علي المحافظة: تحولات خطاب الفكر العربي المعاصر
فئة : حوارات
الأستاذ المؤرّخ الأردني علي المحافظة (و1938) واحد من أولئك المفكّرين العرب الذين يمكن نعتهم بالشهود على تاريخ الفكر العربيّ المعاصر، فقد عاين أبرز الأحداث التي تحكّمت في هذا التاريخ، لا سيما أبرز ثورتين عاشهما العرب في تاريخهم المعاصر، وهي ثورات التحرّر الوطني، وما يعرف بثورات الربيع العربي. فكان ممّن فكّروا في المعضلات التي منعت من تحقّق الآمال المعلّقة على الثورة الأولى، وسجّل تفكيره ذاك في مجموعة من المؤلّفات التي لن تنتهي صلاحية تحاليلها، لعلّ أبرزها كتاب الاتجاهات الفكريّة عند العرب في عصر النهضة (1975-1987م)، وكتاب أبحاث في تاريخ العرب المعاصر(2000م)، وكتاب الديمقراطيّة المقيّدة، حالة الأردن..(2001م). فضلاً عن مجموعة من الكتب الأخرى.
التقينا به بمناسبة المؤتمر السنوي لمؤسّسة مؤمنون بلا حدود بالأردن، وحاورناه حول أمور كثيرة، أهمّها ما اتّصل بورقته خلال المؤتمر والتي تعلّقت بـ"الجذور التاريخيّة لحركات الجهاد الإسلاميّ السلفيّة الرّاهنة".
أنس الطريقي: تحدّثت عن ستّ مراحل للدعوة السلفيّة منها في المرحلة الحديثة مرحلة البنّا، ومرحلة ما بعد هزيمة 1967، وثمّة مرحلة أخرى هي مرحلة الثمانينات، ثمّ ها هي تحلّ مرحلة جديدة لهذه السلفيّة، لكن الملاحظ أنّ الخطاب لم يتغيّر عندها، على الأقلّ في مستوى أصوله النظريّة. حسب رأيكم، لماذا عادت هذه التيّارات الدينيّة بالمعنى نفسه الذي روّجت له منذ زمن؟
علي المحافظة: هذه التيّارات لم تمت، هي موجودة منذ زمن، هذه التيّارات التقليديّة التي ترفض الغرب وترفض حضارته ولا تقبل بكلّ ما تقوم به الدولة الحديثة التي نشأت عندنا بعد الاستعمار. هي تعتقد أنّها مخالفة للدين الإسلاميّ وأنّه في ظلّ غياب الخلافة الإسلاميّة وغياب الشريعة أصبحنا غير مسلمين، وأنّ الإسلام عندنا يقتضي رفض الغرب وحضارته وكلّ مظاهر الحداثة. هذه التيّارات موجودة عندنا من أيّام العثمانيّين، واستمرّ وجودها، وقد كان التبشير المسيحي في بلادنا يثيرها، خاصّة عندما كان يعقد مؤتمراته في الدول العربيّة كتونس والجزائر والقاهرة. هؤلاء نظروا إلى الاستعمار الغربيّ والتبشير المسيحيّ بصفته هجومًا على الإسلام وعداءً له. هم يؤمنون أنّ الغرب عدوّ لهم، هو العدوّ التقليديّ للإسلام، ولأنّه عدوّ لا يجوز أن نأخذ منه شيئًا، وكلّ ما نأخذه منه لا يمكن أن يفيدنا في شيء.
هم بذلك يخالفون منطق التاريخ، ويخالفون منطق التحوّلات الحقيقيّة التي عاشتها شعوب آسيا وأفريقيا، ونقلتها إلى الحداثة. كيف أصبحت اليابان دولة عصريّة؟ الجواب لأنّها أقبلت على الغرب الذي أذلّها، وأخذت منه الحداثة وأخذت منه التكنولوجيا الحديثة، وتقدّمت حتّى أصبحت تنافس الغرب في صناعاته ومنتجاته وحتّى في مواقفه السياسيّة. والشيء نفسه حصل في الصين، وحصل أيضًا في ماليزيا، وحصل أيضًا في أندونيسيا، وفي غيرها من بلدان العالم، في آسيا، وفيها دول إسلاميّة كماليزيا وأندونيسيا، وإيران سواء في عهد الشاه أو في العهد الحالي. الثورة الإسلاميّة في إيران ليست ثورة غبيّة ترفض الغرب، وترفض كلّ ما جاء به، هي أقبلت على الغرب وأخذت منه التكنولوجيا الحديثة والعلوم الحديثة والفكر والفلسفة الغربيين. وهذا ما نختلف فيه نحن السنّة عن الشيعة، الشيعة يقبلون الفلسفة ويدرّسونها، ويدخلونها حتّى على الدين، بينما نحن نرفض ذلك. ما زلنا نعتبرها حتّى في قرارة أنفسنا كفرًا وإلحادًا. هذا شيء في غاية الأهميّة. كلّ الشعوب التي أخذت من الغرب حضارته وحداثته وكيّفتها مع أوضاعها ومع معتقداتها السياسيّة والدينيّة أحرزت تقدّمًا، والشعوب التي رفضت التعامل مع الغرب هي التي خسرت.
أنس الطريقي: أكّدتم في خصوص هذه التيّارات أو هذا التيّار التسييسي للدين أنّ الأفكار الكبرى لم تتغيّر في خطابه، فما سبب ذلك؟ هل هو سياسيّ تابع لإرادة سياسيّة معيّنة أم أنّ السبب انغلاق هذا الخطاب على نفسه؟
علي المحافظة: نعم هو انغلاق هذا الخطاب على نفسه، على الرغم من أنّه حدثت خرجات في الفكر العربيّ المعاصر: فقد جاء الفكر الليبراليّ في الثلاثينات والأربعينات، لكن في الخمسينات قضت الانقلابات العسكريّة على الفكر اللّيبراليّ. ولمّا قضي على الفكر الليبراليّ وحلّ محلّه الفكر القومي الشموليّ فكر عبد الناصر وفكر البعث مثلاً، من ظلّ في الميدان هو التيّارات الإسلاميّة السلفيّة، وعندما انهار الفكر القومي بدوره بعد 1967 احتلّت التيّارات الإسلاميّة الفراغ. لم يبق أيّ فكر لمواجهتها. لذلك فالقضيّة في غاية البساطة، والدليل على ذلك هو أنّ الشباب لمّا قاموا بالربيع العربي في 2011، لم يكونوا منظّمين، لم يكونوا مؤطّرين حزبيًّا أو سياسيًّا، هم الذين قاموا بالثورة وهم الذين قدّموا الضحايا، وهم الذين حقّقوا نجاحًا. في الثورات التي حدثت في تونس ومصر وفي الأماكن الأخرى الذي حدث أنّ الإسلاميين كانوا هم المنظّمين، فعندما أطيح بالأنظمة الموجودة فازوا بالانتخابات، لأنّهم كانوا جاهزين تنظيميًّا لا غير، أمّا عدّتهم الفكريّة فلم يغيّروها مطلقًا. الآن هم يحاولون أن يقولوا نحن نريد كذا، ولكن عمليًّا الأفكار لم تتغيّر، هي ذات أفكار حسن البنّا مؤسّس الحركة. وأفكار راشد الغنّوشي، وحسن الترابي، لم تقدّم جديدًا، هي مجرّد محاولات عقيمة وربّما مموّهة للخروج على القواعد الأساسيّة للخطاب الإسلامويّ الأمّ، لكنّها محاولات شكليّة لا غير.
أنس الطريقي: بوصفكم شاهدًا على الفترتين، فترة الثورات التحرّريّة العربيّة من الاستعمار، وفترة الثورات الحاليّة على الدول الوطنيّة التي عدّت فاسدة، إذا قارنتم بين الفترتين والوضعين، أيّهما أفضل، هل يحمل الوضع الجديد وعودًا تتجاوز وعود الوضع القديم التي يراها الكثيرون وعودًا لم يتحقّق منها القدر الأدنى؟
علي المحافظة: من كلّ ما يحصل الآن في الوطن العربيّ من دمار وتخريب وحرق أنا متفائل، لأنّه مهما يقل حول هذا الوعي العربيّ فإنّ الثابت أنّه ارتقى إلى مستوى جيّد من الإدراك، وأدرك العرب بوضوح أنّ الإسلاميّين في تونس ومصر كان هدفهم الوحيد الوصول إلى السلطة وأنّهم غير مهيّئين وغير مؤهّلين لإدارة السلطة لا علميًّا ولا فنيًّا ولا إداريًّا، وأنّ هؤلاء الناس هدفهم ليس الدعوة الإسلاميّة كما يقولون وإنّما هدفهم الوحيد هو السلطة. بعد أن أدرك الناس هذه الحقائق أصبح هنالك درجة عالية من الوعي نلاحظها في تونس ومصر والمغرب وفي الجزائر وحتّى في المشرق العربيّ. الإحساس واضح عندنا في الأردن، وفي فلسطين، وهو يحتاج إلى بعض الوقت حتّى تتغيّر الأمور وتتغيّر النظرة عند الناس. أنا أعتقد أنّه لم يعد للإسلاميّين فرصة لاستلام الحكم في المستقبل في أيّ بلد عربيّ.
أنس الطريقي: لكنّ هذا يعارضه واقع انتشارهم اجتماعيًّا، فخطابهم ما زال قادرًا على أن يستقطب بقوّة شريحة هامّة من المجتمع، ويلقى رضاها وتأييدها.
علي المحافظة: أنا أعرف ذلك، ولديهم أساليب في ظلّ الفقر والبطالة والتهميش لاستقطاب الشباب وإقناعه والحصول على ولائه وجدانيًّا وسياسيًّا، لكنّ العدد سيتناقص تدريجيًّا، وسيصبحون في عزلة ما لم يطوّروا فعليًّا أفكارهم.
أنس الطريقي: كيف يمكن أن نغلق الأبواب نهائيًّا دون عودة هذه الحركات الماضويّة إلى الحكم، بخطابها البالي نفسه الذي لم تجدّده مطلقًا؟
علي المحافظة: هذا لا يكون إلا بإقامة نظام حكم عادل، نظام ديمقراطيّ يؤمن بمشاركة الشعب كلّه. هذه هي الوسيلة الوحيدة أمامنا.
أنس الطريقي: عدالة أم حريّة، ما الأهمّ بالنسبة إلينا؟ وعينا الإسلامي المعاصر يبدو امتدادًا لفكر ابن خلدون الذي اعتبر العدالة أساس العمران، بينما القيمة المؤسّسة للدولة الحديثة هي الحريّة، هذا إن لم ننظر للتعديلات النيوليبراليّة الطارئة عليها خاصّة بعد جون راولس في اتّجاه دمج مطلب الحريّة في مطلب العدالة. هل نختار النموذج الليبرالي الكلاسيكيّ أم النموذج النيوليبراليّ الذي يدمج القيمتين في منظومة سياسيّة واحدة؟
علي المحافظة: المؤكّد أنّه التوازن بين هاتين القيمتين، هذا هو الاتجاه الذي سيحصل في العالم كلّه، إنّه التوفيق بين الحريّة المطلقة التي كان ينادي بها مبدأ "دعه يعمل دعه يمرّ"، ومبدأ العدالة الذي يقتضي المساواة بين الجميع أمام القانون، هو التوفيق أيضًا بين التنمية المستدامة التي تحقّق المساواة في الفرص، والحريّات الفرديّة والحريّات العامّة.
أنس الطريقي: الحلّ سياسيّ إذن، أم أنّه سياسيّ وثقافي؟
علي المحافظة: يجب أن يسير الحلاّن جنبًا إلى جنب، لكنّ الحلّ السياسيّ يجب أن يسبق الحلّ التربويّ، يجب أن يكون الخيار التثقيفي التربوي خيار دولة ومشروع دولة، وتتبنّاه على مدى طويل وتسخّر له وسائلها على نطاق واسع، ولن تنفع المبادرات الفرديّة، وحتّى الدولتيّة مادامت ظرفيّة. نحن في حاجة إلى مشروع سياسيّ تربوي تثقيفيّ يكون خيارًا سياسيًّا قارًّا للدولة مهما تغيّرت الحكومات.
أنس الطريقي: لكن الحلّ التربوي يحتاج إلى قيادات سياسيّة مقتنعة به ومؤمنة بجدواه، ووطنيّة أيضًا. لكنّ هذه القيادات لن تأتينا من السماء هي في النهاية إفراز للشعب، ولكنّه شعب في الغالب لا ينظر إلى السلطة إلاّ بوصفها أداة تحقيق المصلحة الضيّقة والذاتيّة، فكيف ستخرج قيادات تحرّريّة من شعب هو في الغالب تسلّطيّ نفعيّ؟
علي المحافظة: أنا لا أعتقد أنّ الوطن العربيّ خال من القيادات المؤمنة الصادقة العادلة النظيفة غير الفاسدة. هذه القيادات موجودة، لكنّه غير مسموح لها بأن تصل إلى موقع القرار، هناك قوى رجعيّة كالتي نتحدّث عنها، وهناك قوى الدولة القديمة أصحاب المصالح الحقيقيّة الذين لا يريدون التفريط في مصالحهم وفي أيّ تغيير، ويكفي أن ندخل في سياق الممارسة الديمقراطيّة التي يبدو أنّنا بدأنا ننخرط فيها لتجد هذه القيادات الوطنيّة فرصتها للوصول إلى السلطة.
أنس الطريقي: في تونس هناك هذه المدّة حديث عن مبدأ المصالحة بهدف استغلال أتباع الدولة القديمة في تمويل مشروع دولة جديدة يقطع مع المشروع القديم، هل أنتم مع هذه الفكرة؟
علي المحافظة: هذا ممكن في حالة واحدة أن تكون هناك قيادة وطنيّة قادرة على ضبط هذا العمل، يعني أن لا يؤدّي إلى استلام هؤلاء السلطة من جديد، والعودة من جديد إلى المربّع الصفر. هذا في غاية الخطورة، لذلك لا بدّ من قيادات واعية تدرك هذه الحقيقة. هؤلاء الناس لهم مصالحهم وسيسعون إليها باستمرار بكلّ الوسائل بما في ذلك العنف والفساد. لكن إذا وجدت نخبة سياسيّة واعية تتنبّه لهذا الأمر تستطيع أن تتغلّب على كلّ هذه الأمور المحتملة بكلّ سهولة.
أنس الطريقي: بوصفكم مؤرّخًا، وفي إطار حديثنا عن الحلول، هل للتراث دور في الموضوع، وكيف يمكن التعامل معه ليكون جزءًا من الحلّ كما يريد له الكثيرون أن يكون؟
علي المحافظة: التراث لن نخترعه من جديد، كلّ الأمم التي تقدّمت استخدمت تراثها دافعًا أو حافزًا للتقدّم وللحصول على الحداثة، هكذا فعلت اليابان، وتفعل الصين، وتفعل كلّ الأمم بما في ذلك أمريكا الجنوبيّة. كلّ الأمم اتّجهت هذا الاتّجاه. لماذا لا نفعل مثلها؟ نحن في تراثنا لدينا ما يدفعنا إلى التقدّم، وإلى إحراز المجد. هذا هو دور التراث، وليس أن يكون التراث جزءًا من الحلّ. لا يمكن أن يكون التراث جزءًا من الحلّ. وإلاّ فذاك يعني العودة إلى الماضي، واستعمال أساليب الماضي. هذا مستحيل، الدنيا تتغيّر وتتحوّل .