فصول من الفلسفة الصينية فراس السواح
فئة : قراءات في كتب
فصول من الفلسفة الصينية
فراس السواح
كتاب فصول من الفلسفة الصينية لفراس السواح، كتاب أعادت طباعته مؤسسة هنداوي، ط.1، 2022م. وهو كتاب يقربنا من الفلسفة الصينية وطبيعتها.
ارتبط موضوع الفلسفة ومفهومها بشكل عام، باليونان وبالمسلمين وبالأوروبيين، ومن النادر أن نسمع عن الفلسفة الصينية وغيرها. وإلى يومنا هذا، فإننا في العالم العربي نعرف الصين جيدا كدولة وشعب... والكثير منا يعرف الصين من خلال حقبة "ماو تسي تونغ" (-1976م) مؤسس جمهورية الصين الشعبية. وقد نعرف أشياء كثيرة عن الصين والثقافة الصينية في مجالات مختلفة في مجال الفن والسينما والثقافة الشعبية وبعض من معتقدات الكونفوشيوسية والبوذية...ولكن نادرا ما نعرف أشياء كثيرة عن الفلسفة الصينية، من جهة مبادئها في التفكير، ورؤيتها للعالم... موضوع الفلسفة في العالم العربي، يبدأ مع فلاسفة اليونان مرورا بفلاسفة الإسلام وصولا إلى فلاسفة الثقافة الأوروبية بعد القرن السابع عشر الميلادي.
لا ندري هل هذا راجع لطبيعة التراث الفلسفي العربي الإسلامي الذي ارتبط منذ البدء بالفلسفة اليونانية...؟ أم هو راجع للفكر الغربي الذي لم يول اهتماما كبيرا للفلسفة الصينية ونظرتها إلى العالم؟ أم هو أمر راجع لدول البحر الأبيض المتوسط؛ إذ تشترك في جذع كبير للثقافة المتفرعة عن الديانة الإبراهيمية (إذ تشترك اليهودية والمسيحية والإسلام في قضايا كثيرة)؟ يأخذنا كتاب الباحث السوري فراس السواح "فصول من الفلسفة الصينية" إلى الاقتراب من وجهة نظره إلى مجال الفلسفة الصينية، وتجدر الإشارة إلى أن فراس السواح، قد اشتغل لوقت طويل في الجامعة الصينية، بوصفه باحثا وأستاذا للثقافة العربية الإسلامية.
فقصته مع فكر الصين "ترجع في بداياتها إلى عام 1961م، عندما قرأتُ كتابًا مُترجمًا عن الإنكليزية بعنوان «حكمة الصين»، من منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب. وقد قدَّمني ذلك الكتاب إلى فكرٍ فلسفيٍّ جديدٍ لم نألفه في قراءتنا للفلسفة اليونانية وربيبتها الفلسفة العربية، فكرٌ مستقلٌّ في أسلوبه ومنطلقاته وغاياته. وأكثر ما ميَّزه عندي خلوُّه من البحث في الميتافيزيك والغيبيات وتركيزه على المجتمع والأخلاق والعلاقات الإنسانية والسياسة؛ فهو فكرٌ وجوديٌّ بالمعنى العام للمصطلح، يبدأ عند الإنسان وينتهي عنده."[1]
الفلسفة والدين في الصين
ينقل إلينا الكاتب انطباعه الوصفي حول أول ما يدرسه الطفل في الصين قوله: "إذا كانت آيات القرآن الكريم أوَّل ما يتعلَّمه التلاميذ المسلمون بعد حروف الهجاء، فقد كانت الفلسفة أوَّل ما يتعلَّمه التلاميذ الصينيون بعد الرموز الكتابية الصينية، وكانت الكتب الكونفوشية الأربعة هي المقرَّرات الدراسية الأولى الموضوعة بين أيديهم. وإذا كان التلميذ المسلم يتعلَّم تجويد آيات الكتاب بعد تعلُّم قراءتها، فقد كان لدى التلاميذ الصينيين كُتيِّبٌ للتجويد أيضًا، يتكوَّن من جملٍ مُختارة من الكتب الكونفوشية، تتألَّف كل جملةٍ من ثلاثة رموز كتابية تمَّ اختيارها بطريقةٍ تجعل قراءتها تُحدِث إيقاعًا موسيقيًّا يساعد على حفظها. وإذا كانت الجملة الافتتاحية في القرآن تقول: «الحمد لله رب العالمين»، فإن الجملة الافتتاحية في كُتيِّب التجويد الصيني تقول: «إن الطبيعة الأصلية للإنسان خيِّرة»؛ أي إن الجملة الافتتاحية في التعليم الإسلامي تضع قارئها في لُب الدين. أمَّا الجملة الافتتاحية في التعليم الصيني، فتضع قارئها في لُبّ الفلسفة."[2]
فالغاية الأسمى من الآية القرآنية «الحمد لله رب العالمين» مفادها الإقرار بالشكر والحمد لله العلي القدير، وفي الوقت ذاته فهي تفيد، مسؤوليتنا على أفعالنا وأعمالنا، التي ينبغي أن تفضي إلى الخير والمنفعة وما يخدم الصالح العام. أما صيغة «إن الطبيعة الأصلية للإنسان خيِّرة»، فهي توقظ في الإنسان الجانب الخير منه، وهي صيغة تعلي من قيمة الأخلاق الخيرة لدى الإنسان، صحيح بأن الطبيعة الإنسان خيرة، ولكنها ليست خيرة بشكل مطلق، كما هم الملائكة، فالعبارة تستبطن هذا الأمر، كأنها تقول خير الإنسان غالب على شره.
من المتوقع إن سألت أحدا سؤالا مفاده، من الذي أثر كثيرا في الإنسان الصيني قديما وحديثا هل الفلسفة (الصينية) أم الدين؟ سيكون جوابه على الفور الدين، إلا أن فراس السواح يرى عكس ذلك، فهو يرى بأن "الدور الذي لعبته الفلسفة في الثقافة الصينية يُعادل الدَّور الذي لعبه الدين في الثقافة الأوروبية والشرق أوسطية، ولعل هذا ما دفع البعض إلى اعتبار الكونفوشية (وهي الفلسفة الأكثر تأثيرًا على الثقافة الصينية) دينًا، ولكن الكونفوشية في واقع الحال ليست دينًا، شأنها في ذلك شأن فلسفة أفلاطون أو أرسطو أو حتى أفلوطين الإسكندري الذي كانت الإلهيات محور تفكيره. وعلى الرغم من أن الكتب الكونفوشية الأربعة كانت بمثابة إنجيلٍ للصينيين، إلا أن أيًّا منها لم يبشِّر بإلهٍ أعلى خالقٍ للسماء والأرض، ولم يحتوِ على قصةٍ للخلق والتكوين، أو على تصوُّراتٍ أخروية عن نهاية العالم ويوم الحساب، وعن الجنة والجحيم."[3]
يرى فراس السواح بأن "الكونفوشية" فلسفة وليست دينا، وهذا يعني أن فراس السواح له مفهوم مغاير للفلسفة وللدين، وربما أن الذي جعله يعتبر "الكونفوشية" فلسفة كونها لم تتحدث عن إله أعلى خالقٍ للكون، ولم تتحدث عن قصةٍ خلق الانسان والوجود، كما أنها لا تضم تصورات أخروية عن نهاية العالم ويوم الحساب، وعن الجنة والنار. فمن صفة الفلسفة ألا تخوض في موضوعات الخلق والبعث والحساب والجنة والنار... فالفسقة اليونانية مثلا لم تشغل نفسها بهذه القضايا، وهي قضايا ارتبطت بالوحي وبالأنبياء والرسل ومن أبرزهم أبو الأنبياء الله إبراهيم.
ولكن السؤال هنا هل الدين والفلسفة في الصين يعرفان نوعا من التنافر والتباعد كما ساد في الثقافة الأوروبية لوقت طويل، وقد تم تعميم مقولة أن الفلسفة خصم للدين، طيلة القرن العشرين. يرى فراس السواح بأن الأمر يخلف في الصين، فهو يرى أن "الدين والفلسفة يتفقان في أن جوهرهما يقوم على التفكير المنهجي المنظَّم في شئون الإنسان والحياة والكون، وهذا يعني أن في كل دينٍ شيئًا من الفلسفة، ولكن العكس ليس كذلك؛ لأن الفلسفة تفتقد إلى الأساطير والعقائد والعبادات التي تميِّز الدين؛ فهي بالدرجة الأولى أفكار، وهذه الأفكار لا تنتظم في إيديولوجيا ودوغما، كما هو حال الأفكار الدينية."[4]
أسلوب التعبير في الفلسفة الصينية
"تختلف الفلسفة الصينية عن الفلسفة اليونانية وربيبتها العربية في طريقة الفلاسفة الصينيين في التعبير عن أنفسهم؛ ففي مقابل النص المُطَّرد الذي يستخدم الجدل والبرهان وينتقل من المقدِّمات إلى نتائجها، عند الفيلسوف اليوناني، فإن الفيلسوف الصيني يعمد إلى صياغة أقوالٍ موجزةٍ بكلماتٍ قليلة، وهذه الأقوال تتتابع في نصه دونما رابطٍ ووحدة في الموضوع."[5] بمعنى أن الفلسفة الصينية لا تراهن على النسق، نسق للكتابة وانتظام الأفكار والتصورات، والبرهنة عليها.
"الفيلسوف الصيني من خلال تعبيره عن أفكاره بأسلوب الحِكَم، والأقوال المأثورة، وضرب الأمثلة، يعوِّض عن الإسهاب والتفصيل الذي يميِّز النثر بالإيحاء الذي يميِّز الشعر. وبما أن الإيحاء والإسهاب لا يجتمعان، فإنه كلما نحا التعبير نحو الإسهاب قَلَّت إيحاءاته، وكلما نحا نحو الإيحاء قَلَّ إسهابه، وهذا هو سر جاذبية الفلسفة الصينية"[6] وهذا السر يدور في مدار دفع الإنسان نحو التأمل والتمعن في العالم وتغيراته الداخلية. والتأمل في الإنسان وحياته والعالم من حوله فكل "ما فينا وفي خارجنا في تغيُّرٍ دائم، وهذا التغيُّر يقوم على تناوب الأضداد؛ النور والظلام، الحرارة والبرودة، الجفاف والرطوبة، الحركة والسكون، الحظ الطيب والحظ العاثر، السرَّاء والضرَّاء، الخير والشر … والقائمة أطول من أن نستنفذها هنا. هذه الأضداد ليست في صراعٍ من أجل سيادة أحدها على الآخر، بل إنها تنشأ معًا ويتخذ كلٌّ منها معناه من ضده؛ فلا نور بلا ظلام، ولا حياة بلا موت، ولا خير بلا شر، والنقائص هي نسيج الوجود".[7]
وبهذا الشكل من التفكير، تفسح الفلسفة المجال أمام التصرف بحكمة مع العالم والإنسان والوجود، وهي فلسفة تدور في دائرة الاعتدال "فلسفة الاعتدال هذه ساعدت الشعب الصيني على التعامل بحكمةٍ مع ما واجهه عبر تاريخه من مصاعب وكوارث؛ فقد كان الصيني لا يأمن لأوقات الرخاء لعلمه أن أوقات الشدة قادمة لا محالة، ولا يأسى لأوقات الشدة لعلمه بأنها لن تدوم".[8]
[1] فراس السواح، فصول من الفلسفة الصينية، مؤسسة هنداوي، ط.1، 2022م ص. 13
[2] نفسه، ص.19
[3] نفسه، ص. 19
[4] نفسه، ص. 18
[5] نفسه، ص ص. 19-20
[6] نفسه، ص. 20
[7] نفسه، ص. 23
[8] نفسه، ص.23