عن الديني مجالاً للعولمة
فئة : مقالات
-1-
لو كان ثمة من أثر مباشر للعولمة ولثورة تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال للعقود الأخيرة من القرن الحالي، فسيتمحور حتمًا حول حقيقة أنّ الأفراد كما الجماعات قد باتوا بإزاء عرض ديني عالمي ضخم، تمتزج بداخله، وبأشكال مختلفة، كل مظاهر الإيمان والممارسات والقيم والهويات والانتماءات وما سواها.
بالتالي، فإنّ عولمة الديني وانحسار منسوب الارتباط الترابي الذي كان يميزه، طيلة مراحل ما قبل العولمة وانفجار الفضائيات والشبكات الرقمية، إنّما أسهم في تعريض الدول والمجتمعات لتأثيرات عابرة للحدود، من المتعذر معها إعمال القوانين أو التشريعات أو اللوائح الوطنية أو القومية، والتي كانت إلى حين عهد قريب، رادعة للتأثيرات ذاتها، أو حادة من مفاعيلها في الزمن والمكان.
ولذلك، فإنّ تقدم مد العولمة وتراجع المستويات الوطنية في مراقبة البعد الديني وضبطه، قد أفرزا إكراهين اثنين بوجه الدول، كما بوجه المؤسسات القائمة على الشأن الديني بهذا البلد أو ذاك:
+ الإكراه الأول أنّ هذه الظواهر الجديدة لا تعترف بـ"مواثيق السلوك" السائدة، أو بالقيم الناظمة للمواثيق ذاتها، إذ تدفع في الغالب الأعم، بجهة استنبات "مجموعات دينية" وتكريسها، مجموعات ولاؤها لقيم المجموعات ذاتها، وليس للقيم العامة التي بنت ولعهود طويلة مضت، لعمران العيش المشترك، بالارتكاز مثلاً على قيم الحرية والانفتاح والمواطنة وغيرها.
وعليه، فلن يبدو الأفراد المنتمون لهذه المجموعات مواطنين من صنف ما، بل سيذهب بهم الأمر (لا سيما بالدول المتقدمة اللائكية) إلى التمرد على القيم المتعارف عليها ويقصون، والحالة هاته، أنفسهم بأنفسهم، من المشترك القائم الذي يضمن التعايش في ظل قيم واحدة وموحدة.
+ أما الإكراه الثاني فيتمثل في بروز حركات تتجاوز الفضاءات الترابية وتشتغل على طريقة الشركات متعددة الجنسيات، والتي لا تعير كبير اعتبار للدول أو للحدود الجغرافية أو لقوانين الدول الوطنية أو القومية وقواعدها.
لا يقتصر الأمر هنا على الجماعات الدينية (من كل الأديان) التي تتبنى إيديولوجيات عالمية، فتقيم لها هنا وهناك "تمثيليات" وتنظيمات قطرية، بل يتعداها إلى ظاهرة الطوائف التي تركب ناصية الدين في صيغه الأولية (البدائية يقول البعض)، أو تتدثر بمرجعيته لنشر معتقداتها وتمثلاتها وشعائرها بهذا الشكل أو ذاك، وفي غفلة من مراقبة مصالح الدولة المركزية في العديد من الحالات.
يترتب على هذين الإكراهين أنّ الديني لم يبق ولن يعود (إذا تسنى لهذين الإكراهين أن يتقويا ويتوسعا) طقسًا جماعيًّا، بل سيغدو ممارسةً فرديةً صرفةً، في سياق ما توافق علماء الاجتماع الديني على وصفه بالتدين الفردي أو الفردانية الدينية، واعتبار التدين (لا الدين) مدخلاً من مداخل الخلاص الفردي في الزمن والمكان.
ويترتب عليهما أيضًا أنّ هذا النمط من التدين لن يتمظهر فقط على مستوى "الطبقات الراقية"، حيث تغلغل الخطاب المتماهي مع النمط إياه (خطاب "الدعاة الجدد" مثلاً)، بل سينجح في اختراق باقي الشرائح الاجتماعية، أو التي لديها منسوب للقابلية مرتفع للقبول بكذا خطاب، لا سيما وأنّه لا يزايد كثيرًا على السلطة أو على الثروة أو على قيم النجاح والعمل أو على ما سواها. وسيتمظهر كذلك (بالدول المتقدمة) على شكل خطاب لن يتوانى في ركوب ناصية الديموقراطية لترويج مضامين متشددة، أو برامج دينية متطرفة وقس على ذلك.
بيد أنّ تعاطي الحكومات والسياسات العمومية مع النمط الثاني يبقى غير ذي جدوى كبرى، إذ مراقبة المضامين المروجة بالمساجد مثلاً (أو بالكنائس)، كما إنشاء معاهد لتكوين الخطباء، ستكون غير ذات مفعول، أمام الأحجام الضخمة من المواد التي تبثها مئات الفضائيات العابرة للحدود، أو تقدمها آلاف المواقع المقتنية للشبكات الرقمية.
لا ينحصر ضعف الحكومات والسياسات العمومية على هذا الجانب، جانب تعذر مراقبة الخطباء والمضامين التي يروجونها، بل يتعداه إلى تراجع قدراتها على مراقبة التمويلات العابرة للحدود، أو المقتنية للشبكات الألكترونية، أو المتدثرة خلف عمليات قد لا تبدو دائمًا أنّها موجهة لهذه المجموعة أو تلك الطائفة.
والتلميح هنا يطال "الحركات الإسلامية" التي غالبًا ما لا تعدم مصادر التمويل، لا سيما مع تزايد المنافسة حول الدين (بين المغرب والجزائر بفرنسا مثلاً) أو الاحتراب على خلفية من الطائفة أو المذهب، كما الحال بين إيران والعديد من دول الخليج وشمال إفريقيا، دع عنك التطاحنات على خلفية من الدين أو التدين بداخل هذا البلد أو ذاك.
-2-
إذا كانت العولمة وثورة تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال قد أفرزت ظواهر في التدين جديدة، وتحديات بوجه الدول والحكومات بجهة تعذر تأطير هذه الظواهر بأفق مراقبتها، فإنّ العديد من هذه الدول والحكومات (لا سيما بالاتحاد الأوروبي حيث للمسألة الدينية حساسية مفرطة) قد سلكت ثلاثة مسالك كبرى مدخلًا للتعامل مع "المستجدات الدينية" الجارية:
+ المسلك الأول ويتمثل في اللجوء إلى المستوى التشريعي الصرف لاستصدار قوانين وقرارات، تؤكد الحكومات من خلالها ثبات المعطى أنّ ثمة حدودًا اجتماعية للديني، لا يمكن للفرد أو للجماعة أن يتجاوزوها لهذا الاعتبار أو ذاك. لذلك رأينا أنّ فرنسا مثلاً لم تتهاون كثيرًا مع ظاهرة حمل الرموز الدينية، أو مع ممارسات المجموعات الطائفية، ناهيك عن تحجيم كل ما من شأنه أن يطال الطبيعة اللائكية التي تميز الديني عن السياسي، أي بين ما هو شأن خاص وما هو شأن عام.
+ المسلك الثاني ويكمن في إلحاح هذه الدول والحكومات على ضمان الحرية والمساواة في التعبير عن الهويات الدينية، ليس فقط عبر الاعتراف بالمؤسسات التي تدافع عن الهويات إياها، بل أيضًا من خلال تحديد قواعد اللعب التنظيمية، التي لا تسمح بتجاوز المشترك القائم، فما بالك الفعل من خارجه أو بموازاته.
+ أما المسلك الثالث فمؤداه المراهنة على هذه المؤسسات الوسيطة (من قبيل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية مثلاً) للحد من نعرات التشدد التي قد تظهر هنا أو هناك، ويكون من شأنها المس بالحريات الفردية، أو امتطاء ناصية الخطاب الهوياتي لاستهداف قيم (من قبيل الحرية والمساواة والمواطنة) لم تعد مجال منازعة، فما بالك أن تكون مادة للتشكيك أو للمزايدة.
هذه المسالك الكبرى هي التي باتت تؤسس لإطار الفعل الديني زمن العولمة وانفجار الشبكات الإعلامية والاتصالاتية. بيد أنّ المسالك إياها لا تشتغل بالوتيرة نفسها وعلى أساس الخلفيات نفسها، وإذا كان لهاتين الظاهرتين أن تنجحا في تأجيج التمايزات المذهبية والفقهية داخل الدول العربية/الإسلامية، وفيما بينها، فإنّها لم تبلغ هذا المبلغ بالدول المتقدمة. والسبب في ذلك لا يعود فقط إلى أنّ هذه الدول قد ارتضت اللائكية نمطًا في تدبير ثنائية الخاص والعام، ولكن أيضًا لأنّها تتعامل مع الدين (كل الأديان ربما) باعتبارها رافدًا اجتماعيًّا ضمن روافد اجتماعية أخرى ليس إلا.
والشاهد على ذلك أنّ العديد من استبيانات الرأي بأوروبا تبين أنّ الأهمية التي يوليها الأفراد للدين هي أقل بكثير من الأهمية المولاة للعائلة أو للعمل أو للأصدقاء أو للتسلية أو للترفيه. وهذا مؤشر آخر على ما أسميناه بداية هذه المقالة، بفردانية التدين أو انتشار بعد التدين الفردي، باستقلالية شبه تامة عن المؤسسات التي تقوم على هذا الدين أو ذاك.
بامتداد لذلك، تلاحظ العديد من الدراسات أيضًا أنّ ثمة تزايدًا في التعلق والانتماء للبعد "الثقافي/الديني"، لكن دون أن يعبر ذلك عن وجود "إيمان" قبلي، أو ممارسة للطقوس الدينية بهذا الفضاء الاجتماعي أو ذاك.
معنى هذا أنّه لم يعد "مقبولاً" (بالدول المتقدمة تحديدًا) أن تفرض الأديان على المجتمعات معايير السلوك (المدني أو السياسي) ولا أن تكون هي المرجعية في الفعل الفردي أو الجمعي. كما لم يعد "مقبولاً" أن تفرض المؤسسة الدينية رأيها أو "قرارها"، فينفذ في المجتمع بمجرد إصداره (نموذج عدم امتثال الكاثوليك لرأي الفاتيكان بخصوص الإجهاض مثلاً).
لا ينحصر الأمر عند هذه النقطة، بل يتعداه بالنسبة إلى مسلمي أوروبا مثلاً، إلى ظهور "إسلام أوروبي" يتطلع إلى التكيف مع "الحدود الاجتماعية للديني"، وإلى التماهي التدريجي مع القيم الأوروبية، لا سيما فيما يتعلق بإعادة هيكلة الديني والسياسي، بعيدًا عن "دين" البلد الأصلي، أي التأكيد على الجوانب الروحية والأخلاقية، وتحقيق الذات من خلال الممارسة المرتكزة على الأنسنة وعلى الخلاص الفردي، البعيد عن نماذج الإدماج الديني للمجتمع أفرادًا وجماعات.
"منظومة الإسلام الأوروبي" هنا لا تعمل على الحفاظ على الموروث و"المعاش اللائكي" بالبلدان المعنية، بل تعمل أيضًا على تنميط ذات المنظومة حتى تغدو متماهية بهذا الشكل أو ذاك، مع "القيم الكاثوليكية" كما هي معتمدة بهذه البلدان، لا بل ومتعارف على دورها الاجتماعي...الاجتماعي فقط.
بيد أنّ الفارق هنا يكمن في أنّه في الوقت الذي "يفرض" على "ممثلي الإسلام" ضرورة تأطير مجالهم في هياكل مؤسساتية محددة ومرخص لها، فإنّ الكاثوليك يرفضون الانصهار في أطر مؤسسية معينة، على اعتبار من لدنهم أنّه من شأن ذلك أن يحول دون التعددية الدينية، المرتكزة على التقاليد الكاثوليكية، الممجدة للاختيار الفردي، وأيضًا لكون التعددية ذاتها، حسب قولهم، هي ضمانة من ضمانات ما يسميه بعضهم بـ"الديموقراطية الدينية".
إلا أنّ المفارقة هنا أنّه، بالنطاق الجغرافي نفسه، نلاحظ أنّ ثمة جنوحًا واضحًا لتزكية تعددية دينية (لكن فردية وفردانية، وبدون أطر مؤسساتية ضاغطة) مقابل النزعة التي لا تريد لباقي الديانات (لا سيما الإسلامية) أن تخرج على نطاق أطر مقننة، ذات بعد وظيفي، تروم ضبط المعتقد والممارسة، والعمل على أن تدمج في قوالب قد لا تكون دائمًا بريئة من الحسابات السياسية والإيديولوجية.
قد يكون الأمر متأتيًا من موجة العولمة وتزايد مد الشبكات الإعلامية والرقمية، لكنّه متأت أيضًا من الرغبة في الحد من التيارات الدينية التي قد تثير بنبرة خطابها، أتون الاحتراب والفتنة والانقسام.
-3-
قد تكون العولمة وانفجار التيارات الإعلامية والاتصالية قد نجحت في إعادة طرح الديني في المجال التداولي العام، وأبانت عن التموجات الكبرى التي تطاله بالعالم العربي/الإسلامي كما بدول الغرب، لكنها نجحت أيضًا في إماطة اللثام عن ظواهر لربما كانت قائمة، غير أنّها لم تخضع للتمظهر كثيرًا:
+ أول هذه الظواهر تتمثل برأينا، في تزايد الانفصام بين مجالي الإيمان والانتماء، أي تقدم أعداد من لا دين لهم (أو هم غير متدينين)، لكنهم يبقون متشبثين بقيم دينية تنشد التسامح والقبول بالآخر، واحترام حريات الأفراد والجماعات. وهو ما تسهل ملاحظته مع الأجيال المتلاحقة لأبناء المهاجرين بأوروبا مثلاً.
إلا أنّه على الرغم من هذا التطور الواضح، فإنّ الدراسات المنجزة بهذا الخصوص لا تزال تشدد على معطى/حقيقة أنّ الإسلام إنّما يلقن بالوراثة، وأنّ أبناء المهاجرين وحفدتهم إنّما يتلقون مضامين الرسالة وطقوسها بالتبني وليس بالاختيار.
+ أما ثاني هذه الظواهر فتكمن، زمن الحداثة وتشظي المجتمعات (في الغرب تحديدًا) في شتى ضروب البحث عن المعنى (أو هكذا يقال) الذي لم تستطع الديانات السماوية الكبرى توفيره بهذا الشكل أو ذاك.
ولذلك نرى مثلاً أنّ ثمة شعورًا متزايدًا لدى الأفراد للدفع بانتمائهم إلى "تقاليد ثقافية كبرى"، عوض حصر الانتماء في مجرد البعد الديني. وهو حال الذين يدعون أنّهم متدينون (يهود أو مسيحيون بالتحديد) دون أن يتواكب ذلك مع إيمان ما بالله، اللهم إلا بالنسبة إلى المسلمين حيث الانتماء للدين الإسلامي غالبًا ما يترافق مع الإيمان بالله.
بالتالي، فإنّ اقتناع الأفراد بتماهي الديني مع الحياة الاجتماعية العامة، يتراجع بقوة في هذه الحالة، تمامًا كما يتراجع التمييز بين ما هو خاص وما هو عام في علاقة الديني بالسياسي وبالاجتماعي.
أليس هذا، بالمحصلة النهائية، هو ما يدعو إليه الإسلام؟