عن سبل مواجهة التطرف
فئة : مقالات
منذ بداية هذا القرن، ولأسباب عدة، موضوعية وذاتية على حدّ سواء، انتشرت موجات من التشدد والتطرف في العديد من بلدان العالم. أفراد وجماعات وحركات وتنظيمات، ركبوا جميعا موجة من الغلو في التفكير والتشدد في إبداء الرأي والتطرف في الحوار، ثم اللجوء للعنف، على خلفية من استحضار المعين الديني، أو من خلال امتطاء ناصية تأويل جاف لمضامينه وأحكامه. إنه حالة ذهنية، ثم موقف ثم سلوك ينشد التكفير والعنف، ولا يتوانى في ليّ عنق النص المقدس لخدمة إيديولوجيا الإرهاب التي تعتنقها، هذه الجماعة أو تلك، جهارة أو بالمضمر.
ولئن كانت هذه "الخاصية" لازمة قارة بكل الديانات (والإيديولوجيات)، فإن المجموعات "الحركية" التي تدعي الاحتكام إلى الدين الإسلامي، وترفع من لواء إعادة إحياء "الخلافة" هنا أو هناك، كمدخل من مداخل "إحياء الشريعة" وكمطية في "الاحتكام للشرع"، قد برعت فيها أكثر من غيرها.
بيد أنه على الرغم من التشدد الظاهر، الذي تبديه هذه المجموعات، فكرا وممارسة على الأرض، بإزاء مظاهر العصر والحداثة، فإنها لا تتوانى مع ذلك، في استخدام وتوظيف ما استجد منها، لا سيما على مستوى ما أتاحه الإعلام الفضائي العابر للقارات وما مكنته الشبكات الاجتماعية ذات النزوع الافتراضي الواسع، وذلك من أجل التمرير "لرسائلها"، ثم الترويج "لمنظومتها الفكرية"، لا بل ولاستقطاب "جمهور متعاطف" معها، متبنّ لطروحاتها في هذه الجهة من العالم أو تلك.
هذا من باب توصيف واقع الحال، واقع المفارقة في نهاية المطاف، وهو الواقع الذي يقوم من لدن هذه "المجموعات"، على استخدام وتوظيف التكنولوجيات المستجدة والقبول بها من جهة، ثم "النفور الفكري" الذي تبديه بإزائها، ولا تتوانى في ترجمته عمليا بالمناطق التي لها بها نفوذ أو سيطرة (حالة العراق وسوريا وليبيا على وجه التحديد)، حيث تعمد إلى تدمير شبكات الاتصالات ومصادرة الصحون اللاقطة للفضائيات، وممارسة رقابة مشددة على بعض منافذ الإنترنيت المتاحة هنا أو هناك، ناهيك عن منع باقي سبل الإفادة من "تكنولوجيا الكفار". وقد رأينا، بالأسابيع الماضية مثلا، كيف التأم جمع من المتشددين الأفغان لتدمير سيارة مهترئة بدعوى كونها من تصميم وصنع "الكفار".
إنها لا تلجأ فقط لذات السلوك ولا تركب ناصية ذات الممارسة من باب نزوع ما من لدنها للتضييق على الحريات، أو الحيلولة دون تواصل الأفراد والجماعات، بقدر ما تلجأ له على خلفية من الادعاء بأنه "مفسدة للأخلاق" و"تدمير للقيم الحق" واستهداف "لحضارة السلف الصالح"، ناهيك عن كونه صنيعة "الكفار أعداء الدين" ومنتوج "الصليبيين" الذين يحاربون الإسلام؛ هذه حالة ذهنية لا تكتسب بالوراثة. إنها "ثقافة" تصنع وتطور وتوزع وتفرض على الناس، باعتبارها "الثقافة/البديل".
ولذلك، فإن المدخل الأساس لمواجهة تطرف هذه المجموعات، لا بل وغلوها ثم العنف والإرهاب الذي تتبناه، إنما يمر عبر تقويض ذات المنظومة في بنيتها وبنيانها، وزعزعة خلفياتها وتعرية نمط تفكيرها وتمثلها لذواتها وللآخرين. وعليه، فإن مواجهتها، من الناحية العملية على الأقل، إنما يجب أن تتم من بين ظهراني معاقلها المفضلة: بالمساجد والبيوت، بالمدارس ونوادي الشباب، ولكن أيضا وبالتحديد على مستوى الفضائيات وبشبكات الإعلام الاجتماعي، حيث تتجذر هذه التيارات وتجد المجال فسيحا لبث سمومها وانحرافاتها.
إن الأمر يتعلق بمنظومة "فكرية وعقدية" متكاملة، لا ينحصر مدها ومداها أو يقف مفعولها على رافد من هذه الروافد، دون الأخرى. إنها تلجأ إليها مجتمعة إيمانا منها بأن المسألة تكاملية، وأن ما يصعب بلوغه بالمساجد قد يمكن تداركه بالمدارس والجامعات، وما يتعذر النفاذ إليه في البيوت، يهون الوصول إليه في نوادي الشباب، حيث يسهل الاستقطاب، ويرتفع منسوب القابلية على الانجراف مع التيار بهذا الشكل أو ذاك.
ولعل الأخطر من ذلك، أن العديد من الفضائيات العربية والإسلامية تتماهى مع هذه المنظومة، فتمرر لها من على استوديوهاتها بطرق ناعمة، غير محسوسة، ولا تعترض إلا فيما ندر على طبيعة خطابها، اللهم إلا عندما يبلغ الأمر مبلغ العنف المضمر أو التكفير المباشر. في الآن ذاته، تكاد العديد من مواقع شبكة الإنترنيت أن تنحو المنحى ذاته، لكن دونما أن تصل المسألة لحد الإشادة بالقتل أو تبني العنف بصورة مباشرة، غير ملتوية. في الحالتين معا، يبقى الغلو والتطرف في الفكر ثابتا، حتى وإن اختلفت درجات إعماله على أرض الواقع.
إن التساؤل في سبل مواجهة هذه المنظومة، إنما يروم التساؤل في قدرة ونجاعة الخطاب الديني بالفضائيات في محاربة مظاهر التطرف (الخطاب المضاد أقصد)، ليس فقط من خلال تقويض بنيان خطاب التيارات إياها، بل أيضا من خلال الترويج والإلحاح في الترويج لسماحة الإسلام ووسطيته وقيمه وتبرؤ المسلمين من فكر هذه الجماعات ومن سلوكها في الزمن والمكان؛ أي منذ نزول الرسالة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإلى يوم الدين.
لا يجب أن يقتصر هذا الخطاب على أبناء الوطن الواحد أو على أطياف الأمة مجتمعة، بل يجب أيضا أن يصل إلى مسامع الغرب، من باب تبرئة الذمة أولا، ثم من باب ترويج القيم الفاضلة التي يدفع بها الإسلام ويتبناها، ولا تصل الغرب إلا في شكلها الخشن عندما يتم وضعها على محك الممارسة (من تقتيل وقطع للأعناق وتفجير للأسواق ودور العبادة وقس على ذلك).
إن التطرف يبدأ بالفكر وبأدمغة الناس، ثم يسري ويتدرج في أفق استباحة منظومات قيمهم، ثم يتطور ليتحول إلى رفض للآخر، ثم إلى إخراجه من الملة وتكفيره، ثم إلى استباحة دمه وعرضه، ثم إلى إفساد الضرع والزرع جملة وتفصيلا. لذلك، وجب فهم آليات اشتغاله قبل العمل على مواجهته بأرض الواقع وعلى مستوى الإعلام.
ثم إن التطرف لا يضع تمييزا بين هذا وذاك، مسلما كان أو غير مسلم. إنه سلوك أعمى، يكون صاحبه قد أدرك مراتب عليا في الغلو (بالمدارس أو بالجامعات أو من خلال الإدمان على فضائيات التطرف)، فلا يبدو له الإنسان كغاية، خلقه الله لإعمار الأرض، بل كهدف لا يستقيم الغلو في ظله إلا بالاستباحة والقتل والتدمير.