عن مفهوم "شهادة" المظلوم
فئة : مقالات
عن مفهوم "شهادة" المظلوم([1])
يزدحم العالم بالمفاهيم المظلومة بفوضى معانيها، من تلك المفاهيم "الشهادة"، حيث يعاني هذا المصطلح تخبطاً وتضارباً وضبابية في فهمه وتفسيره وتحليله والتعايش معه من قبل كثير ممّن يتخذ هذا المصطلح في أنفسهم وفي الوجدان الجمعي لمجتمعاتهم والثقافات والمدارس الفكرية التي ينتمون إليها موقع القيمة الراقية ذات المكانة العالية.
فالشهادة في الثقافة الإسلامية هي صفة يوضع من ينالها في مرتبة تلي تلك التي للأنبياء في الدنيا، ودرجة مساوية لهم في الآخرة، حيث يجمع المسلم في دعائه للميت بين "النبيين والصديقين والشهداء" عند ذكر الدرجة المرجوة له في الآخرة.
وهي تحتل في دعاء المرء لنفسه أعلى قائمة "الرغبات"، فقد قلّ من لا يدعو الله أن ينيله الشهادة في سياق دعائه لنفسه بحسن الخاتمة.
وإذا كان المتوفى قد قضى نحبه مقتولاً في صدام داخلي أو خارجي فعادة ما يقال من طرف الفئة التي كان ينتمي إليها "هنيئاً له الشهادة". ولا تقتصر تلك الكرامة عليه، بل تمتد للأحياء من أسرته، فيقال: "ابن شهيد أو أم شهيد أو أخو شهيد أو أبو شهيد"...إلخ.
هذا الاحتفاء بالشهادة - على اختلاف الناس في فهمها وإدراكها - إنّما يعكس ما ترسّخ في الوجدان الجمعي للمسلمين من احترام شديد لمن فقد حياته في سبيل قضية أو هدف أو قيمة، على رغم الاختلاف الوارد الوقوع في نصيب هذه القضية من العدالة والصواب.
● المعتقد الخاطئ بالنشأة الإسلامية للشهادة:
يخطئ الكثيرون باعتقادهم أنّ "الشهادة" قيمة إسلامية المنشأ، فقبل الإسلام بآلاف السنين عرف العالم القديم هذا المفهوم. والقارئ لقصة الإله المصري القديم أوزوريس يلاحظ ذلك[2]، فأوزوريس الممثل لقيم الحق والعدل قضى مقتولاً بيد "ست" الممثل للشر والبغي، ولكن أوزوريس إن كان قد مات جسده إلا أنّ روحه بقيت حيّة، ثم تنتهي القصة به وقد كرّمه تاسوع الآلهة الفرعونية برفعه معها ليكون شاهداً على البشر ورئيساً لمحكمة الموتى تقديراً لأنه قد ضحى بحياته في سبيل قضية الحق محارباً للشر والطغيان. ونلاحظ هنا أنّ لفظ "الشهيد" يعني لغة من يشهد على الناس، وهي المهمة نفسها التي يتولاها أوزوريس في العالم الآخر.
كذلك نقرأ في أهمّ ملحمة في تراث الإغريق - وأعني الإلياذة - عن تضحية الجندي اليوناني الذي قدّم نفسه عن طيب خاطر عندما أنذرت الآلهة اليونانيين أنّ أول من تطأ قدمه شاطئ طروادة سيقتل قرباناً لها[3]. وفي ملحمة "قرطاج" نجد قصة الملكة أليسار التي ألقت نفسها في النار فداء لشعبها تحايلاً على تهديد ملك النوميديين لها أن تتزوجه وإلا فسيدمّر شعبها، فوافقت ولكنها طلبت أن تقدّم قرباناً للآلهة وتحايلت عليه أن يتعهد عدم المساس بشعبها، ثم ضحّت بحياتها[4].
والديانة المسيحية[5] كذلك قدّمت للعالم قيمة الشهادة في فترة الاضطهاد الروماني للمسيحيين الأوائل، فالمسيح - في العقيدة المسيحية - هو الشهيد الأول الذي قبل تحمل الآلام ليكفّر بجسده عن خطايا البشر. والحواريان بطرس وبولس الرسول يقضيان نحبهما على يد الإمبراطور الروماني الذي رفض رسالتهما. وساحات المجالدة الرومانية تشهد تعميد آلاف الشهداء ممّن التهمتهم الأسود أو حكم عليهم بالمصارعة حتى الموت. وفي مصر تلقب الكنيسة عصر الإمبراطور دقلديانوس بـ"عصر الشهداء"، وتبدأ به التقويم القبطي. بل إنّ اللفظ "مار" الذي يسبق أسماء بعض الشخصيات التاريخية المسيحية مثل مار مرقص ومار جرجس إنما يعني "الشهيد".
وحتى بعد اعتناق الرومان للمسيحية تبقى قيمة الشهادة قائمة في المسيحية الأرثوذكسية القبطية في سير من ضحوا بأرواحهم مقابل الثبات على المذهب اليعقوبي، ومنهم "مينا" أخو البطريرك بنيامين الذي عذبه البيزنطيون تنكيلاً بشقيقه المختفي في الصحراء، والذي لم يغادر عزلته حتى أمّنه العرب الفاتحون وأعادوه إلى منصبه الكنسي.
والجزيرة العربية[6] التي شهدت نزول الإسلام لم تكن بعيدة عن المفهوم المسيحي للشهادة، فقد كانت الديانة المسيحية منتشرة في شمال الجزيرة، بينما شهد اليمن استشهاد نصارى نجران على يد يوسف ذي نواس الحميري المتهود، في الواقعة المعروفة تاريخياً ودينياً بقصة أصحاب الأخدود التي ذكرها القرآن بعد ذلك.
وحتى في ثقافة العرب من غير معتنقي الديانات الرسالية، فإذا كان لفظ "الشهادة" لم يعرف في عقائدهم فإنّ الاستهانة بالموت في سبيل قيم معنوية أو قبلية كانت أمراً موضع احترام في وجدانهم الجمعي. نستطيع إذن أن نسترجع قول الرسول محمد: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" بأنّ قيمة الاستشهاد دفاعاً عن القضية كان من تلك الأخلاقيات المطلوبة مسبقاً بين العرب، وجاء الإسلام ليصوغها ويوضح معالمها.
● البساطة الأولى لمفهوم الشهادة
تبدأ الموضوعات ذات الصلة بالأديان أولاً بسيطة سلسة، ثم تصبح مع الوقت أكثر صعوبة وتعقيداً لاتساع مطالب الحياة وجوانبها، ولم تكن الشهادة استثناء من ذلك.
ففي بداية الإسلام كان معنى الشهادة يتلخص في الثبات على الدين في مواجهة التعذيب والتنكيل المفضيين إلى الموت، بدا ذلك في قول الرسول لصحابته، حين شكوا إليه ما يلاقون من قريش، إنّ من كان قبلهم كانوا يوضعون تحت المنشار ويمشطون بأمشطة من حديد لا يزحزحهم هذا عن إيمانهم[7]. وإن كان الإسلام قد أعطى رخصة لمن لم يطق العذاب أن يعطي معذبه باللسان ما أراد من إظهار الرجوع عن الدين، إلا أنّ من رفضوا استخدام تلك الرخصة عُدّوا شهداء، كآل عمار بن ياسر الذين عذبوا حتى الموت[8].
وبعد الهجرة إلى المدينة وإعطاء الإذن الإلهي للمسلمين بالقتال دفاعاً عن أنفسهم وأموالهم، اتسع المعنى ليشمل من لقوا حتفهم خلال القتال، بل وعدّوا في أعلى درجات الشهادة، سواء بالآيات القرآنية التي فرقت بين كونهم قتلى أو موتى، فإن كانت أجسادهم قد قتلت فإنهم مع ذلك أحياء يرزقون عند الله، أو بالأحاديث النبوية التي وصفت بعض ما فيه الشهداء من نعيم - مواساة لأهلهم - أو وضعت بعض التعريفات للشهيد[9].
وإذا كانت الشهادة قد شملت بعض حالات الوفاة لمن لم يقتلوا في حرب أو نتيجة تعذيب بدافع ردهم عن الدين، أو من قضى دفاعاً عن نفسه أو ماله أو عرضه، وكذلك المبطون والغريق والمحترق ومن مات في هدم أو بالطاعون، فإنّ موضوعنا يتركز على الشهيد بمعنى "قتيل الحرب".
وعودة للحديث عن بساطة المفهوم، فإنّ ذلك الاحتفاء الإسلامي بقيمة الشهادة، وما ترتب على ذلك من تطلع المسلمين الأوائل إليها، لا يعني أنّها قد صارت غاية في حدّ ذاتها، فالمقاتل المسلم كان يصنفها باعتبارها "إحدى الحسنين: النصر أو الشهادة" بشكل أوضح، فإنّ ما قد يخطئ القارئ للتاريخ الإسلامي فهمه في "طلب الشهادة" لا يعني أنّ الصحابة كانوا يخرجون إلى القتال لمجرد التعرض للقتل والفوز بالشهادة، كما توحي أقوال بعضهم[10]، وإنّما يعني طلب الشهادة أن يبذل المقاتل أقصى جهده لتحقيق المستهدف من مهمته القتالية، حتى وإن ترتب على ذلك فقده لحياته، ولكنّ الموت نفسه لم يكن غرضاً، والقارئ الجيد للتاريخ الإسلامي ووقائع بعض الغزوات والمعارك التي اضطر المسلمون للانسحاب منها نتيجة تعرضهم للقتل على نطاق واسع، وبالتالي التهديد بالفناء، مثل غزوة أحد أو معركة الجسر أو غزوة مؤتة[11]، يدرك أنّ المخاطرة بالحياة كانت مرهونة فقط بأن تساهم التضحية في تحقيق النصر لا أن يكون المقاتل مجرد قربان بشري للإله. وكبار الصحابة بادر بعضهم إلى الانسحاب في مثل تلك الحالات، ولا يمكن للقارئ في سيرهم أن يتهمهم بعدم الصدق في طلب الشهادة، وإنما قد أدركوا مغزاها الحقيقي فأخذوا به.
● بعض الوقائع التاريخية التي ساهمت في مشكلة سوء فهم الشهادة
وبما أنّ الزمن لا يقتصر أثره على الماديات بل يتخطى ذلك إلى المعنويات، فقد واجهت فكرة الشهادة بعض العوامل التاريخية السياسية التي تراكمت عبر الأزمنة، وأدّت مع الوقت إلى ما نشهده من تشويه وفوضى في فهم الشهادة في عصرنا الحالي.
كان الحدث الأول هو بدء أول صراع مسلح إسلامي/إسلامي، واتخاذه شكل الجهاد، عندما أدّت الخلافات حول سياسات الخليفة الثالث عثمان بن عفان إلى اندلاع التمرد ضده، وقد بدت نظرة المتمردين لموقفهم أنّه نوع من الجهاد في قول محمد بن أبي حذيفة لرفاقه خلال معركة الصواري: "لقد تركنا الجهاد حقاً وراءنا"، وعندما سئل عن قصده أجاب إنه الجهاد ضدّ عثمان[12].
وما أضاف للتمرد المذكور بعداً جهادياً هو انضمام بعض كبار الصحابة أمثال طلحة بن عبيد الله وعمّار بن ياسر للجبهة المعارضة للخليفة، باعتبار أنّه قد خالف بسياسته أوامر الشرع وسنّة الشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، خاصة فيما يتعلق بتوزيع المناصب على بني أمية.
بالطبع فإنّ الدوافع الداخلية للثائرين على ابن عفان تنوعت واختلفت، ولكنها اتفقت في الجانب الدعائي منها، حيث أخذت شكل تقويم الإمام الجائر، قبل أن تأخذ الأحداث منحاها المأسوي العنيف الذي انتهى بقتل الخليفة.
وفي المقابل، كان الجانب الآخر المنحاز لرأس الدولة الإسلامية، الذي كان في البداية منقسماً بين موالين للخليفة مثل مروان بن الحكم وحزب الأمويين، وأولئك الذين كانوا يعتبون على عثمان بعض سياساته، وإن لم يقرّوا خلعه أو المساس به، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب.
هنا يثار التساؤل: لو أنّ من ثاروا على عثمان بن عفان كانوا يعتبرون أنهم مجاهدون، وبالتالي فإنّ قتيلهم شهيد، بينما ينظر الطرف المضاد لنفسه بالتفكير ذاته، فأي قتيليهما شهيد؟ وتنتهي المأساة بقتل عثمان دون أن يجاب عن هذا السؤال.
فمقتل عثمان ترتب عليه تفاقم الأوضاع واشتعالها على صعيدين: الأول هو صدام الخليفة الرابع علي بن أبي طالب مع المطالبين بالقصاص لعثمان والذين سعوا لنيله بأيديهم، وعلى رأسهم السيدة عائشة والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، والثاني هو الصراع المرير بين علي ومعاوية بن أبي سفيان الذي طالب بتسليم قتلة عثمان له باعتباره ولي دمه.
فأمّا الصعيد الأول فقد شهد سقوط القتلى من الجانبين في معركة يقدّم طرفاها حججاً لعدالة قضيتهم[13]، وإن اعترفت السيدة عائشة بعد ذلك بأنها قد حسبت أنها تصلح بين الناس، وفي الوقت نفسه فقد نفى الإمام علي عن خصومه تهمتي الكفر والنفاق، وقال عنهم: "إخواننا بغوا علينا"، ولكنه لم يتحدث في شأن موقع قتلى الفريقين من الشهادة.
وأمّا على الصعيد الآخر، فقد كانت الأولوية عند الناس هي معرفة أي الفئتين باغية على الأخرى، واعتبروا أنّ موقف عمار بن ياسر هو الفيصل، حيث قال عنه الرسول "تقتله الفئة الباغية"، فلما قتل وهو يحارب في جيش علي تأكد لأنصار هذا الأخير عدالة موقفهم، بينما ردّ جانب معاوية بأنّه "إنما قتله الذي أخرجه". ولأنّ هذه المحنة ـ منذ التمرد على عثمان وحتى استقرار الحكم لمعاوية - كانت أكبر من أن تجد من يتفرغ للتنظير حول موقع الشهادة فيها من الإعراب، مقابل أولوية إيقاف الصراع الداخلي، فقد بقي السؤال معلقاً، خاصة وأنّ القرآن فيما يتعلق بالأمر بقتال الفئة الباغية سكت عن هذا الشق معطياً الأولوية للإصلاح أو لردّ البغاة إلى أمر الله.
الفئة الوحيدة التي تناولت هذه المسألة بشكل ضمني كانت فرقة الخوارج[14] التي اتخذت موقفها المتطرف بإخراج كلّ الأطراف من دائرة الإسلام، واعتبرت أنها الفرقة الناجية التي يقع على عاتقها ردّ الأمّة إلى حكم الله. فقد عدوا نشاطهم المسلح جهاداً، وبالتالي فإنّ قتيلهم شهيد لأنه قضى في سبيل جعل كلمة الله هي العليا، وهو المنطق ذاته الذي استندت إليه كلّ التيارات المتطرفة المسلحة إلى يومنا هذا، وإن اختلفت أفكارها وتوجهاتها وتنوعت.
ولنقف عند الحركات المتطرفة المعاصرة[15]، فإنّ ممّا ينمّ بشدة عن تبنيهم المنطق الإقصائي لمخالفيهم عن الإسلام الصحيح - كما يرونه - هو توظيفهم لمصطلحات مثل "الجهاد، الهجرة، الناجون، الغرباء" في وصف أنفسهم، وهي مصطلحات ارتبطت ببداية الدعوة إلى الإسلام في وسط مشرك أو وثني معادٍ، وبالتالي فقد ورثوا المنطق نفسه القاضي بأنّ قتيلهم شهيد.
ومن نافلة القول إنّ الجانب المضاد - أعني الدولة/النظام - يضفي على من يُقتَل من جانبه الصفة نفسها، باعتبار أنه يقاتل "فئة مارقة" دفاعاً عن الدولة وسيادة القانون...إلخ، سواء كان خطاب الدولة مدنياً بحتاً أو مستنداً على النصوص الدينية الآمرة بطاعة أولي الأمر، أو تلك التي تحدثت عن تلك الفئة التي "تمرق من الدين مروق السهم من الرمية"، أو على موقف الإمام علي من الخوارج في معركة النهروان.
بقيت إشكالية، هي أنّ بين المعسكر الممثل للدولة - أياً كانت - التي تصفها الفرق الخارجة عليها بالطاغوت، والمعسكر الخارج على تلك الدولة، وبدعوى جعل الحكم لله توجد جموع من المحايدين أو المحيدين عن الصراع، وهؤلاء القوم من الوارد أن يتسبب الصراع بينهم في سقوط بعضهم فيما يمكن وصفه بالتعبير الحربي "الخسائر العشوائية"، كما يحدث في بعض التفجيرات أو الهجمات واسعة النطاق، فما هو موقع القتيل منهم من الشهادة؟
إجابة هذا السؤال تقع في منطقة العصور الوسطى، تحديداً في العصر المملوكي، عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون، في فتوى الشيخ تقي الدين بن تيمية التي تحمل اسم "فتوى ماردين"[16]
ففي تلك الفترة كان الصراع على أشدّه بين الدولتين المملوكية والمغولية[17]، فالمغول وإن كان حكامهم قد اعتنقوا الإسلام إلا أنهم بقوا على عقيدة تفوق النوع المغولي، فلم تتوقف هجماتهم على المملكات المملوكية في الشام، ولم يختلف سلوكهم في المدن الواقعة في أيديهم كثيراً عن أسلافهم من خانات المغول الوثنيين، بالتالي فقد كان على السلطة المملوكية أن تتصدى لهم.
هنا ثار الحرج حول الدعوة لـ"جهاد" من طرف مسلم ضد طرف آخر، خاصة وأنّ الفرنجة -المصنفين إسلامياً كفاراً - لم تتوقف هجماتهم البحرية على سواحل الشام ومصر رغم انتهاء وجودهم بطردهم من عكا في عهد الأشرف خليل بن قلاوون. فهل يجوز في ذلك الوقت أن ترتفع الدعوة لـ"حرب مقدّسة" ضدّ خصم مسلم؟
كذلك ثمّة مشكلة أخرى، هي المدنيون من أهل المدن الواقعة في نطاق العمليات الحربية، فمن الوارد - بل والغالب - أن يكونوا عرضة للقتل خلال تلك العمليات. هنا أصدر الفقيه ابن تيمية فتوى ماردين، وهي من المدن التي سيطر عليها المغول، حول وضع المدينة وأهلها، كمقياس للحالات المشابهة.
فقد نصّت الفتوى على أنّ وقوع هذه المدينة في يد سلطة تعادي بتصرفاتها الشريعة يجعل لها وضعاً وسطاً، فلأنّ أهلها مسلمون فهي ليست دار حرب، ولأنّ حكامها خارجون على الشرع فهي ليست دار سلم، بالتالي فإنّ لها وضعاً خاصاً، فهي تصلح كمجال للعمليات القتالية ضدّ السلطة الخارجة عن الشريعة، وعلى أهلها بذل الجهد للجلاء عنها وعدم طاعة حكامها أو مدّ يد العون لهم، إلا من لم يستطع ذلك. ويعامل فيها من ينحاز للشريعة بما يستحق، وفي المقابل فإنّ من يرغب عن الشريعة من حكامها ومن يعينهم يعامل بما يستحق، وفي نص آخر مكتوب "يقاتل بما يستحق".
إذن ففي ذلك الوضع المعقد وضعت حدود تبين من يمكن تصنيفه كمنحاز للإسلام، وبالتالي كمجاهد ثم كشهيد لو قتل، ومن ليس كذلك.
ولأنّ من سمات الفكر المتطرف دينياً فصل النص عن سياقه التاريخي، ولأنّ فتوى ماردين لم تعد ابنة زمانها ومكانها فقد كان من الطبيعي أن تتحول إلى "حصان طروادة" لأصحاب الفكر الجهادي المتطرف في عصرنا الحالي لشرعنة تسببهم في سقوط ضحايا مدنيين، فهؤلاء الضحايا هم إمّا أعوان لـ"الحكام الطواغيت"، - ويتمّ التوسع في هذا الوصف ليشمل موظفي الدولة وجنود الجيش والشرطة والفئات العرقية أو الدينية المعروف تأييد معظمها للنظام الحاكم في بعض الأحوال - أو هم شهداء إمّا لما يحتمل من ميل بعضهم فكرياً لفكر المعسكر المتطرف نفسه، أو لاعتبارهم بمثابة "دروع بشرية" تتمترس خلفها الأنظمة.
إذن، فخلاصة ما سبق أنّ المفهوم الديني البسيط للشهادة قد نالته أيدي الصراعات السياسية بالتشويه والتعقيد، كلّ طرف حسبما يخدم مصالحه وتطلعاته وقناعاته. منذ بداية الفتنة الكبرى وحتى عصرنا هذا، سواء كان ذلك بحسن نيّة أو بسوء نيّة، حتى وإن كان ذلك باستدعاء فتوى عمرها أكثر من 600 سنة. هذا عن العوامل السياسية، فماذا عن تلك النفسية؟
العوامل النفسية المؤدية لتشويه مفهوم الشهادة:
منذ سنوات، قال الكاتب الدكتور أحمد خالد توفيق في إحدى ندواته: إنّ من الحيل التي يهرب بها الناس من واقعهم المؤلم هو "النوستالجيا" أو الحنين المفرط إلى الماضي.
من هذا المنطلق تخرج الصورة الذهنية للشهادة عند قطاع كبير ممّن يتناولونها حديثاً وتفكيراً كغاية في حدّ ذاتها لا مجرد حدث وارد الوقوع للمقاتل/المجاهد. فالنوستالجيا لا تنظر في لُبّ الأشياء وإنما في الهالة المحيطة بها. (بالتأكيد الحديث هنا عن فئة معينة ممّن يطلبون الشهادة أو يتطلعون لها وليس عن الجميع، فالتعميم مرفوض).
هم يريدون الشهادة لذاتها، يريدون "الحالة" بغض النظر عن المقدمات أو العواقب أو الملابسات، لماذا؟
يضيق المجال هنا عن حصر كلّ أسباب ذلك لشدة تعقيد التفكير البشري، ولتباين الخلفيات الفكرية والثقافية، ولكن يمكننا أن نستعرض بعضها اعتماداً على بعض الخبرات العملية والمشاهدات الواقعية التي يتلقاها من احتكوا ميدانياً بنوعيات مختلفة من البشر في فترات الثورات والاضطرابات المسلحة. وألفت نظر القارئ إلى أنّ بعضها قد يبدو طفولياً أو غير ناضج، ولكنها تمثل أمراً واقعاً بالفعل.
فمن ناحية ينظر البعض للأمر باعتبار أنه "انتحار شرعي" - والحديث هنا عن ذوي الأفكار أو الميول الانتحارية[18] - حيث يصل بعضهم إلى مستوى من فقدان الرغبة في الحياة يجعل من المحاذير الدينية الحاجز الأخير - الواهي أحياناً - الذي يمنعهم من ارتكاب فعل الانتحار.
بالتالي فإنّ بعض هؤلاء يحاولون التحايل على الأمر بالتفكير في الشهادة كمخرج شرعي من هذا المأزق، فكلّ ما يحتاج إليه هو معركة يتصدر هو صفوفها الأمامية ليتعرّض لإصابة قاتلة، وبالتالي لينال الشهادة. بالتأكيد هذا تفكير شديد السطحية، ولكننا نتحدث عن شخص بلغ من رفض الحياة درجة فقدان المنطق العقلاني.
ومن ناحية ثانية فإنّ البعض الآخر يعتبر أنّ الشهادة هي بمثابة "تطهير" له أو لنقل "هي خروج آمن من حساب الآخرة". أتحدث هنا عن ذلك الشخص - الشاب غالباً - الذي يشعر دائماً بتأنيب الضمير من تقصيره في العبادات أو ارتكابه بعض المحرّمات الدينية، وخوفه من الحساب الأخروي، وإشفاقه ممّا يقرأ أو يسمع عن أهوال حساب يوم القيامة، مقابل ما يتلقى من معلومات عن أنّ الشهيد يدخل الجنة بلا حساب، بالتالي يكون المخرج هو أن تنتهي حياته شهيداً ليكون قد ضمن حسن الخاتمة ودخول الجنة بلا حساب.
كذلك فإنّ هناك ذلك الشخص الذي يشعر بالانفصال والاغتراب[19] عن مجتمعه أو محيطه لأسباب تتنوع بين مادية وفكرية واجتماعية...إلخ، ويريد أن يحصل على ما يعتقد أنه الاحترام والتقدير اللائق به، فما دام لم ينله في حياته فسوف يتلقاه بعد الموت. بالتالي نحن أمام شخص فشل في بناء حياة مشرّفة، فهو يبحث عن موت مشرّف. ومن ناحية أخرى فإنّ بعض المنتمين لتلك الفئة يضيفون لـ"رغباتهم" الرغبة في إثارة ندم من يحبهم أو يرغب في الحصول على اهتمامهم أنهم لم يقدّروا وجوده بينهم. وهو هنا يتشابه أحياناً مع النوع الأول - الانتحار الشرعي - فيما يتعلق بدافع "إثارة الندم"[20].
خلاصة القول هنا إنّ قيمة الشهادة لم يتوقف تعرضها لما يمكننا وصفه بـ"ليّ عنق الحقيقة" نتيجة لعوامل مادية سياسية أو فكرية مذهبية فحسب، بل لقد أدّت الألاعيب النفسية الداخلية بكلّ ما فيها من تعقيدات دوراً كبيراً في ذلك التعقيد.
خاتمة
السياسة، والخلاف الفكري والمذهبي، والحيل النفسية، وغيرها، حاول كلّ منها أن يطوّع الشهادة كقطعة الصلصال اللينة لما يتلاءم معه، فلا هي أطاعته ولا هي بقيت على بساطتها، كقصة الغراب الذي حاول تعلم مشية الهدهد فلا هو تعلمها ولا هو تذكّر مشيته.
ما الحل؟ يطول الحديث في هذا الشأن، ولكنه يبدأ بردّ الأمر إلى قواعده، بإزالة الشوائب التي أضافتها تصارعات السياسة وتيارات الفكر حتى تبدو الصورة واضحة كما كانت في البداية، ثم بفصل كلّ حالة وفرضية على حِدة وتقليبها من مختلف الزوايا لتصنيفها و- قدر المستطاع - تجنّب أيّ لبس قد يتعرض له البعض بشأنها.
كذلك فإنّ فكرة الجهاد، وما يترتب عليها كالشهادة، يجب أن تخرج من أسر قياسها على نصوص وفتاوى ترجع لمئات السنين لزمن غير الزمن وأرض غير الأرض وناس غير الناس، وأن يتمّ تناولها بشكل ملائم لمتطلبات الحياة المعاصرة، خاصّة وأنّ صور الفهم الخاطئ لها غالباً ما تسيء للتطبيقات العادلة للجهاد والاستشهاد في حالات المقاومة الشرعية - أخلاقياً وقانونياً - لمحتل أجنبي أو معتدٍ خارجي.
وعلى عاتق كلٍّ من علماء النفس والدين يقع عبء إخراج الاستشهاد خارج نطاق الحيل الدفاعية النفسية، وهو أمر تتطلبه السلامة النفسية للفرد، والأمن العام للمجتمع.
باختصار، من المستحيل على طرف واحد أن ينفرد بالتعامل مع مشكلة ابتذال وتعقيد مفهوم الشهادة. فإن كانت هذه أعراض، فإنها ليست لمرض واحد، وإنّما لما يوصف طبّياً بـ"المتلازمة"، حيث تتفق عدة أعراض يرقى كلٌّ منها لمستوى المرض تحت مظلة مرض أكبر، بالتالي فإنّ الأمر يفوق إمكانيات صاحب التخصّص الديني أو النفسي أو التاريخي وحده، ويحتاج إلى كلّ هؤلاء للتصدي لتلك الظاهرة.
لائحة المراجع
- إبراهيم ماجد موريس، الإرهاب.. الظاهرة وأبعادها النفسية، الطبعة الأولى، دار الفارابي
- ابن كثير، البداية والنهاية، تحقيق سهيل زكار، الطبعة الأولى، دار صادر
- ابن تيمية، فتوى أهل ماردين، دار الإفتاء المصرية، فتوى رقم 3757
- أبو الخير سليم صبري، تاريخ مصر في العصر البيزنطي، طبعة سنة 2009، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية
- أبو خليل شوقي، أطلس القرآن، الطبعة 16، دار الفكر
- إسبوزيتو جون لويس، الخطر الإسلامي خرافة أم حقيقة، ترجمة د. قاسم عبده قاسم، الطبعة الأولى، المركز القومي للترجمة/مصر
- جيرار باتريك، ملحمة قرطاج، دار ورد
- خشبة دريني، الإلياذة، دار الهلال
- دلّو برهان الدين، جزيرة العرب قبل الإسلام، الطبعة الأولى، دار الفارابي
- ديفيز ستيفين، بابوات مصر.. البابوية القبطية المبكرة، ترجمة مجدي جرجس، الطبعة الأولى، المركز القومي للترجمة/مصر
- رايت لورانس، البروج المشيدة، دار كلمات عربية
- عمارة محمد، تيارات الفكر الإسلامي، دار الشروق
- مانيتون السمنودي، الجبتانا.. أسفار التكوين المصرية، تحقيق علي علي الألفي، الطبعة الأولى، دار روافد
- مراد سعيد، الفرق والجماعات الدينية في الوطن العربي قديمًا وحديثًا، طبعة سنة 2007، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية
- مدحت محمود، مصر القبطية.. المصريون يعمدون بالدم، الطبعة الأولى، المجلس الأعلى للثقافة/مصر
- نورالدين عبدالحليم، الديانة المصرية القديمة.. المعبودات، الطبعة الأولى، دار الأقصى
- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، بيت الأفكار الدولية
- الطويل كميل، القاعدة وأخواتها، الطبعة الأولى، دار الساقي
- طقوش محمد سهيل، تاريخ العرب قبل الإسلام، الطبعة الأولى، دار النفائس
- طقوش محمد سهيل، السيرة النبوية الشريفة، الطبعة الأولى، دار النفائس
- طقوش د. محمد سهيل، تاريخ المغول العظام والإيلخانيين، دار النفائس
- القرآن الكريم
- مجلة البحوث الإسلامية، العدد الحادي والأربعون، الإصدار: من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1414هـ 1415هـ، "الشهادة في سبيل الله في الكتاب والسنة" أنواع الشهداء، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، السعودية
- إسلام ويب، مركز الفتوى، فتوى رقم 34588، التصنيف: تعريف الشهيد، 8 يوليو 2003
[1]- نشر هذا المقال ضمن ملف "الجهاد، الشهادة، الشهيد"، إشراف بسام الجمل وتنسيق أنس الطريقي، مؤمنون بلا حدود، 2015
[2]- مانيتون السمنودي، الجبتانا. أسفار التكوين المصرية، ص 375، تحقيق علي علي الألفي، الطبعة الأولى، دار روافد، د. عبدالحليم نورالدين، الديانة المصرية القديمة. المعبودات، ص 102، الطبعة الأولى، دار الأقصى.
[3]- دريني خشبة، الإلياذة، دار الهلال.
[4]- باتريك جيرار، ملحمة قرطاج، دار ورد.
[5]- ستيفين ديفيز، بابوات مصر. البابوية القبطية المبكرة، ص 85، ترجمة مجدي جرجس، الطبعة الأولى، المركز القومي للترجمة/مصر
- محمود مدحت، مصر القبطية. المصريون يعمدون بالدم، ص134، الطبعة الأولى، المجلس الأعلى للثقافة/مصر.
- د.صبري أبوالخير سليم، تاريخ مصر في العصر البيزنطي، ص 33 وص 61، طبعة سنة 2009، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية.
[6]- د. شوقي أبوخليل، أطلس القرآن، ص 111، الطبعة 16، دار الفكر.
- برهان الدين دلّو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص611 وص 616، الطبعة الأولى، دار الفارابي.
- د.محمد سهيل طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 265، الطبعة الأولى، دار النفائس.
[7]- د. محمد سهيل طقوش، السيرة النبوية الشريفة، ص 75، الطبعة الأولى، دار النفائس
[8]- المرجع السابق
[9]- مجلة البحوث الإسلامية، العدد الحادي والأربعون، الإصدار: من ذي القعدة إلى صفر سنة 1414هـ 1415هـ "البحوث" "الشهادة في سبيل الله في الكتاب والسنّة"، أنواع الشهداء، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، السعودية.
- إسلام ويب، مركز الفتوى، فتوى رقم 34588، التصنيف: تعريف الشهيد، 8 يوليو 2003
- ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء الرابع، ص904-905-906- 907-908، تحقيق سهيل زكار، الطبعة الأولى، دار صادر.
[10] سورة التوبة 52
- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ص 533، بيت الأفكار الدولية.
- ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء الرابع، ص1071-1072، تحقيق سهيل زكار، الطبعة الأولى، دار صادر.
[11]- ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء الرابع، ص1076، تحقيق سهيل زكار، الطبعة الأولى، دار صادر.
[12]- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ص 740، بيت الأفكار الدولية.
[13]- ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع ص 1939-1940-1941، تحقيق سهيل زكار، الطبعة الأولى، دار صادر.
[14]- د.محمد عمارة، تيارات الفكر الإسلامي، ص16-17-22
[15]- كميل الطويل، القاعدة وأخواتها، ص13-15، الطبعة الأولى، دار الساقي.
- لورانس رايت، البروج المشيدة، ص 23-42-47
- د.سعيد مراد، الفرق والجماعات الدينية في الوطن العربي قديماً وحديثاً، ص392- 398- 399 – 411 -414-415 -416 -481- 482طبعة سنة 2007، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية
- جون لويس إسبوزيتو، الخطر الإسلامي خرافة أم حقيقة، ص 291-292، ترجمة د.قاسم عبده قاسم، الطبعة الأولى، المركز القومي للترجمة/مصر.
[16]- ابن تيمية، فتوى أهل ماردين، دار الإفتاء المصرية، فتوى رقم 3757
[17]- د. محمد سهيل طقوش، تاريخ المغول العظام والإيلخانيين، ص 232-273، الطبعة الأولى، دار النفائس.
[18]- د. ماجد موريس إبراهيم، الإرهاب. الظاهرة وأبعادها النفسية، ص255وص259، الطبعة الأولى، دار الفارابي
[19]- المرجع السابق، ص 257
[20]- المرجع السابق، ص 253