فيلهلم دلتاي والهرمينوطيقا


فئة :  مقالات

فيلهلم دلتاي والهرمينوطيقا

فيلهلم دلتاي والهرمينوطيقا

أسعى في هذه الدراسة إلى تقصِّي جذورَ فكرِ كلٍّ من فولفهارت باننبرغ ومارتن هايدغر حول مقاربةِ عمليةِ المعرفةِ كظَهورة[1] ذات طبيعةٍ تاريخية، وحول مقاربة التاريخ بحد ذاته كحالةِ انكشاف، وحول الطبيعة التاريخانية للحقيقة وانغراسها في تربةِ الهرمينوطيقا الفلسفية التي طورها فيلهلم دلتاي وكذلك في تربةِ فهمه ومقاربته للعلوم الإنسانية. أعود من خلال التوجه نحو مشروع دلتاي إلى المنبع الفلسفي الذي سقى كلٌّ من باننبرغ وهايدغر من مائه حقليهما الفكريَّين وتعلَّما منه، سواء في اتفاقهما مع مضامين هذا المنبع الفلسفي أو في نقدهما لتلك المضامين. سأنظر في هذا الفصل في الادعاءات المركزية والمكونات المؤلِّفَة لكيفية فهمِ فيلهلم دلتاي لعلم الهرمينوطيقا ولطبيعة وماهية العلوم الإنسانية. سأبدأ أولاً بفهمه للهرمينوطيقا؛ لأنه يشكِّل قاعدة تعريفه اللاحقة للطبيعة الخاصة لعملية المعرفة في الدراسات الإنسانية.

  • الهرمينوطيقا وقاعدية مفهوم «الحياة»:

ينطلق فهم دلتاي للهرمينوطيقا من اهتمامه بمفهوم «الحياة» الذي يعتبره مفهوماً مركزياً لكافة أنواع المعرفة. يتفق الباحثون عموماً بين بعضهم البعض على قاعدية مفهوم «الحياة» في فلسفة دلتاي ويرون أنَّ أحدَ أهم مساهمات دلتاي في حقل الفلسفة يتمثّل فيما ساقه حول هذا المفهوم بالذات. في دراسته لفلسفة التاريخ عند دلتاي، يخبرنا هاورد توتّل (Howard Tuttle)، مثلاً، بأنَّ «إنجاز دلتاي المركزي ومصدر تأثيره الأعظم يتمثل في اكتشافه لفكرة الحياة الإنسانية»[2]. كما أنَّ إيزل بولهوف (Isle Bulhof)، في دراستها المهمّة لمقاربة دلتاي الهرمينوطيقية لفهم التاريخ، تقدم لنا الخلفية التاريخية التي تدعم تقييم هوارد توتّل المذكور. فبولهوف تشرح بأنه، أثناء القرن التاسع عشر، سيطرت على المشهد الفكري تساؤلات أساسية ومهمة تتعلق بفكرة «الماضي». وقد تمحور النقاش في تلك التساؤلات حول مسألتين قررتا مسارَ ومصيرَ تلك التساؤلات المتعلقة بفكرة «الماضي»: المسألة الأولى هي سؤال «هل الماضي حقل خبراتٍ لازماني (أي إنه دائري بطبيعته)، أم أنه سيرورة أحداثٍ متزامنةٍ خطياً (أي إنه مُصمَّمَ بشكلٍ غرضي وغائي)؟» والمسألة الثانية هي سؤال «هل تحمل أحداث الماضي معاني حرفيَّة أو توصيفيّة؟»[3].

في ضوء تلك المقاربات الدراسية المذكورة، وفي محاولةٍ لدحضِ الإصرار على خلوِّ التاريخ من المعنى وغيابِ أيِّ ترابطٍ منطقي أو هيكلية في بنيانه بشكل خاص، يطوِّر فيلهلم دلتاي مقاربةً مختلفة لمنطقيّة ومعنى التاريخ وهيكليَّته. يحافظ دلتاي في تلك المقاربة على تقييمٍ إيجابي، مع أنه نقدي، للتفسير الرمزي لظَهورَة التاريخ. ويكمن تميُّز توظيف دلتاي المعدَّل للتفسير الرمزي للتاريخ في تجنّبهِ لاشتقاق معنى التاريخ من أيةِ نقطةٍ أعظميّة (ultimatum) مسبقة التصوُّر ومسبقة التصميم يتم إسباغها على أي حقيقةٍ فوقيّةٍ متعالية (transcendent). بدلاً عن ذلك، يبحث دلتاي عن معنىً للتاريخ يرتبطُ عضوياً بحقيقةِ الحياة ويعبِّر عنها. ضد أيّ محاولةٍ لاختزال التاريخ وظَهورة الحياة بواسطة تَحذُّرٍ مثاليٍّ متطرّف، من جهة، أو نَسبَويَّة- (relativization) اختباريةٍ تجريبيَّةٍ متطرفّة، من جهة أخرى (هذان الخياران اللذان هَيمَنا على ساحة البحث العلمي في القرن التاسع عشر)، يُنتِجُ دلتاي «مُصطَنَعاً ناتجاً عن دمجِ الفرضيةِ بالطرح الذي يدحضها (synthesis) يحاول أن يتجنبَ فيهِ أيَّ تَحــذُّرٍ تجريدي ميتافيزيقي عن التاريخ، لا بل وفيه نوعٌ من المحافظةِ على تاريخٍ محمِّل بمعنى قَبلي»[4]. يحافظ دلتاي على فكرة أنَّ امتلاء التاريخ بالمعاني أمرٌ يمكن اكتناهه من خلال تقابلِ الكائنِ الحيّ والعارِف مع مادة التاريخ الخام في ذاتها، والتي هي بدورها، تلعب دور العناصر المكوِّنة للحياة بحد ذاتها. يكمنُ فَهمُ المعنى الكلي للوجود في تَعريضِ أنفسنا كذَواتٍ عَارفَةٍ للتفسير المكثَّف لحقيقة الحياة البشرية التاريخية والمجتمعية؛ تلك الحياة التي نحن أنفسنا جزءٌ لا يتجزأ منها أصلاً. لا يجب على المفسِّر، لذلك، أن يتَّكل على نَسبِ معانٍ للتاريخ يتم اشتقاقها من منظومات قيمٍ شخصانيّة ذهنيّة أو سيكولوجيّة صِرفة. لا يمكنُ التعويل كليَّاً على منظوماتِ القيمِ تلك فيما يتعلق بالمعرفة. في الواقع، تلك المنظومات لا تتمتع بأيّة موثوقيّةٍ كليّة، وهي لا تتضمَّن مَعنىً مفيداً بمَعزلٍ عن منظومة الشخص المفسِّر المجتمعية الخاصة[5]. يستدعي هذا أن تتأسَّس مركزية مفهوم «الحياة» في عملية المعرفة، وفي الإمكانية المبدئيَّة لتحقيق الفهم، على الدور التكويني الذي يلعبه التاريخُ في تشكيل تلاقٍ بين الوعي العقلي البشري بالذات البشرية، وكذلك في عملية السماح لهذا التلاقي بالحدوث بفضلِ تفاعل الذات العارِفَة مع الحقائق المحيطة بها في الحياة. ينتج عن هذا أنَّ الفهمَ ينشأ، بل ويتطور، من الخبرة ومن فهم-الذات المتجذرَينِ في التاريخ والتفاعل المستمر بينهما. ومن المشروع، لهذا، الاستنتاج بأننا نحقِّقُ معرفةَ أنفسنا ومعرفةَ الآخرين من خلال التاريخ وليس من خلال الاستنباط (introspection)[6]، وهذا بدوره يمكّننا من معرفة السياق الحياتي الذي يجمع ذواتنا وذوات الآخرين مع بعضها البعض.

إذن، فيما يتعلق بمعنى الحياة البشرية (وليس حياة الكائنات الأخرى في الطبيعة) تحديداً؛ فإنَّ العناصر التاريخية أو عناصر الوجود البشري الخام كلها عناصرٌ ذات قيمة أبستمولوجية؛ لأنها محمّلَة بالمعاني. فالسياق الحياتي يتوسَّطُ في عملية نقل معانيه بطرقٍ وأساليبٍ رمزية، وهو سياقٌ يدعو المتلقّي للتواصل معها واستيعابها من خلال ممارسة نشاط التفسير. كما أنَّ تفسير المشهدية الرمزية لسياق الحياة التاريخي البشري يتطلب منا بدورهِ، بحسب دلتاي، انتباهاً حريصاً ومتوازناً لكلٍّ من الأبعاد الذاتية والموضوعية للحياة البشرية. يصف دلتاي هذين البُعدَينِ، كما تخبرنا بولهوف، بالشكل التالي:

إنَّ المعنى الذاتوي لحياة الشخص التاريخية ما هو إلا هيكليّةُ تلك الحياة والتي تَنتُج عن تفسير هذه الفرد لحياتِها في كل لحظة من لحظاتها المتتالية...على الجانب الآخر، فإنَّ المعنى الموضوعي للتاريخ الشخصي ما هو سوى هيكليّة تلك الحياة، والتي ستصبح مرئيّة كلياً في ختام تلك الحياة. عندها، لن يعود هذا المعنى مرموزاً بل سيتحول إلى موضوعٍ مكتمل يمكن معرفتهُ موضوعياً[7].

يعني هذا أنَّ المعنى الذي يولَد من التلاقي مع تاريخ الحياة البشرية، ويَنتُج عن تفسيرِ هذا التاريخِ الحياتي ما هو سوى وظيفة الاتحاد ما بين الجزئي والكلي، ما بين الخصوصي والشامل. إنّه وظيفة الاتكال المتبادل بين الحاضر والماضي والمستقبل على بعضهم البعض، وهو كذلك وظيفةُ الاشتمال المتبادل بين العقل الجوّاني والحاضر البرّاني، في السياق الطبيعي المُعَاش. يدلُّ هذا النوع من العلاقة الهرمينوطيقية مع سياق الحياة، كما يدّعي دلتاي، على أنَّ المرء «لا يمكنه أن ينزع نفسه من الحياة كي يتأمَّل بتلك الذات موضوعياً ومن خارج سياق الحياة. كما أنَّه لا يمكن لأيَّةِ مُراقِبةٍ بشريةٍ أن تتحلى بالموضوعية المُحايدَة حِيَالَ حياةِ الآخر، طالماً أن هذه الذاتَ المُراقِبَة، وكونها إنسانة مثل الآخر المقابل لها، تتشاركُ بتلك الحياة، بمعنى ما، مع ذاكَ الآخر»[8]. يشرح لنا توتّل رؤيةَ دلتاي بالقول إنه إذا ما كانت الحياة البشرية حاضرةً أمام نفسها بطريقةٍ تحقِّقُ اتحاداً بين ذاك الذي يلعب دورَ العَارِف وذاكَ الذي يلعب دورَ المَعرُوف، فمن المنطقي والمشروع إذاً أن نناقش بأنَّ الثنائية الفلسفية ما بين العَارِف والمَعروف ينبغي أن تستحيل إلى حالة وحدةٍ واتحاد بينهما[9]. الحياةُ، بهذا المعنى، ليست مجردَ شكلٍ أو مشهدٍ مظهريٍّ يُخفي وراءهُ ملامحَ القماشة الحقيقية للوجود البشري. على العكس، الحياة هي حالة انكشاف ذاك الوجود البشري في عمق وجوّانية قماشته المباشرة وحُضوره الفوري. الحياة هي مصفوفةُ الفهم والإدراك. وبالنتيجة، الهرمينوطيقا، كنشاطٍ تفسيريٍ يحدثُ ضمن إطارِ حقائقيّة الحياة، هي الوسيلة، أو النافذة، الوحيدة للوصول إلى المعنى المنشود للحقيقة. الحياة عند دلتاي، كما يقول جاكوب أونسبي (Jacob Owensby)، تمتلك سرداً روائيَّ الهيكليَّة، وهو سردٌ تمَّ خلقهُ بواسطة «مصفوفةِ السياقاتِ التاريخية-السوسيولوجية، والتي تكشّفت فيها هذه الحياة»[10]. من الضروري الإشارة هنا إلى أن دلتاي لا يريد أن يقول إنَّ «المباشرة الجوّانية» (inner immediacy) للحياة البشرية تعني أنَّ الشخص البشري الفَرد موجودٌ بشكلٍ حصريٍّ في خصوصيَّته التاريخية. ما يشير دلتاي إليه هو الوجود البشري في كلّانيته، والتي تتضمن، كما يخبرنا توتّل، «كلّانية التواصُل المتبَادل بين الوعي البشري والطبيعة في سياقِ زمانٍ تاريخي». بكلمات أخرى، «الكلّية المنطقيّة لكافّة الخبرات المُعاشَة ليست بأقل من كُلَّانية الوجود الإنساني في زمانٍ تاريخي»[11].

إنَّ انتباه دلتاي للسياق الحياتي واعتباره وسيلة انكشاف الحقيقة البشرية في فوريّتها ومباشرتها يمثّل جوهر اهتمام دلتاي بعلم التفسير واعتقاده بأنَّ الهرمينوطيقا هي الوسيلة الأنسب لتحقيق المعرفة. ولأنَّ دلتاي اعتقدَ بأنَّ المعرفة بحدِّ ذاتها هي عملٌ تفاعلي وتواصلي بين حقيقتين موجودتين تاريخياً، فهو يدعو إلى تطوير علم الهرمينوطيقا بحد ذاته ونقله من مجرد «منهجية تفسير لنصوص وسجلات مكتوبة» إلى «مسارِ تحليلٍ لعملية فَهم واستيعاب فعل التفسير بحد ذاته». بالنسبة إلى دلتاي، هذا الفهم الجديد للهرمينوطيقا وطبيعتها ودورها هو المقاربة المناسبة لتحقيق المعرفة لأنه 1) يُظهِر أنَّ التفسير والفهم أفعالٌ ديناميكية حيّة وفاعلةٌ في الحياة بحد ذاتها، 2) ولأنه يعبّر عن انعطافةٍ محوريّةٍ من النصوص المكتوبة إلى العالم التاريخي الواقعي[12] في عصرٍ حداثويٍّ كانت فيه العلوم الإنسانية تُعتبَر علومَ دراسةِ ومقاربةِ «نصوصٍ» مكتوبة (textuality) ورثناها من الماضي أو ألّفناها في الحاضر، ليس إلا. بإعادة تفسيره لمعنى الهرمينوطيقا، يدفع دلتاي الباحثين في العلوم الإنسانية وكذلك الفلاسفة واللاهوتيين الألمان أمثال هايدغر وباننبرغ كي يستنتجوا أنَّ الفهمَ لا يتحقَّق بواسطة التأمُّل فقط بالأنماط التعبيرية المكتوبة والكلمات المدوَّنة والتعبيرات الأدبية. بل إنَّ الفهم يَنتج بشكل أكثر جوهريّة عن إعادةِ تكوينٍ نقدية حوارية لبعض سياقات الحياة من خلال محادثاتٍ حول أنماطِ تفكير كائناتٍ موجودةٍ في الحياة[13].

بدل أن يعزو اختراع هذا المفهوم لنفسهِ شخصياً، يعيد دلتاي بنزاهةٍ علمية معتَبرة أصول فهمه المذكور للهرمينوطيقا للعمل الريادي لللاهوتي الألماني فريدريش شلايرماخر[14]، وهو يقول إنَّ كل ما يفعله شخصياً هو أخذ ما بدأ به شلايرماخر إلى خواتيمه الأبعد[15]. وهو يثمّن الهرمينوطيقا مبدئيَّاً؛ لأنها تقوم على نموذج تفاعل علاقاتي بين مُفسِّر النص، أو مُفسِّر الحدث، وبين مؤلِّف هذا النص أو فاعِل هذا الحدث. ما الذي يجعل مثل هكذا تفاعلٍ بين طرفين حيَّين ممكناً في الدرجة الأولى؟ يجيب دلتاي بأنَّ كليهما، المؤلِّف/الفاعِل والمفسِّر على حد سواء «تكوَّنا من طبيعة بشريّة مشتركة، ما يجعل من الممكن أن يتقاسم البشر أحاديثَ ومفاهيمَ مشتركة بين بعضهم البعض»[16]. على قاعدة هذا التواصل، لا يُشكِّل المفسِّر فقط فهماً نسبوياً منحازاً لمكونات معينة، تاريخية، منطقية وقواعدية تكوِّن السياق الكلي لموضوع المعرفة. أضافةً لهذا، يكتسب المفسِّر كذلك نظرةً موثوقةً لسياق العارِف الحياتي الكلّي من زاوية علاماته وعناصره المعروفة بشكل نسبي. يأخذُ هذا البُعد العلاقاتي لعملية إعادة التركيب الهرمينوطيقية للسياق الحياتي بعين الاعتبار العلاقة العضويّة بين الكل وأجزائه. وهو يجمع معاً الخلاصات التالية: 1) «الفهم الكلي للأجزاء الفردية يفترض فهماً للكل العام»؛ 2) «كل فهمٍ يبقى دوماً فهماً نسبياً ولا يمكنه أبداً أن يصير فهماً كاملاً»[17]. لا تعود النسبية والكلَّانية، من زاوية مقاربة الحياة، عناصرَ متعاديَة أو متضادّة هرمينوطيقياً. بل إنها تصبحُ في الواقع أبعاداً تكمِّل بعضها البعض. وهما يتوسطان معاً في تقديم السياق التاريخي للحياة، ودورهما ينبثق من عملية مَظهَرَةِ كلٍّ منهما لتاريخانيّة سيرورة معرفةِ الحياة. يمكن اكتناه تلك التاريخانيّة أيضاً في سيرورة استحالة الفهم وانتقاله من حالة استِبطان إلى حالة تفسير. أي إنَّ تلك التاريخانيّة تنتج من الاتكال العضوي المتبادل ما بين الهرمينوطيقا والتاريخ في علاقتهما بحقيقة العيش في الحياة. يبني رودلف ماكرييل (Rudolf Makkreel) على هذا الاتكال العضوي المتبادل بين الهرمينوطيقا والسياقية التاريخية في دراسته لفلسفة دلتاي، فيقول إنَّ فهم الأخير للهرمينوطيقا يشير إلى انتقال أبستمولوجي هام في تقييم خبرات الحياة من عملية تقييم «قيَمي» إلى عملية التعاطي معها وفق تقييم «تَفسيري عملي»[18]. يعمل دلتاي لمناهضة طرحين فلسفيين أبستمولوجيين: الأول هو التشديد أحادي الجانب على الافتراضات الذهنية الماورائية التي يتم عادةً افتراضها في التفكير العقلي المحض حول أيةِ خبرة. والثاني هو الاعتماد الأحادي الجانب على المخيال الذاتوي السيكولوجي للفرد في عملية إعطاء الخبرات معانيها. ضد هذين الخيارَينِ الأبستمولوجيَّينِ، يطوِّر دلتاي فهماً تاريخولوجيّاً مؤهَّلاً كي يتمَّ اعتباره «معياراً منهجياً لاختبار موضوعيّة ادعاءاتٍ ذهنيةٍ تتعلق بالتاريخ»[19]. تدلُّ إمكانية اختبارِ مدى موضوعيّة تلك الادعاءات الذهنيّة على أنَّ الهرمينوطيقا ليست مجردَ معيارٍ لفهم الموضوع المُفسَّر، بل هي كذلك مرجعيةٌ لعملية فهم الفاعِل المُفسِّر لذاته. بانفتاحِ المرءِ على نفسه بصفتهِ مـــُفسِّراً، فإنَّ تفسيرهُ يزوِّده بسياقٍ حياتيٍّ محدَّد يرتبط بالوجود يساعده على إدراكِ إمكانياته ومحدوديته على حد سواء. يدفع هذا المُفسِّر، بالتالي، كي يتأمل في ذاته من خلال تفسير وجودهِ بصفته تعبيراً عن حالة وجود تاريخية جديدةٍ تختلف عما كان يمكن للمفسِّر أن يكون مُدرِكاً له وكذلك مُدرِكاً لما هم الآخرين عليه[20]. ضمن إطار المعرفة هذا، لا يُقصي كل من الفهم (understanding) والخبرة (experiencing) بعضهما البعض ولا يختلطان معاً ولا يخضعُ طرف منهما تراتبياً للآخر، وكأنَّ لدينا طرفاً فاعلاً يقوم بإخضاع طرفٍ مغايرٍ له. يصبح، إذاً، كلٌّ من الفهم والاختبار عنصرين تكوينيَّين لبعضهما البعض بصورةٍ تبادليّةٍ وثنائيّةِ الاشتمال من خلال حدوثهما ضمن سيرورة تفسيرٍ تاريخانيّةٍ قائمةٍ في ذاتها؛ أي يصبحانِ نمطَي نشاطٍ محدَّدَينِ وموجودَينِ في سيرورة من الاستيعاب والإدراك وكجزءٍ من تفاعلٍ تاريخانيٍّ بين عنصرٍ جوّاني وآخرٍ برّاني، أو بين الذات والآخر.

إنَّ الصلة العضوية بين ناحية فهم الذات وناحية فهم الآخر، بصفتهما حقيقتَينِ حيَّتَينِ، هو المنطق الداعم الرئيس لدمج دلتاي للهرمينوطيقا كعلمٍ تاريخانيِّ التوجُّه، من جهة، بالتاريخ في ذاتهِ بصفته حياةً يتم مواجهتها هرمينوطيقياً، من جهة أخرى، ومن ثم لجمعه بينهما في إطار حلقةٍ أبستمولوجيةٍ واحدة. كما أنَّ تلك الصلة العضوية تكمن في أساس توظيف دلتاي لتلك الحلقة الأبستمولوجية في عملية استيعاب الكلَّانيَّة من خلال خصوصياتها وكذلك في عملية إدراكِ تلك الخصوصيات من زاوية اللوبِ عن الكلَّانيَّة. يتكررُ هذا المسارُ الدائريُّ، برأي دلتاي، على صورةِ فهمٍ ترميميٍّ (reconstrcutive): في البداية، يحتوي هذا الفهم ضمنه حالة الكليّة (whole) بصورة شعورٍ جوّاني (premonition) أو بهيئةِ فكرةٍ موجودةٍ في الحاضر (Ahnung)، إلَّا أنه يقوم لاحقاً بالارتقاء بحالة الكليَّة إلى مرتبة الإدراك الواعي الذي يتأسَّسُ على معرفة الخصوصية الجزئية[21].

في مقالته المُعَنوَنَة «فهم الأشخاص الآخرين وتعبيرات حيواتهم»، يوضِّح دلتاي مقولته التي أوردتُها في الأعلى مبيِّناً علاقة كل من التاريخ والهرمينوطيقا الوثيقة بتفسيره لعملية الفهم، بصفتها سيرورة إعادة-عيش الماضي وإعادة-إنتاجٍ له من خلال التفاعل مع خبراتٍ حاضرة تشترك مع هذا الماضي بصفاتٍ محددةٍ ثابتة. يسمِّي دلتاي المنهجية البنيوية لفهم تلك الصفات الحياتية المشتركة الثابتة «التفسير» (exegesis)، ويسمِّى الحقل العلمي الخاص بعمل التفسير المذكور «هرمينوطيقا»[22]. يبيّن نقاش دلتاي في مقاله المذكور بأنه يسير بالهرمينوطيقا ما وراء حدود الانتباه للحالة السيكولوجيّة للطرف المُنتِج لتلك التعبيرات. دلتاي يقارِب الهرمينوطيقا على أنها نمطُ الفهم الذي يركّز على العلاقات بين العناصر التعبيريّة وبين العنصر الذي يتم التعبير عنه بها (أو عن العلاقة بين الانكشاف والعنصر المُنكَشِف) وذلك في حالةِ تموضعِ تلك العلاقات وحضورها الكلَّاني بالتحديد. لا يُعيد دلتاي تشكيل الميكانيكية الذهنية للعقل العَارِف بواسطة ما يدركه هذا العقل نظرياً أو مفاهيمياً. بل إنه يجعل من الهرمينوطيقا عملية تركيزٍ على كلَّانية الحياة الكامنة في «نقلِ وإعادةِ وتركيبِ واسترجاعِ» الخبرات الملحوظة وفقاً لما تم استيعابه وفهمه عن تلك الخبرات[23]. الهرمينوطيقا شكلٌ من أشكال الإدراك الاستقرائي الذي تقوم مكوناتٌ منفصلة بالاتحاد معاً في إطاره[24]. إنها شكلٌ من أشكال التلاقي الأبستمولوجي الذي يهدف إلى الجمع بين النسبي والكوني وبين الجزئي والكلّي بصفتهما منظومة واحدة وحيدة.

يعود الفضل في تطوير مثل هكذا هرمينوطيقا إلى خطاب دلتاي عن تاريخانيّة المعرفة. في الواقع، فإنَّ انتباه دلتاي لتاريخانيّة أيِّ سياقِ حياة هو الذي يجعل علم الهرمينوطيقا اليوم يشدّد على أنَّ الفهم يتجذَّرُ بعمقٍ في السياق التاريخي الذي تحدث فيه أيَّةُ عملية أبستمولوجية، هناكَ حيث يحضر المُفسِّر (interpreter) والمُفسَّر (interpretant) ويتكوَّنان على حد سواء. يشير جون غولدنغاي (John Goldingay) مصيباً إلى أنَّ هذا التشديد الدلتاوي هو أحد المساهمات الرئيسة التي نتجت عن اعتقاد هذا الأخير بأنَّ «الكائن البشري كائنٌ تاريخي» يتشكَّل في التاريخ ويأخذ حضوراً وصورةً من التاريخ[25]. تقود القناعة الدلتاوية المذكورة المفسِّرين للقول بأنَّ «فائدة ونجاعة كلمة 'هرمينوطيقا' غير العاديَّتين تكمنان في جذبها الانتباه للإدراك الجديد بأننا نفهم مهمّة الفهم بحد ذاتها بشكلٍ تاريخانيٍّ صارم»[26]. زِدْ على ذلك، أنَّ هذا الانتباه للتاريخانيّة هو الذي يُنذر الهرمينوطيقا ويحذِّرها باستمرار كي تبقي على علاقةٍ متوازنةٍ بين الموضوعي والذاتي ضمنَ إطارِ دائرة الهرمينوطيقا. تلك التاريخانيّة هي التي تقنع المفسِّرين بأنَّ التفسير «الأكثر ذاتويّة» هو عَينه التفسيرُ «الأكثرُ موضوعيّة»، فالإنسانةُ الوحيدة التي يمكنها أن تسمع أقوالَ النصوص هي التي يُحرِّكها سؤالٌ يتعلق بوجودها وحياتها عينها[27].

  • العلوم الإنسانية وانكشاف «الكلَّانية» التاريخي:

الإسهام المعرفي الهام الثاني الذي قدمه دلتاي في مشروعه الفلسفي هو فهمه للعلاقة بين العلوم الطبيعية (والتي فُهمَت بشكل ميكانيكي وتقاني تطبيقي في القرن التاسع عشر) وبين العلوم الإنسانية (Geisteswissenschaft)[28]. باكتناه نقاطِ التماثل والتفارق بين هاذين الحقلين المعرفيين، يطوِّر دلتاي رؤيته الخاصة للعلاقة بين «المادة» و«العقل»، وبين المثالي والاختباري، وبين العالم البرّاني وعالم الذات البشرية الجوّاني. وعلى قاعدة العلاقة بين المادة والعقل، يؤسِّس دلتاي توصيفَهُ للوحدة بين المعرفة بصفتها هرمينوطيقا وبين الحياة بصفتها تاريخ.

يعتقد شارلز بامباخ (Charles Bambach) بأنَّ الذريعة التي يعتمدها دلتاي للتركيز على الدراسات الإنسانية تتمثل في التساؤلات التالية: «كيف يمكننا أن نؤمِّن معرفةً علميةً للعالم البشري تكون معرفةً 'علميةً' حقاً، أو wissenschaftlich، تشبه ببنيتها تلك المعرفة للطبيعة التي نحصل عليها بواسطة العلوم الطبيعية التطبيقية؟ هل من الممكن تطوير فهمٍ موثوقٍ علمياً للحياة لا يكون بالضرورة علماً نظرياً أو فكرياً صرفاً، بل ينبثق من سياق الحياة بحد ذاته؟»[29] كافة مؤلفات دلتاي حول مواضيع السيكولوجيا، الأنثربولوجية، الحياة والهرمينوطيقا تقاربُ جميعها تلك التساؤلات، وتسعى لإظهار أنَّ الإطار الجامع العام لكل تلك الحقول ما هو إلا العلاقة بين «التاريخ» و«الفهم»، والتي تُسمى علمياً «الهرمينوطيقا»[30]. الهرمينوطيقا، أو المشروعية العلمية لإمكانيتها المحضة، تعبِّران بالنسبة إلى دلتاي عن موثوقية قدرة الإنسان على فهم الذات البشرية والمجتمع والتاريخ من-داخل الحضورِ والتواجدِ الديناميكي للحياة المتمثِّلة بصورة سيرورة زمانية. يقول دلتاي إنَّ المعرفة «لا تتطلب بُنياناً معمارياً نظرياً (architectonic)، إذ إنَّها تتجذر في الخبرة الواقعية الفعلية للحياة في ذاتها»[31]. كل فحصٍ ودراسة لعملية الفهم ينبثقان من تفاعلٍ بين العارِف والآخَر المَعروف انكشافياً، وينبغي أن يبدأا من الخوض في دراسةِ تاريخ العَارِف وتاريخِ انكشاف الآخر المَعروف على حد سواء. دراسةُ تاريخ العارف والمَعروف هو مكوِّنٌ جوهري لنظرية المعرفة الناظمة للهرمينوطيقاً قبل سواها. وبما أنَّ أول الإشكاليات الأبستمولوجية التي تواجهنا في العلوم الإنسانية هي تحدي التمكُّن من تحليل ميكانيزمات الفهم، فإنَّ هذا يجعل من الهرمينوطيقا، كما يؤمن دلتاي، أداةَ الاستيعابِ القاعديّة بالنسبة لتلك العلوم. إذاً، فالانطلاق من إقرار مُتطلَّب تحليل ميكانيزمات الفهم ومن ثم إيجاد منهجٍ ملائمٍ للقيام بالتحليل المذكور ما هو إلا التوجُّه الأكثر نجاعةً للتعاطي مع التساؤل حول الطبيعة ومؤسِّسات العلوم الإنسانية[32].

بالرغم مما سبق، ما هي نقطة ابتداء نشاط المعرفة في العلوم الإنسانية؟ يعتقد دلتاي بأنَّ ملاحظة الأشياء والأشخاص واختبارها والتلاقي معها في سياقات الحياة اليومية هي نقطة الانطلاق المطلوبة. التفاعل الذي نقوم به مع المحيط الطبيعي يُزوِّدنا بمعرفةٍ عن أنفسنا وعن العالم وعن الآخرين. وما نلاحظه حولنا لا يمثّل حالةً تلبَثُ أمام أعيُننا وكأنها أفعالٌ أو كياناتٌ حيادية وسلبية. ما نلاحظه هو أشياءٌ تلعب أدواراً فاعلة ومؤثّرة وتقدم إسهاماتها لعملية المعرفة؛ تلك الإسهامات التي يتم إدراكها تبعاً للرابط الذي نقيمه في عقولنا بين تلك الأشياء في واقعيتها ووجودنا الساكن في التاريخ. سيحافظ مثل هذا التواصل الأبستمولوجي المبدئي مع سياقات الحياة على طبيعة موضوعية ومتوازنة «علمياً» (حُرَّة من التحيُّز) طالما أننا نعترف بأنَّ الأمور التي ندرسها (سواء أكنا ندرس أشخاصاً أو مفاهيمَ مثلاً) «ليست مجرد مواضيع خاضعة لوجهة نظرنا أو فلسفتنا أو قيمنا أو اهتماماتنا الخاصة والذاتية»[33].

يستطرد دلتاي بإسهاب في مقالته المُعَنونَة «بُنيانُ العالم التاريخي في العلوم الإنسانيّة»، الموجودة في المجلد السابع من أعماله المختارة، في الحديث عن عملية تحليل ميكانيزمات المعرفة في خبرات الحياة اليومية، وعلاقة هذا التحليل بالصِّلَة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية[34]. في المقالة المذكورة، يشير دلتاي إلى مجموعة متكاملة من الدراسات التي تبحث بشكل مشترك في موضوع الكائن البشري ومشاكل الحياة المتعلقة بهذا الكائن[35]. وفي إطار تحليلات تلك الدراسات المتعلّقة بالكائن البشري، يأخذ دلتاي بعين الاعتبار كلَّاً من الأبعاد الذهنيّة والماديّة للوجود الإنساني، مستوعباً أنَّ الإنسان ليس مجرد عقلٍ تجريديٍّ صرف، لأنَّ الإنسانية جزءٌ لا يتجزأ من العالم الطبيعي وتحمل في بنيتها صفات هذا العالم الزمكانية. كما أنَّ الطبيعة بدورها لا توجد في انفصالٍ موضوعي عن العقل البشري، بل إنَّ الطبيعة «فَاعِلَة في غرائزنا المجرّدة واللاواعية» يقول دلتاي[36]. تصبح وحدة العقلي بالمادي، أو وحدة الذاتوي بالموضوعي، بالنتيجة، واحدةً من المبادئ التأسيسيَّة لدراسات العلوم الإنسانية.

هل يعني هذا أنَّ التمييز في العلوم الإنسانية بين «العقل» و«المادة»، بين الذاتوي والموضوعي، أمر غامضٌ ومشوّش؟ وهل يصيب هانز جورج غادامر (Hans-Georg Gadamer) في قناعته بأنَّ ما يجعل عملية المعرفة التاريخية ممكنة برأي دلتاي هو «تجانس الذات والموضوع»[37]؟ وهل يكون فهم غادامر هذا تفسيراً صائباً لوجهة نظر دلتاي عن العلاقة بين الذات والموضوع؟ يعتمد جواب هذه الأسئلة على معنى كلمة «تجانس» (homogeneity). إذا كانت «تجانس» تعني مُمَاهاة كليّة للذات بالموضوع، وإذا كانت «تجانس» بمعنى «مماهاة» هي ما يفترضُ دلتاي ويبني عليه في مقاربته للطبيعة العلاقاتيّة للمعرفة وللصِلَة بين العقل والمادة، فإنَّ غادامر عندها مصيبٌ في قوله بأنَّ «التجانس لا يحلُّ، بدايةً، إشكالية التاريخ الأبستمولوجية (أي العلاقة بين الأجزاء والكل). لا بل إنَّ فكرة التجانس تعني اجتناب الخوض بالإشكالية وعدم التعاطي معها، فهذا الفهم لا يعطي مبدئيَّاً جواباً للسؤال التالي: كيف ينتهي الأمر بخبرات الفرد، وبمعرفة تلك الخبرات، بأن تصبح خبراتٍ تاريخانيّة؟ كما أنَّ هذا الفهم لــــ 'تجانس' لا يكشف، ثانياً، كيف يمكن لخبرة الفرد الشخصية الخاصة أن تتحول إلى تعبيرٍ عن حياة تاريخانيّة مستمرة في معناها الكلي»[38].

خلافاً لهذا، لا يستخدم دلتاي «تجانس» بمعنى التماهي الكلي، أو حتى الاختلاط، حين يوظفها للحديث عن الصِّلة العضوية بين الذاتوي والموضوعي. تجنُّب دلتاي للمنطق السيكولوجي الذي يدعم معنى «المماهاة»، بالرغم من إقراره بالصلة الممتدة والمستمرة بين العقل والعالم، يكشف لنا بأنه لا يسير في خطا منهج إمانويل كانط أو جورج هيغل، حيث يقوم المذكوران بتحويل الافتراض العقلي إلى حالة مثاليّة ويختزلان واقعيّة وحقيقيّة الحياة إلى عنصر مفاهيمي قبلي (apriori) ضمن حدود العقل وحده دون سواه: أي إنَّهما يُماهيان بين الواقع والتفكير، بين المادة والعقل. حتى انتباهُ دلتاي للكائن الفرد التاريخي لا يتم على قاعدة دعم خيار الاختلاط (conflation) أو التماهي الكلي (total identification). يعتقد دلتاي بأنَّ تفسير الجزئيات التاريخانيّة يقود في المحصلة العظمى إلى خلق حالةِ تلاقٍ مع المعنى في كلَّانيَّته العظمى. صحيحٌ أنَّ الكائن الوحيد المفرَد هو الوسيط الأبستمولوجي للحياة في كلانيتها. إلا أنه مجرد وسيطٍ (medium) ولا يمثِّل النهاية القصوى أو الغاية الأخيرة (ultimatum) ولا يختزلها به. لا يوجد ما يفسِّر ابتعاد دلتاي عن خلط الذاتوي بالموضوعي أفضل من اهتمامه بتحقيق نقلةٍ أبستمولوجيةٍ من التأسيس السيكولوجي إلى التأسيس الهرمينوطيقي للمعرفة وكذلك من قناعته بأنَّ الهرمينوطيقا هي الأداة الوحيدة المناسبة للانتقال من الجزئي إلى الكلي دون الخلط بينهما.

إنَّ وصف إرنست ترولتش (Ernst Troeltsch) لطرح دلتاي برحلةٍ «من النسبوية إلى الكلَّانية»[39] هو تعبيرٌ يعبِّر عن عدم تشجيعِ دلتاي لأيةِ مماهاةٍ كلَّانية للذاتوي بالموضوعي في مشروعه الفكري. لا يجب أن نقرأه على أنه وصفٌ يثبت لنا أنَّ دلتاي يدعم مثل هكذا مماهاة. دلتاي يتصدى بوضوح لنقد غادامر المذكور في الأعلى حين يقول إن ملائمة وموثوقية (أي لا-تحيُّز) الادعاءات الأبستمولوجية للعلوم الإنسانية تتأكد أو تنتفي تبعاً لدرجة الانتباه الذي تكرّسه تلك الادعاءات لعلاقات «التمايز-في-وحدة» (distinction in unity) و«الوحدة في تمايز» (unity in distinction) ما بين العقل والمادة، وما بين الذاتوي والموضوعي وما بين الحياة وعملية اختبار الحياة أو ملاقاتها.

الابتعادُ عن أيَّةِ مماهاةٍ كلَّانية للذاتِ بالموضوع هي التي تحفِّز دلتاي للاقتناع بأنَّ المحافظة على قِرانٍ ناجحٍ بين الذهني والمادي يتطلب فهماً مناسباً لخصوصية طبيعة وهويّة كلٍّ من الذهني والمادي في حد ذاتهما. يعرِّف دلتاي «الذهني» بصفته اسماً لعلاقات التفكير والتقييم والتوجهات التي نبنيها ضمن اختباراتٍ سياقيَّة ومُسَيقَنَة (contextualized) كي نزوّد تلك الخبرات بهيكلياتٍ معيّنة وكي نخضعها للحكم والتقييم وكي نجعلها مُتاحة للتمحيص والفحص التنظيريين[40]. من جهة أخرى، يعني دلتاي بــــ «المادي» الصوَر والتعبيرات التي تنبثق من معطيات يمكن اختبارها سياقيّاً، وهي وثيقة الصلة بالحياة والأفعال البشرية أو بالواقع «الإنساني-المجتمعي-التاريخي»[41]. تتبدى العلاقة بين «الذهني» و«المادي» في الدراسات الإنسانية، في إطار منهجية الفهم، وكأنها مسارٌ تفسيري يبدأ من المادي ويسافرُ نحو الذهني؛ أي إنَّه ينتقل «من البرّاني إلى الجوّاني» أو «من الخارجي إلى الضِّمني». وهذا يصوِّر ميلاً «لاستخدام كافة تعبيرات الحياة كيما نفهم السياق الذهني الذي تنبثق منه»[42].

من الأهمية الحاسمة بمكان أن ندرك هنا أنَّ دلتاي لا يقول إنَّ حقيقة الحياة المادية تكتسب جوهرها أو كينونتها من نشاطات العقل؛ وكأنَّ الحياة والتاريخ ما هي سوى نشاطات يقوم بها الوعي العقلي المحض. مقاربة دلتاي لا تُنمذِج أمامنا حالة منطقٍ ذاتويّاني (subjectivism) أو منطق سيكولوجيّاني (psychologism)[43]. يقول دلتاي شخصياً لنا في مقالته المذكورة في الأعلى بأنَّ مُمَاهاة الجانب الجواني للعلاقة بين الذهني والمادي بالسيكولوجيا البشرية هو خطأ شائع[44]. حتى ولو لم يكن دلتاي قد تخلى كلياً عن المنطق السيكولوجي، إلا أن فكره الذي كتبه في نهاية مسيرته المهنية، كما يخبرنا هوارد توتَّل، «كان مفعماً بالتاريخانية وبتاريخانيّة الوجود البشري»[45]. يعبّر توتَّل ببلاغة عن تشديد دلتاي على التاريخانيّة بدلاً من السيكولوجيّة بالكلمات التالية:

إنَّ مضمون الروح غير محدودٍ بعد الآن بالأبعاد السيكولوجية الذاتويّة، والتي قد تقع فريسةَ إشكاليات الاستبطان... إنَّ كلَّانية الحياة الإنسانية وتنوعها ينكشفان فقط في التاريخ ومنه، وهذا الانكشاف يشكِّل أرضية مفاهيمنا المشروعة عموماً ويؤرِّضها في حالة تطورية حاضرة... يتحول التاريخ إلى الوسيلة الأكثر مشروعية للتعبير عن وجود الحياة الإنسانية الكَينوني في زمان العالم. تصبح تاريخانيّة الحياة البشرية تلك عنصراً أبستمولوجياً مهيمناً..[46].

يعتمد دلتاي على التركيز على تاريخانيّة الحياة في الكشف عن الطبيعة العلاقاتيّة الجوهريّة للمعرفة، كما يبين بأنَّ إمكانية الفهم تنبثق فقط من اكتناهِ التمايُز بين البُنى العقلية التي يطورها الإنسان بفضلِ التواصلِ الهرمينوطيقي مع اختباراتِ الحياة، من جهة، وبين حقيقة الحياة بحد ذاتها بصفتها أمراً نتلاقى به تاريخياً، من جهة أخرى. ولهذا، وبدلاً من جعلِ فضاء العقل مصدر (Source/arche) الحياة، يخصص دلتاي للعقل دورَ إعطاءِ المعنى والغاية للحياة. بكلمات أخرى، لا مفر من الهرمينوطيقا لجعل الحياة واقعاً ذا قيمة وغائية لأجل الإنسان. إلا أنَّه لا مفرَّ من الهرمينوطيقا للعقل البشري كذلك ولجعل الكائن البشري عميلاً فاعلاً ومتفاعلاً في قلب الحياة، بدل أن تكون الطبيعة البشرية مجرد كيانٍ خاضعة سلبياً واستسلامياً لسواها. يحتاج الكائن البشري لرؤية الطبيعة بصورة حُزمَةٍ هيكليّة من القوانين المنطقية كيما تتحول تلك الطبيعة (nature) إلى حقيقة واقعيّة لأجل الإنسان وحقيقة ذات معنى أمامه. مع ذلك، وفي نفس الوقت، فإنَّ تلاقي الإنسان التاريخي مع السياقات المادية اليومية للحياة هو شرطٌ مسبقٌ لعودة الإنسان للتعمُّق في ذاته الجوّانية ولاكتسابه «معرفة-ذات»، أو ما يمكن أن نسميه «انكشاف-ذات» (self-disclosure).

لا يستخدم دلتاي مصطلح «كشف-ذات» بحد ذاته في كتاباته. مع ذلك، فإنَّ فهمه لمفهوم «معرفة-ذات» يُمظهِر فهماً قريباً في مضمونه المبدئي لمعنى «كشف/انكشاف-ذات». أتحرّى هذا، مثلاً، في حديث دلتاي عن ميكانيزم فهم-الذات عن طريق وضع ذات المرء في جِلد الآخر أو جعلها تسير في خُطى هذا الآخر. يكشف أنطوني ثيسلتون (Anthony Thiselton) اتفاقه مع رأيي هذا حين يقول بأنه، بالنسبة لدلتاي، يكمن فهم-الذات في انكشاف (revelation) التشابهات والاختلافات التي تنبثق في التفاعل السوسيولوجي والتاريخي بين الذات المُفسِّرة والموضوع المُفسَّر[47]. النقطة الأساس التي أحاول تقديمها هنا، في كافة الأحوال، هي أنَّ وجهة نظر دلتاي للصلة بين الجوّاني والبرّاني؛ الفرد والطبيعة، عموماً لا تثبت فقط بأنَّ طرحه يفترق عن الطرح السيكولوجي، بل وإنها تكشف لنا بأنه من المصيب القول بأنَّ نمط تفكير دلتاي يأخذه بعيداً أيضاً عن خطاب المدرسة التتريخائية (historicism). خلافاً للسير في رُكبِ باحثين ألمان من القرن التاسع عشر- أمثال ليوبولد فون رانكه (Leopold von Ranke) ويوهان غوستاف درويسن (Johann Gustav Droysen) في دمجهما للافتراضات الأبستمولوجية للمدرسة التاريخانية بافتراضات المدرسة المثالية الهيغلية والكانطية، فإنَّ دلتاي، كما يلاحظ هانز-جورج غادامر مصيباً، يضع نصب عينيه مهمة «تركيب قواعد أبستمولوجية جديدة وأكثر نجاعةً»؛ تلك المهمة، بحسب غادامر، التي «تجعل غرض دلتاي أن يُكمل طرح كانط في كتابه، نقد للعقل المحض، بأن يضيف إليه نقداً للعقل التتريخائي أيضاً»[48]. ما يعادل هذا في الأهمية، فيما يتعلق بالصِّلَة بين الهرمينوطيقا والتاريخ، من جهة، وعلاقة هذين الأخيرين بمفهوم «معرفة-ذات»، من جهة أخرى، هو قناعة دلتاي بأنَّ العلاقة بين الجوّاني والبرّاني ليست علاقة أنطولوجية وليست بعلاقة ذات أصول سببية (causal)، وإنما هي مجرد تعبيرٍ عن تواصلٍ أبستمولوجي صرف. نستدل على هذا من تجنُّب دلتاي لأية نسخة أبستمولوجية ذاتوية أو سيكولوجية أحادية الجانب إما تقوم بمعاملة الموضوع المُفسَّر بطريقة جامدة ووضعية محضَة بدل أن تتفاعل معه علاقاتياً وتبادلياً. أو نسخة أبستمولوجية تحوّل الذات المُفسِّرة المفردة إلى كائن مطلقٍ منغلق على ذاته. يبتعد دلتاي عن كلا الخيارين المتطرفين وغير المناسبين بشكلٍ واضحٍ ولا ريب فيه.

بالإضافة لما سبق عرضه، يجب القول إنَّ التشديد على التاريخانية لا يدلّ بالضرورة على أنَّ طرح دلتاي ذو طبيعة أنطولوجية وليس أبستمولوجية في بنيته. تأكيد دلتاي على تاريخانية الفهم لا يدلُّ بشكل مبرمٍ بأنَّ الإنسان ليس كائناً كليَّ الحضور والوجود، أو أنها دون كينونة، إلا حين تتمُّ معرفة هذا الإنسان في التاريخ أو بصفته تاريخاً في ذاته. ما يقوله دلتاي هو أنَّ إدراك (perception) الطبيعة البشرية غير ممكنٍ بمعزلٍ عن التواجد التاريخي لتلك الطبيعة. فالتاريخانية الكامنة في ثالوث «الإمكانية، التطور وتجاوز الذات» (possibility, development and self-transcendence) يمكن له أن يكون الأرضية المشروعة للسيادة الإنسانية الأبستمولوجية، بالنسبة لدلتاي، كما يعتقد هوارد توتَّل[49]. إلا أنه من غير الواضح ما إذا كان دلتاي يعتبر كلَّاً من السيادة والكينونة الأنطولوجية مترادفان (synonymous)، أو أنَّ كلَّاً منهما شرطٌ موضوعيٌ للآخر بشكل متبادل. ما تعنية «سيادة» (autonomy) هنا هو قدرة الإنسان على تجاوز حاضرها وتناغمها مع مستقبلٍ أكثر شمولية من خلال استبطان واكتناه الماضي. لا يعني هذا المصطلح تأكيداً على أنَّ جوهر الطبيعة البشرية ما هو سوى نتاج عملٍ أبستمولوجي تاريخي الطبيعة مؤسَّس على قاعدةِ ثالوثِ «إمكانية، تطور، تجاوز-ذات». يدعم دلتاي، إذاً، أبستمولوجية ذات طبيعة تاريخانية مفادها أنَّ «الإنسان بطبيعته كائن تاريخي والطبيعة التي تصنع التاريخ هي تلك التي تفهمه»[50]. وهذا بحد ذاته لا يعني بشكل صريحٍ أنَّ التاريخانية بالنسبة إلى دلتاي هي مصدر (arche) الطبيعة البشرية (كما اعتقد التتريخائيين) وليس مجرد عنصرٍ من عناصر وصفات تلك الطبيعة.

لا يدعم دلتاي تذويب أو ملاشاة (dissolving) الحياة البشرية وتحويلها إلى مجرد تاريخ[51]. وهو يشدد على التورط التفاعلي للذهني بالمادي بطريقة تدلُّ بوضوح على تجنُّب دلتاي لتطرّف الملاشاة. إنه حريصٌ، بدلاً عن ذلك، على الإشارةِ إلى الذاتويّة المتكافئة والمتبادلة بين المَعروف والعارِف ضمن سياق مسار المعرفة. وهو يلحظ اختلافاً أساسياً بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية يكمن في أنَّ العلوم الأخيرة تشدد على تفاعل المُفسِّر مع موضوعٍ مُفسَّرٍ مكافئٍ في الفاعلية وموجودٍ في ذاته بشكلٍ متمايز. المُفسِّر لا يخلق المُفسَّر ولا يجعله موجوداً بواسطة نشاطه (المُفسِّر) الهرمينوطيقي التاريخي. الموضوع المُفسَّر قائمٌ في ذاته، والمُفسِّر يتفاعل مع المُفسَّر في قلب الحياة؛ مكتسباً في قلب هذا التفاعل فهماً لذاته وللآخر ولسياق الحياة الذي يحيط بكليهما. يستثمر دلتاي في تلك الرؤية في معرض دراسته للصفات الخصوصية للعلوم الإنسانية وفي اكتشافه للصلة بين الهرمينوطيقا والتاريخ. وهو يتجنب في نشاطيه المذكورين ملاشاة أو تذويب الطبيعة بالتاريخ. لا شكَّ بأنَّ التاريخانية هي الافتراض القاعدي الكامن في خلفية حديثه عن أنماط الوجود وصفات الكائنات الموجودة على حد سواء. ولهذا، قول دلتاي «طبيعة الإنسان هي تاريخه»[52] لا تعني بداهةً وأُتوماتيكياً بأنه يقبل أن يتحول تاريخ الإنسان إلى طبيعته عينها.

في ضوء النقاش السابق، يمكن للمرء أن يفهم لماذا يتمتع مفهوما «الهرمينوطيقا» و«التاريخ» دون أيِّ مفهومٍ آخر بموقعٍ قاعدي ومركزي في فهم دلتاي للعلوم الإنسانية. جلَّ ما تخدمه العلاقة بين الجوّاني والبرّاني هو غَرضُ الفهم، تماماً مثلما تخدم العلاقة بين الظَّهوَرة (phenomenon) والوسائط التي يتم شرح الظَّهورة بواسطتها في عملية التفكير العلمي والعقلي[53]. بعيداً عن جعل الذهني مصدراً تسبيبياً (cause) والمادي مجرد نتيجة لهذا التسبيب، أو العكس، يتحدث دلتاي عن ما قال عنه هانز جورج غادامر مرةً «مصفوفة التأثيرات»، (matrix of effects)، والتي تدل على العلاقة التي تتمتع بها تلك التأثيرات في تناغمٍ وترابط مع الآخرين[54]. لا يوجد في تلك المصفوفة استعادةٌ تراجعيةٌ (retrospection) من التأثيرات المعطاة لتلك العناصر المشكِّلة لهيكلية الحياة التي تسمح بوجود تلك التأثيرات[55]. يرتكز مسار المعرفة، بدلاً عن ذلك، على علاقة تفاعل بين حقيقتين متكافئتي الفاعلية. وفيها، كلٌّ من المعنى المُدرَك المرتبط بطرفي العلاقة ومكونات هذا المعنى الجزئية على حد سواء ينبثقان من هذا التفاعل. في هذا التفاعل، تبني تلك المكونات إلى جانب بعضها البعض معنىً واحداً جامعاً في كلَّانيَّته. أي إنِّ الكلَّانيَّة تنتج كخلاصة جامعة لكل تلك المكونات الفردية، وإنَّ المكونات الفردية المذكورة لا معنى لها بمعزل عن اجتماعها مع بعضها البعض في صورة كلَّانية متناغمة. يعبّر دلتاي عن هذا الاعتقاد حين يقول «يجب أن يُفهَمَ الكلّي بدلالة مكوناته الفردية، والمكونات الفردية ينبغي فهمها بدلالة الكلّي... إن فهم الجزئي وفهم الكلّي يعتمدان على بعضهما البعض»[56]. بكلماتٍ أخرى، قاعدة الفهم بالنسبة لدلتاي «هي العلاقة بين الجزئي والعام في سياق مسرى الحياة المستمر»[57].

[1] - اعتمد في هذه الدراسة مفردة «ظَهورَة» كبديلٍ عن مفردة «ظاهرة» لتعريب المفردة الإنكليزية التقنيَّة (phenomenon). أتبع في هذا الخيار تفريق الفيلسوف اللبناني شارل مالك بين هاتين المفردتين واقتراحه بأنَّ المفردة الأولى تنجح أكثر في نقل الدلالات الفلسفية للكلمة الإنكليزية من المفردة العربية الثانية. حول تفسير مالك لهذا، انظر: شارل مالك، المقدمة: سيرة ذاتية فلسفية، الطبعة الثانية، (بيروت: دار النهار، 2001).

[2]-H. N. Tuttle, The Dawn of Historical Reason: the Historicality of Human Existence in the Thought of Dilthey, Heidegger and Ortega Y Gasset, (New York: Peter Lang Publishing, 1994), p. 5. انظر أيضاً:H. N. Tuttle, Human Life is a Radical Reality: an Idea Developed from the Conceptions of Dilthey, Heidegger and Ortega Y. Gasset, (New York: Peter Lang Publishing, 2005), pp. 13-21.

[3] - Isle N. Bulhof, Wilhelm Dilthey: A Hermeneutic Approach to the Study of History and Culture, (The Hague, Boston and London: Martinus Nijhoff Publishers, 1980), p. 110 (pp. 111-115). على الصفحات 114-115، تلخّص إيزل أنماط التفكير التي انبثقت من التعاطي مع هذين السؤالين بالشكل التالي: «لقد اعتمد معنى التاريخ بالدرجة الأولى على فهم المؤرخ الكلّي للماضي إما بصفته حقل خبراتٍ، أو بصفته سلسلة أحداثٍ لها معنى. إذا فُهِمَ الماضي كسِلسِلة ذات معنى من الأحداث، فإنَّ معنى ذاك التاريخ سيعتمد في الدرجة الثانية على ما إذا كان يُرى كمُنتَجٍ خلقَهُ العقل أو كمُنتَجِ لقوى طبيعيّة غير مُعقــلنَة. في الحالة الأولى، سيكون للماضي معنىً روحياً بنيوياً. أما في الحالة الثانية، فسيكون للماضي معنىً حرفياً أو تركيبياً. كما يمكن للماضي أيضاً أن يفهَمَ كسلسلة أحداثٍ لا معنى لها. في هذه الحالة، فالماضي إما ذو معنىً رمزي أو حرفي».

[4] - المصدر السابق نفسه، ص. 116

[5] - نفسه، ص. 117. لهذا، يعتقد دلتاي أنَّ «التأكيد على تطور وتقدمية سيرورة التاريخ يعكس بشكل كبير الخبرة الشخصية للمراقب وشعوره بالغبطة للعب دورٍ في الحياة وفي الوجود يمكنه أن يحققه، أكثر من عكسها لاجتهادٍ تنظيريٍّ أصيلٍ هدفه اكتشاف غاية التاريخ وهيكليّته. فكرة التقدُّم والسير قدُماً يمكن لها أن تكون قد اختُرعَت - أو ربما تم إسقاطها على الماضي من خارجه - حتى ولو لم يظهر التاريخ أيَّ تقدمٍ في المسيرة على الإطلاق» (ص. 117).

[6]-Anthony C. Thiselton, New Horizons in Hermeneutics, (Grand Rapids: Zondervan House, 1992), p. 248.

[7]-Bulhof, Wilhelm Dilthey: A Hermeneutic Approach to the Study of History and Culture, p. 118.

[8] - المصدر السابق نفسه، ص. 119. يمكننا في هذا الإطار أن نستوعب بشكل صحيح اعتقاد دلتاي بأنَّ «الأبستمولوجية الخالية من أحكام مسبقة وغير متأثرة بالخبرات الواقعية والاعتقادات الموروثة ما هو سوى وهم» (ص. 145). يمكننا عندها فهم هذا القول دون أن نقرأه بشكل أحادي الجانب أو ناقص.

[9]-Tuttle, The Dawn of Historical Reason, pp. 5-6.

[10] - Jacob Owensby, Dilthey and the Narrative of History, (Ithaca and London: Cornell University Press, 1994), p. 136 (pp. 107-136). فيما يتعلق بأهمية رؤية دلتاي المذكورة عن الحياة وبتقييم نقدي لها، انظر: Thomas J. Young, ``The Hermeneutical Significance of Dilthey's Theory of World-Views,'' in International Philosophical Quarterly, 23 (1983), pp. 125-140. في كتابه، الحقيقة والمنهج¬ ????ü ???? ??î? ??ü??î ???îàè üن??? ??م?ü ???? من??? ?????????¤ Hans-George Gadamer, Truth and Method, 2 nd Edi. Joel Weinheimer and Donald G. Marshall (trans.), (London & New York: Continuum, 2004), pp. 214-233. انظر أيضاً في العرض المختصر لانتقاد غادامر في: Owensby, Dilthey and the Narrative of History, pp. 164-167ff هناك باحثون آخرون انتقدوا نقد غادامر لطرح دلتاي وموضوعيته ودافعوا عنها، انظر مثلاً: Rodi Frithjof, ``Hermeneutics and the Meaning of Life: a Critique of Gadamer's Interpretation of Dilthey,'' in Hermeneutics and Deconstruction, Hugh J. Silverman & Don Ihde (eds.), (Albany: State University of New York Press, 1985), pp. 82-90. بدوره، يعكس أنطوني سيثلتون اتفاقاً جزئياً فقط مع انتقاد غادامر لدلتاي. فهو يوافق مبدئيَّاً على اعتقاد غادامر بفشل دلتاي في تقديم منظومة شمولية للفهم التاريخي. مع ذلك، لا يقبل سيثلتون أن يخفي رغبته بإظهار تعاطُفٍ نحو دلتاي ومشروعه يفوق ما أظهره غادامر. وهو يعتقد أنَّ التوازن بين المنهجيات العامة والخصائص الفردية، أو بين الجزء والكل، والتي يتعاطى دلتاي معها في علاقتها بالفلسفة والعلوم، هو توازن يمكن تطبيقه في حقل اللاهوت أيضاً. وهو يعتقد كذلك بمشروعية تحدي دلتاي للفهم العلمي التقليدي لفكرة «الموضوع» و«الموضوعية»: Thiselton, New Horizons in Hermeneutics, p. 251.

[11]-Tuttle, The Dawn of Historical Reasoning, pp. 6, 10.

[12] - Wilhelm Dilthey, `The Development of Hermeneutics,'' in Dilthey, Selected Writings, H.R. Rickman, 9ed. & trans.), (Cambridge: Cambridge University Press, 1976), Vol. 5, pp. 247-263

[13] - المصدر السابق نفسه، ص. 257

[14]- انظر: Friedrich Schleiermacher, Hermeneutics and Criticism: and Other Writings, Andrew Bowie (ed.), Louise A. Huish (trans.), (Cambridge & New York: Cambridge University Press, 2002). انظر أيضاً: F. Schleiermacher, Brief Outline of Theology as a Field o Study, Terrence N. Tice (trans. & ed.), 3 rd ed., (Louisville, Ken: Westminster John Knox Press, 2011), ==. 132-139, pp. 53-55

[15] - Thiselton, New Horizons in Hermeneutics, p. 247

[16] - Dilthey, ``The Development of Hermeneutics,'' p. 258.

[17] - المصدر السابق نفسه، ص. 259

[18]- Rudolf Makkreel, Dilthey: Philosopher of the Human Studies, (Princeton: Princeton University Press, 1992), pp. 247ff.

[19] - نفس المصدر السابق، ص. 251

[20] - نفسه، ص. 256 (ص. 255-262).

[21] - نفسه، ص. 268

[22] - Dilthey, ``The Understanding of Other Persons and their Life-expressions,'' J.J. Kuehl (trans.), in Theories of History, Patrick Gardiner (ed.), (Glencoe, Ill: The Free Press/ London: George Allen & Unwin, LTD. 1959), pp. 213-224, p. 222

[23] - المصدر نفسه، ص. 223

[24] - نفسه، ص. 224

[25]- John Goldingay, Models for Interpretation of Scripture, (Carlisle: The Paternoster Press/ Grand Rapids: W.B. Eerdmans Publishing Company, 1995), p. 230.

[26] - المصدر نفسه، ص. 231

[27] - نفسه، ص. 253

[28] - للاطلاع على تفسير تمهيدي للمصطلح الألماني Geisteswissenschaft'، الذي يستعمله دلتاي للحديث عن «العلوم الإنسانية» أو الدراسات الإنسانية، انظر: Charles R. Bambach, Heidegger, Dilthey and the Crisis of Historicism, (Ithaca & London: Cornell University Press, 1995), pp. 128-129, ft. 2. يقول بامباخ: «يدل المصطلح بالنسبة لدلتاي على تلك المجموعة من الدراسات التي تتعامل مع روح الإنسانية الثقافية... ويجب علينا أن نحرص على التفريق بينه وبين مصطلح Naturwissenschaft'، والذي يشمل كافة حقول العلوم الطبيعية. أما الفرق بين هاذين الفرعين الدراسيين فهو يتجاوز التمايز الاصطلاحي ويأخذ بُعداً أكثر بنيوية يكمن في المنهجيات. فالطبيعة شيء يمكن 'شرحه'، بكلمات دلتاي، في حين أنَّ الروح أو الــــ Geist'' فهي شيء يتم 'فهمه'. هذا الفرق بين 'الشرح' (erkl?ren) و'الفهم' (verstehen) هو الذي يشير إلى مركزية الهرمينوطيقا فيما يتعلق بنظرية العلوم الإنسانية».

[29] - المصدر نفسه، ص. 129

[30] - نفسه، ص. 129 ومايليها. على الصفحة 130، يكشف بامباخ معرفته برأي بعض الباحثين الذين يعتقدون بأنَّ مشروع دلتاي لا يتَّصف بالتفتت النصّي فقط، بل إنه متشرذم فلسفياً أيضاً. مع ذلك، يناقش بامباخ ضد هذا الاعتقاد بالقول إنَّ كافة دراسات دلتاي البحثية 'كانت جزءاً من اجتهاده النظامي للتوحيد بين العملي والنظري أو البحثي في سياق الــــ Geisteswissenschaft.

[31] - نفسه، ص. 133

[32] - Dilthey, ``The Development of Hermeneutics,'' Vol. 5, p. 336 ?? Thiselton, New Horizons in Hermeneutics, p. 250.

[33] - W. Dilthey, Dilthey: Selected Writings, H. P. Rickman (ed. & Trans.), (Cambridge & New York: Cambridge University Press, 1976), p. 168

[34] - المصدر السابق نفسه، ج 7، ص. 79-88

[35] - يعدِّد دلتاي بين الدراسات الإنسانية التي تركز على موضوعي الكائن البشري والحياة «التاريخ، الاقتصاد، التشريع، السياسة، دراسة الدين، الأدب، الشعر، العمارة، الموسيقى، ودراسات الرؤى والمنظمات الفلسفية العالمية وأخيراً السيكولوجية»: Dilthey, ``The Construction of the Historical World in the Human Studies: the Delimitation of the Human Studies,'' in DIlthey: Selected Writings, Vol. 7.I.1 (p. 170).

[36] - نفسه، 7.1.1 (ص. 170).

[37] - Gadamer, Truth and Method, p. 217.

[38] - نفسه، ص. 217

[39] - نفسه، ص. 230.

[40]- Dilthey, ``The Construction of the Historical World in the Human Studies: the Delimitation of the Human Studies,'' 7.I.1 (p. 171).

[41] - نفسه، 7.1.1 (ص. 171).

[42] - فقط في عالم العقل، يقول دلتاي، 'الذي يضجُّ بشكل خلاق ومسؤول وسيادي في دواخلنا، تتمتع الحياة بالقيمة والغاية والمعنى' (ص. 172).

[43] - يمثل التفسيران الذاتوياني والسيكلوجياني لطبيعة الأبستمولوجية استعادة أنوارية وحداثوية لفكرٍ قديم من الفلسفة الإغريقية يعزوه أفلاطون إلى فيلسوف متصوِّف اسمه بروتاغوراس (Protagoras). يقول أفلاطون إنَّ بروتاغوراس هو الفيلسوف الذي كان يقول 'الأشياء بالنسبة لكل شخصٍ هي ما تبدو بأنها عليه أمام هذا الشخص'. ضد هذا الاعتقاد، يتجادل أفلاطون مع ثياتيتوس بأنَّ هناك فرق بين 'المعرفة' و'الإدراك' وأنَّ فهم بروتاغوراس ينطبق على الثاني ولا ينطبق على الأولى. انظر: Plato, Theatetus, in Plato: Complete Works, John M. Cooper (ed. & trans), (Indianapolis & Cambridge: Hackett Publishing Company, 1997), pp. 157- 234, pp. 179-189ff. في العصر الحداثوي، فرويد وأتباعه هم الذين أنشأوا ما يعرف بالعقلانية السيكولوجية واعتبروها المنهجية المعرفية الوحيدة المناسبة لتفسير ميكانيزمات تفاعل الإنسان مع الحياة اليومية. حول مدرسة المعرفة السيكولوجي، انظر: Ernest Jones, ``Rationalization in Everyday Life,'' in Journal of Abnormal Psychology, 3 (1908), pp.161-169; Anna Freud. The Ego and the Mechanisms of Defense, Cecil Baines (trans.), (London: Hogarth Press, 1937).

[44] - نفسه، 7.1.1 (ص. 174).

[45] - Tuttle, The Dawn of Historical Reason, p. 24 (pp. 23ff).

[46] - نفسه، ص. 31.

[47] - Thiselton, New Horizons in Hermeneutics, p. 248.

[48] - Gadamer, Truth and Method, p. 215. للاطلاع على تقييمٍ نقدي لمشروعية وصف دلتاي بالتتريخاني الذي يدعم طرحه النسبوية، انظر: Theodore Plantinga, Historical Understanding in the Thought of Wilhelm Dilthey, (Toronto, Buffalo and London: University of Toronto Press, 1980), pp. 122-148. يعتقد بلانتينغا أنَّه يمكن وصف دلتاي بالتتريخاني بالمعنى الواسع للكلمة وليس بالمعنى الضيق. فهو يشترك مع التتريخانيين في انتباههم للكلَّانيات الفردية. إلا أنه يبتعد عن اعتقادهم بوجود حيِّزٍ مسبق الصنع يهيمن على كافة التاريخ وله مصدر مطلق. يعتقد دلتاي أنَّ غائية التاريخ تكمن في سيرورة اللوب الصرفة بحثاً عن هدف، لا أكثر ولا أقل (ص. 127). فيما يتعلق باعتبار دلتاي تتريخائياً صريحاً ومؤكداً في دراساتٍ باللغة الإنكليزية، يُنصح بالاطلاع على: Warner Stark, Sociology of Knowledge: An Essay in Aid of a Deeper Understanding of the History of Ideas, (London: Routledge & Keegan Paul, 1958), p. 206 يدعو ستارك دلتاي «أعظم جميع التتريخائيين».

[49] - Tuttle, The Dawn of Historical Reason, p. 17

[50] - نفسه، ص. 21

[51] - نفسه، ص. 31

[52] - Dilthey, Selected Writings, Vol. 8, وكذلك Tuttle, The Dawn of Historical Reason, p. 167, ft. 122

[53]- Dilthey, ``The Construction of the Historical World in the Human Studies: the Delimitation of the Human Studies,'' Vol. 7.I.2 (p. 173).

[54] - Gadamer, The Beginning of Philosophy, Rod Coltman (trans.), (London & New York: Continuum, 1998), p. 23.

[55] - Dilthey, ``The Understanding of the Other Persons and their Life-Expressions,'' in Selected Writings, Vol. 7, pp. 213-224, p. 215.

[56]- Dilthey, ``The Development of Hermeneutics'', Vol. 5, p. 262, وكذلك فيThiselton, New Horizons in Hermeneutics, p. 249.

[57]- Thiselton, New Horizons in Hermeneutics, p. 250.