلق الأمر بالسوسيولوجيا الكولونيالية. ضمن هذا المستوى، سيوجه ع. الخطيبي ومعه ب. باسكون عملهم ونقدهم لتجاوز هاته الفجوة المعرفية النظرية والميدانية الكولونيالية. لقد بدأ بول باسكون نقده الراديكالي في مقالة له عنونها بالإطار النظري للظاهرة الاستعمارية، وضَمَّنها ثلاثة أسس مهمة للغاية خلاصتهم الأساسية والمركزية هي "أنه ينبغي لنا إعادة النظر في الإطار النظري الذي ندرس من خلاله الظاهرة الاستعمارية".[9] وتبعه في ذلك ع. الخطيبي بمقالة لا تقل أهمية عن مقالة باسكون، ويتعلق الأمر هنا بمقالة سوسيولوجيا العالم العربي، التي يمكن اعتبارها حسب نورالدين الزاهي، الفتح الأكبر لهذا المفكر والإسهام الذي سيعرج بالسوسيولوجيا المغربية داخل آفاق جديدة.[10]. هكذا اتسمت الممارسة السوسيولوجية بهاجس نقدي على المستويين السياسي والنظري. لقد كان تحرير علم الاجتماع والأنثروبولوجيا آنذاك شعارا ومبدأ لكل نقد للمعرفة الاستعمارية، وكان الخطاب النقدي هذا أساسيا لخلق المسافة اللازمة بين باحثي بلد حديث الاستقلال والإرث المعرفي الاستعماري، غير أنه بقي في أغلب الأحيان شعارا لم يتم تطبيقه إلا في حالات نادرة كما يقول حسن رشيق.[11]

1-4- سوسيولوجيا العالم العربي

يمكن اعتبار الخطيبي من بين القلة التي دفعت بالنقد إلى حدوده القصوى، جاعلا إياه نقدا مزدوجا بدل بقائه نقدا أحاديا وواحدا. برز ذلك في فرضياته الثلاث، التي بسطها في سوسيولوجيا العالم العربي تباعا وعلى شكلها التالي:

يقول الخطيبي في الفرضية الأولى: تتمثل المهمة الأساسية للسوسيولوجيا في العالم الثالث في القيام بعمل نقدي مزدوج:

أ - تفكيك المفهومات الناتجة عن المعرفة السوسيولوجية والكتابة السوسيولوجية اللتين كانتا تتكلمان باسم العالم العربي، ويغلب عليهما الطابع الغربي وايديولوجيته المتمركزة على الذات.

ب - وفي الوقت ذاته نقد للمعرفة والكتابة السوسيولوجية اللتين أنجزتهما مختلف مجتمعات العالم العربي حول ذاتها. يقصد الخطيبي إذن حركة مزدوجة منسقة يرى أنها وحدة قادرة على تجاوز مجرد الإعادة والتكرار وتفتح أمام رجال علم الاجتماع إمكانية معرفة أقل استلابا وأكثر تكيفا مع خصوصية الموضوع المطروح (النقد المزدوج، ص 162). وبالتالي تفكيك المفهومات التي تحدث عنها الخطيبي، باعتبارها وقائع تاريخية، تأخذ بنيتها بالنسبة لتفكير خاص وأحداث معينة في الزمان والمكان، وتندرج في كتابات لها منطقها الخاص وتنمو بالاستعارات التي يأخذها علم من آخر وحسب، ولكن بواسطة مجموع تحولي بين التاريخ والإيديولوجيا كذلك، على أساس أن المفهومات والكتابات تترابط، ولكن يقول الخطيبي نلاحظ أنها في كل مرة تأخذ صورة نظرية، وبطانة إيديولوجية تهيمن عليها، ولأنه في كل سوسيولوجيا نجد إيديولوجيا موازية لها، تعبيرا مقنعا عن عدة كتابات ونقلا غامضا للمفهومات من تراث معرفي إلى آخر (ص 165). لذلك يعتقد الخطيبي بأنه من الواجب التخلي عن الدراسة النمطية في السوسيولوجيا؛ لأنها تخفي وراءها ميتافيزيقا "الكليات" في حين أننا نود أن نقضي على تمركز المعرفة الغربية وننتزعها شيئا فشيئا عن "ميتافيزقيتها الأرسطية" (ص 164).

الفرضية الثانية: يعتبر فيها الخطيبي الكتابة السوسيولوجية ككل كتابة فنية (ممارسة خاصة في كل مرة) للتاريخ، والعلم والإيديولوجيا والكتابة السوسيولوجية، لا يمكن أن تكون في رأي الباحث إلا ممارسة عنيفة تأخذ على عاتقها التاريخ والإيديولوجيا والعلم. يجب إذن يضيف الخطيبي تحقيق قطيعة عنيفة مع السيطرة الغربية، وتجاوز قوتنا القاصرة، إذ ليس هناك قول بريء بل على كل قول أن يجيب بطريقته الخاصة عن شعلة الحياة (ص ص 166-167). يجب إذن أن نفكر في الآخر ضمن مجال تفكيرنا الخاص. ولا يعني هذا أننا سنقوم بنقد الغرب نيابة عنه، ولكن المقصود أن نفصل ونبني مقومات العلوم الاجتماعية ضمن إشكاليتنا نحن وعلى كل فالمعرفة الغربية مدروسة من الداخل من خلال قوى التجاوز واللاتمركز وتبرز لنا طبقا لنموذجية متناقضة وصور متنوعة، مرسومة هي ذاتها في إطار الصراع المجتمعي (ص 168). فالمعرفة عند الغرب ليست كلا متجانسا، ولا كيانا متعاليا مركزا حول الإشكالية نفسها وموضوعات التحليل نفسها. إنها مقعرة من كل ناحية بفعل الفوضى التي تصاحب كل تحول تاريخي وعلمي، كذلك المعرفة العربية الحالية، فأرضيتها التنظيمية (التقليدية) هي مجموع تركيبي يشمل سواء اللاهوت أو الفلسفة العقلانية أو التصوفية أو العلوم العلمية، أو المعرفة العلمية، أو المعرفة الخاصة بالثقافة العربية؛ أي الأدب، هذه المعارف تخفي الفقر النظري بواسطة عملية تكرار ما أنتج. لهذا السبب يجب أولا قطع كل صلة بالمحاولة السقيمة المترتبة على تقديس التراث، تلك الحجة التي تسعى إلى تعمية الوعي النقدي، عن طريق عودة وهمية إلى مجد غابر، وحنين نكوصي (ص ص 169- 170). والنقد المزدوج المطلوب هنا يجد موقعه الاستراتيجي ضمن الفرضية الثانية دائما بالنسبة للخطيبي في:

1- تقليص المفهومية الميتافيزيقية الناتجة عن المصدرين معا: المصدر الغربي (يوناني في نهاية المطاف) ومصدر الثقافة العربية (وقد ألح الخطيبي كثيرا في هاته النقطة).

2- إعادة التفكير في مقومات وإيجابية العلوم الاجتماعية الرائجة على ضوء إدراك مختلف للتاريخ، وليس بصفته فراغا يضيع خطواتنا إما في تاريخية تقدس الماضي، وإما في محاكاة رعناء. يريد الخطيبي التاريخ بصفته ممارسة نقدية يحدد وجودنا هنا والآن (ص 170).

الفرضية الثالثة: "إن النقد المزدوج يؤدي إلى إعادة تشييد بنيان العلوم الاجتماعية"، ذلك أن المعرفة العربية الحالية تعمل على هامش المعرفة الغربية، إذا فهي تابعة لها ومحدودة بها، ولا خارجها لأنها لا تفكر الخارج الذي هو أساس لها. لذلك يجب إعطاء الامتياز للتاريخ ضد كل معرفة لا تعدو أن تكون مجرد مزامنة فذلك سيؤدي إلى اندثار الإثنولوجيا (مثلا)، لأن الإثنولوجيا في نهاية التحليل "ظاهرة مرتبطة بالاستعمار والإمبريالية، ولأن أساسها النظري مشبوه أيضا" (ص ص 171- 172).

هذا المثال الوحيد الذي أردفه الخطيبي حول الإثنولوجيا يبين لنا أننا لم نقطع بعد مع مقومات العلوم الاجتماعية ومقومات كتابتها" كما يقول الخطيبي. لذلك، يفترض هذا أيضا دائما حسب الخطيبي أولوية الكتابة السوسيولوجية التاريخية ضد كل أشكال المذهب الوظيفي الذي يسيطر بقوة على العلوم الاجتماعية كما نعرف. "فيصبح إذن من الضروري وفي أسرع وقت أن ننشئ أجهزة من المفهومات ندركها بحسب النظام الاصطلاحي الخاص باللغة العربية"( ص 172). يكتب عبد الجليل حليم بهذا الخصوص "يتحتم على السوسيولوجي العربي كي لا يكتفي باجترار ما أبدعه الآخرون وبتطبيقه بطريقة آلية على مجتمعه، أن يقوم بادئ بدء، بفحص النظريات التي تشتمل عليها السوسيولوجيا الغربية، ونقدها، والعمل على تكييفها مع واقعه الخاص. في هذا ينبغي أن تكمن عملية التعريب، لا في مجرد النقل من لغات أجنبية إلى لغتنا القومية، عملية التكييف/ التعريب، هذه، تمثل في نفس الوقت شرطا من شروط قيام سوسيولوجيا عربية وأحد الرهانات التي على هذه السوسيولوجيا تحقيقها".[12]

استمرارا في نفس الاستراتيجية النقدية، والتفكيكية وارتباطا بالأسس الفلسفية التي بنى عليها الخطيبي استراتيجيته هاته، والتي ستجد اكتمالها أو لنقل بتعبير أصح وضوحها الكبير في أعماله السوسيولوجية. سيواصل طريقه بنفس الآليات، وبنفس القوة داخل عمله الآخر الذي يحمل عنوان "الاسم العربي الجريح". تعد ناظمة هذا الكتاب المركزية هي ذاتها الناظمة السابقة، والتي تمركز عليها مقالنا، ونصوصه التي قمنا باستحضارها. إنها "النقد المزدوج" بكافة أشكاله وتمظهراته وتجلياته.

2-4- الاسم العربي الجريح والنقد المزدوج

يعلن الخطيبي بوضوح اختياراته المنهجية في الاسم العربي الجريح مثلما فعل ذلك في باقي كتاباته، ويربط فكره ونقده، بالنقد الذي قام به آخرون للمركزية الغربية لا سيما في علاقتها بالكتابة. يبسط هاته الفكرة بقوله الآتي: "لقد بين جاك دريدا كيف أن المعرفة الغربية (منذ الاغريق) ارتبطت بمسألة الكتابة، فالمقولات الأساسية كالمعقول/ المحسوس، والحضور/ الغياب إلخ... تحيل على نظام إيديولوجي، هذا الذي ربط الغرب من خلال تاريخ مجاله المعرفي بمغامرة كتابية، تكبت، بهذه الطريقة، كل كتابه مرسومة غير قابلة للخضوع لمثل هذا النفوذ الميتافيزيقي (الاسم العربي الجريح، 2009، ص 57)[13]. كبت هاته الكتابة والتعتيم عليها ودفنها وتجاوزها ونفيها خارج ذاتها، بعيدا عن موطنها، هو ما حاول الخطيبي تناوله، ومن ثم تفكيك النسق/ الرؤية التي هي ميتافيزيقا كلية، والتي كبتت هاته الكتابة (برموزها، ورمزيتها، وسردياتها)، ودفعت الخطيبي إلى التخلي عن "استبدادية" هاته الكتابة "تخليا حقيقيا كما يصفه نفس الباحث.( نفسه، ص 26). فقرأ هاته الموضوعات المتصدعة قراءة نقدية راديكالية، واخترق وفجر انغلاقها داخل منجز الاسم العربي الجريح. يعتبر م. بنيس ضمن ملاحظاته التي قدمها حول هذا الكتاب، أن هذا الأخير يعيد "قراءة الجسم العربي من خلل موروث الثقافة الشعبية المغربية بوعي نقدي، يعتمد بعدين أساسيين هما نقد المفهوم اللاهوتي للجسم العربي من ناحية، ونقد المقاربات الإثنولوجية التي تتعامل مع الثقافة الشعبية تعاملا خارجيا ومتعاليا من ناحية ثانية." (ص ص 5-6). فكل اطمئنان يجد نفسه هنا محاكما، يستقبله سؤال ما نطق به اللسان من قبل.

لقد تعاملت الثقافة العربية مع الجسم انطلاقا من المتعاليات التي جعلت قراءتنا له وفق قوانين لاهوتية، تفرغ الجسم من حمولته التاريخية والذاتية، ولازالت تقدس المتعاليات، أمام هذا الوضع ستستند قراءة الخطيبي للجسم العربي إلى الفرق، باعتباره قانون أساس من قوانين هذه القراءة. إن الفرق إقرار بالتعدد، ويستحيل الوصول إلى الكشف عن غور الاسم العربي الجريح من دون إعطاء الاعتبار لتعدد اللغات التي تم بها صوغ هذا الجرح. حديث الكتب عن الكتب هو في بعد من أبعاده حديث المركز عن الهامش، حديث الوحدة عن التعدد، وحديث الغياب عن الحضور. إن الفرق هو الفاعل المحرك بالنسبة إلى الخطيبي، هناك "فرق طبقي، فرق لغوي، فرق تاريخي، فرق جغرافي، فروق لا نهائية عمدت الثقافة العربية الحديثة، أكانت سائدة أم في طريقها للسيادة، إلى قمعها." (ص 7).

والقانون الثاني لهاته القراءة يعتمد تفكيك الأرضية اللاهوتية التي تتحرك في مجالها رغما عنا، فهي الموروث الذي لم يقترب منه النقد، ما دام مهابا ومقدسا في لا وعينا، إن لم يكن في وعينا أيضا. "وهنا يجد نيتشه وهايدجر وماركس وفرويد وليفي ستروس ولاكان ودريدا شرعية الكلام في نص الخطيبي" كما يسجل ذلك م. بنيس (ص 8). شرعية في ارتباطها بدريدا تم إعلانها بكل وضوح، كما ظهر ذلك في أحد نصوص الاسم العربي الجريح التي أشرنا لها سلفا، وتبرز أيضا حينما يقول الخطيبي في علاقته بنفس الباحث (دريدا) وأفكاره "هناك حجة حاسمة تربطنا بنصه، وضمن هذا المعنى فإن ميتافيزيقية الدليل، وهي ترجعنا لاستبداد غربي متمركز حول اللوغوس، تتنكر لنفسها بقدر ما تخفي وضوح الثقافات الأخرى. فكل كتابة نقدية لا يمكنها إلا أن تكون تمزيقا للوجود التاريخي، تمزيقا حيا، بدءا من تساؤله، وحدود هذا الاستبداد، أي المركز، الأصل، وتعارضات الدال/ المدلول، المعقول/ المحسوس. وفي هذه المسافة الراحلة نفسها يتحدد المصير وينجرح (ص 22-23). وبه ومن خلاله سيقوض الخطيبي الثقافة الشعبية ويسائلها بكل مكنوناتها: حديث الأمثال والوشم وبلاغة الجماع، والحكاية الشعبية. وهنا تمنحنا كتب الخطيبي متتالية بارعة وقوية من الأدلة التي لا تقبل الاختزال ومفسرة في آن مما يسمح لنا بالإمساك بالآخر انطلاقا من نفسنا (ص 16).

لقد شكل النقد المزدوج نقطة انطلاق وقوة عبره ووفق هذه الاستراتيجية، سيقوم بتعرية مناطق التحكم والهيمنة الضمنية والظاهرة التي تقبع خلف الكتابة اللاهوتية والميتافيزيقية. (الغربية والعربية – الإسلامية) اللتان تريدان إقصاء أي فكر مغاير (ثقافات قبل الإسلام، قبل التاريخ – بمعناه ومنظوره الديني). لذلك حاول الخطيبي ترجمة الدلائلية الشعبية التي تم تغييبها وكبتها قسرا، وبالتالي إفراغها من حمولتها الرمزية، ترجمة ستكون تدخلا إيديولوجيا عنيفا عند الخطيبي" يخترق كل قرار للكلام. والكتابة بهذا المعنى، فتح في جسم من يتكلم، محاكمة للمعنى التاريخي، بواسطتها يدمر صراع طبقي داخل النص".( ص27) بين دلائليتين واحدة شعبية، والثانية دينية. بهذه الكيفية سيكون الخطيبي كما يقول نورالدين الزاهي "ماركسيا مغايرا لجميع الماركسيين (برصده الصراع الطبقي داخل النص)"[14]، في دراسته للثقافة الشعبية في الاسم العربي الجريح. ومسائلا، ومفككا قبل ذلك، بنفس المنهجية ونفس الآليات، ضمن نفس التصور والاستراتيجية التي وسمت جل أعماله بقوتها الراديكالية والجدرية، داخل نصوصه النقدية الأخرى التي تم تجميعها ووضعها في كتاب النقد المزدوج. وبهذا سيضع الخطيبي اسمه مع ثلة المفكرين والباحثين الذين سيؤسسون لسوسيولوجيا مغربية قائمة ومستقلة بشكل أو بآخر عما خلفه الإرث الاستعماري، وبالتالي موقعة هاته المعرفة ضمن سياقها الاجتماعي والسياسي، وجعلها حاضرة في أسوار الجامعات والنقاشات العلمية، والتي كانت خاتمتها النهائية تأسيس معهد يضم هذا العلم الجديد/ القديم قبل أن يتم غلقه قسرا وبشكل نهائي. لهاته الأسباب ولهاته المساهمة التي قدمها هذا الباحث، ولاسيما في منجزيه النقد المزدوج والاسم العربي الجريح، والحالة هاته يمكن اعتبار هذين العملين "الصناعة السوسيولوجية الثقيلة لعبد الكبير الخطيبي".[15]. ويمكن اعتبار الخطيبي ذاته أحد رموز الصناعة السوسيولوجية الثقيلة الكبرى والكبيرة داخل المغرب وخارجه. فهل تصح بعد كل هذا، تسميته بمغدور المثقفين ومنسيهم كما قال عنه ر. بارث ذات مرة؟[16]

على الرغم من ذلك، لا يمنعنا هذا من طرح بعض الأسئلة في سياق ما تم عرضه وما كتبه عبد الكبير الخطيبي، لأجل تعميق هذه الأسئلة في العلاقة مع قارئ المقال وكاتبه في الآن نفسه، تفكيرا، وقراءة، وبحثا. ونعرض أسئلتنا كالتالي: هل يمكن اعتبار النقد المزدوج الذي دعا إليه الخطيبي قد استنفذ جدواه وضروراته في الوجود، كون السياق الذي أتى ضمنه، تم تجاوزه وشهد تغيرا وتغييرا في مستوى الرهانات التي كانت مطروحة آنذاك، وبالتالي عاد الرهان في الوقت الحالي هو تغيير هذا النقد المزدوج إلى مستوى آخر يهم البناء المزدوج؟ وهل للنقد المزدوج نقط ضعف مثلما له نقط قوة كبرى ضمن استراتيجيته التي عرضناها وأرادها الخطيبي أن تكون كما أتت في ذلك الوقت؟ وإن كان لنقط الضعف هاته من وجود، فأين تبرز وتكمن داخل هاته الكتابات وكتابات أخرى لم نأت على ذكرها في هذا المقال؟

[1] نور الدين الزاهي، المدخل لعلم الاجتماع المغربي، منشورات دفاتر وجهة نطر، الطبعة الأولى، 2011، ص: 88

[2] عبد السلام بنعبد العالي، قراءة في تيارات الفكر المغربي، مجلة أبواب، دار الساقي، بيروت، العدد 14، خريف 1997، ص: 29

[3] المرجع السابق، الصفحة نفسها

[4] كل الصفحات المرفقة داخل المقال إلى حدود المحور الأخير "الاسم العربي العربي الجريح والنقد المزدوج" ترتبط بكتاب عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج، ترجمة محمد برادة وآخرون، منشورات الجمل، بغداد – بيروت، 2009

[5] عبد السلام بنعبد العالي، قراءة في تيارات الفكر المغربي، مذكور سابقا، ص: 36

[6] عبد الكبير الخطيبي، المغرب العربي وقضايا الحداثة، ترجمة فريد الزاهي وآخرون، منشورات الجمل، بغداد – بيروت، 2009، ص: 59

[7] محمد الشيخ، مسألة الحداثة في الفكر العربي المعاصر، منشورات الزمن، 2004، ص ص: 81-83

[8] عبد السلام بنعبد العالي، قراءة في تيارات الفكر المغربي، مذكور سابقا، ص: 36

[9] بول باسكون، ضرورة إعادة النظر في الإطار النظري لدراسة الظاهرة الاستعمارية، نقله عن الفرنسية: مصطفى كمال، ضمن كتاب بول باسكون أو علم الاجتماع القروي، مطبعة دار القرويين، الدار البيضاء، 2013، ص ص: 133- 139

[10] نور الدين الزاهي، المدخل لعلم الاجتماع المغربي، مرجع سبق ذكره، ص: 80

[11] حسن رشيق، الممارسة الأنثروبولوجية في المغرب، ضمن كتاب الأنثروبولوجيا في الوطن العربي، حوارات لقرن جديد، أبو بكر باقادر، حسن رشيق، دار الفكر، دمشق، 2012، ص ص: 136-137

[12] عبد الجليل حليم، الإبداعية في الميدان السوسيولوجي شروطها ورهاناتها، ضمن كتاب الكتابة السوسيولوجية عند عبد الجليل حليم (مدخل إلى السوسيولوجيا المغربية ورهاناتها)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز فاس، 2002، ص: 190

[13] الاسم العربي الجريح، ترجمة محمد بنيس، منشورات الجمل، بغداد - بيروت، 2009، كل الصفحات المشار اليها لاحقا داخل الورقة، ترتبط بهذا الكتاب.

[14] نور الدين الزاهي، المدخل لعلم الاجتماع المغربي، مذكور سابقا، ص: 84

[15] المرجع السابق، الصفحة نفسها

[16] يقول رولان بارث عن الخطيبي بهذا الخصوص: "دائما ما يجد الخطيبي نفسه مغدورا من طرف الآخرين، سواء أكان ناطقا (أي الفلكوريين) أم مجرد منسي بكل بساطة (أي المثقفين)" انظر:

- الاسم العربي الجريح، مرجع سبق ذكره، ص: 16

ويقول نور الدين الزاهي: "لم يكن رولان بارث محقا حينما اعتبر الخطيبي منسي المثقفين (أو مغدورا من طرفهم) لأنه ظل مثلما سيظل حاضرا في صلب ما أسسه وسار عليه. فلا يمكن تجاوزه اتفاقا أو اختلافا في جل إن لم نقل كل قضايانا الثقافية والفكرية والجمالية والأدبية. راجع حول هذ الأمر:

- المدخل لعلم الاجتماع المغربي، مذكور سابقا، ص: 89