فلْسَفَةُ فيودُور دُوسْتُويڤسكي وتَصَوُّرُهُ الدِّينيِّ
فئة : ترجمات
فلْسَفَةُ فيودُور دُوسْتُويڤسكي وتَصَوُّرُهُ الدِّينيِّ
تأليف: دَيْفِيد جُوزيف لِيْغْ[1]
تقديم وترجمة: الدُّكتور أحمد فريحي[2]
تقديم:
لعلَّ أهمَّ مجالٍ ترعْرعتِ الفلسفةُ في أحضانِه، هو مجالُ الأدبِ، شعراً ونثراً، فحكماءُ اليونانِ السَّبعة لم يُخلِّفوا سوى حِكماً وأمثالاً سائرة لها طبيعة تمثيليَّة، أدبية في لُغتها، وحِكمية (فلسفية) في مضمونها. لقد صاغَ بارمنيدس مذهبَه الفلسفيَّ حول وحدةِ الوجودِ وثباتِه في قصيدةٍ شعريةٍ مشهورة، وهي الَّتي استُقي منها مبدأُ الهُويَّة، ومذهبُ تمثيل الوُجود، والميتافيزيقا على وجه العموم؛ ونظمَ أمبادوقليس مذهبَه حول تناسُب العناصر الأربعة، وفي مبدأي الحُب والكراهية كذلك من خلالِ قصيدة شعريَّة؛ وحتَّى شذرات هيراقليطس في التَّعبير عن التَّعدُّد والتَّغيُّر منسوجة بأسلوبٍ بياني رفيع؛ ولا ننسى أكبر المُتون الفلسفية القديمة، المتمثلة في "المحاورات الأفلاطونية"، الَّتي هي حوارات بين سقراط البطل وفلاسفة أخرين حول كثير من القضايا: تربويَّة، ولغويَّة، وسياسيَّة، ودينيَّة، واجتماعيَّة، وأخلاقيَّة، وعلميَّة، ومنطقية، فنيَّة...قد كُتبت بأسلوبٍ أدبيّ في غايةِ البيان، والدَّليلُ القاطعُ على ذلك ما زال شاهداً حتَّى يومنا هذا، فبالرَّغم من أنَّها تُرجمت إلى كثير من اللُّغات، فلا تكادُ تقرأُها بأيِّ لُغة إلاَّ وتجدُها غنيةً بجمالها الأدبي، وصُوَّرها التَّعبيريَّة، ما يجعلُ عُمقَها الفلسفي نابعاً من بيانِها الأدبيِّ.
إنَّ كلَّ الفلاسفة استعانوا بالأساليب الأدبيَّة والبيانيَّة من أجل توضيح أفكارِهم المُجردةِ بما هو حسي، من نيتشه الفيلسوف الأديب (الَّذي يُمثِّل الفلسفة في أقصى جانبها الأدبي) إلى ݣوتلوب فريݣه المنطقي وفيلسوف اللغة (الَّذي يُمثِّل الفلسفة في أقصى جانبها المنطقي والعلمي)[3]، لقد توسلوا بالأمثلةِ، وبالاستعارات، وبالتَّشبيهات، وبالكنايات، وبالنَّقيضات، وبالقصص التَّمثيلية (الأليغوريا)... ولا يسلمُ من ذلك أرسطو نفسه، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وابن باجة، وابن طفيل، وديكارت، وسبينوزا، وليْبنتز، وكانط، وهيجل، وشوبنهاور، وفيدغنشتاين، وراسل، وهايدغر، وسارتر، وكارناب، وشليك، وبيرس، ووليام جيمس...
على سبيل المثال، بما أنَّنا مُجْمِعون على وجهِ القطعِ على أنَّ فريدريتش نيتشه فيلسوفٌ، فهلْ يُمكنُ فصلُ ما هو فلسفي عنده عن ما هو أدبي؟ ألَمْ يُدافع زينون الإيلي عن نظرية الثبات من خلال نقائض تمثيليَّة، كنقيضة أخيل والسُّلحفاة، ونقيضة السَّهم؟ ألمْ يصُغ أفلاطون نظرية المثل، وهي أساس مذهبه الفلسفي، في قصة تمثيلية رمزية؟ ألمْ يُعبِّر ابن طفيل عن مذهبه الفلسفي إلاَّ من خلال قصة "حي بن يقظان" التَّمثيلية؟ ألمْ يُشبِّه ديكارت الفلسفة بالشَّجرة الَّتي جذُورها الميتافيزيقا، وجدعها الفيزياء، والأغصان المتفرعة عنها هي الطِّب والميكانيكا والأخلاق؟ ألاَ يُعتبر هذا التَّشبيه في غاية البيان؟ ألمْ يُوضِّح فكرة الامتداد بالشَّمعة؟ ألمْ يُشبِّه سبينوزا الحُرية الإنسانية الَّتي تخضعُ للضرورة الطَّبيعية بالجسم الَّذي يخضعُ لقانون العطالة الفيزيائي؟ ألمْ يُحدِّد كانط مشروعَه العلمي والأخلاقي من خلال كنايتي "السَّماء المُرصعة بالنُّجوم من فوقه (العلم)، والقانون الأخلاقي من تحته (الأخلاق)؟ ألمْ يتخذ جان بول سارتر الرِّواية والمسرحيَّة وسائل للتَّعبير عن الأفكار الفلسفيَّة العميقة. ألمْ يكنْ شعر هولدرلين مصدرَ إلهام لهيدغر؟ ألم...؟ ألم...؟ ألم...[4]
إذا أمكننا رَدُّ الفلسفة إلى الأدب من حيثُ التَّعبيرُ، فهلْ يُمكن رَدُّ بعض الأدب إلى الفلسفة من حيثُ المضمونُ؟ أجل، فالأدباء الَّذين عرَضوا لقضايا فلسفيَّة يُمكن اعتبارهُم فلاسفة، ولا خير من الأديب والفيلسوف الرُّوسي فيدور ميخائيلوڤيتش دوستويڤسكي كمثال على ذلك، الَّذي يُعتبر أكبر وأشهر الأدباء في القرن التَّاسع عشر. لقد كشَف هذا الفيلسوف عن الظَّواهر النَّفسيَّة العميقة، ما جعله مُحلِّلا نفسياً قبل وجود التَّحليل النَّفسي، وعبَّر عن قضايا وجودية قبل أنْ تظهر الوجودية كمذهب مُحدَّد المعالم. إنَّه شخصية إنسانية فريدة عانت الويلات والشَّقاء في الحياة، ولم تعرفِ الاستسلام، تشكَّلت نزعتُه الإنسانيَّة منذ كان طفلا يرى الفقراء والمرضى يُعانون، وهم ينتظرون العلاج في مصحة أبيه الَّذي كان طبيبا، وهذا ما دفعه لاحقا إلى كتابة أولِ عملٍ أدبي له، وهو رواية "الفقراء". لقد أصيب بالصَّرع بعد موت أبيه، وتعرَّض للاعتقال والنَّفي إلى سيبيريا بسبب مواقفه الفكريَّة، وبانتمائه إلى جماعة سرية، وحُكم عليه بالإعدام، وقبل أن يُنفَّذ في حقه الإعدام، صدَر قرار بتأجيل تنفيذه، وهذه ضربة حظ لا يُمكن رَدُّها إلاَّ إلى القَدَر أو إلى عِناية تحدِّد مَصائر النَّاس على نحو خفي، وربما هذا الحدث المصيري غير المنتظر هو الذي عمق إيمانه بالله على وجه العموم، ولا ننْسى تدبُّره للنَّص الدِّيني في الاعتقال؛ لأنَّه لم يُسمحْ له بقراءة كتاب سوى "العهد الجديد"، وهذا ما عمَّق إيمانَّه بالدِّين المسيحي في حُلته الأرثوذوكسية على وجه الخصوص. على الرّغم من تديُّنه العميق، وممارسته للشَّعائر، فإنَّه كان ضحية للأمراض الاجتماعية من قبيل الفقر، وإدمانه على القمار، وفشله في زواجه الأول، والفرار من المُدينين، وصراعه الداخلي. إنَّ ما يُميِّز هذا الأديب الفيلسوف هو بيانُه وإفصاحُه عن الدَّواخل وعن الأسرار النَّفسية الَّتي تتخللها نزعتا الخيِّر والشرير، وهذا واضح من وصفِ كلِّ شخصيات رواياته، كما أنَّه أبرز التَّناقضات والنَّوازع في كلِّ شخصية على حدة، وهذا لا يعكس سوى ازدواجية الإنسان وفصاميته. إنَّ عمقَه التَّحليلي، ومواجهة المعاناة بتجلد وبدون استسلام جعلا نيتشه يُعجبُ بشخصيته المُحاربة والمُناضلة، وإنْ كان يختلفُ معه في بعض المواقف الفلسفية، فإنَّه اعتبره طبيبا نفسيا ومُعلِّما، قال عنه: «بالمُناسبة، فإنَّ دوستويڤسكي هو العالم النَّفسي الوحيد الَّذي كان لديَّ شيءٌ لأتعلمَه منه، إنَّه أحدُ أفضل ضرباتِ الحظ في حياتي، أكثر حتَّى من اكتشافِ ستندال. فهذا الإنسانُ العميقُ، الَّذي كان له الحق عشر مرات في عدم التَّفكير أكثر من الألمان السَّطحيين، عاش لفترة طويلة بين المُدانين السَّيْبيريين، وبين المُجرمين الخَطرين جدا، الَّذين لا يُمكنهم أنْ يعودوا إلى المُجتمع، ولم يكنِ الانطباعُ الَّذي تركوهُ فيه هو ما كان يتوقعُه إطلاقاً. فقد اعتبرَهم منحوتةً من أفضلِ الأخشابِ وأكثرِها صلابةً وقيمةً، والَّتي تنمو في كلِّ مكانٍ على التُّربة الرُّوسية.».[5]
يختلفُ إعجابُ نيتشه بدوستويڤسكي عن إعجابِه بشوبنهاور، فإذا كانَ هذا الأخيرُ قد لفتَ انتباهَ نيتشه من خلالِ تقديمِ فكرِه خارج الأنساق الفلسفية المعهودة، ولم تكن فلسفتُه متفائلةً بادعاء الوصول إلى الحقيقة، وإنَّما كانت لوحةٌ من المُعاناة الإنسانية المُتكررة والمُتجددة، جوهرُها العنتُ جراء الجَري وراء الرغباتِ المُتجددة باستمرار، والَّتي تجعلُ الإنسان يُعاني ألم ونقص الانتظار طوال حياتِه، ولا يحصلُ له فرح سوى لحظةَ تحقيق رغبة، وفي نفس اللَّحظة تُولد رغبةٌ جديدة، وهكذا دواليك في كلِّ مراحل عيْشه. فلا سبيلَ لتجنيبه المُعاناة والشَّقاء إلاَّ بالتَّعاطُف والاستسلام. لذلكَ قبلَ نيتشه المُقدمات السَّلبية (المشكلات) الَّتي انطلقَ منها شوبنهاور المتعلقة بكونِ العالم مليء بالشُّرور والويلات، ولكنَّه رفضَ النتائج الانهزامية (الحلول) الَّتي توصل إليها، المتعلقة بالاستسلام والتَّعاطف، ففي مقابل التَّعاطف والاستسلام، تبنَّى نيتشه المُقاومة والحرب والنِّضال في وجه المُعاناة وحتَّى في وجه القدر.[6] وعلى العكس من ذلك، فإذا كانَ دوستويڤسكي قد انطلقَ من رسْم صُورة قاتمةٍ للإنسان بما يعيشُه من معاناة، وجعل هذه الأخيرة جوهر الحياة من منطلق ديني أرثودوكسي، على غرار حياة المسيح الحُبلى بتحمُّل الآلام لصالح الآخرين، وجعل الخلاص في الحب المتفاعل الذي اتبعه المسيح، وهذه المقدمة لا يقبلها نيتشه إطلاقا في مُجملها، لكنَّه قَبِلَ النَّتيجة المُتجلية في النِّضال والكفاح ومُصارعة الشُّرور الَّتي تبدو واضحة في حياة دوستويڤسكي، وفي كلِّ رواياته وكتاباته، ناهيك عن عُمقه الأدبي، الَّذي جعله يسبر أغوار النَّفس الإنسانيَّة بما يُخالجها من نوازع ودواخل تُوحي بازدواجية الإنسان وفُصاميته، وهذه أهم مسألة أثارت إعجاب نيتشه في دوستويڤسكي.
قد تُوحي بعضُ التَّأويلات الفلسفية لأعمال دوستويڤسكي أنَّه كان ملحداً لا يُقيم وزناً للدين على غرار ما جاء على لسان جان بول سارتر في كتابه "الوجودية مذهب إنساني" لما قال: «لقد كتب دوستويڤسكي: "إذا لم يكنِ اللهُ موجوداً، فإنَّ كلَّ شيءِ مُباح"، هذه هي نقطة انطلاق الوجودية. في الواقع، كلُّ شيءٍ مباحٌ لو لمْ يُوجد اللهُ، وبالتَّالي، يتم التَّخلي عن الإنسان، لأنَّه لا يجدُ داخلَ نفسه أو خارجَها إمكانيةً للتَّمسك. في البداية لا يَجدُ أعذاراً. فإذا كانَ الوجودُ يسبقُ الماهية، فإنَّنا لن نتمكنَ مطلقاً من التَّفسير بالرُّجوع إلى طبيعة إنسانية مُعطاة وثابتة، وبعبارة أخرى، فلا وجودَ للحتمية، والإنسانُ حرٌ، والإنسانُ هو الحرية. ».[7] يبدو هذا النَّصُ فيه نوعٌ من التأويلِ والتَّضليل، فالرَّأي المنسوبُ إلى دوستويڤسكي في نص سارتر لا يمثلُ رأي دوستويڤسكي، وإنَّما هو رأي إيڤان، أحدُ الشَّخصيات الرَّئيسة في رواية "الإخوة كارامازوڤ"، ونحن نعرفُ تبعات هذا الرَّأي على إيڤان نفسه في الرواية، من خلال ندمه، واعتبار نفسه مسؤولاً عن قتل أبيه ولو أنَّه لمْ يقتلْه حقاً، لأنَّه برأيه هذا أثَّر في أخيه سميردياكوڤ، الَّذي كان القاتلَ الحقيقي لأبيهما فيدور كارامازوڤ، فالرَّواية انتصارٌ للإيمان والبراءة والحُب والعِفة (الَّتي يُمثلها أليوشا) على الفِسقِ والأنانية واتباعِ الشَّهوات والمَصلحة الشَّخصية (الَّتي يُمثِّلها الأب فيدور كارامازوڤ وابنه الأكبر دميتري)، وانتصارٌ على الشَّك والإلحاد والتَّشاؤم (الَّتي يُمثِّلها إيڤان)، وانتصارٌ كذلك على الغَباء والجهلِ والاتباع الأعمى والحِقد (الَّتي يُمثِّلها سميردياكوڤ). لذلك، فإنَّ البطلَ الحقيقي لدوستويڤسكي في رواية "الإخوة كارامازوڤ" ليس هو إيڤان المُلحِد، وإنَّما هو الأخ الأصغر أليوشا الورع والمُتدين، تلميذ الرَّاهب زوسيما، الَّذي رفع شعار "الحُب المُتفاعل" بين النَّاس، وبين النَّاس والله. لقد جرَّد سارتر في النَّص أعلاه دوستويڤسكي من مُعتقده الدِّيني العميق، وأفرغه من قيمه الرَّافضة للإلحاد. صحيح أنَّ دوستويڤسكي كان المؤسس الفعلي للوجودية، بالإضافة إلى الفيلسوف الدنماركي، سورين كيركغارد، من خلال اهتمامه بالواقع الإنساني، أو ما يُسمَّى بالوضع البشري، أي أنَّه اهتم بالوجود المعيش على حساب التَّفكير في الموجود، لكنَّه لم ينفصلْ عن مُعتقده المسيحي الأرثودوكسي العميق، بسبب تأثره بالتربية الدينية لأمه، وبالكتاب المُقدس (العهد الجديد)، الكتاب الوحيد الذي كان مسموحا له بقراءته في فترة اعتقاله بسيبيريا كما أشرنا إلى ذلك سابقا.
ولا يختلفُ التَّأويل النَّفسي التَّحليلي لفرويد عن الـتَّأويل الفلسفي لسارتر في الإساءة لشخصية دوستويڤسكي المُشبعة بالإيمان المتجذر والمضمر، وبالسلام والحب المُعلنين، فقد قام سيجموند فرويد Sigmund. Freud (1856-1939) بتحليل شخصية دوستويڤسكي النَّفسية، وحرَّر في ذلك مقالةً تحت عنوان "دوستويڤسكي وقتل الأصول" الَّذي صدر سنة 1928[8]، اعتبر فيه أنَّ رواية "الإخوة كارامازوڤ" هي أروع رواية على الإطلاق، لكنَّه فسَّر نوبات الصَّرع التي أصيب بها دوستويڤسكي بأنَّها ليست مرضاً طبيعياً، وإنَّما تعبِّر عن ذنبِ مخفيٍّ كانَ يُحس به تجاه موت والده، لأنَّ السَّنة التي أصيبَ فيها بهذا المرض هي نفس السَّنة التي توفي فيها أبوه، فدوستويڤسكي بالنِّسبة إلى فرويد يُمثل الأوديبية بكلِّ تفاصيلها؛ فقد كان يتمنى موت أبيه، مثل أخوته، وكانت له رغبة تجاه والدته، فهو لا يختلفُ عن شخصية إيڤان الَّذي أقر بذنبه في كونه كان سببا في موت أبيه، وربما لا يختلفُ عن شخصية دميتري الَّذي وإن اعترف بعدم قتل والده في الواقع، إلا أنَّه كان يتمنى موته. صحيح أنَّ روايات دوستويڤسكي تعكس جزءاً كبيرا من تفاصيل حياته، لكنَّ نواياه ومقاصده الدِّينية المُحبة للسلام والرَّحمة والتآخي والمُناهضة للكراهية والعُقوق والعُنف تجعل التَّحليل الَّذي قدَّمه فرويد أبعد ما يكون عن حقيقة شخصيته في رواياته.
على الرّغم من أنَّ دوستويڤسكي كان مناصراً للفقراء وللفلاحين ومدافعاً عنهم، ورافضاً للهيمنة الاقتصادية والاجتماعية، ومناهضا للعُبودية، فإنَّه لم يكن داعياً إلى الاشتراكية أو الشُّيوعية لتحرير الإنسانِ بالكيفيَّة الَّتي دعا إليها البلاشفة الشُّيوعيون، فقد كانَ اشتراكياً طوباوياً، وروسياً محافظاً في نفس الوقت، ولا ضيْرَ بالنِّسبة إليه من وجود حاكم أو ملك بإمكانه تحقيق تعاليم المسيح الحقيقية القائمة على الحُب المُتفاعل، ولا ضيْرَ كذلك من وجود اشتراكية تقوم على الاختيار الحُر للأفراد.
من الجميلِ جداً أنْ يأخُذ شخصٌ واحدٌ مثل المُفكر والأديب سامي الدّروبي (1921-1976) على عاتقه ترجمةَ مُجمل الأعمال الأدبية لدوستويڤسكي إلى العربية، ويُصدرها في ثمانية عشر سفراً، هذا على الرَّغم من أنَّه لمْ يُترجمْ أعمالَه من اللُّغة الأصل، الَّتي هي الرُّوسية، وإنِّما ترجمَها من الفرنسية الَّتي لمْ يكن يُتقن سواها. ومع ذلك، فترجمةُ الدّروبي حقَّقت نجاحاً عند القارئ العربي، بسببِ الأسلوب الأنيق الَّذي كان يتمتعُ به في صياغة الجُمل بالعربية، والَّذي لا نجدُ أحداً من الَّذين عابوا ترجماتِه كان يتمتعُ به. أمَّا مسألة أنَّه أخطأ في نقل بعض العناوين، أو بعض الألفاظ الَّتي تمتْ تبيئتُها في التَّرجمة الفرنسية مع الثَّقافة الفرنسية، فهذا واقعٌ لا تنفلتُ منه أيُّ ترجمةٍ، وهو حاصلٌ في التَّرجمات الإنجليزية كذلك، فعلى سبيل المثال المُترجمة الإنجليزية كونستانس كلارا ڴارنيت Constance Clara Garnett (1861-1946) الَّتي ترجمتْ أغلبَ الرَّوائع الأدبية الرُّوسية في واحد وسبعين مجلدا، بالإضافة إلى أنَّها كانت الأولى الَّتي ترجمت جل أعمال دوستويڤسكي من الرُّوسية إلى الإنجليزية، ومع ذلك، قيل فيها ما قيل حول ترجمة عناوين بعض رواياته مثل رواية "الشياطين" التي ترجمتها بـ "المَمْسوسون" (The Possessed)، وهذا لا يسيئُ إلى ترجمتها في شيء، والَّتي اشتهرتْ بين قراء الإنجليزية بشكل لا يختلفُ عن شُهرة ترجمات سامي الدّروبي بين قراء العربية. ومهما يكن، يبقى المُفكر والأديب سامي الدّروبي من الشَّخصيات العظيمة في العالم العربي، بما أسدَته من خدمة من أجل التَّعريف بأدب عبقري وفيلسوف مثل فيدور دوستويڤسكي.
تتجلى قيمةُ هذه المقالة الَّتي نحن بصدد ترجمَتها في كون كاتبها أستاذ جامعي بارز، ومُتخصِّص في الأدب، ومُلم بالأدب الرُّوسي. فرغم أنَّها مقالة موجزة، فإنَّها تكشفُ عن جانبين مُضمرين في أعمال دوستويڤسكي: الجانب الفلسفي المُتمثل في رفض العقلانية الغربية (وليس رفض العقل)، ورفض النَّزعتين البراغماتية والنَّفعية، ورفض الحتمية العلمية، ورفض المادية، ورفض العدمية، ورفض الاشتراكية، ورفض الإلحاد، وفي المقابل إيمانه العميق بالنَّزعة الإنسانية، ثم الجانب الدِّيني المُتمثل في إيمانه الرَّاسخ بالله، وبالمَسيح، وبالعذراء، وبالتَّجسُّد، وبالحُب المُتفاعل بين النَّاس وبين النَّاس والله، وهو الجانب الَّذي تعرَّض للتَّشويه والتَّضليل من قبل بعض التَّأويلات الفلسفية والنَّفسية التَّحليلية والإيديولوجية، بل وحتَّى الأدبية النَّقدية.
إليكم نص المقالة، وأتمنى أنْ أكونَ موفقاً في نقلِ مضامِينها، وقد أشرتُ في الهوامش إلى توضيح بعض المُصطلحات، وبعض أسماء الأعلام، من كتاب ونقاد، وشخصيات أساسية وثانوية في الرِّوايات، كما أشرتُ إلى التَّرجمات العربية لروايات دوستويڤسكي ومذكراته المذكورة في المقالة.
نصُ المقالةِ المُترجمة:
1- حياةُ وأعمالُ دوستويڤسكي (1821-1881)
وُلد فيودور ميخائيلوڤيتش دوستويڤسكي سنة 1821 بموسكو، من أبٍ طبيبٍ وأم ربة بيت مُتدينة، ربَّته داخلَ الكنيسة الكاثوليكية، غير أنَّها تُوفيت وهو في سن السَّابعة عشرة. ابتداءً من سنة 1838 إلى حدود سنة 1843، أرسلَه أبوهُ إلى مدرسة الهندسة العسكرية بسانت بطرسبورغ، حيث أصبح مهتماً بدراسة الإنسانيات أكثر من اهتمامه بدراسة مناهج الهندسة. بعد وفاة والده حيث كانوا يُقيمون سنة 1839، بدأ فيدور في كتابة المسرحيات، ونشر التَّرجمات، واستقالَ في النِّهاية من الجيش بعد تَخَرُجه من مدرسة الهندسة العسكرية سنة 1843. في سنة 1844 ظهرتْ قصتُه القصيرة الأولى "الفقراء"[9]، ولاقت استحساناً كبيرا من جمهور القُراء، ومن النَّاقد الأدبي ڤيساريون بيلينسكي.[10] في سنة 1945، نشرَ روايةً أخرى "المُزدوَج"[11]، والَّتي خلقتْ شخصيةً مُنقسمةً على نفسها، والَّتي سنظهر من جديد في العديد من رواياته الرئيسة، والَّتي اعتبرها مساهمته الأساسية في نوع من الرِّواية الَّتي وجدها النُّقادُ متشابهة مع عناصر في شخصيته.
بعد سنة 1845 انحرف دوستويڤسكي إلى حد ما عن مُمارسة الأرثوذوكسية المُتدينة بسبب انخراطه في جماعة سياسيَّة وثقافيَّة من المُتمردين تُسمَّى جماعة پيتراشيڤسكي.[12] ومع ذلك، فقد حافظ على إخلاصه للمسيح طوال حياته. لقد تم القبض على الجناح الأكثر جذرية في هذه الجماعة (بما في ذلك دوستويڤسكي)، وفي سنة 1849 تم سجنه وتهديده بعقوبة الإعدام. لقد واجه فرقة الإعدام بالقول إلى زميله المُتشكك: "سنكون مع المسيح"، لقد قضى أربع سنوات في مُعسكر للعمال في سجن أومسك بعد أن تم تأجيل إعدامه في اللَّحظة الأخيرة، ثم خدم خمس سنوات في الجيش بسيبيريا. آنذاك، استعاد تفانيه الأرثوذوكسي بسبب قراءة "العهد الجديد"، وهو الكتاب الوحيد الَّذي سُمح له بقراءته في السِّجن. في سنة 1857 تزوج ماريا دميتريڤنا إزايڤا[13]، وهي أرملة من كوزنتسك[14]، وقد تبث أنَّ هذا الزَّواج كان مضطرباً، وشمل علاقة غرامية قبل وفاة زوجته سنة 1864. بعد عودته إلى سانت بطرسبورغ سنة 1859، وقبل رحلته إلى أوروبا الغربية، بدأ الانتقال من العمل التَّحريري إلى نشر أولى رواياته الرئيسة "مذكرات من بيت ميت" سنة 1860،[15] بعد سنوات من سجنه، ورواية "مذكرات من قبو" سنة 1864،[16] ورواية "الجريمة والعقاب" سنة 1866.[17]
في سنة 1867 تزوَّج آنا غريغوريڤنا سنيتكينا[18] البالغة من العمر اثنين وعشرين عاما، والَّتي عملت كاتبة له، وساعدته في التغلب على عادة القمار القاسية، وساعدته كذلك في جلب نظام ممارسة العقيدة الأرثدوكسية بالكامل في حياته. أثناء سفره مع زوجته إلى أوروبا لمدة عامين، واجه معاناة مع الفقر، ولكنه تمكن من كتابة ونشر رواية "الأبله" سنة 1868.[19] وبعد عودته إلى سانت بطرسبرغ، نشر رواية "الشَّياطين" سنة 1871،[20] ونشر كذلك روايته السياسية "المُراهق" سنة 1875،[21] ونشر مجموعة من المقالات تحت عنوان "يوميات كاتب" سنة 1876.[22] وبعد وفاة ابنه أليكس البالغ من العمر ثلاث سنوات، زار دوستويڤسكي الأديرة مع الراهب فلاديمير سولوڤييڤ، [23] وبدأ في كتابة روايته الفلسفية الدينية "الإخوة كارامازوڤ"[24]، التي ظهرت سنة 1880، ولاقت استحسانا كبيرا. توفي دوستويڤسكي سنة 1881، وحضر جنازته ثلاثون ألف شخص حيث دفن في دير ألكسندر نيڤسكي.[25]
2- سياقُ التَّأثيرات في دوستويڤسكي
من أجل فهم حياة دوستويڤسكي وكتاباته، من المُهم الأخذ بعين الاعتبار مجموعة من العوامل. العاملُ الأول هو أنَّ فلسفته وتصوُّره الدِّيني جزءٌ لا يتجزأ من ثلاثة أنواع من المصادر – مذكراته، ومقالاته، وممارساته. العامل الثَّاني الذي يجبُ فحصه هو التأثيرات في حياته مثل ممارسات ومعتقدات الأرثدوكسية، وفكر جماعة پيتراشيڤسكي، وقراءات أخرى، والتَّنافس مع تورغنيڤ[26] وتولستوي[27]، والمعركة بين الفكر الرُّوسي ومفكري عصر التَّنوير الغربيين، والنِّضال مع الحركة الاشتراكية والحركة السّلاڤية. بمجرد فهم مصادره وتأثره، يجب على المرء أنْ يحاول استقراء كلا من الفلسفة والتَّصور الديني المتضمنين فيهما وفي رواياته، وسوف نستكشفُ في فلسفته أربعة مجالات: نزعتُه الإنسانية الفلسفية، وتصوُّره الأخلاقي الفلسفي، وفكرُه الاجتماعي والسِّياسي. وأخيرا لفهم تصوره الدِّيني، سوف نستكشف روايته الدِّينية الأكثر وضوحا "الإخوة كارامازوڤ". في هذا المصدر وغيره، نلخص تفكيره في وجود الله وفي طبيعته، وأهمية المسيح والتَّجسُّد، ودور المسيحية والكنيسة. من خلال هاتين المقاربتين المعقدتين، نأمل أنْ نوضح فهم دوستويڤسكي للواقع والمعنى الأساسيين.
من بين التأثيرات العديدة في دوستويڤسكي، كانتِ القوة الرَّئيسة هي الدِّين الأرثوذوكسي لعائلته ولزوجته الثَّانية، والأديرة والفلاحين الَّذين عاشرهم، والثَّقافة الرُّوسية. على الرّغم من سيطرة الدَّولة على الكنيسة الَّتي بدأت في عهد بطرس الأكبر[28] في القرن السَّابع عشر، فقد تم إحياءُ الكنيسة الأرثوذوكسية الرُّوسية في القرن الثامن عشر من خلال إحياء الرَّهبنة، وإحياء حركة التقوى، وتأثير القدِّيسين مثل القديس تيخون.[29] لقد كانَ دوستويڤسكي مُشاركا فعالاً في الكنيسة على مدار الأربع وعشرين سنة الأولى من حياته، وقد طوَّر تفانيا قوياً من أجل المسيح من خلال الحضور المُنتظم للقُدَّاس وغيرها من الشَّعائر، من قراءة العهد الجديد في السِّجن، ومن الإخلاص إلى أيقونات المسيح. لقد كان يسمعُ ويقرأُ قانون العقيدة النِّيقية[30] خلال مُعظم الشَّعائر الكنسية، بـتأكيدها على الثَّالوث المُقدَّس، وخلق الله للعالم، وتجسُّد الله في المسيح، وخلاص جميع النَّاس في الحياة، وفي الموت، وقيامة المسيح، والاجتماع مع القدِّيسين، والحياة الأبدية مع الله في السَّماء، وخاصة حضور روح القدس وعملها في الأسرار المُقدَّسة، وفي القُدَّاس، وفي الصَّلاة، وفي الكتب المُقدَّسة. على الرَّغم من أنَّه لم يحضرِ القدَّاس بانتظام من سنة 1845 إلى سنة 1865، فإنَّه قرأ العهد الجديد وواصل وفاءه للمسيح، وعاد أخيراً للمشاركة في القُدَّاس مع زوجته الثَّانية بعد سنة 1867. لقد تضمَّنت قراءتُه في سنواته الأخيرة أيضا كتابات لمُؤلفين رهبان. لقد رافقه ڤلاديمير سولوڤييڤ، المُفكر الرُّوسي الأكثر شُهرة في أواخر القرن التَّاسع عشر في زيارته للأديرة. كما حضر دوستويڤسكي مُحاضرات هذا الأخير حول "الرُّبوبية" في سنة 1878؛ وذلك أثناء كتابته لروايته "الإخوة كارامازوڤ"، وقد كان ليو تولستوي حاضرا في إحدى هذه المُحاضرات (لكن لم يتم تقديمُه إلى دوستويڤسكي، وكانت المرة الوحيدة الَّتي اجتمعا فيها في نفس القاعة). لقد رسخَّت هذه المُحاضرات تأكيده في أعظم رواياته على إنسانية المسيح وألوهيته، وعلى أهمية ملكوت الله على الأرض، وعلى السَّماء كذلك (فرانك[31]، ص. 386-389).
لقد خلق هذا التأثير الدِّيني توثراً في ذهن دوستويڤسكي باصطدامه مع فكر التَّنوير ومع المذاهب السِّياسية للاشتراكيين الرَّاديكاليين والفوضويين الَّذين التقى بهم خلال وجوده في جماعة پيتراشيڤسكي. لم تكن افتراضات هذه النُّخب – المُتجلية في العقلانية والإلحاد والاشتراكية- مُقنعة له أبدا، واستمر في الجدال معهم في مقالاته الصَّحفية، وفي مواقفه التَّحريرية طوال حياته. يسخَرُ منهم في رواياته الرَّئيسة، وبالخصوص في رواية "مذكرات من قبو"، ورواية "الجريمة والعقاب"، ورواية "الشَّياطين"، ورواية "الإخوة كارامازوڤ". لمَّا قدَّم قراءات مع إيڤان تورغنيف في عقده الأخير، لم يتفق مطلقاً مع فلسفته وسياسته الغربية، ولاسيَّما دعوتُه لحكومة دستورية اعتبرها دوستويڤسكي نُخبوية ومهملة للفلاحين الرُّوس. تأثر دوستويڤسكي بالإضافة إلى عصر التَّنوير، بالشُّعراء والمُفكرين الرُّومانسيين مثل فريدريتش شيلر[32]، الَّذي فتنت مسرحيتُه "اللُّصوص" الشَّاب دوستويڤسكي بعائلتها القاتلة للأصول، والَّتي دمرت العالم الأخلاقي الإلهي بعُنفها. لقد كانت هذه المسرحية، حسب جوزيف فرانك، أحد النَّماذج الرَّئيسة لرواية "الإخوة كارامازوڤ" (فرانك، ص. 394-396). كما استشهد دميتري بقصيدة شيلر "أنشودة الفرح" في نفس الرِّواية للتَّعبير عن توثر الأخ الأكبر بين حُب الأرض والتَّدمير، وبين مادونا [العذراء الطَّاهرة] وسدوم [القرية الفاسقة].[33] من بين أولئك الَّذين اتفق معهم جزئياً القوميون السّلاڤيون، وهم مُثقفون تشبَّثوا بالتَّقاليد الرُّوسية، ورفضوا تغريب شعبهم، وخاصة الفلاحين. على الرَّغم من أنَّ انتقادَه بعضهم لقبولهم من الغرب أكثر من الفوائد الواضحة للعلم الحديث، فقد أشار إلى المجتمع السّلاڤي الخير، وطوَّر معنى لمصير روسيا يهدفُ إلى جلب القيم المسيحية إلى العالم برُمته.
تثيرُ الأساليب الخيالية الَّتي استعمَلها دوستويڤسكي نفسه، إلى جانب هذه التأثيرات السِّياقية، مسألة خطيرة في التَّأويل لمعظم رواياته، لقد استعمل ما سمَّاهُ النُّقاد الرُّوس في القرن العشرين الخيال "متعدد الأصوات"؛ [34] أي القصص الَّتي تتجسَّد فيها شخصيات مُختلفة، وتُعبِّر عن مجموعة مُتنوعة من الإيديولوجيات والقيم. فبدون راوي مُتحكِّم يتم تحديده مع المُؤلف نفسه، فإنَّ مثل هذا الخيال يتطلب من القارئ أنْ يُميِّز مجموعة متنوعة من وجهات النَّظر والحدس الأقرب إلى آراء المؤلف، الَّتي تتضمن فلسفته الشَّخصية وتصوُّره الدِّيني فقط في الرِّواية (مهما كانت واضحة من خلال المصادر الأخرى، من قبيل اليوميات، أو المقالات، أو السِّير الذاتية لنفس المؤلف). يتم سماعُ العديد من الأصوات، كما سنرى في رواية "الإخوة كارامازوڤ"– دميتري، [35] وإيڤان، [36] وأليوشا، [37] وزوسيما، [38] وراكيتين، [39] وغروشنيكو[40]، وكاترينا[41]، وميوسوڤ[42] إلخ- يُسمعون في سمفونية من الأداء، والحوار، والتّأمل في جميع تفاصيل الرِّواية. حتَّى لما نتعلم من يومياته أنَّه اعتبر أليوشا "بطله"، فإنَّه يصفُه أيضا بأنَّه غير ناضج، وفي حاجة إلى مزيد من الخبرة في رواية لاحقة لم تبدأ أبدا. وممَّا يزيد تحدي التَّأويل تعقيدا إبداع دوستويڤسكي للشَّخصية "المُزدوَجة"، والَّتي يعتبرها الكثيرون أنَّها مُصاغة على شاكلة هويته الذَّاتية المُنقسمة، كما تم التَّعبير عنها في اعترافه بأنَّه مر عبْر "بوتقة الشُّكوك" في رحلته الإيمانية.
3- بُذُور فكر دوستويڤسكي في رواياتِه قَبلَ رواية "الإخوة كارامازوڤ"
عند دراسة الرِّوايات الأربع الرئيسة الَّتي تُجسِّد بشكل أوضح تطوُّرَ خيالِ دوستويڤسكي وعقلِه، من الأحرى أن نبدأ برواية "مذكرات من قبو". لقد كُتبت هذه الرِّواية القصيرة في المقام الأول على أنَّها هجوم على الحتمية العلمية، وعلى النَّفعية العقلانية السَّائدتين في مُنتصف القرن التَّاسع عشر. إنَّ راوي القصة، الَّذي يُشار إليه ب "رجل القبو"، هو شابٌ مُستلبٌ، يشعر بأنَّه مُجبَر من قبل القوى الاقتصادية والاجتماعية لمجتمعه الحضري على التَّوافُق مع أنماطِه، والَّتي يتم تلقينها على أنَّها ضرورية وغير قابلة للتَّغيير علمياً؛ وذلك بمقارنة نفسه بالفأر المُحاصر تحت المنزل، فهو يؤُكد تمردَه باسم الحُرية من خلال الاصطدام بالنَّاس في الشَّارع ومن خلال رفض الفرضيات الرِّياضية بدون مُبرر (2+2=5). فمن خلال إنكاره لقوى عقلانية التَّنوير، يُؤكد على كرامة الإنسان في أنْ تكون له خيارات حُرة، حتَّى فيما يتعلق بالخيارات غير العقلانية. والأهمُ من ذلك كلِّه، أنَّه يعتبرُ قوة الاختيار الحُر هذه أهم ملكةٍ بشرية، رافضاً الاعتقاد النَّفعي القائل إنَّه يجبُ على المرء بالضَّرورة أنْ يختار ما هو أكثر "نفعا" لنَفسه. لقد تم تقديمُ هذا التَّمرد في جزأين، الأول تأكيدٌ صارخ مديد لفلسفته، والثَّاني سلسلة من اللِّقاءات حيث يُهيمن رجلُ القبو على الآخرين، ويرفضُ الحُب لمجرد إظهار قوته باعتباره معاديا للبطل "الحاقد" من أجل التَّعبير عن الاختيار الحُر. يرِدُ المقطعُ الأكثر إثارة في الرِّواية في القسمين، العاشر والحادي عشر من الجزء الأول، حيثُ يزعمُ دوستويڤسكي (في رسالة) أنَّه أُجبر من قبل الرَّقابة الأدبية الرَّسمية على حذفِ مقطعٍ يُؤكد فيه الرَّاوي أنَّ هناك حاجةً إلى "شيء مُختلف" للتعامل مع التَّنوير، والمُسمَّى بالإيمان والحياة كما هو حال المسيح.
في رواية "الجريمة والعقاب" قتلَ راسكُولنيكُوڤ[43] امرأتين عاجزتين لإثبات نظامين فلسفيين مُختلفين- النَّفعية الَّتي تُنكر حقَ الأشخاصِ عديمي الفائدة في العيش، وفلسفةَ الإنسان الأعلى عند نيتشه الَّتي تُؤكد حقوق بعض الأشخاص الاستثنائيين في العيش خارجَ حُدود الأخلاق التَّقليدية.[44] وفي كلتا الحالتين، يكتشفُ البطلُ أنَّ نتيجةَ فعلِه ليست دليلاً سلمياً على حقيقة تينك الفلسفتين، بل هي ذنبٌ عميقٌ لا ينقطعُ بسبب تدمير المرأتين، ورغبةٌ في الاعترافِ وتغييرِ الحياة. على الرَّغم من أنَّ جُل الرِّواية تتكونُ من دراما نفسية للشَّخصية الرَّئيسة في مُواجهة نتائج تصرفاتِها على عائلتها وعلى الشُّرطة وعلى نفسها وعلى الآخرين، فإنَّ الرِّسالة الفلسفية الواضحة ترتبط أيضا بقراءة دينية تبدو أقل وضوحاً. إنَّ تجسيد معتقدات دوستويڤسكي المسيحية في هذه الرِّواية يتجلى في شخصية صونيا[45] على نحو مُتناقض، فهي شابة تعمل في الدَّعارة لمساعدة عائلتها المُعوزة، ولكنَّها تُصادق راسكولنيكوڤ من أجل مساعدته على التَّعامل مع ذنبه. في أحد المقاطع الرَّئيسة ذات الأهمية المسيحية، تقرأ صونيا الإصحاح الحادي عشر من إنجيل يوحنا حول قيامة عازر على يد المسيح. إنَّ هذا المقطع الأساسي هو الَّذي أشار إليه دوستويڤسكي في طبعة هذا الإنجيل، ويوحي من قبل صونيا بالأمل في الخلود وفي القيامة النهائية لراسكولنيكوڤ. على الرَّغم من أنَّ هذا الأخير لم يصل إلى الإيمان المسيحي في هذه المرحلة من الرِّواية، إلاَّ أن صونيا شجعته بما يكفي للإدلاء باعترافٍ علنيٍّ بجرائمه والتَّعلم من خلال فترة قاضاها في سيبيريا كيفية إصلاح حياته. لقد تم الكشفُ عن نتيجة أفعاله في الخاتمة، حيث تتبعُه صونيا إلى سيبيريا، وتزوِّده بالعهد الجديد لمَّا طلب ذلك، وتقوده في النِّهاية إلى حبها، وتنتهي الرِّواية لمَّا جثا راسكولنيكوڤ على ركبتيْها وأظهر حبَّه لها، ثم أخرجَ العهد الجديد، وسأل نفسه: "ألا يُمكن أنْ تصبحَ معتقدُاتها معتقداتي الآن"، مرة أخرى، يستعملُ دوستويڤسكي طريقةً غير مباشرة في الترَّكيب متعدِّد الأصوات من أجل ترسيخ قيم الإيمان المسيحي والتَّجديد.
تقوم رواية "الأبله" بتجسِّيد شخصية المسيح المأساوية، الأمير ميشكين[46]، الَّذي يفشل في نهاية المطاف في تغيير الأشخاصِ الذين يُقابلهم بإيمانه المسيحي غير المكتمل، فكما لاحظ ألكسندر بويس غيبسون[47] وآخرون، يتحلى الأمير ميشكين ببعض الفضائل الاستسلامية للمسيح، ولكنَّه يفعل ذلك بطريقة مثالية يفشلُ في تجسِّيدها كفرد داخل تعقيدات العلاقات الإنسانية في المجتمع الحديث. يقترحُ غيبسون أنَّ البطلَ يخلط بين الذُّل والتَّواضع، خاصة في علاقته بامرأتين. وهكذا، يُثبت أنَّه شخصية "مزدوجة" أخرى في روايات دوستويڤسكي، وأنَّه شخصية بسيطة للغاية وغير مألوفة بالنِّسبة إلى تعقيدات العالم، وينتهي به الأمر إلى صنع أسوأ ما في العالمين. ويخلصُ غيبسون إلى أنَّ ميشكين كان بإمكانه تجنب المأساة لو كان متأصلاُ في تجربة روسية أكثر طبيعية (وليس في مصحة بجنيف)، ولو كان يحظى بدعم المجتمع المسيحي، ولو وجد امرأة ناكرة للذات ليحبَها. وهكذا يستنتج غيبسون أن هذه الرِّواية كانت إعدادا سلبيا لتمثيل بطل مسيحي حديث أكثر تعقيدا في رواية "الإخوة كارامازوڤ" (غيبسون، الفصل الرابع). وأخيرا، رواية "الشَّياطين"، هي رواية تُجسِّد المأساة المُجتمعية لما أسماه دوستويڤسكي "الجيل المُلحد" الحديث في روسيا. على الرّغم من افتقارها إلى شخصية بديلة أو مسيحية، فإنَّ الرِّواية تُعيد إلى الحياة المُلحد القوي في شخصية كيريلوڤ[48]، والرّاغب في أن يكون مسيحيا في شخصية شاتوڤ[49]، والتَّابع الفاتر في شخصية ستاڤراجين.[50] إنَّ شخصيات هذه الرِّواية تعمل أيضا على إعداد المؤلف لإدراج مُتغيرات العقلانيين الذين يظهرون مرة أخرى في روايته النِّهائية.
4- مَواقفُ دوستويفسكي الفَلْسَفيَّة
على الرّغم من ادعاء العديد من الشُّراح أنَّ استعمال دوستويڤسكي لمنهج حواري وإبداع مجموعة مُتنوعة من الشَّخصيات المُنقسمة على ذاتها في رواياته يمنعُ القُراء من تمييز أي تأكيدات فلسفية في رواياته، لقد أظهر جيمس سكانلون[51] وآخرون أنَّه لم يكن غير عقلاني أو مُتشكك. لقد أظهروا من خلال مقالاته وكتابات أخرى أنَّه كان يتبنى العديد من المواقف الفلسفية الَّتي دافع عنها عقليا وليس فقط من خلال الإيمان. لقد استعملَ المنطق والحُجة العقلانية لدحض مواقف المُعارضين في كتاباته الإنشائية وفي مقالاته، وجادل علناً في الخطب والمُحادثات؛ فهو لم يعترض على العقل، وإنَّما اعترض على العقلانية الَّتي اعتبرها اختزالا ضيقا للعقل البشري. فمن خلال تصريحاته وحُججه المدعومة بخياله، يُمكننا استعمال تأويلات سكانلون وآخرين لبيان أنَّ دوستويڤسكي عارض الحتمية، والأنانية، والعقلانية، والمادية، والعدمية، ولكنَّه أثبت أيضا فلسفة للطبيعة البشرية، وأقر بوجود المادة، والرُّوح، والله، وحقيقة الحرية، والخلود، والمسؤولية الإنسانية، وأخلاقيات الحُب والإيمان، وفلسفة التاريخ، ونظرية سياسية طوباوية.
1.4- النَّزعةُ الإنسانيَّة الفَلْسَفيَّة
إنَّ البشرَ وحدهم، بالنِّسبة إلى دوستويڤسكي، هم الَّذين يمتلكون الأنفس الرُّوحية والأجساد المادية، ومع كون الرُّوح أولية، لكنَّها محدودة إلى حد ما بالتجسُّد البدني. إنَّ النَّفس البشرية خالدة في حد ذاتها، وموجهة نحو الخلود الإلهي، ولكنَّ مثل دوستويڤسكي نفسه (الذي أطلق على نفسه اسم "ابن العصر، وابن الكفر، وابن الشك...") شخصٌ بشريٌّ يُصارع الشُّكوك والحُجج حول معنى الحياة ووجود الله، حتَّى إنَّه هو نفسه استعملَ العقلَ لدعم إيمانه المسيحي مع خصومه المُتدينين. لقد كان أكثر اهتمام باستعمال العقلِ للدفاع عن الخلود، والَّذي اعتبره "أسمى" فكرة عن الطَّبيعة البشرية، لقد قدَّم أدلة تستند إلى كلٍّ من العقل والإيمان من أجل الخلود الشَّخصي من قبيل: (أ) تجربة النُّمو البشري والتَّطور مدى الحياة؛ (ب) تجربة الرَّغبة الدائمة في الكمال الأخلاقي في السَّعي وراء الخير البشري؛ (ت) اختيار حُب الإنسان لله مدى الحياة؛ (ث) الحاجة إلى أنْ يكونَ للحياة معنى يتجاوز الموت؛ (ج) الحاجة إلى حياة فاضلة تقتضي جزاءً أو عقابا بعد الموت، فكلُّ هذا دفعه إلى التَّصريح بقوله: "لا أستطيعُ أنْ أتصورَ أنَّني لنْ أكون" أو أنَّ كائنا إلهيا سيخلق أشخاصا بهذه الصِّفات الفطرية لا يستطيعون تحقيقها. ترجع هذه الحجة مرة أخرى إلى حُجة أرسطو وتوماس الإكويني بأنَّه لا يُوجد شيءٌ في الطَّبيعة عبثٌ. (سكانلون ص.14-40).
2.4- وُجُودُ اللهِ
كما يُوضِّح سكانلون أنَّه ناذرا ما يستعملُ دوستويڤسكي الحُجج العقلانية التَّقليدية على وجود الله مثل الحُجج المأخوذة من الحرية، أو السَّببية، أو مراتب الوجود، والَّتي لم تكن جزءاً من الفلسفة الرُّوسية أو الدِّين الأرثوذوكسي. ومع ذلك، يستعملُ في بعض الأحيان عِللا مُشابهة للحجج التَّقليدية مستمدة من بديع الصُّنع في الكون، على غرار ما قام به الأب زوسيما في الكتاب السَّادس من رواية "الإخوة كارامازوڤ". حسب سكانلون، إنَّ الحُجة التي يوظِّفها دوستويڤسكي كثيراً هي الانطلاق من المحدود إلى اللانهائي أو الانطلاق من الرِّضا المشترك للإنسانية أو الانطلاق من التَّجربة الدِّينية، والَّتي تسمَّى أحيانا "الإدراك الصُّوفي". يعتمدُ ولعُه بحُجة الانطلاق من اللانهائية على فهمه للروح واللامادية، باعتبارهما مرتبطين باللانهائي. لا يبدأ دوستويڤسكي في كلِّ هذه الحُجج من موقفٍ مطلوبٍ لإثباتِ وجودِ الله، ولكنَّه يستعملُها لمواجهة الحُجج الَّتي قدَّمها المُلحدون ضدَّه. يؤكدُ سكانلون في مثل هذه الحُجج أنَّ دوستويڤسكي حاول أنْ يُبيِّن للآخرين أنَّه يجبُ أن يكونَ هناك "مبدأٌ روحيٌّ نهائيُّ لتركيب الوجود". لمَّا يمتد ليطال اهتماما دينياً أكثر بإله شخصي، كما هو الحال في المسيحية، فإنَّه يؤكد على الحاجة إلى الإيمان (سكانلون ص.56).
3.4- أخلاقياتُ الإيثارِ بدلاً من الأنانيَّة العقلانيَّةِ
أثار اهتمام دوستويڤسكي بالأخلاق ظهورَ كتاب "ما العمل"[52]، الذي صدر سنة 1863 من قبل نيكولاي تشيرنيشيڤسكي[53]، لقد عرض هذا الكتاب الأخلاق العقلانية من أجل المصلحة الذَّاتية، وهو نظامٌ نفعيٌّ بيَّن كيف أنَّ البشرَ بطبيعتهم مُصمِّمون على اختيار ما يصبُ أكثر في مصلحتهم الذَّاتية؛ فكما هو بيِّن في روايته "مذكرات من قبو" فقد أكد دوستويڤسكي على أنَّ هذا كان موقفاً غير عقلاني؛ لأنَّ البشر مخلوقون بتوجه فطري ليس نحو المصلحة الذَّاتية، وإنَّما نحو حُب الآخرين. لقد كان يرفضُ في هذه الحُجة التأكيد الفلسفي الغربي على العقلانية والحتمية الَّتي شكَّلت فلسفة النَّفعية في القرن التَّاسع عشر النَّابعة من فكر كلّ من بنتام[54] وجون ستيوارت مل.[55] يُظهر الرَّاوي في رواية "مذكرات من قبو" أنَّ العديد من الأشخاص يتصرفون ضد مصلحتهم الذَّاتية من خلال الإضرار بصحتهم، أو العيش بما يتجاوز إمكاناتهم، أو التَّمرد على النِّظام العام، أو ما شابه ذلك. فمن خلال أفعاله، يتصرف رجل القبو على الرّغم من إظهار تفضيله لأي خيار حر بدلا من المصلحة الذَّاتية المحددة مسبقا. لقد وجد سكانلون أنَّه ضمن هذه الحُجج الَّتي يسوقُها رجل القبو اللاعقلاني، توجد معتقدات عقلانية للأنانية الأخلاقية الَّتي مفادها أنَّ البيولوجيا والمجتمع يحدِّدان مسبقا كل المصالح الفضلى للإنسان، وأنَّ السلوك البشري يجبُ أن يكون متوقعا تماماً في اتباع تلك المصالح. لو كانت هذه المُعتقدات صحيحة، لأصبح المجتمع منسجماً داخل مجتمع منظم على نحو تام. وبما أنَّ هذه النتائج غير واضحة بشكل جلي، فإنَّ دوستويڤسكي يشير إلى أنَّ الإنسانية الأخلاقية ليست فلسفة أخلاقية صحيحة.
في مواجهة هذه الحُجج الإنسانية الأخلاقية، يُثْبتُ دوستويڤسكي منظومته الخاصة بأخلاقيات الإيثار، تظهرُ هذه الأخلاق في سلوك أكثر شخصية نبلا أو قُدسية في رواياته، وفي المعايير الأخلاقية المتضمنة في مقالاته ومذكراته. مبدأها الرَّئيس هو قانون الحُب، الَّذي هو ببساطة القاعدة الذِّهنية لمحبة الأخرين. بما أنَّ دوستويڤسكي يعتقدُ أنَّ تحقيق وصية الحُب هذه مستحيلة على البشر في وضعهم السَّاقط، فإنَّه قد أكد أيضا على حاجتهم إلى دمج حُبهم للآخرين مع محبة الله. إنَّ الحاجة الواضحة لمحبة الذَّات يجبُ أنْ تندمجَ مع محبة الجميع، الآخرين والله كلاهما. يتَغلبُ قانون الحُب هذا على قانون الشِّخصية أو المصلحة الذَّاتية ويتجاوزُه من خلال صراع لا ينتهي مع شهوانية الإنسان، ومع الغضب، ومع الحقد، ومع الإرادة الذَّاتية، ومع الكبرياء، ومع الإلحاد وغيرها من القيم الزَّائفة. إنَّ السَبيل لعيش قانون الحُب هذا يكون من خلال تنمية الضَّمير السَّليم، ومن خلال الإيمان. إنَّ الضَّمير تصوُّرٌ فطريٌّ عن الخير والشَّر، وخاصة خير محبة الآخرين، وهو تصوُّرٌ يُعزِّزه الحدسُ العاطفيُّ للالتزام باتباع قانون الحُب هذا، ومن خلال القدوة الحسنة للآخرين. إنَّ الإيمانَ بالله يُدعِّم الضَّمير ومعاييره الأخلاقية، ولكنَّه يحتاج بشكل خاص إلى الثِّقة في المسيح ومثاله وتعاليمه. لمَّا تلقى دوستويڤسكي لأول مرة نسخة من رواية "أنا كارنينا" لتولستوي في سنة 1877، لاحظ أنَّ شخصية ليڤين[56] والفلاحين في تلك الرِّواية كانوا أمثلة لأشخاص لديهم هذا الضَّمير الَّذي بُني على قانون الحُب.
لقد اعترف دوستويڤسكي أيضا في مذكراته ومقالاته ودفاتره في سنة 1980، أنَّ الضَّمير البشريَّ يُمكن أنْ يُخطئ، ويُصبح ضميرا زائفاً، كما رأينا في روايته الأخيرة "المفتش الكبير".[57] تعبِّر هذه الرواية النهائية أيضا عن مبدأين وجدهما سكانلون في أخلاقياته – نطاق المسؤولية الأخلاقية "للجميع"، والأهمية الأخلاقية للمعاناة. لقد تخيَّل دوستويڤسكي إمكانية وجود أخلاقيات المسؤولية "للجميع" في قصة متأخرة بعنوان "حلم رجل مضحك"، ثم طبَّقها بشكل أكثر إنسانية في محادثات وحياة الأب زوسيما في رواية "الإخوة كارامازوڤ". إنَّ الأساسَّ المنطقيَّ لهذه المسؤولية اللامحدودة يَنْبُعُ من الإيمان أكثر ممَّا يَنْبُعُ من العقل، لأنَّه يقوم على الاقتداء بالمسيح، الَّذي حمل خطايا الآخرين على كاهله. هذه العبارة تؤدي إلى فلسفته في المعاناة المستمدة أيضا من الكتب المسيحية حول مثال المسيح الَّذي يتألمُ ويموتُ بدافع حُبِ الآخرين. عند تطبيق هذه القاعدة على حياة الإنسان، يحْرصُ دوستويفسكي على التَّمييز بين المعاناة غير العقلانية مثل المازوشية أو التَّعذيب أو انعدام الحُب، وبين المعاناة التَّعويضية والمُتجددة بدافع الحُب (سكانلون، الفصل الثالث).
4.4- جَمالياتُ الحُسْنِ المُتناغِم عند دوستويڤسكي
بما أنَّ أخلاق دوستويفسكي في الحُب رد فعل تجاه أخلاقيات تشيرنيشيڤسكي العقلانية في الاهتمام بالذات، فإن جمالياته كذلك رد فعل تجاه إنكار أي حاجة جوهرية للفن أو الجمال في المجتمع النَّفعي. في المقابل، يُجادل دوستويڤسكي متبعا شيلر بأنَّ الفن ليس مُجرد حاجة مادية أو وسيلة نفعية لتحقيق غاية، على حساب الطَّرف الآخر، الفن ليس فقط لمصلحته، بدون دلالة اجتماعية أو أخلاقية. وبدلا من ذلك، رأى أنَّ الفن يُلبِّي حاجة الإنسان الطبيعية العميقة للجمال، والَّتي تتكون أساسا من الانسجام والهُدوء. يتضمن هذا الانسجام تناغم عملٍ فنيٍّ مع الواقع، ومع حواسِ الإنسان، وتناغم شكلِه مع مضمونه أو مع "فكرته". إنَّه يجد أمثلة من هذا الفن في الإلياذة، وفي النَّحت والرَّسم اليوناني والحديث، وفي خياله الخاص. وتولستوي جنبا إلى جنب مع حاجة الإنسان لتجربة الفن، فهناك حاجة مرتبطة بالإبداع في إنتاج الفن الجميل. إنَّ لهذا الفن أيضا قيمةً معرفيةً وأخلاقية. فقيمتُه المعرفية بمثابة طريقة نحو الحقيقة حول البشرية والعالم. إنَّ الفنان الَّذي ينتج مثل هذه الطَّريقة نحو الحقيقة، يصبح نبياً أو عرافاً، ليس فقط عن طريق النَّسخ الحرفي السَّطحي، ولكن من خلال تمثيل الفكرة أو الجوهر أو الطَّبيعة الداخلية للإنسان وللحياة البشرية، وبالخصوص مع التَّطور عبر الزمن نحو المستقبل. يُمكنُ للفنان الَّذي يقدم عملاً فنيا تغييريا على المستويين الأخلاقي والاجتماعي أن يصبح بديلاً للحياة الأخلاقية والاجتماعية للأمة. هذا الفنانُ الأخلاقي يفعل ذلك من خلال خلقِ فنٍ من المُثل الَّتي تعزز الالتزامات المعيارية بين أولئك الَّذين يعتبرون الجمال الأخلاقي في الفن، لقد اعتبر دوستويڤسكي فيكتور هيغو[58]، وتشارلز ديكنز[59]، وجورج ساند[60] فنانين قدموا تغييرا أخلاقيا من خلال رواياتهم. بالنِّسبة إلى دوستويڤسكي نفسه أكد سنة 1854 على أنَّه لا يُوجد "أجملُ من المسيح"، وكما قال الأمير ميشكين في رواية "الأبله": "الجمالُ سينقذُ العالمَ" (سكانلون، الفصل الرابع).
5.4- فَلْسَفَةُ دوستويڤسكي الاِجْتِمَاعِيَّةُ
على الرَّغم من أنَّ النُّقاد اعتبروا أنَّ دوستويڤسكي غير متسق للغاية في أفكاره عن المجتمع، ووصفوه بأنَّه كوني ليبيرالي في مرحلة ما، وقومي مُحافظ في مرحلة أخرى، فإنَّ سكانلون يُوضِّح أنَّه كان متسقا بشكل ملحوظ في نظريته السِّياسية. فقد كان يؤمن برؤية أساسية حول "مُجتمع من الأخوة والحُب المسيحيين المثاليين" لجميع الشعوب، ولجميع الأمم. لقد روَّج لهذا ليس من خلال أطروحة حول تعقيدات العلوم السياسية. فبدلا من ذلك، فإنَّه رسم الخُطوط العريضة للمُجتمعات المثالية في فترات مُختلفة من كتاباته، مثل رواية "مذكرات الشِّتاء" سنة 1863، وفي رواية "مذكراتُ كاتبٍ" سنة 1864، وفي رواية "حلمُ رجُلٍ مُضحك" سنة 1877. يُطبِّق هذه الصُّوَّر في المجتمع المثالي يطبق أخلاقياته في الحُب من أجل كلِّ الأخريات على الحياة الاجتماعية للقرن التاسع عشر من خلال الـتَّأكيد على اليوتوبيا الأخوية القائمة على الحُب والتَّفاني المُتبادليْن، وعلى الاختيار الحُر في جميع مستويات المجتمع – الزَّواج، والقرية، والأمة؛ فقد كان يحلمُ حتَّى على المستوى العالمي ب "توأم الأرض"، حيثُ ينتقل النَّاس من تدمير أنفسهم من خلال الصِّراع الأناني إلى العيش في سلام ووئام من منطلق الاحترام المُتبادل.
على الرّغم من أنَّ كتابتِه بهذه الألفاظ المثالية، فقد جادل دوستويڤسكي بشكل عملي أكثر حول القضايا السِّياسية في عصره. لقد ناهضَ العُبودية بشدة، واعتبرها شراً أخلاقيا يستعبِد النَّاس في فترتها السّابقة، ورحبَ بإلغائها من قبل القيصر سنة 1861، وناهضَ أيَّ حكمٍ استبداديٍّ مفروضٍ، لكنَّه كان يعتقد أنَّ روسيا ستختار بحرية العيشَ في ظلِ ملكٍ خيٍّرٍ داخلَ دولة "العائلة القومية"، ووصف مثل هذا النِّظام بالحكومة بموافقة المحكومين، لكنَّه انتقد الدِّيموقراطية الغربية ووصفها بأنَّها مادية ونُخبويَّة. لقد عارض القيام بالثَّورة العنيفة بسببِ استعمالها للقتل والإرهاب وغيرها من الوسائل الشِّريرة، كما تم تصوِّيرُها في رواية "الشَّياطين"، لكنَّه وافق على الثَّورة السِّلمية ضِدَّ العبودية، وضِدَّ الاشتراكية. لقد ركَّزت معارضتُه على الإلحاد المُضمر، وعلى الأنانية والمادية، وعلى الضوابط الحتمية. ومع ذلك، سمَح بنوع من الاشتراكية الرُّوسية الَّتي تقوم على الأخوة المسيحية الَّتي اختارها الشَّعبُ بحرية.
5- رؤيةُ دوستويڤسكي الدِّينيَّةُ والرُّوحيَّةُ من خلالِ رِواية "الإخوة كارامازوڤ"
سوف نستكشفُ في هذا القسم المركزي الرُّؤيةَ الدِّينيَّة والرُّؤية الرُّوحية الضمنية لدوستويڤسكي، خاصة كما يُجسِّدُها في رواية "الإخوة كارامازوڤ". سنبدأ بعرض الشَّخصيات الرَّئيسة في الرِّواية وأهميتِها الدِّينية: ديميتري، وإيڤان، وأليوشا، وسميردياكوڤ[61] (أبناء فيودور كارامازوڤ الأربعة)، والأب زوسيما، ثم ندرسُ أهمية المرأتين الرئيستين: كاترينا، وغروشينكا، والخدم، وأخيرا شخصيات أخرى مثل راكيتين، وميوسوڤ. وبعد عرض الشِّخصيات سنركِّز على عدة حلقات مهمة في الرِّواية، على سبيل المثال: الاعترافاتُ الثَّلاثة في الجزءِ الأول، والتَّمزقات الثَّلاثة في الجزء الثاني، والمِحَن الثلاثة في الجزء الثَّالث، والصِّراع بين إيڤان وأليوشا في الكتاب الخَّامس، وثلاثة مشاهد لعيد الغطاس، وبما في ذلك الخاتمة. من خلال هذه النِّقاط الأساسية في الرِّواية، سنحاولُ استعمال العناصر الآتية لتصوُّر دوستويڤسكي الديني: مفهومُه لله، وفهمُه للمسيح، وفكرتُه عن العذراء، ونظريتُه حول المسيحيَّة والكنيسة فيما يخص ملكوت الله، ومفهومُه للحُب المُتفاعل على السَّاحةِ العالميَّةِ.
1.5- الدَّلاَلَةُ الدِّينيَّةُ للشَّخصياتِ الرَّئيسَةٍ
إنَّ الصِّراعَ المركزيَّ داخل الرِّوايةِ قائمٌ بين الأبناء الأربعة ووالدِهم كارامازوڤ؛ فالأبُ هو الأقلُ تديُّنا بينهم جميعا، فهو شخصٌ مُهرجٌ، وعنيفٌ، وماديٌّ، وجشع، والد هؤلاء الأبناء الأربعة ورافض لهم إلى حد ما، ولديه اهتمام ضئيل بالدِّين، وسيموتُ دون أي توجه نحو الله، أو نحو رعاية الآخرين باستثناء غروشينكا[62] وأليوشا. إنَّ الصِّراع الرَّئيس في الرِّواية قائم بين فيودور والابن الأكبر دميتري الَّذي يُجسِّد شهوانية ورومانسية والدِه دون أيِّ إحساس عملي. ومع ذلك، فإنَّ دميتري رجلُ قَلْبٍ، يُكافحُ من أجل حُبِ امرأتيْن، كاترينا، وغروشينكا، وإخوته كذلك، لكنَّ عواطفَه الفوضوية، وعدم الكفاءة المالية وضعتهُ في صراع مُميت مع والده. بعد إصابة والِده بالتبني والهروب من أجل الزواج بغروشينكا، يستيقظ دميتري على بداية التَّغير الرُّوحي الذي يمنحه الرؤية والقوة للنجاة من محاكمة كارثية، والذَّهاب إلى المنفى مع عشيقته. أمَّا شقيقُه إيڤان، فهو على العكس من ذلك، رجلٌّ مثقفٌ، يجدُ نفسه غيرُ قادرٍ على محبة الآخرين، وغيرُ قادرٍ على الثقة في الله أوفي المسيحية. لذلك، فهو يُخطِّط للعيش حتَّى سن الثَّلاثين فقط. ولسوء الحظ، فإنَّ بؤسَه وشكَّه وتشاؤُمه يُصيب الآخرين، ويجعله شريكا في قتلِ والِده. في محاكمة دميتري أظهرَ للمرة الأولى بداية تحول مُحتمل عندما يشهد ويخطِّط لطريقة هروب أخيه، لكنَّ هذه الأحداث تقع بينما يخونُ عقلُه المتضارب سلامة عقلِه السَّليم. والابنُ الثالثُ الَّذي أطلق عليه دوستويڤسكي لقب "بطله"، هو أليوشا، الَّذي تربَّى تحتَ وِصاية الأبِ زوسيما، الرَّاهب المُتديِّن الَّذي علَّمه "الحُب المتفاعل" لله، وللأشخاص الآخرين في الرِّواية، يعملُ في البداية كصديق مُقرَّبٍ لأخوته ولنسائهم، ثم كشخص خاص به، يجبُ عليه مواجهة التَّحدي المتمثل في عقيدته في عالم مليء بالمُعارضة والعُنف. أمَّا الابن الرابع، فهو سميردياكوڤ، والَّذي أثبت أنَّه المُذنب الأكبر في مقتلِ والِده، فهو يجسِّد نوعا من النسخة المنحرفة المدمرة للذات من فلسفة إيڤان التي تقول: "إن كل شيء مباح" إذا لم يكن هناك إله أو خلود شخصي. من خلال تصرفات هذه الشخصيات الرئيسة ومواقفها تجاه الله، وتجاه الأشخاص الآخرين تصور الدين المضمر في الرواية. تتفاعل المرأتان في الرواية مع كل من الإخوة الثلاثة الأكبر سنا، وتبرزا أشكال الحُب والكراهية المختلفة لديهن: تحاول كاترينا أن تحب دميتري بحب ينتقل من إذلال الذات إلى الهيمنة، لكنها تبدأ في إيجاد علاقة أكثر مساواة مع إيفان؛ وتلعب غروشينكا دور حب فيودور مع حب دميتري في النصف الأول من القصة، لكنَّها تتعلم أن تحب دميتري، وتظهر رعاية إيثارية لأليوشا. تجسِّد مجموعة واحدة من الشخصيات الثانوية – راكيتين، وميوسوڤ، وكوليا- أنواعا مختلفة من القيم والسلوكيات الدُّنيوية الَّتي يسخر منها المؤلف طوال الرِّواية، مثل العلموية، والاشتراكية، والإلحاد. يظهرُ الخدمُ والفلاحون أحيانا كمُساعدين، كما هو الحال بالنِّسبة إلى غريغوري وزوجته، اللَّذين قاما بتربية اثنين من الأبناء، أو يظهرون كضحايا للمجتمع الدَّنيوي، الَّذي يحاولون الاستمرار في قيمه الرُّوحية.
2.5- المَشاهدُ الأساسيَّةُ للصِّراعِ في الرِّوايةِ
تصوِّر المشاهد الطائفية الثلاثة في الكتاب الثالث دميتري وموقفه تجاه الأرض، والخير، والشر. وعلى الرغم من أن اهتماماته الدنيوية، فقد ظهر وهو يهتف "المجد لله في العالم، المجد لله في ذاتي"، وهو نوع من إعادة الصياغة لترنيمة في العبادة الجماعية الأرثدوكسية، ثم يعانق أخاه أليوشا مع الإقرار المبالغ فيه بقوله: "أنا لا أحب أحد غيرك"، وتنتهي ترنيمة مدح الطبيعة، ثم يبدأ اعترافه، أولا أنه على علاقة حب وكراهية مع كاثرينا وافتتان جديد بغروشينكا. ومع ذلك، فهو يضع اعترافه من خلال تلاوة "أنشودة الفرح" لشيلر، احتفالا بحبه ل "الأرض الأم" القديمة، ولكن بتأكيده المتزامن "أنا ابنك يا رب، وأنا أحبك". هذا الفرح العميق لله وللطَّبيعة مشروط باعترافه بأنَّه يجد كلِاَ النَّقيضين للطَّبيعة في نفسه (وفي عائلته) – الرُّؤية الملائكية لله، والشَّهوة الحسية للحشرات. ويختم بوصف روحه بأنَّها رغبة في الجمال "تبدأ من مادونا رمز الجمال والطَّهارة، وتنتهي بمثال سادوم رمز الشَّهوانية والأهواء، فهو يلخص الحالة البشريَّة السَّاقطة المُنقسمة ذاتيا بقوله: "الله والشَّيطان يتقاتلان هناك، وساحة المعركة هي قلبُ الإنسانِ".
ثم يوضح دميتري هذا الوصف من خلال تفصيل سلوكه المُدمِّر تجاه كاترينا ثم استعماله لأموالها لكسب حُب غروشينكا. بعد ذلك، يطلب من أليوشا أنْ يُرسل رسالة رسمية إلى كاترينا ويحذِّرها من أنَّه هو نفسه قد يقتل والدهما. من خلال هذا الاعتراف الثُّلاثي، يكشف دميتري عن انفتاحه الخاص، والَّذي يتضمن الإيمان بالله كخالق، وبالطِّبيعة كعالم خيِّر، وبالحياة كنضال من أجل الخير وسط الشَّر، وبقيمة الحُب والجمال. وحتَّى الابن الأكبر المُتناقض يؤكد حقائق دينية تتفق مع أقوال المؤلف في مذكراتِه وغيرها من القصص الخياليَّة.
تكشف مشاهِد التَّمزقات الثلاثة في الكتاب الرَّابع تأكيدات مختلفة تماما، ولكن ليس من خلال التَّصريحات، وإنَّما من خلال تصرفات كاترينا وغروشينكا وإبڤان وأليوشا. في غرفة الرَّسم للسيدة هوهلاكوڤ[63]، يتعلم أليوشا لأول مرة تعقيدات علاقات الحُب والكراهية بين أخويه وكاترينا. يحاول أنْ يتعاطف معهما، لكنه ممزَّق خاصة بسبب اعتراف كاترينا الَّذي مزق نفسها بأنها ترفض السَّماح لدميتري بالرحيل، وتريدُ السَّيطرة عليه من خلال "حبها" قائلة: "سأكون بمثابة إلها يُمكنه أنْ يصلي له...وسأكون صادقة معه في الوعد الَّذي قطعتُه له، رغم كذِبه وخيانته لي". لمَّا يحاول إيڤان احتواء مشاعرها تجاهه من خلال مدحها لجهودها الفخورة للسيطرة على دميتري، يرى أليوشا من خلال اصطناعهما السَّاخر، متهما كاترينا ب"لعب الدَّور" وتعذيب إيڤان الَّذي تُحبُّه حقا وتدعي أنَّها تُحب دميتري فقط من خلال تمزُّق ذاتي، ثم إنّها لمَّا طلبت من أليوشا أنْ يُعطي المال للقبطان الَّذي أهانه ديميتري، يضطر الأخ الأصغر إلى الدُّخول في مشهد ثان من التَّمزُّقات في كوخ عائلة القبطان الفقيرة، هنالك يلتقي أولاً بمنزل أحد الأطفال الغاضبين الَّذين سيصادفُهم لاحقا، ويحاول تعليمه طريقة الصَّداقة الَّتي تعلمها من الأب زوسيما، وهي الطَّريقة الَّتي ستتفاعل مع الحُب المُمزَّق لأخويه وكاترينا وغروشينكا. في الكوخ يسمعُ القبطان المُتواضع الَّذي تُمزِّقه أيضا إهانةُ دميتري ويمزقه وضعُه السَّيء، يعترف بأنَّه: "يجبُ أنْ يكون هناك شخصٌ قادر على أنْ يُحب حتَّى رجلاً مثلي". هذه الدَّعوة إلى الحُب العالمي قد أثرت بالفعل على القبطان في صورة حبِ زوجته وحماية الابن إليوشا[64] الأبية. ولكن لمَّا يحاول أليوشا إعطاء القبطان المال كهديةٍ من دميتري للتَّعويض عن إهانته، يقبلُ الرجلُ العجوز المال أولا، لكنَّه يرفضه لاحقا بفخرٍ باعتباره هجوماً على شرفِه، يخرجُ أليوشا من مشاهد التَّمزُّق هذه بعد أنْ تعلَّم صعوبة "الحُب المتفاعل" كرد فعلٍ على الشَّر والخطيئةِ. لاحقا، سيعلِّمه تفاعلُه مع هذه العائلة والأبناء الآخرين كيفَ يمكن أنْ تكون للمثابرة في مثل هذا الحُب دلالةٌ وتأثيرٌ دينيٌّ.
بعد هذين المشهدين الأولين لثلاثةِ اعترافاتٍ وثلاثةِ تمزُّقاتٍ، يلتقي أليوشا إيڤان في القسم الأول الدِّيني الصَّريح من الرِّواية، الكتاب الخامس، بعنوان "المُؤيِّد والرَّافض" في الحوارين بين الأخوين، نسمعُ حُجج إيڤان العقلانية لرفضِ قبولِ العالم المخلوق، ثم حُججه الدّرامية لرفض المسيح كمُضحي. إنَّ الحُجج العقلانية الَّتي غالباً ما تمت دراستُها خارج سياق الرِّواية وبعيدا عن عقليَّة المُتحدث، هي عرضٌ حيٌّ للغاية لمشكلة الشَّر في صورة معاناة إنسانيَّة بريئة. من المهم أنْ نتذكر عند قراءة قضية إيڤان ما كشفَه عن نفسه في مشاهدَ سابقة، كما هو الحال في المشهد المُمزَّق حيث يشعرُ بالرَّفض من كاترينا، ثم يخطِّط للذهاب إلى موسكو تاركاً والدَه معرضاً لخطر القتلِ. وهكذا، فإنَّ القضية تسلم من طرف من يعترف أثناء تقديمه لها بأنَّه غيرُ قادرٍ على الحُب، وأنَّه لا يُؤمن بالخُلود أو بالله، وأنَّ "كلّ شيءٍ مُباح"، وأنَّه يُخطِّط للانتحار لمَّا يبلغ الثَّلاثين. تتكون القضيةُ نفُسها من رواية مُروعة عن مُعاناة الأطفال، الَّذين يجعل وجودهم من المُستحيل على إيڤان قبول الكون على أنَّه خلقَه إلهٌ صالحٌ، حتَّى لو كان مثل هذا الإله قادراً على تحقيقِ نهاية مُتناغمة لهؤلاء الأطفال. إنَّ ما لم يسمعْ إليه إيڤان بعناية هو ردُ أليوشا بأنَّ "هناك كائن ويُمكنه أنْ يغفرَ كلَّ شيءٍ، ولكلِّ شيءٍ؛ لأنَّه بدل دمَه البريء من أجل الجميع ومن أجل كلِّ شيء" (الرابع، ص.4).
على الرَّغم من أنَّ إيڤان يُحاول الرَّد على المسيح في الأسطورة في الفصل الثاني، إلاَّ أنَّه لا يتناول الفهم الدِّيني المُضمر للحُب المفدى للإله – الإنسانُ المُتجسِّد في المسيح، والَّذي يتضمنه تذكير أليوشا المُوجز. هذا التعلم المركزي للقوة التَّغييرية لمحبة المسيح أمر أساسي لإيمان أليوشا وزوسيما، كما تُشير إلى ذلك كتابات دوستويفسكي الأخرى.
على الرَّغم من أنَّ مذهب الفداء عبر المحبة لا يُقدم تفسيراً تاماً للعقل وللأساس المنطقي الإلهيين، إلاَّ أنَّه يقدم تصوراً معقولا يتألفُ من دمج الإيمان بالعقل في استجابة المسيحية للألم.
إنَّ استجابة إيڤان للمسيح غيرُ مُتوقعة على الإطلاق، فبدلا من تقديم حُجة مُضادة للتَّضحية، يُظْهر من خلال المثل أنَّ خطأ المسيح الأساس كان محاولُته إنقاذ البشر في المقام الأول، لأنَّه كما يعرف إيڤان، فهو يتفقُ مع المحقق الكبير في أنَّ البشرَ لا يُمكن إنقاذُهم من خلال مَنحِهم الحُرية، والمسؤولية تجاه بعضهم بعض، وتعلم الحُب، ولكن يجبُ حمايتهم من الحُرية بواسطة كنيسة قوية تحاولُ إزالة كلِّ المعاناة والاستغلال، والقوة، والسُّلطة للسيطرة على حياة الإنسان والمُجتمع. إنَّ أسطورة المحقق الكبير، من خلال عودة المسيح ليجدَ أنَّ الكنيسة الغربية التَّاريخية قد تخلَّت عن تعاليمِه في الحُب والمسؤولية لصالح السُّلطة، هي أسطورة اليأسِ. ومع ذلك، فحتَّى إيڤان في قوله سيسمحُ للمسيح بإظهار معجزة عنايته الخلاصيَّة في القُبلة الَّتي يمنحها له، وهو الفعل الَّذي دفع أليوشا للصُّراخ قائلا: "قصيدتُك في مدح يسوع، وليس في إلقاءِ اللَّوم عليه، كما قصدت أن تكون"، يتضمنُ هذا الرَّد أيضا تصريحه بأنَّ إيڤان قد أساء تمثيلَ دور الحُرية والفداء في الكنيسة الأرثودوكسية. بعد أنْ قبَّل شقيقه في محاولة لتوسيعِ رحمة المسيح إلى أقصى حد مُمكن، شاهد أليوشا إيڤان وهو يبتعدُ بعد محادثتهما، ولاحظَ أنَّ كتِفَ أخيه أقصر من كتِفِ الآخرين، وهي علامة تقليدية على وجود روحٍ شريرةٍ. سيتم بعد ذلك الكشفُ عن الطَّبيعة الشِّريرة لإيڤان في الفصليْن التَّالييْن، لمَّا يعزِّز اعتقاد سميردياكوڤ بأنَّ كلَّ شيء مباحٌ، ثم يوافقُ على مُغادرة المدينة مع فهم أنَّه يُسمَح له بقتلِ والدهما. بالإضافة إلى ذلك، على الرّغم من أنَّ المؤلف قد زوَّد إيفان بأقوى الحُجج الَّتي يُمكن استخلاصُها من الاعترافات التَّقليدية على صلاح الله، فإنَّه يتركُ أيضا بقايا تعليم الفهم الأرثودوكسي لتَّضحية المسيح التي كانت من المُمكن أن تكون واضحة للقُراء الدِّينيين المتعلمين. سيتمُ تعزيز هذه التَّعاليم من خلال حياة ومعتقدات زوسيما كما تظهر في الكتاب السَّادس.
توفر المشاهدُ الثلاثة في حياة دميتري في الكتاب التَّاسع للمؤلف فرصة لتقديم حالةٍ مُضادة لرفض إيڤان المُتشائم لعالم الله، وتشويه صورة المسيح وطريقته الفدائية. إنَّ محنةَ دميتري الأولى هي مثال على "ألام الرُّوح"، ولكنها معاناة تثبت أنَّها فدائية. في هذا المشهد، علِم دميتري أولا أنَّ الرجل الَّذي ضربه الَّذي هو غريغوري لم يمُت، ثم أصر على أنَّه لم يقتل والدَه. رغم اعترافه بأنَّه تحدَّث عن قتل والده، فإنَّه لم يفعل ذلك قط، كما أنَّه كان نادما حتَّى على كراهية والده. في المرحلة الثانية من محنته، يروي دميتري معظمَ تفاصيل صراعِه مع والده، وحاجتَه للمال، وغِيرته من غروشينكا، ومعركَته مع غريغوري[65]، وأفكارَه عن الانتحار. وأخيرا، في المرحلة الثالثة، يُقدِّم المزيد من التَّفاصيل حول مشهد منزل والده، لكنَّه يخطئ في بعض الحقائق حول الباب المفتوح. ثم يتهمْ سميردياكوڤ بالقتل وهو غاضب، لأنَّه كان الوحيد الموجود في مكان الحادث، وكان الشخص القادر على القيام بذلك، بعد أنِ استاء من المبلغ المحدد الَّذي كان يمتلكه، أظهر دميتري أنَّه لا يزال يملك ثلاثة مائة وستة وثلاثين روبل، وهو ما اضطره للاعتراف بها في الفصولِ اللاحقة، وهو مبلغ احتفظ به من اقتراضه من كاترينا لإنفاقه على غروشينكا، ثم يدعم الشُّهود القضية أكتر ضد دميتري.
في نهاية هذه المِحن مع الشُّرطة، يشعر دميتري بالإرهاق من إدراك أنَّ احتجاجاتِه غيرُ مُقنعة للسلطات، ومع ذلك، فقد فازَ بحُب وتفاني غروشنيكا. لمَّا يغفو بعد ذلك، يرى حُلماً بعيد الغطاس المهم الَّذي يعزِّز إيمان أليوشا وزوسيما بقوةِ المسيح الخلاصية والمُعاناة الإنسانية الأخرى، يحلم دميتري بعبور السُّهوب ورؤية فلاحة تحمل طفلاً بارداً، ويشعر دميتري تجاهها "بعاطفة شفقة لم يعرفْها من قبلُ...تصعد في قلبه" (التاسع ص.8). ثم يسمعُ وهو يستيقظُ صوت غروشنيكا تقول له: "أنا قادمةٌ معك، لنْ أتركك الآن لبقية حياتي، أنا سأرافقُك". هذا العمل الرَّحيم أثناء نومه، والوعد بالحُب المُخلص من غروشنيكا يمنحُ دميتري الشَّجاعة لمُواصلة العيش والاندفاع نحو النُّور. وكما أشار جوليان كونولي[66]، فإنَّ هذا مشهدٌ رئيسٌ تنكشفُ فيه قوةُ الحُب المُتفاعل كاستجابة لمعاناة الأطفال، وإجابةُ في الحياة العملية على اعتراضات إيڤان على خيريَّة خلق الله. لقد وصلت قوة حياة المسيح الفدائية من خلال أحلامِه، وتجربتِه كرجلٍ مُنقسم، ولكنَّه مكافح مزود ببعض الإيمان ومحبة الآخرين من أجل إعادته من الانتحار إلى حياة جديدة، وكما يقولُ في الفصل التَّالي: "أنا أدنى الزَّواحف...أريد أنْ أتألم، لأنَّه بالألم سأتطهَّر...أنا لستُ مذنباً بدماء والديَّ، أقبلُ عقابي، ليس لأنَّني قتلتُه، وإنَّما لأنَّني نويتُ أنْ أقتُلَه" (التَّاسع ص. 9) (كونولي ص.47 وما يليها).
3.5- حياةُ زوسيما وتعميد[67] أليوشا
يقدّم الكتاب السَّادس ملخصا هادئا لحياة القديس بأسلوب تقليدي، ولكنه قوي بالنسبة إلى تحولات وقناعات الأب زوسيما، معلم أليوشا. هذه الحياةُ جزء ممَّا قصده دوستويڤسكي لمَّا قال: "إنَّ الرِّواية بأكملها إجابةُ عن المفتش الأكبر" من خلال تقديم أمثلة حديثه عن فعالية الحياة المسيحية من أجل التَّغلب على الشَّر والمُعاناة من خلال الحُب المُتفاعل. لمَّا يبدأ هذا القسم، ولمَّا يَسألُ أليوشا معلمَه كيف سيتمكَّن ديميتري من التَّعامل مع المُعاناة، يجيب زوسيما بكلماتِ المسيح الَّتي تُقدِّم الشِّعار الافتتاحي للقصة بأكملها "إنْ لم تقعْ حبةُ الحِنطة في الأرض وتمُت، فإنَّها تبقى وحدَها، ولكنْ إذا ماتَت تأتي بثمرٍ كثيرٍ"، ثم أخبر أليوشا أنَّ دعوته ستكونُ نقلَ تعاليم المسيح إلى العالم بدءً من إخوتِه. ثم تُقدِّم الرِّواية مثالاً من سيرة زوسيما عن تحول أخيه من الحياة الدُّنيوية عبر المرض إلى الحُب الكاملِ للآخرين، وهو ما يتجسَّد في قول أخيه: "كلُّ شخصٍ مسؤولٌ حقاً عن جميع النَّاس، ومسؤولٌ عن كلِّ شيءٍ". لقد جَلب أسلوب الحياة هذا لأخيه تجربةَ الحياةِ باعتبارها "الجنة"، والتي يُظهرها جمالُ الطَّبيعة، وحياة النَّاس الَّذين يحبون بعضهم بعض. يحكي زوسيما لاحقا عن حُبه للكتاب المُقدس، وخاصة "كتاب أيوب"، وحبِه للمخلوقات، ممَّا يعلمه أنْ ينقل للآخرين الطَّريقة الإيجابية لسر الطبيعة والجمال، وفي عالم الكتاب المقدس والطَّبيعة، يجد أنَّ "كلمة الله للجميع. فكلُّ الخلق، وكلُّ المخلوقات، وكل صحيفة في السَّعي إلى الكلمة، تُغنِّي لمجد الله، وتبكي من أجل المسيح..." (السَّادس ص.1). إنَّ البشر مدعوون إلى أنْ يقدموا للآخرين بوعي ما تأتي به الطَّبيعة لهم. تُظهرُ حياةُ زوسيما أمثلة على هذا الحُب الواعي في تحول الرَّاهب من الوصاية على خادمه إلى التَّخلي عن كلِّ شيءٍ من أجل الانضمام إلى المُجتمع الرَّهباني. تستثمرُ مُحادثات ونصائح الأب زوسيما في تقديم شهادة لأليوشا والقارئ عن الرُّوحانية المُضمرة في الرِّواية بأكملها، ويؤكد تضامنَ الرُّهبان والفلاحين الَّذين هم أمل تحويل البلاد. ويشهد على ضرورة إيجاد الفرح فقط "في أعمال النُّور والرَّحمة" بمعونة المسيح، إنَّه يُمجِّد حياة الصَّلاة، ومحبة كلِّ خلق الله، ومحبة الأبناء، وتحمُل المسؤولية تجاه الآخرين، واختيار الارتباط مع الأرض والعالم السَّماوي، والعمل بمُثابرة، وتجنب "ألآم عدم القدرة على ذلك الحُب"، وهو تعريفُه للخسارة الأبدية.
بعد أنْ قرأ أليوشا هذه الوصية من مُعلمه، انزعجَ من العديد من الرُّهبان من حقيقة أنَّ جسدَ زوسيما تعرَّض للتحلُّلِ الجَسدي الطَّبيعي، ولم يتمْ حفظُه بأعجوبة، يخرجُ أليوشا من الدِّير خائباً بتحريض من راكيتين، ذلك الإليكريكي العقلاني السَّاخر، للعُتور على لحم وخمر ليشربه، وربما لمقابلة غروشينكا. لمَّا يجدونها، تبدأ بسحره، ولكن لمَّا تعلمُ أنَّه حزينٌ على فقدان الأب زوسيما، تُظهر التَّعاطف، وتساعد الرَّاهب الشَّاب الَّذي يعترف بلسانه بأنَّها "رفعت نفسي من الأعماق" (السَّابع، 3). بعد هذا المشهد النَّقدي، يعود أليوشا إلى الدِّير، ويُمارس عيد الغطاس الَّذي يرى جيمس كونولي أنَّه محوري للرؤى المسيحية للرواية. في هذا المشهد يحلمُ أليوشا بالحادثة في "إنجيل يوحنا" الخاصة بعيد الزواج في قانا[68]، والَّذي يُقرأ بعد عيد الفصح بقليلٍ في الكنيسة الأرثدوكسية، حيث يقومُ المسيحُ بمعجزته الأولى، ويكشفُ عن قوتِه الإلهية بتحويل الماء إلى خمر، وهي رموز المعمودية والقربان المقدس، التي تشير في حد ذاتها إلى موت المسيح وقيامَته. في الحُلم يرى أليوشا أيضا أنَّ زوسيما يرتفعُ ويقترب منه، ويرى كونولي أنَّ مشهد القيامة هذا يدْحض ادعاء إيڤان بأنَّه لا يُوجد خلود، وبالتالي، فإنَّ كلَّ شيء مباح. يجدُ النَّاقدُ أيضا أنَّ صورة وليمة الزَّواج في حد ذاتها علامة على اتحاد الذَّات والآخر، وهو نوعُ الحُب المُتفاعل الَّذي عاشَه زوسيما وتعلمَه. ثم في الحُلم يرى أليوشا شخصيةَ المسيح نفسِه على أنَّه "شمسُنا"، وهي صورة في الأيقونات الأرثوذوكسية للمسيح ضابطِ الكُّل. والنتيجة في المشهد أنَّ أليوشا يُقبِّل الأرض ويُبلِّلها بدمُوعه. بالنِّسبة إلى كونولي وجوزيف فرانك، يُعتبرُ هذا المشهد علامةً قويةً جداً على إيمانِ المؤلف بالتجسُّد، وصدى بالفعل لكلماتِ زوسيما بقوله: "لقد صنعَ نفسَه بالحُب مثلنا" (كونولي ص.43 وما يليها، فرانك ص.645).
يشيرُ عيد الغطاس المسيحي أيضا في جانب القيامة إلى المشهد الأخير في خاتمة الرِّواية. في هذا المشهد أوصل أليوشا عمله في العالم مع الأولاد الصِّغار إلى اللحظة الأخيرة لمَّا شاركوا في جنازة ودفن إليوشا، الابن الحسَّاس والغاضب للقبطان الَّذي هاجم أليوشا لأول مرة، باعتباره من عائلة كارامازوڤ، ولكن لاحقاً أصبح تلميذُه. لمَّا يموتُ الشَّاب، يجمع أليوشا الأولاد لأداء الشَّعائر، ثم يُقدِّم لهم في النِّهاية موعظةً من أجل الحفاظ على الإيمان والصَّداقة الَّتي تعلَّموها. في هذا "الخِطاب أمام حجر القبر"، يقول: "دعونا نعقدُ اتفاقا، هذا عند حجر إليوشا، لنْ ننساهُ أبداً أولا، إليوشا ثانيا، بعضنا ببعض...وهكذا في المقام الأول سنتذكرُه يا أولاد طوال حياتنا...دعونا نتذكر دائما كم كان الأمر جيدا هنا، لمَّا كنَّا مُجتمعين معاً، ومُتحدين بشعور جيد ولطيف...أنَّ ذكرى واحدة قد تحْمينا من شرٍ عظيمٍ...أقسمتُ بكلمتي من جهتي بأنَّني لا أنسى أحداً منكم أبدا...بالتَّأكيد سوف نقومُ جميعا مرة أخرى، وبالتَّأكيد سنرى بعضنا بعض، وسنُخبر بعضنا بعض بفرح وسرور بكلِّ ما حدث. (الخاتمة الثَّالثة).
6- المَضامينُ الدِّينيُّة في كتاباتِ دوستويڤسكي
دعونا الآن نستَنبط من هذه الرِّواية ومن كتابات أخرى، وبمُساعدة نقاد آخرين التَّأكيدات الدِّينية أو الرُّوحية الرَّئيسة لدوستوبڤسكي فيما يتعلق بالله، وبالتَّجسُّد، وبالخطيئة، وبالمسيح، وبالتَّضحية، وبالمُجتمع المسيحي. إنَّ فكرة دوستويڤسكي عن الله، كما لاحظنا في تلخيصنا لتَأكيداته الفلسفية أثناء جدالاته مع المُلحدين، تجمعُ بين التَّصوُّر العقلاني التَّقليدي لمصدر النِّظام أو التَّصميم في الكون مع فكرة الواحد اللامتناهي. ولمَّا ندرسُ فكرتَه عن إله الإيمان المسيحي، يُمكننا أنْ نستنتجَ من ممارساته الأرثوذوكسية ومن معتقدات أليوشا وزوسيما في رواية "الإخوة كارامازوڤ" أنَّه أكد من خلال الإيمان والتَّجربة الدِّينية على إله ثالوثي عمل في التاريخِ كخالقٍ وفادٍ ومُقدَّس. لقد توسَّع ديفيد س. كننغهام[69] في هذا الإيمانِ بالأب والابن وروح القدُس كما هو موضَّح في فقرات هذه الرِّواية الأخيرة الَّتي تشير إلى أنَّ الله أقانيم في علاقاتٍ، وليس إلها ربوبيا مُنعزلا، وهذا موجود في تأكيده على التَّضامن، باعتباره فضيلة إلهيَّة وإنسانيَّة أساسيَّة، وتأكيده على العلاقات الدَّائمة، وأمثلته على الثَّالوث في جميع أنحاء الرِّواية. يستشهد كننغهام بشهادة جوليا كريستيڤا[70] لمصادر تعدُّد الأصوات عند دوستويفسكي في فهمه للثالوث في عقيدته الأرثدوكسية (كريستيڤا ص.214، كننغهام ص.141). ويستشهدُ بمصادر أخرى في محاضرات سولوڤييڤ سنة 1878 حول الرُّبوبية، والَّتي تضمَّنت تحليلاً للعقيدة المسيحية للثالوث.
إنَّ الجانب بعيد المدى للوجود الإلهي في رواية "الإخوة كارامازوڤ" موجودٌ في محورية المسيح في الرِّواية، ولاسيَّما دورُه كصورة الله غير المرئي، وكابن الله الَّذي أصبحَ إنساناً ليفدي البشرية ويُعيد توحيدها مع الأب والرَّوح. يظهر هذا المسيحُ الفادي في أول رد أليوشا على حُجج إيفان ضد العدالة الإلهية، وهو الرَّد الَّذي يصفُ المسيح بأنَّه "الكائن الَّذي...بدل دمَه البريء من أجل الجميع ومن أجل كلِّ شيء" (4.4). فمن دون استكشاف التَّصور الدِّيني المعقد للكفارة أو الفداء، جعلَ دوستويڤسكي أليوشا يُؤكد على فداء المسيح، باعتباره ابن الله المُتجسِّد. وقد علَّق روان وليامز[71] على هذا المقطع بأنَّه يُعبِّر عن "النَّظر المسيحي الشَّرقي المميَّز الَّذي مفاده أنَّه من خلال اتحاد الطَّبيعة البشرية، فإنَّ الأقنوم الإلهي للكلمة الأبدية يُغيِّر تلك البشرية وينقل إليها شيئاً من قدرته وحُريته..."...إنَّ المسيح حقٌ، إنسان حقٌ، وتظهر إنسانيتُه في آثار حياته وأعماله على البشر الآن" (32-33). في بقية الرِّواية بأكملها، يُصبح المسيحُ هو الإلهامُ الشَّخصي في كلٍّ من إنسانيته وألوهيته المُتغيرة. كما رأينا في حياة زوسيما، وفي تجربة أليوشا. لقد لاحظنا هذه الصُّورة للمسيح كشافي ومُخلص وضابط الكل لأليوشا في الآية الخاصة بقانا. من خلال تعليمات زوسيما للآخرين، بما في ذلك أليوشا، فإنَّ المسيحَ هو المثالُ ومصدرُ النِّعمة للنَّاس ليعيشوا "الحُب المُتفاعل" في العالم، ويتحمَّلوا مسؤولية العالم. وهكذا من خلال العلاقة مع المسيح، يبدأ أليوشا في عيش حياة مُشابهة لحياة زوسيما، وهي حياة تجسِّد "قبول الأخلاق المسيحية"...قائمة على التَّعالي الإلهي" الَّذي يتغلبُ على مُشكلة المُعاناة (فرانك ص.49).
يُمكن العثور على جوانب أخرى من فهم دوستويڤسكي الدِّيني المُضمر للمسيحية في كتاباته ومصادره الأخرى. وقد درس أحد النُّقاد إشارات الرِّوائي في نسخة من إنجيل يوحنا، الَّذي يُسلط الضَّوء على الآيات الَّتي تؤكد ألوهية المسيح، ووحدة الابن مع الأب، ووصف المسيح لنفسه بأنَّه السَّبيل القويم، وأنَّه الحق، وأنَّه الحياة، وقيامة المسيح، والمسيح بصفته "ربِّي وإلهي". كما أشار إلى عدة آيات تدعم الإيمان بمشاركة الإنسان في قيامة المسيح وحياته الأبديَّة (6. 54)، وفي حياة المسيح كإجابة عن مُشكلة المُعاناة الدِّينية (3: 9). هذه الإشارات من إنجيل يوحنا تؤكدها أيضا إحدى التَّأكيدات الدِّينية القليلة لدوستويڤسكي في رواية "مذكرات كاتب" سنة 1877: الله واحد، ليس هناك إله آخر مثله"، وأنَّ "المسيح إله حق، وُلد من الله الأب، وتجسَّد من مريم العذراء" (25، 167، استشهدت به كيريلوڤا ص.44).
وفيما يتعلق بقناعات دوستويڤسكي حول أهمية الكنيسة المسيحية، فإنَّ الرِّواية نفسَها تصوِّر بوضوح غالبية الرُّهبان والمؤمنين الأرثوذوكسيين على أنَّهم يقومون بعمل المسيح في العالم. وهذا ما تُؤكده تصريحات في روايته "مذكرات كاتب"، تظهر إيمانه بالدَّور القومي والكوني للكنيسة الأرثوذوكسية في أواخر القرن التاسع عشر. وكما لخَّص جوزيف فرانك موقف الرِّوائي سنة 1877: "إنَّ مُهمة روسيا، كما أعلن، هي تحقيق اتحاد السّلافيين، وبالتَّالي حل المسألة الشَّرقية، وهذا التَّوحيد سيكون مقدمة للمُصالحة الشَّاملة لجميع الشُّعوب تحت راية المسيح الحقيقي المحفوظ فقط في الأرثوذوكسية المسيحية" (231). لقد كانت هذه إجابتُه التَّأملية على سؤال ما إذا كانَ ملكوت الله مُمكنا على الأرض. لقد أكد طوال حياته على أنَّ مثل هذا الملكوت كان دائما في طور المجيء، من خلال العبادة داخل الكنيسة، وداخل الضَّمائر الفردية. لقد اتبع هنا بعض الأفكار الثيوقراطية لڤلاديمير سولوڤييڤ، لكنَّه لم يؤكد أبدا تاريخاً أو مكانا محدداً. ورغم رفضِه لميول السّلاڤيين نحو النَّزعة الكونية الغربية، فإنَّه أكد على الدَّور الخاص الَّذي تلعبُه روسيا والكنيسة الأرثوذوكسية في تحقيق الانسجام العالمي، إنَّه الانسجام الَّذي يسمحُ لكلِّ الثقافات بالمُساهمة بخصائصها الفريدة. بسبب إيمانه بهذا الدَّور الخاص، نافحَ عن حقيقة أنَّ روسيا حقَّقت الأخوة دون حرب أهلية، وبالتَّلاحم الحر لمجموعاتها العِرقية، حافظت روسيا على مِحورية الحُب المسيحي لجميع النَّاس من خلال الدِّيانة الأرثوذوكسية (سكانلون، الفصل السَّادس).
1.6- مزيداً من التَّحليلاتِ لفلسفةِ دوستويڤسكي وتصوُّرِه الدِّيني
إنَّ الشَّارح الَّذي يقترب تحليلُه من المُلخص السَّابق هو ألكسندر بويس غيبسون في كتابه "دين دوستويڤسكي"، الَّذي يُؤكد أنَّ "قرب دوستويڤسكي الطَّبيعي من الله كان عبر تجلياته، وفي نهاية حياته، كان قربه من الله من خلال انبساط الطَّبيعة وبهجتها، بيد أنَّ كلَّ ذلك كان من خلال المسيح وإنجيله" (َ196). إنَّ المسيح هو الله الإنسان...لقد ترجم الله إلى ناسوت، وبذلك قدَّم الدَّليل على حُضوره...وفي الإنسان يظهرُ الله". (198-199). وأعظمُ علامةٍ على حضور الله في البشر هي عيشُهم "المحبة المتفاعلة" من أجل كلِّ الأشخاص الآخرين. ومع ذلك، فحتَّى غيبسون يفشلُ في شرح كيف تتعامل التأكيدات المسيحية للرِّوائي بشكل حقيقي مع مشاكل مُعاناة الأبرياء.
تطالُ التَّحليلات البديلة اختزال فرويد للمشكلات الفلسفية والرُّوحية في القرن التَّاسع عشر في الصِّراعات الأوديبية داخلَ عائلة كارامازوف في الرِّواية الأخيرة لدوستويڤسكي. وعلى غرار ذلك، كان النُّقاد الماركسيون في القرن العشرين يميلون إلى قراءة الرِّوايات من منطلق الحتمية الاقتصادية، والاستلاب المجتمعي في المقام الأول. ومع ظهور الوجودية في منتصف القرن، تناولَ النُّقاد القضايا النفسيَّة والفلسفيَّة في الرِّوايات ضمن هذا الإطار المألوف، مضيفين رؤى مُهمة في رواية "مذكرات من قبو"، وفي رواية "الجريمة والعقاب". في الآونة الأخيرة، أبدى النُّقاد اهتماما متزايداً باستكشاف وجهات نظر دوستويڤسكي الدِّينية والرُّوحية تبعا لمصطلحاتهم الشَّخصية. على الرّغم من أنَّ بعض النُّقاد يركِّزون بشكل مباشر أكثر على نظريات الرِّوائي حول الازدواجية، وعلى طريقته في تعدُّد الأصوات، إلاَّ أنهم أخذوا على الأقل مُعتقداته العميقة جدا على محمل الجد. لقد حاول مالكوم ف. جونز[72] ربط الجانب الدِّيني لرواية الإخوة كارامازوف بالتَّقليد الرَّهباني الرُّوسي، لكنَّه لم يستمر في استكشاف التَّصور الدِّيني النَّسقي الأكثر وضوحا في الأديرة. لقد أضاف روني جيرار[73] إلى التَّأويلات الدِّينية لدوستويڤسكي تأويلا للشخصيات في روايته الأخيرة من خلال نظريته حول الرَّغبة المُحاكاتية والمسيحية كوسيلة للخروج من التَّصور الدِّيني المتعلق بكبش الفداء، وحاولت ليندا كريغر وجو بارنهارت[74] أيضا استعمال التَّصور الدِّيني الإجرائي في أواخر القرن العشرين ووجهات نظر هذا التَّصور حول الكفارة كوسيلة لحل المُشكلات الَّتي لم يُثرها دوستويڤسكي في الرِّواية. يتهرَّب ستيڤن كاسيدي[75] من القضايا الدِّينية الصَّعبة بإقصائها من قراءة اجتماعية تنقل ازدواجية دوستويڤسكي وتعدُّد الأصوات إلى الوضع الثقافي للروائي أو القارئ. تخلقُ هذه المُناورة إشكاليَّة اعتقاديَّة لا يُمكنها أنْ تتجاوز الحدود الَّتي وضعَها الإنكار الكانطي للميتافيزيقا ومصادر الشَّك الأخرى. ومع ذلك، كما حاولنا أنْ نُبيِّن استعمال دوستويڤسكي رواياته المعقدة ومذكراتِه النثريَّة، وكتاباته الأخرى لتطوير فلسفةٍ ودينٍ مُحدَّدين، ولكنَّهما أصلييْن ومُستمديْن من تجربته الخاصة، ومن تأملاتِه كمُؤمن مكافح من أجل المسيحية الأرثوذوكسية وفلسفتِها، وعلاقتِها بالحُب المُتفاعل في العالم.
مصدرُ النَّص المُترجَم
Leigh, D.J., « The Philosophy and Theology of Fyodor Dostoevsky », URAM, VOL. 33, nos. 1-2, 3.19, 2010, published 2013, pp. 85-103
مراجعٌ خاصةٌ بمُؤلِف المَقالَةِ
WORKS CITED
1- Cassedy, Steven. Dostoevsky’s Religion. Stanford, CA: Stanford University Press, 2005. Print.
2- Connolly, Julian W. “Dostoevskij’s Guide to Spiritual Epiphany in ‘The Brothers Karamazov.’ ” Studies in East European Thought. 59/1–2. (June, 2007): 39–54. Print.
3- Dostoevsky, Fyodor. The Brothers Karamazov. Tr. Constance Garnett. N. Y.: Signet, 1970. Print.
4 —. Crime and Punishment. Tr. Jessie Coulson. N. Y.: Norton, 1964. Print.
5 —. The Idiot. Tr. Henry and Olga Carlisle. N. Y.: Signet, 1969. Print.
6 —. Notes from Underground. Tr. Andrew R. MacAndrew. N. Y. Signet, 1961. Print.
7- Feuer Miller, Robin. The Brothers Karamazov: Worlds of the Novel. N. Y.: Twayne, 1992. Print.
8- Frank, Joseph. Dostoevsky: The Mantle of the Prophet, 1871–1881. Princeton, N. J.: Princeton University Press, 2002. Print.
9- Gibson, A. Boyce. The Religion of Dostoevsky. Philadelphia: Westminster Press, 1973. Print.
10- Girard, Rene. Resurrection from the Underground: Feodor Dostoevsky. Ed. And tr. James G. Williams. N. Y.: Crossroad Pub. Co. 1997. Print.
11- Jones, Malcolm V. and Robin Feuer Miller, ed. The Cambridge Companion to the Classic Russian Novel. Cambridge University Press, 1998. Print.
12 - Jones, Malcolm V. Dostoevsky and the Dynamics of Religious Experience. London: Anthem Press, 2005. Print.
13- Kraeger, Linda and Joe Barnhart. Dostoevsky on Evil and Atonement. Lewiston, N. Y.: Edwin Mellen Press, 1992. Print.
14- Leatherburrow, W. J., ed. The Cambridge Companion to Dostoevsky. Cambridge University Press, 2002. Print.
15 - Panichas, George A. The Burden of Vision: Dostoevsky’s Spiritual Art. Grand Rapids, MI: Eerdmans, 1977. Print.
16- Pattison, George and Diane Oenning Thompson, ed. Dostoevsky and the Christian Tradition. Cambridge University Press, 2001. Print.
17- Scanlon, James P. Dostoevsky the Thinker. Ithaca, N. Y.: Cornell University Press, 2002. Print.
18- Wellek, Rene, ed. Dostoevsky: Twentieth Century Views. Englewood Cliffs, N. J>: Prentice Hall, 1962. Print.
19- Whitmont, Edward C. The Symbolic Quest. Princeton, NJ: Princeton University Press, 1969. Print.
20- Williams, Rowan. Dostoevsky: Language, Faith, and Fiction. London: Continuum, 2008. Print.
[1] - David Joseph Leigh أستاذُ الأدب الكلاسيكي بجامعة سياتل بأمريكا، حاصل على الدُّكتوراه في الأدب الإنجليزي، تتوزَّع اهتماماتُه بين الأدب والفلسفة والدِّين، وله اهتمام كبير بالأدب الرُّوسي.
[2] - أحمد فريحي، أستاذُ الفلسفة بالثَّانوي، حاصل على الدُّكتوراه في الفلسفة من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالقنيطرة.
[3] - إنَّ قراءة مقال ڴوتلوب فريڴه الموسوم ب "الفكرُ: بحثٌ منطقيٌّ" على سبيل المثال، تكشف عن استعمال كثير من الأمثلة والتَّشبيهات والتَّمثيلات، والدَّلالة بالحسي على المُجرد الَّتي لم يستطع فريڴه أنْ يتخلصَ منها من أجل بيان مقصودِه بالفِكر، قال في بعض الإحالات: "أنا لستُ في وضعِ جيِّد هنا مثلَ عَالِمِ المعادنِ، الَّذي يُظْهِرُ لسَامعيه بلورة جبلية...فأنا لا أستطيع أنْ أضعَ الفكرَ بين أيادي قُرائي مع طلب أنْ يفحصوه من جميع الجوانب. يجبُ أنْ أكتفي بأنْ أقدمَ للقارئ فكراً لا مادياً في حد ذاته، وفي حُلة تتخذ صورةً لُغويَّة محسوسة. يُشكِّل الجانبُ الاستعاري للُّغة صُعوبات. إنَّ المحسوس يقتحمُ على الدَّوام التَّعبير الاستعاري ويَجعلُه غير مُناسب. لذلك تحدثُ معركةٌ مع اللُّغة، وأنا مُضطر لأنْ أشغلَ نفسي باللُّغة على الرّغم من أنَّها ليست اهتمامي الخاص هنا. آملُ أن أكونَ قد نجحْت في توضيحِ ما أسمِّيه فكراً." (ڴوتلوب فريڴه، "الفكرُ: بحثٌ منطقيٌّ"، ترجمة أحمد فريحي، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات الإلكتروني، ترجمات، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 14 مارس 2023. الإحالة ص. 13).
[4] - إنَّ البيانَ لا يقتصرُ على الأدبِ والفلسفةِ، بل يطالُ العِلمَ كذلك، فكثيرٌ من العُلماء وظَّفوا تمثيلاتٍ وتشبيهاتٍ واستعاراتٍ في كُشوفهم العلميَّة، وقد بيَّنا ذلك في أطروحة لنيل شهادة الدُّكتوراه تحت عنوان "التَّمثيلُ: مكانتُه البيانيَّةُ والاستدلاليَّةُ والمعرفيَّةُ"، ودافعنا عنها بحُججٍ مُستوفية، تقبَّلها أعضاءُ لجنةِ المُناقشة المُحترمين بالتَّرحيبِ والتَّنويهِ. نُوقِشت هذه الأطروحة يوم الجُمعة السَّابع من يوليوز من هذه السَّنة (2023)، وسنحاولُ نشْرها قريباً إنْ شاءَ اللهُ. (المترجم).
[5]- Nietzsche, F., Twilight of the Idols, translated by Richard Polt, introduced by Tracy Strong, Hackett Publishing Company, Inc. Cambridge, 1997, p.10: « Dostoyevsky, the only psychologist, by the way, from whom I had something to learn: he is one of the finest strokes of luck in my life, even more than my discovery of Stendhal. This deep human being, who had the right ten times over not to think much of the superficial Germans, lived for a long time among Siberian convicts, really serious criminals, for whom there could be no return to society. And the impression they made on him was not at all what he had expected- he perceived them as carved from about the best, hardest, and most valuable wood that grows anywhere on Russian soil. ».
[6] - انظر مقال: دولسون، غريس نيل، "تأثيرُ شوبنهاور في فريديريتش نيتشه"، ترجمة: أحمد فريحي، الموقع الإليكتروني لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، فئة الترجمات، 8 نوفمبر 2022
[7]- Sartre, J.P., L’existentialisme est un humanisme, Collection Pensées, Nagel, p.7: « Dostoïevsky avait écrit: ‘ Si Dieu n’existait pas, tout serait permis. ‘ C’est là le point de départ de l’existentialisme. En effet, tout est permis si Dieu n’existe pas et par conséquent l’homme est délaissé, parce qu’il ne trouve ni en lui, ni hors de lui une possibilité de s’accrocher. Il ne trouve d’abord pas d’excuses. Si, en effet, l’existence précède l’essence, on ne pourra jamais expliquer par référence à une nature humaine donné et figée ; autrement dit, il n’y a pas de déterminisme ; l’homme est libre, l’homme est liberté. »
[8]- Freud, Sigmund. The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud. Translated from German under general editorship of James Strachey. In collaboration with Anna Freud. Assisted by Alix Strachey and Alan Tyson, Vol. XXI (1927-1931). The Future of an Illusion, Civilization and its Discontents and other works, London. The Hogarth Press, 1961, pp. 157-196
[9] - تُرجمت أعمال دوستويڤسكي إلى العربية من النص الفرنسي من قبل سامي الدّروبي في ستينيات القرن السَّابق، ولاقت استحسانا وترحيبا من القراء، وقد صدرت في ثمانية عشر مجلدا في طبعتين: الأولى، عن المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، دار الكتاب العربي للطباعة، القاهرة، مصر، 1967، والثانية، عن دار ابن رشد للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، شارع فردان، بناية شابرو، 1985. وقد نشرت رواية "الفقراء" من بعد في ثلاث طبعات، اثنتان من ترجمة الدروبي، وثالثة لأحمد الويزي:
- دوستويڤسكي، فيدور، الفقراء، والمثل، وقلب ضعيف ضمن أعمال دوستويڤسكي الأدبية المجلد الأول، ترجمة سامي الدروبي، طبعة أسرة الأستاذ محمد سعيد البسيوني، الإسكندرية، مصر، 2003. (المترجم).
- دوستويڤسكي، فيودور، الفقراء، ترجمة سامي الدروبي، دار التنوير للطباعة والنشر، 2016. (المترجم).
- دوستويڤسكي، فيودور، الفقراء، ترجمة أحمد الويزي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2015. (المترجم)
[10] - Vissarion Grigoryevich Belinsky (1811-1848)، ناقدٌ أدبيٌّ روسي، له نزعة ثورية، وله اهتمام بعلم الجمال (1811-1848). (المترجم).
[11] - بالإضافة إلى ترجمة سامي الدّروبي، صدرت ترجمة لجيلالي المويري في 2018، عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب. (المترجم).
[12] - حركة تضم أدباء ومثقفين لهم توجٌهٌ رومنسي قومي واشتراكي طوباوي، ازدهرت هذه الحركة في منتصف القرن التَّاسع عشر، ونصبَّت نفسها ضد الاستبداد، وضد حركة التَّمدن، وهجرة الفلاحين من الأرياف. (المترجم).
[13] - Marya Dmitrevna Isaeva.
[14] - Kuznetsk مدينة روسية تقع في سفوح نهر الڤولݣا، وعلى الضفة اليسرى لنهر ترييڤ. (المترجم).
[15] - صدرت ترجمةُ هذه الرِّواية ضمن أعمال دوستويڤسكي الَّتي قام بها الدروبي تحت عنوان "ذكريات من منزل الأموات"، دار ابن رشد، 1985، المجلد الخامس. لكن الأديب المغربي إدريس الملياني، لاحظ مجموعة من الأخطاء التي سقط فيها الدروبي في الترجمة كما سقطت فيها الترجمة الفرنسية المترجم عنها، فقام بترجمتها عن اللغة الروسية تحت عنوان "مذكرات من بيت ميت" المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2014. (المترجم)
[16] - ظهرت التَّرجمة الأولى لهذه الرِّواية في سنة 1956 بحمص، سورية، قام بها عبد المنعم الملوحي تحت عنوان "في سردابي"، وأعيد نشرها من قبل دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، الطبعة الأولى، 2016، ثم قام أنيس زكي حسن بترجمتها تحت عنوان "الإنسان الصَّرصار أو رسائل من تحت الأرض"، صدرت الطبعة الأولى عن دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1959، ثم صدرت طبعتها الثانية عن الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن، 2017. وبعد ذلك ترجم سامي الدروبي هذه الرِّواية تحت عنوان "في قبوي"، المجلد السَّادس من ترجمة أعمال دوستويڤسكي. لكن أحمد الويزي اختار لها عنوان "مذكرات قبو"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2014. يبدو أنَّ التَّرجمة الأقرب للدَّلالة على مضمون الرِّواية هي التَّرجمة الإنجليزية: "notes from underground"؛ أي "مذكرات من قبو" بدليل أنَّ إضافة قبو إلى المذكرات يجعل المعنى بعيدا عن التَّعبير السَّليم، فالقبو ليس له مذكرات. وإنَّما المذكرات صادرة من رجلٍ يسكنُ في قبو. (المترجم)
[17] - بالإضافة إلى طبعة ابن رشد، المجلد الثامن من ترجمة سامي الدروبي، أعيد نشر نفس الرواية لنفس المترجم في ثلاثة أجزاء عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2010. (المترجم)
[18] - Anna Grigorevna Snitkina.
[19] - بالإضافة إلى النشرات القديمة، تم إعادة نشر ترجمة سامي الدروبي في جزأين لهذه الرواية، عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2010، كما صدرت ترجمة لعوض حسين عن دار الأهلية للنشر والتوزيع، 2016، لكنَّها تعرضت للنقد الشَّديد. (المترجم)
[20] - بالإضافة إلى النشرات القديمة، تم إعادة نشر ترجمة سامي الدروبي في جزأين، عن دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 2014. ظهرت ترجمة جديدة لهذه الرواية، قام بها محمد الأسعد، صدرت عن منشورات ذات السَّلاسل سنة 2022. صدرت الترجمة الأولى بالإنجليزية، والَّتي قامت بها كونستانس كلارا غارنت تحت عنوان "The possessed" (الممسوسون)، وظهرت بعدها ترجمة العنوان ب "Demons" (الشَّياطين) وأخرى ب "The Devils " (الشَّياطين أو الأشرار). (المترجم)
[21] - بالإضافة إلى النشرات العربية القديمة، تم إعادة نشر ترجمة سامي الدروبي في جزأين، عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2010. (المترجم)
[22] - صدرت ترجمة نصوص مختارة من "يوميات كاتب" جمعها الرُّوسي بوريس تاراسوف، وترجمها من الرُّوسية إلى العربية عدنان جاموس، عن دار أطلس، مكتبة الرمحي أحمد، 2017. (المترجم)
[23] - Vladimir Solovyev فيلسوفٌ، ولاهوتيٌّ، وشاعرٌ، وناقدٌ أدبي روسي (1853-1900)، ساهم بشكل كبير في إغناء الأدب والفلسفة الرُّوسيين.. (المترجم)
[24] - نشرت ضمن أعمال دوستويڤسكي الأدبية، ترجمة سامي الدروبي عن دار ابن رشد، المجلد السادس عشر، 1985.
[25] - Alexander Nevsky أمير وقديس روسي ذائع الشُّهرة، عاش في القرن الثالث عشر، وعرف ببطولاته وانتصاراته العسكرية تجاه الغزاة الألمان والسّويديين. (المترجم).
[26] - Ivan Tourgueniev روائي، وكاتب مسرحي روسي، ينتمي إلى الأدب الواقعي (1818-1883). (المترجم).
[27] - Leo Tolstoy روائي، ومصلح اجتماعي، وداعية سلام روسي، يمثل الأدب الواقعي في أعلى تجلياته (1828-1910). (المترجم).
[28] - Peter the Great هو قيصر روسيا الخامس، وحاكمها (1672-1725)، حكم الإمبراطورية الرُّوسية من سنة 1682 إلى أنْ توفي، وهو الَّذي بنى مدينة سانت بطرسبورغ، الَّتي كانت عاصمة لروسيا آنذاك. (المترجم)
[29] - Patriarch Tikhon of Moscow هو البطريرك الحادي عشر للكنيسة الأرثدوكسية الرُّوسية (1865-1925)، يقال إنَّه قُتل من طرف المخابرات السُّوڤياتية بعد صعود البلاشفة للحكم. الظَّاهر أنَّ هذا القديس عاش في النِّصف الثاني من القرن التَّاسع عشر، والرُّبع الأول من القرن العشرين، وعليه، فلا وجود لتأثير له في القرن الثامن عشر كما يُشير صاحب المقالة أعلاه. (المترجم).
[30] - The Nicene Creed تُسمَّى كذلك بقانون الإيمان، وهو إيمان يُعتقد به من قِبل المسيحيين الأرثدوكس والكاثوليك، سمِّيت بالنِّيقية نسبة إلى مدينة نيقية، الَّتي تُوجد حاليا بتركيا حيث كان المسيحيون هناك. (المترجم).
[31] - Joseph Frank باحثٌ، وكاتبُ سير أمريكي (1918-2013) له اهتمام بالدِّراسات السّلاڤية. (المترجم).
[32] - Friedich Von Schiller شاعرٌ، وفيلسوفٌ، وكاتبٌ مسرحي، ومؤرخٌ ألماني (1757-1805). (المترجم).
[33] - مادونا وسدوم كنايتين على طرفي النقيض، وهما بمثابة الخير والشر أو الطَّهارة والنَّجاسة، فمادونا ترمز للسَّيدة مريم العذراء الطَّاهرة (الخير)، وسدوم ترمز إلى القرية الَّتي فسقت فحل بها العذاب (الشَّر). (المترجم).
[34] - بالإضافة إلى ما قدمه الكاتب، استُعمل هذا التَّعبير المجازي خصيصا للدلالة على ما تُصرح به الشَّخصيات المتعدِّدة داخل روايات دوستويڤسكي، حيث تعكسُ هذه التَّصريحات الصِّراعات الدَّاخلية، وتنقلُ الطَّاقات النَّفسية المُحمَّلة بالاضطراب، ممَّا يجعلُ رواياته تعج بالأصوات. (المترجم).
[35] - Dmitri هو الابن الأكبر لفيدور كارامازوڤ، ومن أهم الشَّخصيات في رواية "الأخوة كارامازوڤ"، يلعب في الرِّواية دور الابن العاق، والمُسرف الَّذي يتبع الملذات بما لا يختلف عن أبيه، فقد طالب أباه الغني بنصيبه في الإرث، لكن أباه لم يستجب لطلبه، فكرهه، كما كان يُنافسه في حب غروشينكا، الَّتي أحبها الاثنان. كان يتمنى موت أبيه، ولمَّا قُتل أبوه، تم القبض عليه باعتباره المسؤول عن قتله، وعلى الرَّغم من أنَّه لم يقتله حقيقة، لكنَّه ندِم في الأخير عن نيته في مقتل أبيه. يمثل دميتري في الرِّواية المُتعة والأنانية والاستجابة للملذات كأبيه فيودور، لكنَّه اعترف في الأخير بذنوبه وندم. (المترجم)
[36] - Ivan هو الابن الثَّاني لفيدور كارامازوڤ بعد دميتري، يلعب في رواية "الإخوة كارامزوڤ" دور المُثقف المتشكك والمُلحد، الذي يشك في وجود الله ووجود المسيح، كان متشائما، ويخطِّط لوضع حد لحياته لما يبلغ من العمر ثلاثين سنة، وهو الذي رفع شعار "لو لمْ يوجد الله، فكلُّ شيء مباح" الذي تأثر به أخوه من أبيه سميردياكوڤ، المسؤول الحقيقي عن مقتل أبيهما فيودور كارامازوڤ، سيصاب بالجنون لما علم أن أفكاره هي الَّتي كانت سببا في مقتل والده. كان يحب كاترينا خطيبة أخيه دميتري، لكن هذه الأخيرة لم تكن تبادله نفس الشعور. يمثل إيفان في الرواية الإلحاد العقلاني. (المترجم).
[37] - Alyosha هو الأخ الأصغر ضمن الإخوة الأشقاء الثلاثة لفيودور كارامازوڤ، هو بطل دوستويڤسكي في رواية "الإخوة كارمازوڤ"، يمثل البراءة والتَّدين والتَّقوى، ويعبِّر عن جوهر المسيحية في ثوبها الأرثودوكسي، يدعو إلى الحب الإنساني المُتبادل الذي كان ينادي به أستاذه الرَّاهب زوسيما. يمثل أليوشا في الرِّواية الدِّين. (المترجم).
[38] - Zosima راهب صديق عائلة كارامازوڤ ومعلم الابن الأصغر أليوشا، يعتبر المُبشر بالقيم الدينية النبيلة داخل الرِّواية، والمؤثر في أليوشا بطل دوستويڤسكي، فرغم قداسته، تحلَّل جسمُه بعد وفاته، وهذه ربما إشارة إلى دونية الجسد على حساب الرُّوح. (المنرجم).
[39] - Rakitin شخصية ثانوية في رواية "الإخوة كارامازوڤ". (المترجم).
[40] - Gruchencko شخصية ثانوية في رواية "الإخوة كارامازوڤ". (المترجم).
[41] - Katrina تُصوِّرها رواية "الإخوة كارامازوڤ" على أنَّها خطيبة دميتري، الَّذي اقترض منها المال من أجل إغراء غروشينكا الَّتي تعلَّق قلبُه بها، وهذا هو السَّبب الَّذي جعله يُطالب أباه بالمال من أجل تسديد دينه لها بعدما أنفق جزءا منه، كما أنَّ كاترينا كانت محبوبة لدى إيفان، غير أنَّه كان مصدوما بعدم محبتها له. (المترجم).
[42] - Miusov شخصية ثانوية في رواية "الإخوة كارامازوڤ". (المترجم).
[43] - Raskolnikov هو الشَّخصية الرَّئيسة في رواية "الجريمة والعقاب"، الَّتي تصور حالته المزرية ومعاناته وندمه لمَّا أراد تغيير وضعه الاجتماعي عن طريق قتل امرأة مُرابية، يدين لها بالمال مقابل الكراء والإطعام، وذلك بدافع اعتقده أخلاقي، لكنه مجرد جريمة قتل وسرقة، والأخطر من ذلك أنه سيقترف جريمة أخرى تجلَّت في قتل امرأة بريئة ثانية صادف وجودها لحظة ارتكابه عملية قتل الأولى. وقد استند في فعله هذا على مبررات واهية ولاأخلاقية، ممَّا جعله يتحمل مسؤولية فعله الشَّنيع طوال حياته، يقال إنَّ هذه الرِّواية تعكس رد الفعل الَّذي لم يفعله دوستويڤسكي لما كان مدينا لأحد المرابين الذين استغلوا فقره للاغتناء، وسلبوا منه إبداعه، فهو والبطل عاشا نفس الوضعية، لكن البطل في الرواية كان رد فعله هو القتل، لكن دوستويڤسكي عاش الفقر وعانى وواجه المُرابي بحرب أخلاقية. (المترجم).
[44] - لمَّا نتحدث عن دوستويڤسكي الذي ولد سنة 1821، وتوفي سنة 1881، فإننا لا نعتقد أن نيتشه الذي ولد سنة 1844، وتوفي سنة 1900 قد مارس تأثيرا على دوستويڤسكي، فهل الآراء الَّتي صرَّح بها نيتشه حول الإنسان الأعلى كانت متداولة في ستينيات القرن التاسع عشر، مع العلم أنَّ رواية "الجريمة والعقاب" صدرت سنة 1866، لا نعتقد ذلك، لأنَّ كتاب نيتشه الَّذي تضمن فكرة الإنسان الأعلى، والَّذي هو "هكذا تكلم زرادشت"، صدر بعد موت دوستويڤسكي بعامين؛ أي سنة 1883. (المترجم).
[45] - Sonya شخصية أساسية في رواية "الجريمة والعقاب"، هي صديقة راسكولنيكوڤ والمساعدة له على الاعتراف والتوبة، تصوِّرها الرِّواية على أنَّها فتاة طيبة وعميقة الإيمان بالمسيح، رغم اضطرارها لامتهان الدَّعارة من أجل مساعدة أسرتها. (المترجم).
[46] - Prince Mishkin هو الشَّخصية الرَّئيسة في رواية "الأبله" تصوِّره الرِّواية على أنَّه شابٌ روسي نبيل أصيبَ بمرض الصَّرع، وتم إرساله إلى سويسرا من أجل العلاج، ولمَّا رجع ذهب عند أحد أقربائه إلى مدينة سانت بطرسبورغ، حيث تعرَّف على بنات قريبه الثَّلاث، إذ أحب أصغرهن أغاليا، الَّتي لقبته بالأبله لكثرة طيبته وعفويته. تعكس شخصية الأمير ميشكين السَّيد المسيح الإنسان الطَّيب والرَّحيم والعفو. لكن غرض دوستويڤسكي في هذه الرِّواية بيان المظاهر اللاأخلاقية السَّلبية المُتفشية في المجتمع الرُّوسي الَّتي تقابل الفضائل العلية بالاستهزاء والسُّخرية، فالأبله في الرِّواية ليس هو الأمير ميشكين، وإنَّما هو المجتمع الرُّوسي المريض. (المترجم).
[47] - A. Boyce Gibson فيلسوفٌ بريطاني (1900-1972)، اهتم بالفلسفة الحديثة، وله كتاب "فلسفة ديكارت"، كما اهتم بفلسفة الدِّين، له كتاب "الإلحاد والنَّزعة التَّجريبية" (1970)، وأشهر كتبه "دين دوستويڤسكي" الَّذي صدر بلندن بعد سنة من وفاته، أي سنة 1973. (المترجم).
[48] - Kirillov من الشَّخصيات الرَّئيسة في رواية "الشَّياطين"، تصوره الرواية كشاب مُهندس مشبع بالأفكار العدمية، فهو يعتقد أنَّ لا سبيل للتخلص من الخوف من الموت إلاَّ عن طريق الانتحار، وبفضل الانتحار يُحقِّق الإنسان إرادته.
[49] - Shatov من الشخصيات الرَّئيسة في رواية "الشياطين"، فهو طالب مطرودٌ من الجامعة من جهة، ومُطاردٌ من المنظمة السرية التي ينتمي إليها من جهة ثانية، كانَ قتلُه سببا في الكشف عن خُبث هذه الجماعة السِّرية. (المترجم).
[50] - Stavragin من الشَّخصيات الرَّئيسة في رواية "الشَّياطين"، تصوِّره الرِّواية كشخص أرستقراطي مُضطرب وغريب الأطوار، يعيشُ حياة بوهيمية، وعاطل عن العمل، تزوَّج من امرأة مخبولة على نحو غير شرعي ليحكم سيطرتَه عليها. (المترجم).
[51] - James Scanlon هذا الباحث مغمور، ولم نحصل له على ترجمة، ولكنَّ كتابه "دوستويڤسكي المفكر" اشتهر بين النقاد والباحثين أكثر من شخصه. (المترجم).
[52] - هذه الكتاب هو الَّذي استلهم منه ڤلاديمير لينين مشروعه الإيديولوجي "ما العمل". (المترجم).
[53] - Nicholay Chernyshevsky فيلسوفٌ مادي، وناقدٌ اشتركي ثوري من أصل روسي (1828-1889). (المترجم).
[54] - Jeremy Bentham (1748-1832) فيلسوفٌ، ورجل قانون، ومصلحٌ اجتماعي إنجليزي، يُعتبر من المؤسسين للمذهب النَّفعي. (المترجم).
[55] - John Stuart Mill(1806-1873) فيلسوفٌ، ومفكر اقتصادي بريطاني، يُعتبر من الدعاة الأوائل إلى النَّفعية واللِّبرالية. (المترجم).
[56] - Dmitrievich Levin قسطنطين دميتريڤيتش ليڤين، أبرز شخصيات رواية "آنا كارنينا" لتولستوي، فهو رجل إقطاعي يبلغ من العمر اثنتين وثلاثين سنة، كان خطيبا للأميرة كيتي، الشَّقيقة الصغرة لدولي، وأحد أصدقاء ستيڤا القدامى، تصوره الرواية بأنَّه رجلٌ مٌكابد ومثابرٌ يسعى للخروج من بوتقة الشَّك إلى الإيمان، تعكس هذه الشَّخصية كاتب الرِّواية ليو تولستوي حسب ما جاء في اعترافاته. (المترجم).
[57] - Grand Inquisitor المفتش الكبير، فصل وقصة داخل رواية "الإخوة كارامازوف"، رواها إيڤان كارامازوڤ في قالب شعري لأخيه الأصغر أليوشا، وتحكي عن رجوع المسيح، وبعثته بإشبيليا، حيث توجد محاكم التَّفتيش، ولمَّا التف الناس حوله وعرفوه بمعجزاته؛ إذ رد بصر أحد العميان، ورد الحياة لفتاة ميتة. لكن، لمَّا مرَ كبير المُفتشين، الممثل الأعلى للبابا في الكنيسة الكاثوليكية، على المسيح، والنَّاسُ حوله، أمر باعتقاله، ودخل عليه في الزِّنزانة، وتوعَّده بالإعدام حرقاً، فرغم أنَّه عرفه بأنَّه المسيح، لم يترك له فرصة للكلام، وعامله كما يُعامل المهرطقين، الَّذين قتل منهم الكثير، فالمُفتش الكبير يلوم المسيح على رجوعه المُزعج، فبما أنَّ أمر الدِّين أصبح بيد البابا، فرجوع المسيح لا وزن ولا قيمة له، وتنتهي القصة بإطلاق سراح المسيح. وعلى العموم، فهذه القصة تحتمل تأويلات عدة، وقد تناولَها الكثير من النُّقاد والفلاسفة بالشَّرح والتَّعليق، لا يتسع المحال لسردها هنا. (المترجم).
[58] - Victor Hugo (1802-1885) أديبٌ، وشاعر، وروائي فرنسي. (المترجم).
[59] - Charles Dickens (1812-1870) روائي، وناقد اجتماعي إنجليزي. (المترجم).
[60] - George Sand (1804-1876) أديبة، وروائية فرنسية. (المترجم).
[61] - Smerdyakov هو الابن الرَّابع لفيودور كارامازوڤ، ولدٌ غير شرعي لأم مُختلة، تُوفيت بعد ولادته، عملَ خادماً في بيت أبيه، صوَّرته الرِّواية بأنَّه حقودٌ وعنيفٌ، فقد كان يقتل القِطط، كما كان المسؤول الفعلي عن قتل أبيه؛ وذلك بتأثره بآراء أخيه إيڤان الإلحادية، وبالخصوص رأيه القائل إنَّ كلَّ شيء مباح مادام الله غير موجود، وهذا الرَّأي هو الَّذي شجَّعه على قتل أبيه. لقد اعترف لأخيه إيڤان بالقتل بعد القبض على أخيه الأكبر دميتري واتهامه بالقتل، لكن لما ذهب إيڤان إلى المحكمة ليخبر القاضي بأنه هو المسؤول عن قتل أبيه وليس دميتري، انتحر سميردياكوڤ، وانعدم الدَّليل حول براءة أخيه دميتري، وتم تحميله المسؤولية لوجود قرائن تجعله مذنباً. يُمثِّل سميردياكوڤ في الرِّواية الغباء والجهل والاتباع الأعمى. (المترجم).
[62] - Gruchenka فتاة عشرينية، في غاية الجمال، تُصوِّرها رواية "الإخوة كارامازوڤ" على أنَّها بائعة هوى، ومحط صراع بين حب الأب فيدور وابنه دميتري، وهي من أهم الأسباب في تأجيج الصِّراع بين الأب وابنه، بحثت في الأخير عن التَّوبة والندم عما اقترفته بعد لجوؤها إلى أليوشا الشَّاب المُتديِّن والورع.
[63] - Madame Hohlakov شخصية ثانوية في رواية "الإخوة كارامازوف". (المترجم).
[64] - شخصية إليوشا Ilyusha، ليست شخصية أليوشا Alyosha الَّذي يعتبر من أبناء فيدور كارامازوڤ، وإنَّما هو ابن القبطان الَّذي اعتدى عليه دميتري كما جاء في رواية "الإخوة كارامازوڤ". (المترجم).
[65] - Grigory شخصية ثانوية في رواية "الإخوة كارامازوڤ".
[66] - Julian W. Connollyأستاذٌ جامعي معاصر بجامعة ڤيرجينيا، متخصِّص في اللُّغات السّلاڤية، له اهتمام كبير بالأدب الرُّوسي، صدر له كتاب "الإخوة كارامازوڤ لدوستويڤسكي" سنة 2013. (المترجم).
[67] - ذَكر الكاتب مصطلح "Epiphany"، الَّذي يفيد "عيد الغطاس" أو "عيد التجلي" أو "عيد الظهور"، فلمَّا صعَد يسوع من الماء، رأى روح الله كحمامة، وسمِع صوتاً يناديه: أنا حبيبُك، كما جاء في "إنجيل متَّى". (المترجم).
[68] - قريةٌ ذُكرت في "إنجيل يوجنا"، تُعتبر المكان الَّذي تجلت فيه مُعجزات المسيح، حيثُ حوَّل الماء إلى خمر، واختلف المؤرخون في تحديد مكانِها. (المترجم).
[69] - David S. Cunningham أستاذٌ جامعي بجامعة هوب، له مُؤلفات عدة حول الأدب الدِّيني أهمها: "الجمعة، والسَّبت، والأحد: تأملات حول المُعاناة والموت والحياة الجديدة" صدر سنة 2008. (المترجم).
[70] - Julia Kristeva فيلسوفةٌ فرنسيَّةٌ من أصل بلغاري، ولدت سنة 1941، لها اهتمام بالنَّقد الأدبي وبالتَّحليل النَّفسي. (المترجم).
[71] - Rowan Williams رجلُ دين بريطاني مُعاصر، ولد سنة 1950 بالويلز، يُعتبر كبير الأساقفة، وزعيما للكنيسة الأنغليكانية الرَّسمية، عُرف بانفتاحِه ودعوته للسَّلام والتَّسامح، دافع عن إدخال بنود وأحكام إسلامية في القوانين والأعراف الإنجليزية، وناهضَ بشدة الحرب على العراق. (المترجم).
[72]- Malcolm V. Jones ناقدٌ أدبي بريطاني، أستاذٌ جامعي بجامعة نوتينغهام، له اهتمام بالدِّراسات السّلافية. (المترجم).
[73]- René Girard (1923-2015) مؤرخٌ، وفيلسوفٌ، وناقدٌ أدبي فرنسي، اشتهر بكتاب "العُنْفُ المُقَدَّسُ"، الَّذي دافع فيه عن الرَّغبة المُحَاكاتية كأصلٍ للعُنف. (المترجم).
[74]- الأولى Linda Kraeger كاتبة أمريكية ألفت مع الثاني Joe Barnhart كتابا مهما تحت عنوان: "دوستويڤسكي حول الشَّر والكفارة: أنطولوجيا الشَّخصنة في روايته الكبرى". (المترجم).
[75]- Steven Cassedy باحثٌ أمريكي بجامعة كاليفورنيا، حاصلٌ على شهادة الدُّكتوراه في الأدب المُقارَن من جامعة برينستون سنة 1979 له كتابٌ مهمٌ حول دوستويڤسكي تحت عنوان "ديانة دوستويڤسكي". (المترجم).