عن "سيد قطب" و"دوستويفسكي"
فئة : مقالات
اختلط إيمان سيد قطب في مقاربته لفكرة "الحاكمية لله" من حالةٍ إيمانية، إلا أنَّ إيمانه اختلطَ بجحودٍ مُـتوارٍ، عبر الحدّ من النظر إلى" لاتناهيات" الخالق العظيم، وتأطيرها داخل "تناهيات" العقلية القطبية. فالله اللامتناهي يتناهى فورًا ساعة يتموضع في العقلية القطبية، ويصير لزاماً، اقتضاءً لأطروحة الحاكمية لله، التقيّد بالرؤية القطبية لله.
ويشبه ذلك، من زاوية ما، "انطلاق "إيفان كارامازوف" في النص الدوستويفسكي "الأخوة كارامازوف"[1] من حالةٍ إلحاديةٍ في مقاربته لفكرة عدم الإيمان بالعالَم الذي خلقه الله، إلا أنَّه أتى، ضمن سياق الرواية، جزءًا مُـتمّمًا لأطروحةِ الإناسة التي لا تكتمل، ولم يكن لها أن تكتمل، إلا بالتعاضد الجدلي بين شخصيات إيمانية وشكّاكة وإلحادية تعمل على بلورة سياق حضاري يتجاوز الوجود الإيماني مُفرداً أو الوجود الإلحادي وحده أو الوجود المُتشكّك وحده، ليكون مُتضمناً هذا الوجود التعاضدي بين أقانيم ثلاثة، عمل "دوستويفسكي" على بلورتها روائياً، متجاوزًا ذهنية القطع والبتر التي جلَّاها "سيد قطب" في حاكميته الإلهية.
إنَّ المُلْحِد "إيفان كارامازوف" إذ يتجلّى في السياق النصّي "الدوستويفسكي"، فإنه يتجلّى ضمن سياق تعدّدي، تنوّعي؛ إثرائي، مما يؤكد لانهائية الله في الذهن البشري المُـتعدّد، المُشظّى، سواء أكان ذهناً إلحادياً أو إيمانياً أو شكَّاكاً. في حين أن المؤمن من وجهة نظر "سيد قطب" إذ يتجلّى في سياق أطروحة "الحاكمية لله"، فإنه يتجلّى ضمن سياق أُحادي، فردي إلغائي قطعي، يُؤكّد تناهي الله اللامتناهي في الذهن البشري، فالله الحق هو الموجود حصراً في العقلية القطبية.
وفي استطراد لـِ "سيد قطب" في كتابه (معالم في الطريق) صدح قائلاً: "إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض، الحكم فيه للبشر بصورة من الصور، أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور... وذلك أن الحكم الذي مردّ الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابًا من دون الله. إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله، وطرد المغتصبين له، الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم، فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم كمان العبيد... إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض".[2]
وفي مدّ كارامازوفي صرخ "إيفان": "إذا لم يكن الله موجوداً، فُكلّ شيء مُباح"، وجريمة القتل التي ارْتُكِبَت في الرواية من قبل الأخ غير الشرعي لـ "إيفان" (سمردياكوف) بُرّرت من قبل القاتل بناء على الأطروحة (الأيفانوفية) التي افترض فيها أن الله غير موجود، لذا كل شيء مُباح.
إنَّ الإطار المرجعي؛ أي الحقل المغناطيسي، أي الله، الذي انجذبت إليه بُرادة الحديدة اللاحقة، هو ذاته بالنسبة لـ "سيد قطب" و"إيفان كارامازوف"، رغم أن الأول مؤمن والثاني مُلحِد، وفي هذا إشارة إلى نقطة الانطلاق التي شَرْعَنَت لما بعد اللحظة القطبية واللحظة الكارمازوفية، إذ تمَّ تجاوز اللحظة القطبية بشكل كامل، في حين تمَّ تجاوز اللحظة الكارمازوفية بشكل جزئي. وهُنا تجلّى الفارق بين لحظة لاهوتية ولحظة ناسوتية؛ تمثّل الأولى في امتداداتها البَعْدية أتباع "سيد قطب" من الجماعات الإسلامية؛ فهي لحظة الخلاص الإلهي على هذه الأرض، وعبر تأثيم الداخل الإسلامي، مرحلة أولى، لاسيما لمَنْ لا يمتثل للرؤية القطبية، ومن ثمّ الاشتغال على تطهيره، عبر تنقية ذهنه من الشوائب اللاقطبية، ليصار بالتالي إلى منحه صكّ الغفران القطبي، وعبر تقذير الخارج الإسلامي، مرحلةً ثانية، ليس فقط عبر تكفيره، بل القضاء عليه كاملاً، لأنه لا ينسجم مع الرؤية الإسلامية، التأويل القطبي لهذه الرؤية على وجه الخصوص.
إنّ إقامة مملكة الله على الأرض، اقتضاءً لواقع رؤية "سيد قطب"، تقوم على فكرة تثبيت الله اللامُتناهي، ليس في الذهن الإنساني المُتناهي ككُلٍّ أزلاً أبداً، إذ يُصبح غير مُتناهٍ في العقل الإنساني الجمعي، إنما في جزءٍ من هذا الذهن، مما يعني أنَّ الله اللامتناهي صار مُتناهياً ومُؤطَّراً ومُحدَّداً سلفاً، الأمر الذي يقضي على فكرة التطوّر القائم على الثراء والتنوّع اللانهائي.
من هُنا تتأتّى فكرة (الحاكمية لله) وفقاً لرؤية "سيد قطب" نوعًا من التعقيب السلبي على التجلّي الإلهي في العالَم؛ فالله اللامُتناهي يصيرُ متناهيًا وفقًا لرؤية "سيد قطب"، بل إنه يصير على قياس العقلية القطبية، فخارج تأطيرات هذه العقلية يصير وجود الله وجودًا آثمًا، ينبغي تطهيره من جهة، ووجودًا ناقصًا، من جهة ثانية، يجب إكماله من (اللحظة القطبية) دائمًا، فهي الميزان الأنطولوجي الذي لا يُوزّن على كفته الوجود الإنساني فحسب، بل الوجود الإلهي كذلك.
إنَّ (الحاكمية لله) تأسيسًا على رؤية "سيد قطب" هي (حاكمية) التأويل القطبي لله، لناحية احتكاره وموضعته موضعةً نهائية وقطعية في الذهن القطبي، بصفته الحقل المغناطيسي الذي يجب أن تنجذب إليه كل التأويلات الأخرى، تحت تهديد التكفير والمحاربة. لكن الخطورة الكبيرة هي في امتدادات أو استحقاقات هذه الرؤية لدى أتباع "سيد قطب". إذ يصيرُ الله حضورًا حصريًا في أذهان أتباع "سيد قطب"، وكل حضور خارج هذا السياق هو حضور جاهلي آثم ناقص، يستوجب تطهيرًا جزئيًا من الداخل، وتطهيرًا كُليًا من الخارج. وعليه، فالرؤية القطبية لحاكمية الله هي رؤية ضد حضارية، وضد إنسانية، وضد إلهية، فالحضارة والإنسان والإله أفكار تتأسَّس على البناء التدافعي اللانهائي، وأي حصر هو بمثابة انتهاك لهذه الخصوصية الفائقة.
وقد كانت هذه الرؤية في مقابل الرؤية القطبية تجلّت أكثر ما تجلّت في امتداداتها البَعْدية لدى أتباع سيد قطب، إذ عُمِلَ على تطبيق هذه الفكرة على أرض الواقع، وقد رأينا ذلك في تبنّي بعض الجماعات الإسلامية لفكرة الحاكمية والعمل على خوض حروب داخلية وخارجية لإكراه الناس على تبنّي هذه الرؤية. ومقابل هذه الرؤية، ثمة رؤية (إيفانوفية) انحصرت تأثيراتها البَعْدية في شخص القاتل الذي قتل والده مُستندًا في تبريره لفعل القتل على الأطروحة الإيفانوفية: "إذا لم يكن الله موجوداً فكُلّ شيء مُباح".
إنَّ الأطروحة الإيفانوفية كما جلَّاها الروائي "دوستويفسكي" في روايته (الأخوة كارامازوف) قامت واستقرت على أريكة النصِّ من الداخل، وليس في تخارجات النصّ البَعْدية، وحادثة القتل التي حدثت بموجب هذه الرؤية هي جريمة فردية غير إكراهية نصّية، إذ لم يعمل "إيفان" على تعميمها وإكراه الناس عليها، ومن ثمَّ لم يعمل "دوستويفسكي" على تعميم نتائجها البَعْدية على الخارج، إلا بالقدر الذي تتعاضد به مع مجموعة رؤى أخرى، لتأكيد النسقية الإنسية التعددية في هذا الوجود.
هذا من زاوية، وجاءت، من زاوية أخرى، هذه الأطروحة جزءًا من نصّ روائي احتمل أطروحتين أُخريين إلى جانب أطروحة "إيفان" المُلْحِد؛ فهناك أطروحة "ديمتري" الشكَّاك وأطروحة "أليوشا" المؤمن. إنَّ الأطروحة التي عَمِلَ "دوستويفسكي" على بلورة سياقاتها الروائية، هي أطروحة الحياة بكلّ ما تعني الكلمة من معنى. إذ لم يكن أصلاً أن تقوم الحياة بما تحتمله من عمارة للأرض وانبناءات للحضارة الإنسانية، إلا بالتناقضات الجدلية بين المفاهيم التأسيسية التي شكلّت الوجود البشري، فجزء من هذا الكائن مُلْحِدٌ بالله على أساس أن الإنسان هو سيد العالم والمُتصرف فيه بعيداً عن أية ارتهانات علوية أو لاهوتية، وجزء من هذا الكائن مؤمن بالله، ولا يرى ثمة معنى لوجوده خارج هذا الإيمان، فهو يتأكد حضوراً كبيراً في هذا العالم عبر استسلامه للقوة العلوية. وجزء من هذا الكائن حائر في علاقته الأفقية العمودية ولا يفتأ يُخضع وجوده لأسئلة حيرى وشائكة وملتبسة، حول وجوده وإمكان حضور الإله في تفاصيل هذا الوجود.
إنَّ الوجود الإنساني ابتداءً، إذ يكون على هذه الأرض، فإنه يحتكم إلى ذاتٍ إنسانيةٍ مُتعددة الجوانب، بعضها سألَ أسئلة وخلص إلى إجابات قاطعة، رفضًا إلحاديًا أو قبولاً إيمانيًا، وبعضها لا زال يُراوح بين منابع الأسئلة ومصبّات الإجابات. وساعة حاكى "دوستويفسكي" هذه النماذج وسطّرها عملاً روائيًا، فإنه لم يسعَ إلى نفي أحد وإثبات الآخر، بل عمد إلى الدفع قدمًا ناحية الواجهة بجميع الأطروحات، باعتبار عدم قيامة الحياة وعمارة الأرض إلا بالجدل المستمر بين هذه الأطروحات؛ فالشرارة المُتولدة عن الاحتكاك بين هذه الأطروحات هي شرارة الحضارة الإنسانية.
إننا أمام طرح "دوستويفسكي" ثُلاثي: إلحادي، وإيماني، وشكَّاك. وإنْ ركزت في هذه الورقة على الأطروحة الإلحادية، بهدف المقارنة مع الأطروحة الإيمانية التي يتمثّلها سيد قطب، بما يعني أن الإنسان المُكلَّف، أيًا كانت توجهاته ومعتقداته، بعمارة الأرض وبناء الحضارة الإنسانية حاضر تمامًا في المتن الدوستويفسكي، في حين أن الإنسان من وجهة نظر "سيد قطب" هو إنسان مؤمن، بالرؤية القطبية تحديدًا، ولا معنى لوجود أي إنسان آخر، فعمارة الأرض أمر منوط بهذا المؤمن حصرًا. رغم أن التجربة التاريخية للإنسان أثبتت أن عمارة الأرض وبناء الحضارة تتجاوز الإنسان المؤمن إلى الإنسان الكامل، بكافة تجلياته المُتشظية في الزمان والمكان.
وعليه، فالدعوة التي يتمثلها "سيد قطب" وإنْ تأسَّس الإسلام أساسًا على فكرة العبور إلى الإنسان أنَّى تواجد، إلا أنَّ الحاصل مع رؤية سيد قطب هو ممارسة إكراه إقصائي بحقِّ الإنسان، وعدم الاعتراف بامتداده الزمكاني، فهي، أعني الرؤية القطبية، إذ تخفق في العبور إلى الإنسان الكامل بكافة تجلياته، فإنها تحدّ من عالمية الرسالة الإلهية من خلال مَوضعتها في صندوق صغير والإقفال عليها مرة واحدة وإلى الأبد. في حين أن الرؤية الإيفانوفية، كما بلور معالمها دوستويفسكي، مُضافاً إليها الرؤية الأليوشية (الرؤية الإيمانية)، والرؤية الديمترية (الرؤية الشكَّاكة)، تُعاين الإنسان ضمن سياق تعدّدي تنوّعي قادر على بناء الحضارة وعمارة الأرض.
إننا، في النهاية، أمام نموذجين: نموذج "سيد قطب" المتمثل بالحاكمية لله منظورًا إليها وفق العقلية القطبية، ونموذج "دوستويفسكي" المتمثل بالشرارة الحضارية عبر التفاعل بين المُلْحِد والمؤمن والشكّاك. أحدهما خانته حماسته الإيمانية في تحويل النموذج الإلهي إلى نموذج إنساني يطال الإنسان أنَّى تواجد في هذا العالَم، نظرًا لاقتصاره على جزء من الإنسان، وليس على الإنسان كاملاً؛ وثانيهما تجاوز الأُحادية في التعامل مع حادثات وإحداثيات هذا الوجود، إلى التشاركية مع نماذج أخرى في بناء الحضارة وعمارة الأرض.
هذا من جانب، وثمة من جانب آخر تثبيط لفكرة اللامتناهي اقتضاء لواقع الرؤية القطبية، واستنهاضًا لفكرة اقتضاء لواقع الرؤية الدوستويفسكية ذاتها. فاللامتناهي تمَّ تأطيره تناهيًا عند "سيد قطب"، إذ حصر الله داخل عقليته وقدّم رؤية إكراهية لله اللامتناهي تستوجب إيمانًا قسريًا من قبل الذوات الأخرى، سواء أكانت إسلامية أم غير إسلامية تحت وطأة البطش والتهديد والتكفير. أما عند "دوستويفسكي"، فإذ اجتمعت ثلاثة نماذج تأسيسية، فقد تمّ تعميم فكرة اللامتناهي الإلهي على عقول بشرية لا حصر لها، دونما تأطير أو تحديد أو إكراه.
وقد ثبت عبر التجربة التاريخية للوجود الإنساني في هذا العالَم أنَّ بناء الحضارة وعمارة الأرض، قائمة على الثراء والتنوّع اللانهائي، مما يتجاوز التأطيرات الأيدلوجية أو العقائدية أو المعرفية أو الإثنية...إلخ، فهي تجربة الإنسان بالدرجة الأولى ومدى فعله وفاعليته في هذا العالم، بصرف النظر عن الارتهانات التي يرتهن إليها؛ فالخلافة في هذه الأرض هي للإنسان مطلقًا، وليس للإنسان المُؤطَّر إيمانيًا.
[1]- بشأن رواية الأخوة كارامازوف، فإني أنصح بترجمة "سامي دروبي" للرواية. ويمكن الرجوع –رغم وجود طبعات متعددة ومتلاحقة- إلى المجلدات 16- 17 – 18، من أعمال دوستويفسكي الكاملة والصادرة في طبعتها الثانية عن دار ابن رشد للطباعة والنشر في بيروت العام 1985. (في الطبعات الجديدة لأعمال دوستويفسكي تظهر رواية الأخوة كارامازوف بأربعة مجلدات، بدلاً من ثلاثة كما في الطبعات القديمة).
[2]- قطب، سيد، معالم في الطريق، دار الشروق، القاهرة، بدون تاريخ، ص ص 59- 60