ف.د.إ. شلايرماخـر في فكرة لايبنتس غير المكتملة بعد
فئة : ترجمات
ف.د.إ. شلايرماخـر في فكرة لايبنتس غير المكتملة بعد[1]؛
عن لغة فلسفيّة كليّة[2]
ترجمة: فتحي إنقزّو[3]
كلّما أحيينا ذكرى عظماء الرّجال، حتى نجدّد ما بين حياتهم العلميّة وحياتنا من العلاقات، كان لزاماً علينا أن نُقبل أيضاً على المشروعات، التي لم يبلغوا استكمالها. فإنّ القدر، الذي يحكم هذه الحياة الدّنيا، لا يُبقي لأولئك، الذين لهم من القوّة الرّوحية حظٌّ عظيمٌ، إلّا مقداراً يسيراً حتّى يرفعوا إلى مطلق الوجود ما كان بذوراً ملقاة في باطن أنفسهم. يجب أن نذكّر بين حين وحين، بما يبقى هكذا على حال الاحتياط، وقد حفظته أعمالٌ[4] وأفعالٌ[5] أخرى، فلعلّ الدّهر يجود بروح أشبه بهم يشعر بنفسه مدعوّاً لوصل ما انقطع من الحبل. أمّا ما يبقى من أمور أخرى غير مكتملة، فإنّه يرجع إلى ما في العصر من آفة العمى[6]؛ ولا يبعد أن تتقدّم بعض العقول شوطاً بعيداً يجعل من أفضل أفكارها، وقد غشّتها عباراتهم القاسية بصدد مثالب معاصريهم، مجرّد تحديسات[7] لا غير. لمثل ذلك، يحسُن بين حين وحين أن نعرض هذه المرآة للأجيال القادمة، في حال سيكون بمقدور أحدهم أن يضطلع بتحقيق ما لم يكن يُنطق به إلا رجماً بالغيب[8]. وأخيراً، قد يوجد من الباحثين الممتازين من يستسلم لسحر خادع يجعلهم [139] يقعون في حبّ أشباح لا حياة حقيقية فيها. وحتى إن لم يأتوا بغير النطق بأفكارهم التي، على الرغم من حبهم هذا، ليس المطلوب منها أن تتنزّل في التّطوّر المقبل للعلم، والتي ليس فيها من عنفوان حياة حتى تبلغ تمام النّضج في واضحة النهار؛ فإنّه لأمرٌ، كيفما أخذته، عظيم الغناء أن نرى كيف يقع أكابر الرّجال هم أيضاً في الخطأ، لنرى كم كان قربهم من هدفهم كبيراً، حتى وإن لم يبلغوا السعي في تحقيقهم.
إنّ مثل هذه الفكرة، التي بقيت دوماً جنينية لصاحبنا لايبنتس، تقضي بتوفير أساس متين للميتافيزيقا بنحو نهائيّ، وبضمان حلّ لكلّ النزاعات في هذا الميدان يكون يسيراً ويقينيّاً بوساطة نسق من الرّقوم الكونيّة، يتعيّن أن يكون فنّاً للاكتشاف وللنّقد؛ ولعلّه من غير اليسير أن نفصل في أمر هذا النّسق، وإلى أيّ صنف ينتمي. فإن تناهى إلى مسامعنا أن الفكرة كانت تراود لايبنتس منذ ريعان الحداثة، حينما كان قد ابتدأ بالكاد يتلمّس بأطراف قدميه الأمواج المتلاطمة لبحر الميتافيزيقا المحيط، الذي يغمر العالم، في أحد أطوار تكوينه حيث من اليسر بمكان، وبالتّخليط بين أمور مختلفة، أن يخطئ المرء في أمر جلل كهذا. كذلك فعل الشّابّ اليافع أيضاً حين افتتح مسيرته بعمل[9]* يتّصل بهذا الأمر، ولم يتوسّع فيه بما يلزم من التأمل؛ وقبل سنتين من وفاته، أسرّ الشيخ بهذه الفكرة عينها في رسالة إلى أحد معارفه الجدد[10]** ممّن كان أقربهم إلى نفسه: وإذاً، أيّاً كانت الحقبة التي كُتب فيها النصّ الذي يحوي الإحالة الصّريحة على هذه المسألة، فإنّ لايبنتس قد احتفظ بهذه الفكرة دون شكّ إلى آخر حياته. ولقد قرأنا [140] كيف كان قاب قوسين أو أدنى من تحقيقها، ولكنّه كان يتحسّر من وهن قواه التي كان يصرفها حينذاك في أعمال علمية جماعيّة ذات مدى كبير؛ وهو يروي لنا كيف يمكن بيسر لبضعة من الرّجال الموهوبين، في مقدار يسير من الزّمان، أن ينجزوا العمل الأساسي الكبير في النّحو وقاموس الأعداد الأولى[11] للأشياء، هؤلاء الرّجال بإمكانهم في لمح البصر أن يختصروا الميتافيزيقا والأخلاق، هاتان الصّناعتان الرّئيستان اللّتان تتضمّنان كلّ ما هو ضروريّ، في حسابٍ لا يقبل أيّ دحض؛ وهو يكشف لنا بهذه الصّورة رصيداً من الحكمة الفيثاغوريّة، ويصل فكره بالبدايات الأولى للحكمة الكونيّة: لذلك، ولمّا كنّا لا نملك غير أن نستشعر هذه الحقيقة المحتجبة بعمق، فإنّنا نستنكر آفة العمى التي يشكو منها عصرٌ أبى أن يسهم بتواضع في عُمدة أعمال رجل كان يُكنّ له كلّ الإعجاب ويتّخذه مَثلاً. أمّا العصر اللاّحق، فنحن نرى أنه سيبقى هو، أيضاً، على حال الخمول[12]، فلا أحد، باستثناء بضعة مغامرين ممّن لا دُربة علميّة لهم، قد استأنف هذا البحث عن نظام للتّرقيم[13] الكوني بالإمكان تطبيقه بسهولة وبثقة على كلّ لغة، نسقٌ عناصره من شأنها أن تكون هي الأعداد الحقيقيّة لجميع الأشياء: هكذا تكون هذه الفطرة السّليمة[14] كابحة لجماح الرّجل العظيم، الأمر الذي يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ نداءً خفيّاً قد منعه هو، أيضاً، أن يصرف من وقته ومن قواه في مشروعٍ آيلٍ إلى الفشل لا محالة، وإن اعترف هو نفسه بأنّه من الصعوبة بمكان أن نجد العدد الحقيقي، الذي يكون التعبير الصحيح عن ماهية الشيء وعن اختلافه عن شيء غيره، فإنّنا نجد من قبلُ في هذا الاعتراف بالأخص وعياً غائماً بامتناع العثور على كافّة الأعداد؛ بل على عددٍ واحدٍ. والحقّ أنّه من اليسير أن نقول إنّ [141] الهوس[15] الرّياضي فقط هو الذي منعه من تبيّن الحدّ الفاصل بين هذين المجالين، وإنّ الابتهاج الطّبيعي فقط، الذي يقترن بالكشوفات العجيبة للرّياضيات، هو الذي تراءى له به إمكانٌ جديدٌ لإرجاع المفاهيم إلى أعدادٍ، ولاكتشاف حجر الفلاسفة اعتماداً على الفنون الرّياضية.
لنقرّ بكلّ ذلك؛ ولكن لنتساءل أيضاً على سبيل التحقيق: إلى أيّ حدّ أخطأ لايبنتس هدفه، ولأيّة غاية أطلق فعلاً هذا السّهم الضّائع.
ذلك أنه لما كان ما نسميه علماً بالمعنى الخاص للفظ يتعيّن أن يُقصد به الشّيء نفسه عند الجميع بغير اعتبار للفرق في المكان والزمان واللّسان، وجب أن يصدُق حيثما كان، وأن يتحرّك إليه السعي نفسه. وكذلك الأمر بشأن الميتافيزيقا خصوصاً، علمُ المبادئ العلميّة كافة، أيّاً كان اختلاف الأسماء التي نطلقها، بحسب اختلاف جهات النّظر، على هذا التوجّه الأعلى للفكر؛ غير أنّنا لا نبلغ دوماً هذه المطابقة، لا لأنّ اللغات غير متكافئة أصلاً فحسب؛ بل كذلك لأنّه في صلب كلّ لغة ليس من الممكن إطلاقاً ضبط قيمة الكلمات بدقّة، كما أنّه ليس بمقدورنا دوماً أن نصل المشار إليه بالعلامة؛ وذلك هو السّبب في أنّ قيمته تتقلّب وتتبدّل؛ ولما بقيت الرّياضيّات، من بين العلوم كلّها، في تطوّرها، أقلها عُرضةً للتّناقضات، وأمكن لها من جملة العلوم فعلاً أن تحتفظ بأكبر قدر من الثّبات لدى الجميع من قِبَل أنها لا تستخدم اللغة إلا قليلاً: كان من المعهود، أيضاً، أن يُصار إلى خدمة الميتافيزيقا، وبإرجاعها إلى الرّياضيّات كافة العلوم الأخرى من خلالها. وإذاً، حتّى وإن كان المنهج مفقوداً، فإنّ المهمّة ستكون مع ذلك محصّلةً بشكل صحيح، أعني استنقاذ الفلسفة من المغالط التي تُحدثها لا معقولية اللغات بعضها إزاء بعض، وقلق[16] العناصر التي تتكوّن منها كلّ واحدة لامحالة، [142] الأمر الذي يعيق كلّ نسق عن بلوغ الصّحّة الكلّية. فإن تبيّن أننا لم نتخلّ عن اقتضاء الكليّة، دون أن نتّبع مع ذلك السّبيل الذي فتحه لايبنتس، فإنّنا مدينون له بتعليل[17] لما فعلناه من جانبنا منذ عصره إلى يوم الناس هذا حتى نعفي أنفسنا من هذا العبء.
إنّ لايبنتس نفسه، في ما يتعلّق بالمطابقة[18] بين مختلف اللّغات بعضها لبعض، لم يكن قطّ في حرج من أمره. فقد كان يستخدم، في مداخلاته الفلسفية، اللسانين اللاتيني والفرنسي بيسر موزون بينهما. أمّا بخصوص الاستعمال العلمي، فإنه ليس بإمكاننا أن نرى أنّ هذين اللّسانين مختلفان، وذلك من أجل أنّ العبارات الفلسفيّة كافّة بحقّ كتلك التي للغة الحديثة إنّما هي مأخوذة من نظيرتها القديمة، وفي جزءٍ منها أيضاً، وبوساطة منها، من اللسان الإغريقي. ولكن منذ أن أهملنا نحن أيضاً الألسنة المشتركة، متّبعين في ذلك الفرنسيين والإنجليز، وصرنا نستخدم حتّى في الفلسفة لغتنا الأمّ[19]؛ أيّ تقدم بلغناه كي نحلّ [هذه] المسألة المضاعفة؟ كيف تيسّر لتفلسُفنا أن يفعل فعله في اللّغة حتى يصطنع مجالاً مناسباً لحاجاته، حيث كلّ كلمة وكلّ صيغة قد ثبتت للجميع، واستقرّت بعينها في تراكيبها كافّة، بإيضاح وبتعريف كاملين، أيّاً كانت التّبديلات والتّحويلات التي يمكن أن تطرأ عليها خارج هذا الميدان؟ كيف أمكن لنا أن نبتنّي هذا المجال حتى نجعل لغتنا الفلسفيّة الصّناعيّة[20]، التي تخصّنا في متناول النّاس الذين لا يشاركوننا لساننا وحتى ننقل لغتهم إلى لغتنا ونحن مطمئنّون؟ ويشبه أن يكون ما حدث راجعاً إلى منهجين اثنين. فقد كنّا من قبلُ نقصّ آثار الفرنسيين، ونحتذي حذوهم، وكنّا نبحث عن بناء لغةٍ صناعيّةٍ تضاهي الألمانيّة قدر الإمكان هي مع ذلك مرتبطة باللغة المدرسيّة اللاتينية، وكأنّها نقلٌ[21] وفيٌّ لها، مثلما تجدّدت بعد عهد الإصلاح، وصارت أكثر اعتدالاً وتحرّراً من المدخولات[22]، التي لم تكن لتصلح أكثر من حذلقات فارغة. بعد ذلك، وكانط ها هُنا هو مثالنا الكبير، كان الأمر [143] أن انسقنا إلى خليط لغويّ[23] جامح، وقد أفرطنا في إدخال عناصر غريبة، حتى إنّ قسطاً عظيماً من معجمنا الفلسفيّ ليس ألمانياً إلا من حيث الشّكل الظاهري؛ ذلك أنّ قوامه كلّه غريبٌ أصلاً، من أجل ذلك، فحتى وإن كانت القضايا [التي تؤلّف لغتنا] مربوطةً بحروفٍ[24] ألمانيّة، فإنّ نمط بنائها كلّه غير ألمانيّ. زيادةً على هذين المنهجين، من البين أنه لا يزال ثمّة أيضاً نزعةٌ صفويّةٌ[25]، لعلّها ثانويّة، إلا أنّها تبحث عن إغناء اللغة الفلسفيّة الصّناعيّة شيئاً فشيئاً انطلاقاً من مخزوننا اللّسانيّ القديم بأن تجعل للألفاظ وللجمل قيمةً علميّةً على نحو تحكّميّ، وهي الجارية بلا ضبط والمبتذلة في التعامل اليوميّ. ولقد انتهت هذه الأمور كلّها بامتزاج بعضها ببعض في خليط مُريب، سخيف بما فيه من التقعّر، منفر بما يغلب عليه من الجمود، عرضة لتعريض شديد من جانب اللغويين[26] الأفذاذ. إنّ النّقائص الكثيرة لمثل هذه اللّغة أحرى أن تجعلها من مضاحك العقلاء، وأن تثير –لامحالة- سخرية السّاخرين بمتعة لا نظير لها، صادرة من شعبنا شديد الجدّ بلا شك. هذا ما صارت إليه لغتنا الفلسفية. أيّ قدر غريب هذا الذي جعل منا معارضين متشدّدين لهذه البساطة الرياضية، التي كان لايبنتس يعتزم نشرها. ولكن إن كان علينا أن نسوّغ موقفنا من هذا الأمر، أو بالأحرى المسار التّاريخي لتطوّرنا، الذي حاد بنا أكثر ممّا يلزم عن السبيل التي رسمها هذا الرّجل العظيم: وجب أن نفحص العمل الذي ينهض له العلم إزاء اللغة، من وجهة نظر المسألة العامّة للعلم، من حيث إنّ هذا العمل يسهم بقسط في حلّها.
لقد ولّى الزّمان بغير رجعة؛ ذلك الذي تفخر به شعوبٌ خاصةٌ وتفرط في تقدير نفسها، فهي؛ إذ تنسى أصولها، تظنّ أنّها تشهد بمفردها في وجودها على الإنسانيّة الحقيقيّة، وهي تنكر كلّ ما يوجد خارجاً عنها، وتعتقد أنّ بقيّة النّاس أحقّ بالعبوديّة؛ بل يمكن استخدامهم أو تعريضهم للتّهجير. وهي من التي يُزيَّن لها أنّ [144] الرّبات[27] مقيمة في لغتها فقط، وأنّ كلّ لغة غيرها لا تعدو أن تكون غير لكنةٍ أعجميّةٍ[28]. واليوم، إنّ أفق الجمال الرّوحاني قد امتدّ شيئاً فشيئاً على الأرض كلّها، ونحن مضطرّون إلى الاعتراف بالقدرة نفسها على الإبداع للشّعوب كافةً، ومن ثَمّ المساواة في الحياة الرّوحانيّة بتنوّعها. فإن نحن أقررنا بذلك، حيث تكون العفوية الوطنيّة ضعيفة أصلاً، ولكن حيث ينقلب الاستعداد التّقبّلي من حال الغفوة إلى اليقظة الفجئيّة، أو متطوراً شيئاً فشيئاً باستنشاق ريح للحياة غريب: جاز أن يكون لنا أملٌ في أن نرى ميدان التّطوّر الرّوحاني يمتدّ بسبيل هذه النّقلة الحيويّة[29] إلى حدٍّ يغطّي المعمورة كلّها. وإنّه، في هذا الميدان، لا يحقّ لأيّ شعبٍ، اليوم وقبله، أن يحصر نفسه في لسانه؛ بل يجب على الشّعوب كافّةً، كلٌّ على قدر طاقته، أن تكون في جمع بغيرها. غير أنّ ذلك يلزم ألا يكون بأيّ وجهٍ حاصلاً عن التّلاشي التّدريجي للألسنة في لسان واحد سيخرج من هذا الصّراع منتصراً لا محالة؛ ذلك أنّه إن وجب أيضاً قطع العزلة، وجب أن تُحفظ الخواصّ الذّاتيّة[30] مع ذلك. وأمّا فنّ الشعر فإنّ وجوده مجعولٌ لهذا الغرض أصلاً متى تعلّق الأمر باللّغة، هذا الفنّ الذي مُقامه بأرضه يحرس البيت الحرام، في حين أنّ النّوازع الأخرى للإنسان تتخلّل كامل ميدان الرّوح لتكشف حتّى في ما هو غريبٌ عن الصّور المقدّسة. إنّ ما تحمل هذه النّوازع من أسفارها، لا يستردّ منه فنّ الشّعر إلا ما يقدر على قوله في لكنة قومه؛ وحين تتسرّب عناصر غريبة يمكن تعويضها بعناصر أهليّة إلى اللّغة، فإنّ فنّ الشّعر يلاحقها بلا هوادة، من قِبَل أنّها تمثّل خطراً في الوقت نفسه على ثبات النّبر وعلى أصالة العرض. ولكنّ إرجاع التّوازن يجعل الحسّ الفنّي موالياً لتكاثر الألسنة[31]. إنّ أكرم ضيافةٍ لدى الشّعوب، أولئك الذين يدعون كلّ من جاورهم إلى مشاركتهم بهجة الحياة الفرديّة، لا شيء يوقع الرضى في أنفسهم أكثر من الإنصات لقصائد أصيلة تُلقى في لسانها الأصليّ [145]؛ وكذلك الأمر لدى المحبّ، فليس أعظم لديه من أن يتحدّث بلسان غريب، وقد زيّن لنفسه أنّه يمكن له، ولو لحين، أن يخرج من جلده، أو أن يترجم في لغته الخاصّة ما انطبع بنحو شديد بالخصوصيّة الغريبة. خلافاً لهذا التّثبيت التّلقائي ولهذا التّبادل الودّي غير المنحاز بين الألسنة، نرى الحياة العامة في تجمهر النّاس على السّوق النّافقة للعالم، على أنّ إنماء العلاقات المحدّدة بين شعوب هذا العصر الحديث يجعل من مثل هذه الحياة الوسيلة الكونيّة لتذويب كلّ الألسنة. أمّا من يريد هاهنا أن يحتفظ بشيءٍ خاصّ فإنّه كالمجنون، وإنّ كلّ واحد مستعدّ للتّضحية باللغة بالخضوع إلى قانون المصلحة المتبادلة؛ حيث يختلط، تحت وصايته، كلّ شيءٍ بكلّ شيءٍ اختلاطاً شنيعاً. وحتّى إن كان لسانٌ مّا يطغى بشكل كبير على هذه الضفّة، في حين تطغى ألسنةٌ أخرى على ضفاف أخرى: فإنّه ثَمّة دوماً أمرٌ غريبٌ، قريباً كان أم بعيداً، يمتزج به. مرّة هي فنون المعاملة[32]، وما تقتضيه من الحنكة، ومرّة هي الموادّ وطرائق تصريفها، تلك التي تجعل من أسمائها الأصليّة شائعة في شطر العالم، حتّى وإن حُوّلت أو حُرّفت، أو كذلك، كحال المنتصرين الذين يتقبّلون لسان المهزومين، فإنّ ألفاظهم تنتهي بألا تشهد على واضعيها الأوائل قدر شهادتها على أولئك الذين يستعملونها.
إنّ العلم، في هذا المقام، يقع في مرتبة وسطى بين المجالين المذكورين. وهو لا يدّعي نزعة قومية، مثل فنّ الشّعر، حتى وإن كان ييسّر أينما وُجد الحدس المتبادل لما قد تشكّل على هذا النّحو، وهو يتحرك بدافع الصدق الكلي، ويريد حقّاً أن يكون للجميع. إلا أنّه وإن كان واعياً بأنّه يقاسم أيضاً مصير كلّ ما هو أرضي، فإنّه لا يريد مع ذلك أن يكون واحداً للجميع مقابل مثل هذا الحراك الذي لا يهدأ [146]، ومثل هذا التقلب الذي لا يستقر، دون قاعدةٍ مضبوطةٍ، ولا وعي واضح بالطّريقة التي تُستخدم في مجال المعاملة الدّوليّة. إلا أنّه لبلوغ تكوين بأعلى درجة من الثبات الممكن للّغة يكون غير مقيّدٍ بالصّفة القوميّة، ليس على العلم أن يسلك سبيلاً جديداً؛ إذ يمكن له أن يتّخذ أحد السّبيلين، أو أن يجمع بينهما. فإنه شتان ما بين العلوم الجزئيّة، وبين التأمّل. وقد يُظنّ بهذه العلوم أنّها بمقدورها أن تبلغ بيسر تكويناً مستقرّاً للّغة؛ لأنها تقدر على تبيّن موضوعاتها، وأن تُرضي دعوى صاحبنا لايبنتس بأن ترتدّ إلى حسابٍ، وذلك من اللّحظة التي صار فيها اعتبار ما هو بسيطٌ وبدئيٌّ قائماً، وإنّ مثل هذه المحاولات يكاد لا يُحصى. غير أنّ الوحدات الأصليّة لا تريد أن تبقى مثبتة. فالكشوفات يتجاوز بعضها بعضاً وهي تنشئ نظريّاتٍ جديدةٍ، كلّ واحدة منها تتخلّى عن الوحدات السّابقة. أمّا الذي يبقى على حال الثّبات، فهو الموضوعات الظاهرة للعيان؛ ولكن لما كان كلّ شعب عليم[33] يضيف مثل هذه الموضوعات، وكان له الحقّ أن يسمّي ما وجد؛ كانت كتل شديدة التّنافر تتسرّب إلى اللّغة العلميّة من لغاتٍ مختلفةٍ، على أنها حين دلّت نماذجها الأولى على متانتها، وجُمعت واعتُمدت بيسر من جانب كلّ لغة مشاركة في هذا المجال، صارت لنا كتلة مطابقة للصّيغة التي أخذ بها لايبنتس؛ أنّه في كلّ لغةٍ متّصلةٍ بمثل ذلك الجمع، ينبغي اعتماد علاماتٍ يمكن أن تُقرأ من قبل الجميع باليسر نفسه وفي اتّفاق تامّ. وإذا كان الجهد العلمي، الذي يقتضي صحّةً كليّةً، يهيمن هاهنا أيضاً، ويتعدّى حدود اختلاف الألسنة، إذا كان تاريخ العلم يشهد بوضوح على الخلط؛ بل على بقاء تحريفات لم تعد تنتمي إلى نظريّات صادقة: [147] حينئذٍ، فإنّه لن يكون بإمكاننا أن نشكّك في التوافق الذي بين هذه العلاقة اللغوية وبين حال تلك العلوم.
ولعلّ الصورة، التي تخصّ هيئة لغتنا الفلسفيّة الصناعيّة، كما أتينا عليها سريعاً، وعلى الرغم من الهنات التي تنطوي عليها، لا تبعد كثيراً عمّا سبق بيانه. ولقد يكون من نعم الله، كالشّأن لدى الإغريق، أن يجري تأمّلنا كلّه بلساننا نحن. ولكن تحوّلاً كالذي تقتضيه النزعة الصّفويّة الكاملة ليس له أن يمكّننا من بلوغ [هذا المراد]. فقد يحدُث أن ننقل عناصر فلسفيّة من لغات أخرى إلى لغتنا بنحو حَرْفيّ شديد، بوساطة تركيبات ذات بناء جديد تكشف مع ذلك دوماً أنّها لم تكن تشكيلات لغويّة أصليّة، فالأمر لا يتعلّق، حينئذٍ، بالقوة التّشكيليّة للّغة، ولا كذلك بوحدة لغة أفلاطون أو أرسطو؛ بل بكليهما لدى شيشرون. ولكننا نريد بناء لغتنا على منوال ألماني صرف، كما فعل أفلاطون وأرسطو [بلغتهما]، أعني أنّه ليس في ميسورنا أن نخترع عناصر اللغة لأجل الاستخدام العلمي، وإنّما أن نتخيّر منها من المجالات القريبة قرباً شديداً، ونميّز الأيسر دخولاً في هذا الاستخدام المخصوص، أو تطويعه للمنوال الذي يقتضيه مقياس اللغة. على أنّ هذا الأخير لم يكن عندنا عرضة إلي أيّ إهمال قطّ. على خلاف ذلك، إن كلّ فرد قد صار بهذا النّحو أو ذاك مخترعاً في مجال الفلسفة، بمقدار متفاوت من التّوفيق، ولعله غير زائدٍ على اللّزوم أن نستخرج الكنز الألماني الصّرف من العناصر اللّغوية، ومن الصّيغ المستقرّة، التي جُمعت في معجمنا الفلسفي منذ زمن فولف، كنزاً لغويّاً متميزاً وموقوفاً على الفلسفة. على أنّه ينبغي لنا إنصاف لغتنا والاعتراف بديننا لها، فلا يكون لنا أن نقنع بثرائها؛ ذلك أنّنا، بهذا النحو، نرى بوضوح إلى أيّ حدّ تطوّرت لغتنا بشكل عميق، إنّما بلاوعي، في مثل هذا العصر وهذه الميادين، التي من مهامها المحدَّدة [148] المتعلقة برهافة الحس ما كان غريباً كل الغربة؛ ذلك ما يصدُق على جميع اللّغات الجديدة، التي يكون فيها التّمرّس بالعلم على الشاكلة نفسها. ولكن سواء تعلّق الأمر بنا أم بغيرنا، وإن كنّا من أولئك الذين يتّخذون هذا السّبيل دون غيره حتى يبلغوا مقارعة الإغريق نداً بندّ؛ توجّب علينا، من وجهٍ، أن نقطع السّياق التّاريخي للفكر الفلسفي؛ لأنّه لم يكن موجوداً عند روّاد هذا الاستعمال للعقل؛ ومن وجه آخر، كان علينا أن نتخلّى عن الادّعاء الطّبيعي للعلم بصحّة كليّة فعلاً، والاكتفاء بأن تكون فلسفتنا بحقّ من شأننا نحن فقط، أمّا عند الآخرين فلا شأن لها إلا بقدر ما تُفهم بما هي كذلك.
ونحن إنما نتقدم، في المقام الأول، بمطالبة يكون كلّ علم بمقتضاها، بالمعنى الأخصّ للكلمة، هو نفسه عند الجميع، وكذا الفلسفة على الحقيقة أوْلى بوجاهة تامة، أمّا في المقام الثاني فنحن نرى أنه لا توجد لغة حائزة عناصرَ فلسفيّة خالصة مفصولة عن كلّ استعمال آخر. وإذاً، الصحّة المطلوبة مرتبطة أساساً بكوننا، لدى الاستعمال العلمي، لا نُحصّل ولا نبتني إلا القيمة العلميّة للعبارة: من أجل ذلك لزم أن نشهد بأنه لا شيء أقرب من الفكرة الأمّ لصاحبنا لايبنتس من الطّريقة التي نتّبعها نحن الألمان منذ فترة من الزّمان، حتّى وإن لم تكن تتعلّق بفنّ الاكتشاف[34] قدر تعلقها بضمان التّفاهم الفلسفي وتيسير النّقد. أمّا من حيث اللّغة الفلسفيّة الصّناعيّة، فإنّ هذه الطريقة إنّما تنهل من كلّ اللّغات الفلسفيّة، التي تنتسب إلى مدارنا التّاريخي، والتي تمتلك العناصر التي لها أخلص قوام تأمّلي؛ إذ يجب علينا أن نقدر على استبعاد هذه العناصر بأيسر الطرق فيما يخصّ استعمالات أخرى، بنحو لا يجعلها تتسبّب في سوء فهم حينما تظهر في سياق فلسفي. أمّا هذا الحوز فيجري على صورتين: على [149] الاستيعاب في اللّغة، أو على النّقل إليها، نقلاً ليس له أن ينكر أصله الغريب. ونحن، باتّباعنا هذا السّبيل، يتعيّن علينا أن نكتسب علماً بلغة صناعيّة، حيث يهون سريان الفرق فيها بين أثر علمي وبين نُقُوله؛ بل يُمحى شيئاً فشيئاً، الأمر الذي يعني، كما أراد ذلك لايبنتس، أنّها إنّما هي منظومة رقوم، يمكن لكلّ واحد أن يقرأها بيسر في لغته، وكأنّه يقرأ لغته.
للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا
_______________________________________________________________
[1] - مجلة تأويليات العدد 1
[2] - محاضرة قدمها فريدريش د.إ. شلايرماخر في الأكاديمية الملكية للعلوم في برلين يوم 7/7/1831؛ وقد نُشرت ضمن الجزء الأول من القسم الثالث من الأعمال المجموعة: خطابات ومقالات (ترقيم صفحات هذه النشرة مشار إليه في متن النص بين معقوفتين):
F.D.E. Schleiermacher: «Über Leibniz unausgeführt gebliebenen Gedanken einer allgemeinen philosophischen Sprache» (1831), Sämtliche Werke III/1: Reden und Abhandlungen, hrsg. L. Jonas, Berlin: Reimer, 1835, pp. 138-149
[3] جامعة سوسة – تونس.
[4]- Werke.
[5]- Thaten.
[6]- Unempfänglichkeit der Zeiten.
[7]- Ahndungen.
[8]- Weissagung.
[9]*- في فنّ التركيب (De arte combinatoria) [ملحوظة المؤلف].
[10]**- رسالة إلى السيد دي رومون (Lettre à Mr. de Remond) [ملحوظة المؤلف].
[11]- Urzahlen.
[12]- Unthätigkeit.
[13]- Bezeichnung.
[14]- allgemeine Instinkt.
[15]- Begeisterung.
[16]- Unbestimmtheit.
[17]- Rechenschaft.
[18]- Ausgleichung.
[19]- Muttersprache.
[20]- Kunstsprache.
[21]- Uebertragung.
[22]- Barbarismen.
[23]- Sprachmengerei.
[24]- Partikeln.
[25]- puristische Tendenz.
[26]- Sprachkünstlern.
[27]- Musen.
[28]- barbarisches Gestön.
[29]- Lebensübertragung.
[30]- Eigenthümlichkeiten.
[31]- Vielsprachigkeit.
[32]- die Arten des Verkehrs.
[33]- wissenschaftliche Volk.
[34]- Technik der Erfindung.