عن فلسفة التسامح
فئة : مقالات
عن فلسفة التسامح
عبد الحسين شعبان
جمع منتدى الفكر العربي يومَي التسامح والفلسفة في مناسبة واحدة لتقاربهما، ودعاني لإلقاء محاضرة عن "فلسفة التسامح" بمناسبة صدور كتابي الجديد "في الحاجة إلى التسامح"، وكان اليوم العالمي للتسامح قد تقرّر في العام 1995، حين اتّخذت منظمة اليونسكو قراراً للاحتفال بيوم 16 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، كما كانت قد قرّرت اعتبار يوم (الخميس الثالث) من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام يوماً عالميًّا للفلسفة، وقد احتفلتْ لأوّل مرّة بهذا اليوم في العام 2002، وتقرّر اعتماده في العام 2005 اعترافاً بالقيمة الدائمة للفلسفة في تطوير الفكر البشري؛ لأنّها مجال يشجّع على التفكير والنقد والاستقلاليّة، وبواسطتها يمكن فَهم العالم على نحو أفضل، ولا سيّما لتعزيز قيم التسامح والسلام واللّاعنف والعدالة والمساواة والحرّية والمشترك الإنساني.
وإذا كانت الفلسفة تحتلّ هذه المكانة على الصعيد العالمي؛ إلّا أنّها ليست كذلك على الصعيد العربي والإسلامي منذ هزيمة العقلانيّة، وهكذا استُهدف فلاسفة كبار مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد لاتهّامهم بالهرطقة واللّاتديّن لدرجة أنّ الغزالي نعَتَهم بأقسى النعوت في كتابه الموسوم "تهافت الفلاسفة"، وقد ردّ عليه ابن رشد بكتاب "تهافت التهافت"، علماً بأنّ ابن رشد اضطرَّ إلى الهجرة، ومات وحيداً ومكسوراً، وفي آخر أيّامه أحرق بعض كتبه لشعوره باللّاجدوى، وحين سأله أقرب المقرّبين إليه لماذا يفعل ذلك؟ أجابه: لا تحزن يا بُني للأفكار أجنحة؛ أي إنها ستطير، وبالفعل طارت بعض أفكاره إلى أوروباـ وتمّت ترجمتها لتصلنا بعد 900 عام، وهكذا تعرَّفنا على فيلسوفنا عبر أوروبا، كما ظلّت كتب ابن سينا في الطب تُدرّس في الجامعات الأوروبية لقرون من الزمان.
إنّ احتفال اليونسكو باليوم العالمي للفلسفة، باعتبارها "حب الحكمة" له أكثر من دلالة، ففيه تجديد للالتزام العالمي بدعم الفلسفة وتشجيع الأبحاث والدراسات الفلسفيّة وتوعية الرأي العام بأهميّة ذلك في عصر العولمة والوقوف على تعليمها على المستوى العالمي وتأكيد أهمّية تعميمها، وإذا كان لكل علم فلسفة، فإنّ لكلّ فلسفة وعلم تاريخ أيضاً، لذلك يُقال الفلسفة أُمّ العلوم والتاريخ أبوها.
وتكمن أهميّة الفلسفة نظريًّا بالتأمّل والتفكير وعمليًّا بالوسائل والمعالجات، ولا سيّما في فترات الأزمات الكبرى، كما هي جائحة كورونا اليوم (كوفيد-19)، والدهشة أصل الفلسفة كما يُقال، وأوّل الفلسفة سؤال، ولعلّ أسئلة اليوم تتعلّق بالحقائق والفرضيّات والاستنتاجات الجديدة، وهي أحوج ما نكون إليه، وهذا ما يدعونا للقول بضرورة ردّ الاعتبار للعقلانيّة بصيغتها الحديثة، فحتى الدِّين ينبغي أن يكون "دين العقل"، وكل ما يتعارض مع العقل ليس من الدِّين. أمّا الفقه، فهو "فقه الواقع" انسجاماً مع روح العصر، ولن يحدث ذلك من دون الفلسفة الحديثة والعلوم الحديثة؛ لأنّ التفكير الفلسفي يمدّ الإنسان بما يحتاج لمناهضة العنصرية والشوفينيّة والتعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب والحروب وتدمير البيئة وغير ذلك.
ولعلّ التسامح أحد نتائج الوصول إلى بيئة سليمة وتربة صالحة بقبول الآخر والاعتراف بالتنوّع والتعدّدية والحق في الاختلاف، وفي أوضاعنا الحالية هو مثل "الريح الخفيفة المنعشة التي تسبق المطر"، خصوصاً في ظلّ سيادة الواحديّة والإطلاقيّة وادّعاء الأفضليّة وامتلاك الحقيقة. وإذا كانت فكرة التسامح راهنيّة وضروريّة؛ فلأنّ حياتنا السياسية والاجتماعية بحاجة إلى نوع من الترميم والإصلاح ليس على الصعيد الداخلي فحسب، بل على الصعيد العالمي، في ظل هيمنة تيّارات عنصريّة قوميّة أو دينيّة أو شموليّة متعصّبة ومتطرّفة ولا تتورّع من استخدام العنف والإرهاب لتحقيق أهدافها وللاستقواء على الآخر لحل خلافاتها.
وحسب إعلان اليونسكو المؤلَّف من ديباجة و6 مواد، فالتسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا لأشكال التعبير وللصفات الإنسانيّة لدينا... ويعني الوئام في سياق الاختلاف.
والتسامح عندي ليس واجباً أخلاقيًّا فحسب، بل هو واجب سياسي واجتماعي وقانوني في الآن؛ يمكن من خلاله معرفة درجة تطوّر المجتمع، وهو الفضيلة التي تيسّر قيم السلام وتُسهم في إحلال ثقافته محل ثقافة العنف والحرب، وهو يعني أيضاً اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين من التمتّع بحقوق الإنسان وحرّياته، وذلك عكس "المفهوم النيتشوي" الذي يفترض وجود طرف قويّ وآخر ضعيف، وطرف يسامح والآخر يطلب العفو، وقد بلور فولتير بعد لوك في العام 1763 في "رسالة التسامح" دعوة أخلاقية قائمة على التسامح الديني بين الشعوب والأمم.
ولقراءة واقع التسامح في العالم المعاصر هناك خمسة اتجاهات أساسية:
الأول - إنكاري لرفضه فكرة التسامح، بزعم امتلاك الحقيقة والأفضليّة؛ والثاني - انعزالي بزعم الرياديّة، حيث يعتقد أن ثقافته هي التي تمتلك التميّز والحق والعدل؛ والثالث - تغريبي على الرغم من تأييده الفكرة، لكنّه يدعو إلى قطع الصلة بالتراث؛ والرابع - توافقي يقبل بعض أفكار التسامح بانتقائيّة لانشداده إلى الماضي؛ والخامس - حضاري يعتبر التسامح قيمة إنسانية عُليا.
وهنا لا بدّ من التفريق بين فلسفة التسامح والنظرة الابتذاليّة التي تريد باسمه تبرير العدوان أو الاحتلال، ولا سيّما "الإسرائيلي" لفلسطين، أو التهاون إزاء انتهاك الحقوق والحريّات.
[1] نُشرت في جريدة "الخليج" الإماراتية بتاريخ 16/12/2020